الشتاء ربيع المؤمن
إنَّ الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفِره؛ ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا؛ ومِن سيِّئاتِ أعمالنا؛ مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له؛ ومَن يضللْ فلا هاديَ له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له؛ وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله؛ صلَّى الله عليه وعلى آله وصحْبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70-71].. أمَّا بعدُ: معاشرَ المؤمنين، ها هو فصْلُ الشتاء حلَّتْ بوادرُه، وتنزَّل بردُه، طال ليلُه وقصُر نَهارُه، وللمؤمِن مع الشتاء أحوالٌ وأحكام؛ إذ هو يتفاعَل مع التغيُّراتِ الكونيَّة، والأحوال المناخيَّة، بهَدْي كتاب الله - تعالى - وسُنَّة رسولِه - عليه الصلاة والسلام - فيتحقَّق إيمانُه، ويوثق صِلتَه بالله - سبحانه وتعالى. فإنَّ تقلُّبَ الأحوال الكونية مِن صيف وشتاء، وليل ونهار، وجفاف وأمطار، وسكون ورياح، يُعزِّز إيمانَ المؤمن بأنَّ الله - تعالى - خالِقُ الكون ومدِّبره؛ ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [النور: 42]، ويقول - سبحانه -: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190 - 191]. عباد الله: والشِّتاءُ ربيعُ المؤمِن الذي يستغلُّ حلولَه فيما يُقرِّبه إلى الله - تعالى - فقدْ أخْرَج الإمامُ أحمد عن أبي سعيدٍ الخُدْري عنِ النبي - عليه الصلاة والسلام - قوله: ((الشِّتاء ربيعُ المؤمِن))، وزاد البيهقيُّ وغيرُه: ((طال ليلُه فقامَه، وقصُر نهارُه فصامَه)). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "مرحبًا بالشِّتاء؛ تتنزَّل فيه البَرَكة، ويطول فيه الليلُ للقيام، ويقصُر فيه النهار للصِّيام". وإنَّما كان الشتاءُ ربيعَ المؤمِن - عباد الله - لأنَّه يرتَع في بساتين الطاعات، ويسْرَح في ميادينِ العبادات، ويُنزِّه قلبَه في رِياض الأعمال الميسَّرة، فإذا ما نزَل الغيثُ والأمطار - نسأل الله أنْ يمتنَّ علينا بفضلِه وكرَمِه - أقَرَّ بفضْلِ الله ونعمته، ودعَا بما سَنَّه النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -: ((مُطِرْنا بفضْل الله ورحمتِه))، وليتحرَّ المسلمُ الدعاءَ حين نُزُول المطر، فهو مِن الأوقات الفاضلة؛ فعنِ النبي - عليه الصلاة والسلام - قولُه: ((ثِنتان ما تُرَدَّان: الدعاء عن النِّداء وتحتَ المطَر)). عباد الله: وممَّا سَنَّه النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - من الأدعية والأذكار، ما يَكثُر احتياجُه في الشتاء خاصَّة، كالدُّعاء عند هُبوبِ الرِّياح؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((الرِّيح مِن رَوْح الله، تأتي بالرَّحْمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرَها، واستعيذوا بالله من شرِّها)). كما سَنَّ - عليه الصلاة والسلام - الدعاءَ عندَ سماعِ الرَّعد بقوله: ((سُبْحانَ الذي يُسبِّح الرعدُ بحمدِه والملائكةُ مِن خِيفته)). كما سَنَّ - عليه الصلاة والسلام - الاستسقاءَ، وهو طلبُ السُّقيا والمطَر مِن الله - تعالى - بصلاة الاستسقاءِ، أو بالدعاء المجرَّد، أو بالدعاء على مِنبرِ صلاة الجُمُعة. عباد الله: وفي فصلِ الشِّتاء تشتدُّ الحاجة إلى بعضِ الرُّخَص التي شرَعَها الإسلام بسماحته ويُسْره؛ ففي الشتاء - وكذا في الصيف - يُرخَّص للمسلم أنْ يمسحَ على الجواربِ؛ درءًا للمشقَّة، يومًا وليلةً للمُقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافِر، بشروطٍ مُبيَّنة في كتب الفقه. كما يُرخَّص للمسلمين في الجمْعِ بين الصلوات وقتَ اشتداد المطر وحدوثِ البَلل، أو الوحل أو البَرْد، وإنْ حدثتْ مشقَّةٌ في الاجتماع للصلاة جازَ للمرء أنْ يُصلِّي في بيته؛ لقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - يُنادي منادِيه في الليلةِ الباردة أو المَطيرة: "صَلُّوا في رِحالِكم"، وإنْ كان الأمر ميسَّرًا في زماننا - ولله الحمد - فالطُّرُق معبَّدَة، والسيَّارات متوفِّرة، والمساجد قريبة، ولكن هذا مِن يسر الإسلام وسماحتِه، والرُّخْصة - عباد الله - سَعَة وتسهيل - متى ما تحقَّقتْ شروطُها. والأَوْلى بالمسلِم أنْ يتحرَّى الوسطيةَ، فلا يتساهل بالأخْذِ بها ويُخرِج الصلاةَ عن وقْتِها، فالصلاة كانتْ على المؤمنين كتابًا