في رحلةٍ مُضْنِية استغرقتْ خمسة وأربعين يوماً، خرجَ نبيُّ اللهِ موسى عليه السلام من مصرَ مناجياً ربَّه: {عَسَىٰ رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} [القصص: 22]. فوردَ ماءَ مدين حيثُ تجمُّعُ الناسِ وتزاحمُهم على الماء، ووجدَ في ناحيةِ هذا الزحامِ امرأتينِ تمنعانِ أنعامَهما منَ الشربِ، وتذودانِ عنِ الزحام.
سألَهُما بلطفٍ وأدبٍ: ما خَطبُكُما؟
سألَهُما بلطفٍ وأدبٍ: ما خَطبُكُما؟
فأجابَتا باستحياء: لا نَسقِي حتى يذهبَ الرجالُ بمواشيهم فلا يبقَى الزحام، وليسَ عندَنا مَن يسقِي لنا من الرجال؛ لأنَّ أبانا شيخٌ كبير..
هُنا تحركتْ شهامةُ نبيِّ اللهِ موسى عليه السلام، وأَنستهُ إعياءَ السَّفرِ ونَصَبَه، وحضرتِ الرجولةُ والشهامة، فاقتحمَ الزحام، ووسَّعَ الطريقَ وسَقَى لهما، وقَضَى حاجتَهما.
رجعَتِ الفتاتانِ على غيرِ عادتِهما في بكورٍ إلى والدِهما الشيخِ الكبيرِ، وقصَّتَا عليهِ الخبر، فأمرَ إحداهما بدعوتِه؛ فجاءَته وكأنَّها «واحة حياء»، {تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص: 52].
قالَ عمرُ رضي الله عنه كما في «مصنفِ» ابنِ أبي شيبة[1]: «فأقبلتْ إليه ليسَتْ [سليطةً بذيئةً صخابةً] لا خرَّاجةً ولا ولَّاجةً، واضعةً ثوبَها على وجْهِها»، وهي تقولُ: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص: 52].
ثُمَّ انطلقتْ مَعَه إلى والدِها، وقَصَّ عليهِ القَصصَ فوجدَ مِنهُ أُنساً وراحةً وسكينةً، وتلطُّفاً في القولِ: {لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 52].
ولمَّا كانَ الزوجُ الصالحُ أباً بعدَ أبٍ، رأى هذَا الشيخُ الصالحُ أن يشتريَ أخلاقَ هذا النبيِّ الصالحِ، فعرضَ عليه إحدى ابنتيهِ هاتين، فاختارَ عليه السلام تلكَ الفتاةَ التي رأى حياءَها الظاهر، وسمع كلامَها الطاهر.
قالَ بعضُ المفسرين: «إنَّما اختارَها لأنَّها التي عرفَ أخلاقَها باستحيائِها وكلامِها؛ فكانَ ذلك ترجيحاً لها عنده»[2].
إنَّ في قَصصِ القرآنِ الكريمِ أخلاقاً عظيمة، وقِيَماً جليلة، تتجلى بمثلِ هذهِ الحادثةِ اللطيفةِ التي صوَّرتْ مشهداً بديعاً من حياءِ صفوةِ الخلقِ وأطهرِهم، وجسَّدتْ مفهوماً رائعاً لرُقيِّ تعاملِهم، وعُلوِّ أخلاقِهم.
وأنتَ أيُّها القارئُ الكريمُ: إذا تأملتَ فِي ناظمِ خيطِ هذه المنظومةِ الأخلاقيةِ البديعةِ، من خلالِ هذهِ القصةِ الفريدة؛ بزغَ لكَ طيفٌ جميلٌ، وخُلُقٌ لطيفٌ؛ اسمُه: «الحياء»، وذلكَ في جميعِ أطرافِ هذهِ القصةِ القرآنية.
لقد كانَ الحياءُ طريق هذا البيتِ لمصاهرةِ نبيٍّ كريمٍ من أُولِي العَزمِ مِنَ الرُّسلِ، وما كانَ عليه الصلاة والسلام أن يختارَ بستانَ الحياء، وسكنَ الحياء، وزوجَ الحياء، لرفيقةِ دربِه؛ لولا أنَّه كانَ حيِياً كريماً.
كيفَ وقد وصفَه نبيُّنا بقولِه؛ كما في صحيحِ الإمامِ البخاري: «إنَّ موسى كانَ رجلاً حيِيّاً سِتِّيراً، لا يُرَى مِنْ جلدِه شيءٌ استحياءً منه...»[3].
إنَّ الحياءَ هُوَ الحياة؛ لهذا كانَ اشتقاقُه منَ الحياة، وكانَ الغيثُ حَياةً؛ لأنَّ بِهِ حياةَ الأرضِ والنباتِ والدوابِّ.
والحياءُ أيضاً: حائلٌ بينَ المرءِ وبينَ الزواجر والمنهيات، فبِقُوَّتِه يضعفُ اقتحامُها، وإذا ارتحلَ الحياءُ تقحَّمَ المرءُ ركوبَ هذهِ المخاطر، وتجرّأَ على مباشرتِها، وصدقَ في ذلك قولُ الأول:
وَرُبَّ قَبِيحَةٍ مَا حَالَ بَيْنِي
وَبَيْنَ ركُوبِهَا إِلّا الحَيَاءُ
فَكَانَ هُوَ الدّوَاءَ لَهَا وَلَكِنْ
إذَا ذَهَبَ الحَيَاءُ فَلَا دَوَاءُ[4]
يتبع ....
تعليق