مقدمة :
إن عُمر الإنسان هو كنزه الحقيقي ورأس ماله، وإن تضييعه والتفريط في ساعاته وأيامه لمن الخسارة والغبن الذي يقع فيه كثير من الناس
الحمد لله رب العالمين، سبحانه وتعالى له الحمد الحسن والثناء الجميل، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فينبغي للعاقل أن يقف مع أيام الله -تبارك وتعالى- وقفة مُتأمّل، وأن يَعتبر بمرورها، فقد أمر ربنا -سبحانه وتعالى- نبيه موسى -عليه السلام- أن يُذَكِّر قومه بأيام الله؛ فقال -تبارك وتعالى-: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]؛ أي: وَذَكِّرْهُمْ بنعم الله عليهم وإحسانه إليهم، وبأيامه في الأمم المكذبين، ووقائعه بالكافرين؛ ليشكروا نِعَمه وليحذروا عقابه، {إِنَّ فِي ذَلِكَ}؛ أي: في أيام الله على العباد {لآيات لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}؛ أي: صبّار في الضراء والعسر والضيق، شكور على السراء والنعمة.
والعبد له في أيام دهره نظرات، يتطلع فيها لرحمات الله -تبارك وتعالى-، وينتظر فيها فرَجه ومدده وحُسن عطائه لمن أطاعه، وصبر على أوامره، وابتعد عن نواهيه، أما الغافل قليل العلم والصبر ضعيف الطاعة والاتباع فهو متَّبع لهواه غير متفكّر في آلاء الله ونعمه، ولا يُعمل حواسه في تدبُّر الكون وعظمته ليحصل اليقين في القلب؛ فتنقاد الجوارح للحق ويحسن حال البدن فيما يرضي الله تعالى.
ومع رحيل شهر رمضان؛ فهذا تذكير ببعض الوقفات السريعة والمهمة التي ينبغي للمسلم أن يتفكر فيها:
الوقفة الأولى: الانتباه لمرور العُمر والحذر من الدنيا
إن عُمر الإنسان هو كنزه الحقيقي ورأس ماله، وإن تضييعه والتفريط في ساعاته وأيامه لمن الخسارة والغبن الذي يقع فيه كثير من الناس، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِن النَّاسِ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (صحيح البخاري: 6412).
لذلك فمن الأمور المهمة التي ينبغي أن يقف معها العبد مع رحيل رمضان: وصية النبي لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِمَنْكِبِي، فَقَالَ: كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ». وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلاَ تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. (صحيح البخاري: 6416). فالنبي صلى الله عليه وسلم يوصي عبد الله بن عمر وهو من آخر الصحابة موتًا، يُوصي شابًّا في العشرين من العمر بقِصَر الأمل والحذر من الدنيا.
إن من ملامح ختام شهر رمضان أن يتذكر الإنسان خواتيم الأعمال وخواتيم الأعمار، وألا يغفل عما يحمل من الآثام والأوزار، فكل شيء عند الله بأجل مسمى ومقدار، والعاقل من انتبه وأخذ أهبته، واستعد لسفر طويل، وإقامة طويلة في القبور، فيعمل لهذا اليوم ولا تشغله الدنيا بغرورها.
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- معلقًا على وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر: «هذا الحديث أصل في قِصَر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر يهيئ جهازه للرحيل، قال تعالى: {يَا قَوْمِ إنَّمَا هَذِهِ الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قَالَ في ظل شجرة، ثم راح وتركها» (رواه أحمد، والترمذي، وقال حسن صحيح).
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: «إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل».
وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في خطبته: «إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما يحضركم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى» (حلية الأولياء).
يُتَّبعْ مع
الوقفة الثانية
تعليق