السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد:
لقد خلقَنا الله سبحانه لعبادته وتوحيده عز وجل، فأرسل الرسل وأنزل الكتب لتحقيق ذلك، وجعل القرآن العظيم بما فيه من بركة وشمولية وهداية ونور وتبيان لكل شيء؛ حاكما على ما قبله من الكتب ومهيمنا عليها.
ولِعِظَم ومكانة وجلالة وشرف القرآن أخبر الله سبحانه أنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء : 9]
في العقائد والعبادات والأعمال والأخلاق والسلوكيات، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره[1].
والمسلم مأمور باتباع كتاب الله تعالى، الذي هو مصدر الشريعة الإسلامية التي بُعث بها محمد عليه الصلاة والسلام، قال تعالى {وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام : 155]
، وهذا لا يستقيم إلا إذا كان الاقتداء والتطبيق على مراد الله، والواجب أن نسعى جميعا بهمة عالية وإرادة قوية، لمعرفة مراد الله من خلال تدبر وتفكر وتذكر وتأمل الآيات، بعد معرفة المعاني والدلالات، لأن تدبر الكلام دون فهم معانيه لا يمكن.
إن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج المكنونات والدرر، قال تعالى{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص : 29]
، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود[2].
والتدبر هو التأمل في الألفاظ والنظر في إدبار الأمور وعواقبها للوصول إلى معانيها، فإذا لم يكن ذلك، فاتت الحكمة من إنزال القرآن، وصار مجرد ألفاظ لا تأثير لها، كما أنه لا يمكن الاتِّعاظ بما في القرآن بدون فهم معانيه، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24]
، فالله سبحانه وبخ أولئك الذين لا يتدبرون القرآن، وأشار إلى أن ذلك من الإِقفال على قلوبهم، وعدم وصول الخير إليها، وفي هذا دلالة على وجوب تدبر القرآن فتأملوا رعاكم الله.
ولأهمية التدبر وتقصير الناس فيه، ورد في القرآن بأربعة مواضع، ثلاثة منها في سياق الاستفهام الإنكاري نتيجة الإعراض عنه، وموضع في سياق التقرير وبيان إحدى حكم إنزال القرآن.
عن خالد بن مَعدان، قال: ما من آدميّ إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد الله به غير ذلك طَمسَ عليهما، فذلك قوله( أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )[3].
كان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، يتعلمون القرآن ألفاظه ومعانيه؛ لأنهم بذلك يتمكنون من العمل بالقرآن على مراد الله به فإن العمل بما لا يُعرف معناه غير ممكن.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرِؤونَنَا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يجاوزوها، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.
وإهمال تدبر هذا الأمر العظيم، وعدم وضعه موضع العناية التامة والملاحظة المستمرة، يفّوت على المتدبر لكلام الله خيرا كثيرا، ومعاني جمة، ويخفي عنه وجوه إعجاز جليلة، وقد يجنح به عن فهم المراد من الجملة أو الآية التي يتدبرها[4].
قال شيخ الإسلام:فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب، ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم[5].
يقول السيوطي:بل نحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير لقصورنا عن مدارك اللغة وأسرارها بغير تعلم[6]، وقد توفي رحمه الله سنة 911هـ، فكيف لو رأى زماننا ونظر لحالنا؟!
قال عبد الله بن مسعود: لا تنثروه نثرَ الدقل ولا تهذوه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
المتأمل لأحوال كثير من المسلمين، يجد قصورا واضحا في تدبر كتاب الله والتمعن في مدلولاته، والانتهال من منابعه العذبة الصافية، والتنقل في بستانه المثمر البديع الرائع، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما قال: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به[7].
إن من أعظم ثمرات تدبر القرآن وفهم معانيه، العمل به وتطبيقه كما أراد الله سبحانه،
قال الحسن البصري: والله ما تَدَبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله ما يرى له القرآنُ في خلق ولا عمل[8].
وأخيراً : نذكر بحديث عظيم جليل لشحذ الهمم والمسارعة بحفظ وتلاوة وتدبر كتاب الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام : يقالُ لصاحبِ القرآنِ : اقرأْ وارقَ ورتِّلْ كما كنتَ ترتلُ في الدنيا، فإنَّ منزلتَك عندَ آخرِ آيةٍ تقرأُ بها
الراوي : عبدالله بن عمرو.
المحدث : الترمذي.
المصدر : سنن الترمذي.
الصفحة أو الرقم: 2914.
خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح.[9].
والصاحب هو الملازم للشيء المصاحب له، ولا تتحقق الصحبة للقرآن إلا إذا لازمنا حفظه وتلاوته ومعرفة معانيه وتدبره والتمعن والتأمل بما فيه من خير وكنوز وأسرار ودرر، ثم تطبيق ذلك والعمل به على أرض الواقع.
المصدر :
صيد الفوائد
الهوامش :الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وعلى آله وصحبه ومن اهتدى، وبعد:
لقد خلقَنا الله سبحانه لعبادته وتوحيده عز وجل، فأرسل الرسل وأنزل الكتب لتحقيق ذلك، وجعل القرآن العظيم بما فيه من بركة وشمولية وهداية ونور وتبيان لكل شيء؛ حاكما على ما قبله من الكتب ومهيمنا عليها.
