الحمد لله حمدًا كثيرًا فاطر الأرض والسماوات، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أصحابه الطيبين وأزواجه الطاهرات، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم يبعث فيه الأموات، فريق في النار وفريق في الجنات، أما بعد؛ قال الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:26-27] ، قال الإمام الطبري رحمه الله: "وأولى الأقوال بالصحة في تأويل قوله (ولباس التقوى): إستشعار النفوس تقوى الله في الإنتهاء عما نهى الله عنه من معاصيه، والعمل بما أمر به من طاعته، وذلك يجمع الإيمان والعمل الصالح والحياء وخشية الله والسمت الحسن؛ لأن من اتقى الله كان به مؤمنا، وبما أمره به عاملاً، ومنه خائفًا، وله مراقبًا، ومن أن يُرى عند ما يكرهه من عباده مستحييًا". وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في الآية الثانية: "يُحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله، مبينًا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته بعد ماكانت مستورةً عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة". قلت: فاجتمع لنا من الآيتين إمتنانٌ متضمنٌ للأمر من الله تعالى باللباس الساتر في الظاهر مقرونًا بالتقوى في الباطن أعني القلب، وتحذيرٌ متضمنٌ للنهي عن كشف السوأة وعن موالاة العدو الشيطاني الساعي إلى هتك الستر وكشف عورة بني آدم. قال ابن الجوزي رحمه الله في قوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}: "والمعنى لا يخدعنكم ولا يضلنكم بغروره فيزين لكم كشف عوراتكم"، وقال الإمام الشوكاني في قوله تعالى {وقبيله}: "أعوانه من الشياطين وجنوده"، قلت: فكل من سعى في هتك ستر بني آدم وكشف عوراتهم هو من أعوان الشيطان وأوليائه، وقد قال الله تعالى منكرًا ومحذرًا من إبليس: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. وحتى تدرك حجم العداوة والخسة الشيطانية والسعي الخبيث في كشف العورات وهتك الأستار فلتتأمل قوله سبحانه وتعالى في الآية {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] قال الإمام الشوكاني: "هذه الجملة تعليل لما قبلها مع ما تتضمنه من المبالغة في تحذيرهم منه، لأن من كان بهذه المثابة يرى بني آدم من حيث لا يرونه، كان عظيم الكيد، وكان حقيقًا بأن يُحترس منه أبلغ احتراس"، قلت: فنحن إذًا أمام عدو شيطاني خسيس يرمي إلى هتك الأستار وكشف العورات مجندًا في سبيل ذلك الأعوان والقرناء ممن يعادون الستر والعفة والحياء ويروجون للعري والتكشف والتبرج والسفور؛ إنها معركة العفة والفضيلة، إنها معركة الحجاب...
وتمضي الأيام من لدن آدم عليه السلام، ويمضي إبليس في هتك العورات والتلبيس على بني آدم بشتى المسميات والمغريات، حتى كان من ثمار خبثه ومكيدته أن طاف عرب الجاهلية بالبيت عراةً يتعبدون لله بذلك الفحش بزعمهم، فيرد الله تعالى عليهم ويفضح أعوان العري الشيطاني وعملاءه حيث قال عز وجل: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28]، قال الإمام البغوي رحمه الله في تفسير الفاحشة المذكورة في الآية: "قال ابن عباس ومجاهد: هي طوافهم بالبيت عراة"، ثم فوق فاحشة العري ينسبون هذا إلى الله سبحانه وتعالى عما يقولون، وتأمل اليوم حال من يدعو إلى السفور ويحارب ربَّات الخدور ذوات العفة والستر الجميل ويدعي أن ما ينهى عنه ويمنعه من ستر الوجه هو من أمر الإسلام، في حين أن آيات القرآن المتقدمة صريحة في أن الأمر بهتك الستر وبنزع اللباس هو أمر الشيطان لا أمر الرحمن، فقد تبين من هذه الآيات أن معركة الحجاب والعفة فيها طرفان طرف رحماني وطرف شيطاني؛ أما الطرف الرحماني فامتنان من الله تعالى بإنزال اللباس وأمر بالتقوى الظاهرة والباطنة، وأما الطرف الشيطاني فسعي في نزع اللباس واستراق النظر إلى العورات وتجنيد الأعوان والقرناء لهتك حجب العفة والحياء، فتأمل في أي طرفي المعركة يقف أعداء الخمار اليوم، لتدرك أن حالهم حال السائرين في ركب الشيطان المحاربين لأولياء الرحمن، لا يجدون لأنفسهم منكرًا ينكرونه بزعمهم سوى مهاجمة مسلمةٍ تتعبد لله بستر وجهها عن أعين الناظرين وفتنة الشياطين، ولكن بيننا وبين هؤلاء قوله تعالى: {فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف:28] ...