موقوتًا دون تحقُّقٍ لمبرِّرات الرُّخْصة، ولا يتشدَّد تشدُّدًا يُسبِّب المشقَّةَ على المسلمين. وممَّا يَعتني به المسلِمُ في الشتاء إسباغُ الوضوء وإتمامه، فلا يُعجله الشعورُ بالبرد عن إكمالِ الوضوء لأعضائه وإتمامِها، بل إنَّ ذلك الإتمامَ والإسباغ وقتَ المكارِِه هو ممَّا يُكفِّر الله به الخطايا، والمكاره تكون بشدَّة البرْد أو الحرِّ أو الألَم، فيحتسب المسلِمُ تلك الشدَّةَ وهو يتوضَّأ بأنَّها مِن مكفِّرات الخطايا، ورافعات الدَّرَجات؛ يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((ألاَ أدلُّكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرْفَع به الدرجاتِ؟)) قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: ((إسْباغُ الوضوءِ على المكارِه، وكَثْرة الخُطَى إلى المساجِد، وانتظار الصلاة بعدَ الصلاة، فذَلِكُم الرِّباط)). نسأل الله - تعالى - أنْ يَعُمَّنا بفضله، ويُكرمَنا بنعمته، ويمنَّ علينا بعافيته، فهو الجوادُ الكريم. أَقُولُ ما تسمعون، وأسْتغفِر الله لي ولَكم ولسائرِ المسلمين، فاستغفِروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانِه؛ والشُّكر له على توفيقه وامتنانِه؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له؛ وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا. أمَّا بعدُ: عبادَ الله، يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((اشتكَتِ النارُ إلى ربها فقالت: يا ربِّ، أَكَل بَعضِي بعضًا، فأَذِنَ لها بنَفَسيْن: نفَس بالشتاء، ونفَس في الصيف، فهو أشدُّ ما تَجِدون من الحرِّ، وأشدُّ ما تجدون مِن الزمهرير - وهو شِدَّة البَرْد)). فإذا ما وَجَد المرءُ لَسْعَة البرد تذكَّر زمهريرَ جهنَّم، فاستعاذ منها، وسأل الله - تعالى - برْدَ الجنَّة ونعيمَها؛ ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 13]. ومِن مواطنِ العِبرة والذِّكرى للمؤمِن حين يرَى الأرض وقد اهتزَّتْ وربَتْ، وأنبتتْ مِن كلِّ زوج بهيج، حيث أحياها ربُّنا - جلَّ وعلا - بالمطر بعدَ موتها، فليتذكَّرْ قُدرتَه - سبحانه - على إحياءِ الأرْض بالأمطار، وكذلك إحياءه - سبحانه - للقُلوب بالقرآن؛ ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾[الحديد: 16 - 17]. فمَن وجَد غفلةً في نفْسه، وقسوةً في قلْبه، فلْيُقبِل على كتابِ الله - تعالى - تلاوةً وتدبُّرًا، فإنَّما هو هُدًى ورحمةٌ للمؤمنين، وموعظةٌ وشفاءٌ للمتقين. نسأل الله - تعالى - أن يُحيي قلوبَنا بذِكْره، وأفئدتَنا بمعرفته، وأبداننا بطاعته، وأن يُغيثَ نفوسَنا باليقين والإيمان. اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدك ورسولك محمَّد، وعلى آلِه وصحْبه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين. اللهمَّ اغفرْ للمسلمين والمسلِمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياءِ منهم والأموات، اللهمَّ اجعلْنا لك شاكِرين، لك ذاكِرين، إليك مُخبِتين أوَّاهين مُنِيبين، ربَّنا تقبَّلْ توبتَنا، واغسلْ حوبتَنا، وأجِبْ دعوتَنا، وثبِّتْ حُجَّتَنا، واهْدِ قلوبَنا، وسدِّد ألسنتَنا، واسْلُل سخيمةَ قلوبنا، اللهمَّ ابسطْ علينا مِن بركتك ورحمتك، وفضْلك ورِزقك، اللهمَّ إنَّا نسألك النعيمَ المقيم، الذي لا يحول ولا يزول، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصْلِح اللهمَّ وُلاةَ أمورنا، اللهمَّ ارزقْهم البِطانةَ الصالحةَ الناصحةَ. اللهمَّ ارفعْ عنَّا الغلاءَ والوباء، والزَّلازِل والمِحن، وسوءَ الفِتن ما ظهَر منها وما بطَن، عن بلدِنا هذا خاصَّة، وعن سائرِ بلاد المسلمين عامَّة، يا ربَّ العالمين. اللهمَّ أنتَ الله، لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنْزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعلْنا من القانطين، اللهمَّ إنَّا نستغفِرُك إنَّك كُنت غفَّارًا، فأرْسِلِ السماء علينا مِدرارًا، اللهم اسْقِنا الغيثَ، ولا تجعلْنا مِن القانطين، اللهمَّ سُقيا رحمةٍ لا سُقيا بلاءٍ ولا عذاب، ولا هدْم ولا غرَق. ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]. ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201]. ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].
منقول من موقع الألوكة
منقول من موقع الألوكة
تعليق