ولِعِظَم ومكانة وجلالة وشرف القرآن أخبر الله سبحانه أنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء : 9]
في العقائد والعبادات والأعمال والأخلاق والسلوكيات، فمن اهتدى بما يدعو إليه القرآن كان أكمل الناس وأقومهم وأهداهم في جميع أموره[1].
والمسلم مأمور باتباع كتاب الله تعالى، الذي هو مصدر الشريعة الإسلامية التي بُعث بها محمد عليه الصلاة والسلام، قال تعالى {وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام : 155]
، وهذا لا يستقيم إلا إذا كان الاقتداء والتطبيق على مراد الله، والواجب أن نسعى جميعا بهمة عالية وإرادة قوية، لمعرفة مراد الله من خلال تدبر وتفكر وتذكر وتأمل الآيات، بعد معرفة المعاني والدلالات، لأن تدبر الكلام دون فهم معانيه لا يمكن.
إن من أعظم الحِكم والغايات من إنزال الآيات، التدبر والتفكر واستخراج المكنونات والدرر، قال تعالى{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص : 29]
، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود[2].
والتدبر هو التأمل في الألفاظ والنظر في إدبار الأمور وعواقبها للوصول إلى معانيها، فإذا لم يكن ذلك، فاتت الحكمة من إنزال القرآن، وصار مجرد ألفاظ لا تأثير لها، كما أنه لا يمكن الاتِّعاظ بما في القرآن بدون فهم معانيه، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد : 24]
، فالله سبحانه وبخ أولئك الذين لا يتدبرون القرآن، وأشار إلى أن ذلك من الإِقفال على قلوبهم، وعدم وصول الخير إليها، وفي هذا دلالة على وجوب تدبر القرآن فتأملوا رعاكم الله.
ولأهمية التدبر وتقصير الناس فيه، ورد في القرآن بأربعة مواضع، ثلاثة منها في سياق الاستفهام الإنكاري نتيجة الإعراض عنه، وموضع في سياق التقرير وبيان إحدى حكم إنزال القرآن.
عن خالد بن مَعدان، قال: ما من آدميّ إلا وله أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه، وما يصلحه من معيشته، وعينان في قلبه لدينه، وما وعد الله من الغيب، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه، وإذا أراد الله به غير ذلك طَمسَ عليهما، فذلك قوله( أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا )[3].
كان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، يتعلمون القرآن ألفاظه ومعانيه؛ لأنهم بذلك يتمكنون من العمل بالقرآن على مراد الله به فإن العمل بما لا يُعرف معناه غير ممكن.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرِؤونَنَا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يجاوزوها، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً.
وإهمال تدبر هذا الأمر العظيم، وعدم وضعه موضع العناية التامة والملاحظة المستمرة، يفّوت على المتدبر لكلام الله خيرا كثيرا، ومعاني جمة، ويخفي عنه وجوه إعجاز جليلة، وقد يجنح به عن فهم المراد من الجملة أو الآية التي يتدبرها[4].
قال شيخ الإسلام:فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب، ولا يستشرحوه فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم[5].
يقول السيوطي:بل نحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير لقصورنا عن مدارك اللغة وأسرارها بغير تعلم[6]، وقد توفي رحمه الله سنة 911هـ، فكيف لو رأى زماننا ونظر لحالنا؟!
قال عبد الله بن مسعود: لا تنثروه نثرَ الدقل ولا تهذوه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة.
المتأمل لأحوال كثير من المسلمين، يجد قصورا واضحا في تدبر كتاب الله والتمعن في مدلولاته، والانتهال من منابعه العذبة الصافية، والتنقل في بستانه المثمر البديع الرائع، وصدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما قال: إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به[7].
إن من أعظم ثمرات تدبر القرآن وفهم معانيه، العمل به وتطبيقه كما أراد الله سبحانه،
قال الحسن البصري: والله ما تَدَبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله ما يرى له القرآنُ في خلق ولا عمل[8].
وأخيراً : نذكر بحديث عظيم جليل لشحذ الهمم والمسارعة بحفظ وتلاوة وتدبر كتاب الله عز وجل، يقول عليه الصلاة والسلام : يقالُ لصاحبِ القرآنِ : اقرأْ وارقَ ورتِّلْ كما كنتَ ترتلُ في الدنيا، فإنَّ منزلتَك عندَ آخرِ آيةٍ تقرأُ بها
الراوي : عبدالله بن عمرو.
المحدث : الترمذي.
المصدر : سنن الترمذي.
الصفحة أو الرقم: 2914.
خلاصة حكم المحدث : حسن صحيح.[9].
والصاحب هو الملازم للشيء المصاحب له، ولا تتحقق الصحبة للقرآن إلا إذا لازمنا حفظه وتلاوته ومعرفة معانيه وتدبره والتمعن والتأمل بما فيه من خير وكنوز وأسرار ودرر، ثم تطبيق ذلك والعمل به على أرض الواقع.
المصدر :
صيد الفوائد
-----------------------------
[1] ينظر تفسير السعدي.
[2] تفسير السعدي.
[3] تفسير الطبري.
[4] قواعد التدبر الأمل لكتاب الله، ص15.
[5] مجموع الفتاوى ( 13/332 ).
[6] مناهل العرفان في علوم القرآن ( 2/9).
[7] تفسير القرطبي.
[8] رواه ابن أبي حاتم.
[9] صحيح الجامع برقم 8122.
تعليق