نحن إذًا في معركة تدور رحاها حول ستر المرأة، ويتعارك طرفاها حول الأمر باللباس وهو الطرف الرحماني، ونزع اللباس وهو الطرف الشيطاني، ولما كان الفريق الشيطاني اليوم قد جعل عنوان هذه الجولة نزع الستر الواجب عن وجه المرأة، فإننا نشن الغارة عليه بما يفضح أمرهم، وينبه على بطلان مدعاهم، ويكشف زيغ مبتغاهم، ويزيل الغشاوة عمن أصابهم ظلامهم بالعشى، وخلَّط عليه ضلالهم بالتلبيس والهوى، ولئن كنا في هذا المقام نشن الغارة منكرين على من يعادي خمارالوجه، فإن فيما نذكر به من وجوب ستر وجه المرأة عن الأجانب كفاية لمن كان صادقًا مجتهدًا أن الحق الذي لا مرية فيه هو وجوب ستر المرأة وجهها عن الأجانب، وهؤلاء نتوجه إليهم بالإنكار العلمي مع عميق المودة والحب في الله، خلافًا للفريق الشيطاني الذي نشن عليه الغارة محتسبين جنس الجهاد في سبيل الله، ولن أستطرد في سرد الأدلة فهي كثيرة، ولكني أقتصر على بيان طرفٍ منها مما فيه تصريحٌ بأن الحجاب الشرعي شاملٌ لحجب الوجه خلافًا لما يدعيه المغرضون أو المتأولون، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح بأن المرأة عورة بالنسبة لنظر الأجانب عند خروجها من بيتها ولم يستثن من المرأة شيئًا، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة عورة؛ فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأقرب ما تكون من وجه ربها وهي في قعر بيتها» [صححه الألباني]. وهذا الحديث يُشعر بأن المراد بالعورة هنا عورة المرأة عن نظر الأجانب بدلالة السياق حيث ذكر خروجها من المنزل، وأنه محط إستشراف الشيطان لها حتى لو كانت خارجة تقصد وجه الله تعالى. وهذا يفيد في رفع الإشكال الحاصل لدى كثير من المسلمين حيث يخلطون بين مسألة عورة المرأة في الصلاة وعورة المرأة بالنسبة لنظر الأجانب. ثم إن فقيهة الأمة والعالمة بشؤون النساء والتي كانت مرجع الصحابة والتابعين في فقه الأسرة وأحكام النساء أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قد صرحت بصفة الحجاب الشرعي كما في الأحاديث الصحيحة، وبيان هذا يتألف من مقدمتين أولاهما حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأُول، لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن بها"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله (فاختمرن) أي غطين وجوههن، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر وهو التقنع، قال الفراء: كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها، فأُمرن بالإستتار والخمار للمرأة كالعمامة للرجل" قلت: وقوله كالعمامة للرجل أي العمامة المقنَّعة. وكذلك قال الحافظ العيني رحمه الله: "قوله (فاختمرن بها) أي غطين وجوههن بالمروط التي شققنها"، وكذلك قال العظيم آبادي في شرح سنن أبي داود: "(فاختمرن بها) أي تقنعن بها"، قال ابن منظور في لسان العرب: "والقِناعُ و الـمِقْنَعةُ: ما تَتَقَنَّعُ به الـمرأَةُ من ثوب تُغَطِّي رأْسَها ومـحاسِنَها. وأَلقـى عن وجْهه قِناعَ الـحياء، علـى الـمثل"، والمقدمة الثانية حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أيضًا وهي تروي حادثة الإفك، عندما ذهبت تبحث عن عقد لها فسار الجيش بهودجها وهم يظنون أنها فيه قبل رجوعها، تقول رضي الله عنها: "وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا، فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب، فأممت