جُبِلتِ النفسُ البشريَّة على طِباع مختلفة، وخِصال مزدوجة، منها الممدوح، ومنها المذموم. وتتفاوت حظوظُ الناس في هذه الخِصال، فمنهم مَن تغلب عليه خصالُ الخير، ومنهم من تغلب عليه خصالُ الشر. ومِن هذه الخِصال: الكِبْر والأَنَفة، فإنَّ معظم البشر يحبُّ التظاهر بالقوَّة والعزَّة. وعلى رغم ما بيْن هاتين الخَصلتين (الكِبْر والأنَفة) من وشائج القُربى والتداخل، فإنَّ بينهما من الاختلاف أكثرَ ممَّا بينهما مِن الاتفاق. فالكِبْر في لُغة العرب: "العظَمَة والتجبُّر، كالكبرياء... وقد تكبَّر واستكبر وتكابر... والتكبُّر والاستكبار: التعظيم"؛ كما في "تاج العروس" للزبيدي. ومِن مرادفات الكِبْر: الزَّهو، والفخر، والخُيلاء، والعُجْب. وأما الأنَفة، فهي العزَّة والحميَّة، جاء في "اللسان": "أنف مِن الشيء يأنف أنفًا: إذا كرهه وشرفت عنه نفْسُه" ا. هـ. ومِن مرادفات الأنَفة: النَّخْوة، والعِزَّة، وإباء الضيم، والحمية. وقد بيَّن الشارع الحكيم حدَّ الكبر المذموم بقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((الكِبْر بَطَر الحق، وغمْط الناس)). وبطر الحق: رده وعدم قبوله، وغمط الناس: احتقارهم. وعندَ التأمُّل في المعنى اللغوي ذاك، يلحظ أنَّ كلاًّ من الكِبر والأنَفة يجمعهما العزَّة والاستنكاف. قال - عزَّ مِن قائل -: ﴿ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 172]. يقول الإمام الطبريُّ في تفسيره للآية: "يعني بذلك - جلَّ ثناؤه -: ومَن يتعظَّم عن عبادة ربِّه، ويأنفْ مِن التذلُّل والخضوع له بالطاعة مِن الخلْق كلهم، ويستكبر عن ذلك، فسيحشرهم إليه جميعًا، يقول: فسيبعثهم يوم القيامة جميعًا، فيجمعهم لموعدِهم عنده". بَيْدَ أنَّ بينهما (أعني: الكِبْر والأنَفة) فروقًا ظاهرة؛ فإنَّ الكِبْر بمفهومه الشَّرعي مذموم كله، سواء أكان استكبارًا على الله بعدَم قَبول شرْعه وحُكمه، أم كان استكبارًا على الخلق، وذلك بأن يُعجب الإنسان بنفْسه فيراها فوقَ الناس فيحتقرهم. فكلا النَّوعين شرّ، وشر الشرَّين أولهما. وأمَّا الأنَفة، فقد تكون أنفةً مِن الحق، وهذه هي الكِبر بعينه. وقد تكون أنَفة مِن الباطل، كمن يأنَف مِن عبادة الأصنام، وشُرْب الخمر، ولعِب القمار، ونكاح المحارم، مثلما كان موجودًا عندَ بعض العرَب قبل الإسلام، وهذه أنَفة محمودة، وإنْ لم يقصدْ منها التقرُّب إلى الله. لكنَّها في معيار الشَّرْع لا تكون مقبولةً عند الله، إلا إذا شايعها إخلاص وإيمان؛ ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وفي الحديث: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)). وقدْ تكون الأنَفة أيضًا في الأمور المباحَة، كالأنفة مِن الجلوس إلى أهلِ الدنيا وأصحاب المناصِب، والأنَفة مِن تولِّي الولايات القياديَّة، وأنَفة العفيف المتعفِّف مِن سؤال الناس مهما احتاج. وذلك مِن الأمور الجائِزة، وقد يكون مستحبًّا أو واجبًا في بعضِ الحالات. ومِن الفروق بين الكِبْر والأنَفة: اختلاف أضدادهما. فإنَّ الكبر يقابله: التواضُع، وهو محمودٌ في جملته. قال سبحانه: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ﴾ [الإسراء: 37]، وفي صحيح مسلم: ((ما تواضَع أحدٌ لله إلا رفَعَه الله - عزَّ وجلَّ)). ولا يكون مذمومًا إلاَّ في حالتين: الأولى: أن يَتحوَّل إلى ضعة واستكانة، بحيث يضَع الإنسان نفْسَه في مواضع الإزراء. الثانية: أن يكونَ تملقًا وتصنعًا؛ مِن أجلِ الوصول إلى الأهواء والأغْراض الشخصيَّة. وأمَّا الأنَفة فيقابلها: الدناءة والخِسَّة، والمهانة والذلَّة، والصَّغار والهوان. ولا يَقبل ذلك إلا مَهينٌ حقير.