منزلي الذي كنت به، وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش"، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " قوله (فعرفني حين رآني) هذا يشعر بأن وجهها انكشف لما نامت، لأنه تقدم أنها تلففت بجلبابها ونامت، فلما انتبهت باسترجاع صفوان بادرت إلى تغطية وجهها، قوله (وكان يراني قبل الحجاب) أي قبل نزول آية الحجاب، وهذا يدل على قدم إسلام صفوان"، وقال رحمه الله: "قوله (فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني) أي بقوله إنا لله وإنا إليه راجعون"، وقال رحمه الله: "قوله (فخمّرت) أي غطيت وجهي بجلبابي أي الثوب الذي كان عليها"، ثم قال الحافظ ابن حجر في ذكر فوائد الحديث: " و -فيه- تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي". قلت: وهذا الحديث تصريح ونص في محل النزاع لأن عائشة رضي الله عنها هي التي روت الخبر عن كيفية إستجابة الصحابيات لأمر الله عز وجل لما نزل قوله تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ} وهي الآية التي ينازع في تأويلها من لا يرى وجوب تغطية الوجه، فلما صرحت أم المؤمنين رضي الله عنها في قصة الحديث الثاني بتخمير وجهها وعلقت معرفة صفوان لها برؤيته لها قبل الحجاب كان هذا نصًا صريحًا في المسألة وهو فهم وعمل أم المؤمنين في شأن من شؤون النساء وفي أمر مستفيض لا يلتبس على المرأة لأنه من شؤونها اليومية.
ولقد كان هذا حال أم المؤمنين الذي حضره التابعون من بعد، فقد روى السيوطي عن مسروق رضي الله عنه قال: "كانت عائشة رضي الله عنها اذا قرأت (وقرن في بيوتكن) بكت حتى تبل خمارها"، قلت: ومعلوم أن المسلمين مأمورون بسؤال أمهات المؤمنين من وراء حجاب، فلما حكى لنا مسروق بكاء أم المؤمنين عائشة حتى تبل خمارها دل أن وجهها من وراء الخمار، وهذا جلي لمن تأمل. وهكذا قال الإمام القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] حيث قال رحمه الله في المسائل المتعلقة بالآية: "التاسعة: في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب في حاجة تعرض أو مسألة يُستفتين فيها، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها كما تقدم، فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها"، قلت: ولفظ (وراء) لا يمكن أن يتحقق إلا بستر الوجه، وعلى هذا شراح الحديث ففي شرح سنن أبي داود قال الشارح رحمه الله: "باب في قول الله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}، الآية بتمامها في الأحزاب هكذا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب:59]، وقوله (جلابيبهن) جمع جلباب: وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، أي يرخين بعضها على الوجوه إذا خرجن لحاجتهن إلا عينًا واحدة، كذا في الجلالين، وقال في جامع البيان: الجلباب رداء فوق الخمار تستر من فوق إلى أسفل يعني يرخينها عليهن ويغطين وجوههن وأبدانهن، انتهى. (ذلك أدنى) أقرب إلى (أن يعرفن) بأنهن حرائر (فلا يؤذَين) بالتعرض لهن، بخلاف الإماء فلا يغطين وجوههن وكان المنافقون يتعرضون لهن. قال السيوطي: هذه آية الحجاب في حق سائر النساء ففيها وجوب ستر الرأس والوجه عليهن"، وقال ابن سعد رحمه الله في باب ذكر ما كان قبل الحجاب: "عن ابن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين يؤذيهن، فإذا قيل له قال: كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن؛ تخمر وجهها إلا إحدى عينيها، يقول: ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين، يقول ذلك أحرى أن يُعرفن"، وهكذا قال الطبري رحمه الله :"يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين لا يتشبهن بالإماء في لباسهن، إذا هن خرجن من بيوتهن لحاجتهن فكشفن شعورهن ووجوههن، ولكن ليدنين عليهن من جلابيبهن لئلا يعرض لهن فاسق إذا علم أنهن حرائر بأذى من قول". ومن الجدير بالقول أن نذكر أن الإمام الطبري وغيره قد نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه قولان في مسألة كون الوجه من الزينة الظاهرة المباح كشفها، ولكن قدمنا الأدلة على رجحان كون وجه المرأة عورة عن الأجانب، وإذا تعارض قولان منسوبان للصحابة ألحقناهما بأصول الشريعة من الكتاب والسنة وأخذنا بالأشبه، فما بالك إذا كان القولان المتعارضان منسوبين لنفس الصحابي؛ لا شك أن القول الصحيح منهما هو الموافق لأصول الكتاب والسنة وأقوال باقي الصحابة لا سيما وأن الصحابي الآخر قد اجتمعت وتوافرت لديه الدواعي لضبط المسألة كما قدمنا من حال أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد ذكرت هذا حتى لا يتفزلك أحد بأننا نجتزئ أقوالاً من كلام الأئمة ونغفل ذكر بعض الخلاف المأثور في المسألة، والله الموفق.
بقيت مسألة الإحتجاج بإحرام المرأة وهي من أطرف المسائل، حيث يحتج بعض المغرضين أو المتأولين بحديث «لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين» حيث يقولون لو كان وجه المرأة عورة لما أمر بكشفه في الحج، وهذا من أبهت الحجج لأن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم المحرمة عن لبس النقاب والقفازين مثل نهيه للمحرم عن لبس السراويل حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس» الحديث، فالذي يفهم من النهي عن النقاب الأمر بكشف الوجه ويستنبط أنه ليس بعورة لزمه أن يفهم من النهي عن لبس المحرم السراويل الأمر بكشف عورته وفخذيه في إحرامه ويستنبط أن الفخذين والفرج ليس بعورة وهذا بهتان صريح، ومن فرق فإنه يفرق بمحض التحكم، في حين أن الحق في هذه المسألة أن النهي وارد عن نوع من الثياب لا عن نفس ستر العورة، ولقد تقدم معنا أن عورة المرأة في الصلاة شيء وعورتها عن نظر الأجانب شيء آخر، والحج فيه شبه من الحالين؛ فهي من جهة كون الطواف والحج عبادة أشبه بالصلاة فكان كشف الوجه إذا أمنت نظر الرجال، ومن حيث احتمال نظر الرجال إليها في مناسك الحج أشبه بحال خروجها من البيت فكان إحرامها في وجهها بترك النقاب، وكان سترها وجهها إذا واجهت الرجال بشيء غير النقاب كأن تسدل خمارها، قال الإمام الشافعي رحمه الله: "وتفارق المرأة الرجل فيكون إحرامها في وجهها وإحرام الرجل في رأسه، فيكون للرجل تغطية وجهه كله من غير ضرورة ولا يكون ذلك للمرأة، ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها متجافيًا كالستر على وجهها ولا يكون لها أن تنتقب. أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: تدلي عليها من جلبابها ولا تضرب به. قلت: وما لا تضرب به؟ فأشار إلي كما تجلبب المرأة، ثم أشار إلى ما على خدها من الجلباب فقال: لا تغطيه فتضرب به على وجهها، فذلك الذي يبقى عليها، ولكن تسدله على وجهها كما هو مسدولاً ولا تقلبه ولا تضرب به ولا تعطفه. أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال: لتدل المرأة المحرمة ثوبها على وجهها ولا تنتقب"، وقال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: "وعن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق"، وفي المدونة الكبرى رواية ابن القاسم: "إلا أن مالكًا كان يوسع للمرأة أن تسدل رداءها من فوق رأسها على وجهها إذا أرادت سترًا، فإن كانت لا تريد سترًا فلا تسدل" وقال: "قلت: فهل كان مالك يأمرها إذا أسدلت رداءها أن تجافيه عن وجهها؟ قال: ما علمت إنه كان يأمرها بذلك. قلت: فإن أصاب وجهها الرداء؟ قال: ما علمت أن مالكًا ينهى عن أن يصيب الرداء وجهها إذا أسدلته". بل قد حكى غير واحد الإجماع على ذلك، كالحافظ ابن عبد البر رحمه الله قال: "وأجمعوا أن إحرام المرأة في وجهها، وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها وهي محرمة، وأن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفًا تستتر به عن نظر الرجل إليها"، وكذلك حكى الإجماع ابن رشد رحمه الله. والحقيقة إن النقل في هذه المسألة يطول، ولو أردت جمع الأدلة لانتظم منها شيء كثير بإذن الله ولكن ليس هذا مقامه، إذ أن المقصود من سرد بعض الأدلة الصريحة الإنطلاق في التحذير من خطر أعوان إبليس من أدلة الكتاب والسنة، ولعل هذا الإنكار على أهل السفور وأعداء الخمار يكون مناسبة للمتأولين جواز كشف وجه المرأة للأجانب كي يثوبوا إلى القول الراجح في المسألة لا سيما وأنه لا يماري في كون الزمان زمان فتنة إلا من لا حظ له، والله المستعان.
إن أمرًا من الأمور لا يخرج عن كونه معروفًا أو منكرًا، ولئن سألنا أي عاقل منصف عن الخمار الساتر لوجه المرأة المسلمة العفيفة الشريفة أهو من المعروف أم من المنكر؟ فلا بد من جواب؛ فإن أجاب أنه من المنكر إكتفينا بجوابه هذا فاضحًا له وكاشفًا لعمالته الإبليسية وانحيازه إلى معسكر النهي عن الستر والسعي إلى نزع اللباس، وإن أجاب أنه من المعروف وهو مع ذلك يحاربه وينهى عنه فقد فضح نفسه بالنفاق حين أقر بنهيه عن أمرٍ معروف، كما قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ۗ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة:67]، فهؤلاء المعادون لستر وجه المسلمة عن الأجانب يدورون بين مهالك ولاية الشيطان وولاية المنافقين، نسأل الله السلامة والعافية.
هذه بعض معالم معركة أولياء الرحمن وأولياء الشيطان على جبهة الحجاب والعفة والشرف؛ فريقٌ يستر النساء عن سهام النظر المسمومة، وفريق يسعى لهتك سترها بصورة مسعورة محمومة، فريقٌ يبيح فقأ كل عينٍ خبيثة تتجسس على عورات المسلمين، وفريق يريد لعوراتهم هتكًا لإسعاد الشياطين، فريقٌ يسد ذريعة الفتنة بمنع صوت الخلخال المستور، وفريقٌ يؤجج نار الهوى ويغري بالعري والسفور، فريقٌ يغار على أبضاع المسلمين كغيرة رب العباد، وفريقٌ خسيس وضيع يشيع الفاحشة في البلاد، فلا تغرنك أختي المسلمة دعايات إبليس، ولا يكن أمر دينك في حيص بيص، فلقد حذرك الله تعالى من حقيقة هؤلاء فقال: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:32-33]، ولئن ضاقت بك الأرض وتململت من قرار المنزل، فإن الجنة رحبة واسعة وهي والله خير منزل، ألا فلنحصن بيوتنا ونساءنا وعوراتنا ضد هجمات إبليس وجنوده ضد ربات الخدور، ولنعلنها حملةً شاملة على أهل العهر والسفور، فإن الله ناصر جنده وهازم أعدائهم، وإن الله مولانا ولا مولى لهم...
د.وسيم فتح الله
http://saaid.net/female/h73.htm
تعليق