وتقول العرب في حقِّه: ألِفَ مضاجِعَ الذلَّة، ورَضي بالذلِّ صاحبًا، وانقاد للهوان، وشرِب على الشجى.
والمتأمِّل في طِباع الناس وأخلاقهم يلحَظ أنَّ أكثرهم قد تأصَّلت في نفْسه خصلتا الكِبر والأنَفة، حتى أصبحتَا طبعًا غريزيًّا، وعلى الأخصِّ الأنَفة. فإنَّهما يتساوقانِ مع هوى النَّفْس وشهوتها، وكلاهما غريزي.
وباستثناء الأنَفة المحمودة أو المباحَة، فإنَّ الإنسان مطالَب بتهذيبِ نفْسه وتخليصها مِن كلِّ خلُق ذميم، ومنه الكِبْر وما يندرج معه مِن الأنَفَة.
والحقُّ أنَّ ذلك لن يتمَّ ولن يتحقَّق إلا بالمجاهدة، وعن طريقِ الوسائل الذاتية والخارجيَّة.
فمِن الوسائل الذاتية:
1- العقل، فإنَّه كما يقول الراغب الأصفهاني في كتابه "الذريعة إلى مكارم الشريعة" (ص: 101): "مشيرٌ ناصِح عالِم".
أي: إنَّه مصدر للتحسين والتقبيح، يعرف به حُسن الشيء وقُبحه.
2- القلْب، فإنَّه محلُّ الإيمان، ومزرَعة الاعتقاد، ومتَى كان سالمًا ضَمِن السلامةَ لكلِّ الجوارح.
3- الفِطرة السليمة؛ ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30].
ومن الوسائل الخارجية:
1- العِلم، فإنَّه أساسُ العمل ودليله، والعِلم - غير المحظور - كله خيرٌ وشرَف، ولكنَّه يتفاوت بحسبِ المعلوم، ولا شكَّ أنَّ العِلم بالله تعالى وحُكمه وشَرْعه هو أفضلُ المعلومات والمعارف.
2- الخشية؛ أي: خشية الله تعالى ومراقبته في السرِّ والعَلن، كما قال الحقُّ سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]. وقدْ قال غيرُ واحد مِن السلف: العِلم هو الخشية.
3- الجليس الصالِح: فإنَّه كبائع المِسك، إمَّا أن يحذيَك، أو تبتاع منه، أو تجد ريحًا طيِّبة - كما في الحديث الصحيح.
وما يَشهَد له الحسُّ والتجربة أنَّ للجليس أثرًا واضحًا على جليسه، فالمرء على دِين خليله:
ورَحِم الله الشاعر لبيدًا إذ يقول:
4- العادات الاجتماعيَّة المحمودة: فإنَّ العادة مُحكَّمة - كما يقول الفقهاء.
أجل؛ فإذا تضافرتْ تلك الوسائل، فإنَّ النفس تتهذَّب وتتربَّى على الفضيلة، وتنقبض عن كلِّ رذيلة.
فهل يُحاسِب الإنسان نفسَه قبلَ أن تُحاسَب؟!
إنها دعوةٌ مخلصة لكلِّ عاقل - وعلى الأخصِّ طالِب العِلم وحامله - أن يتخلَّص من الكِبْر وإنْ كان مثقال ذرَّة، وأن يجعل نفْسَه في موقع العِزَّة والإباء، ولا يرضَى لها المهانة والذلَّة في سبيلِ أهوائها، فإنَّها كما قيل:
والله الموفِّق.
وَلاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ إِلاَّ الأَذَّلاَّنِ عَيْرُ الحَيِّ وَالوَتِدُ |
والمتأمِّل في طِباع الناس وأخلاقهم يلحَظ أنَّ أكثرهم قد تأصَّلت في نفْسه خصلتا الكِبر والأنَفة، حتى أصبحتَا طبعًا غريزيًّا، وعلى الأخصِّ الأنَفة. فإنَّهما يتساوقانِ مع هوى النَّفْس وشهوتها، وكلاهما غريزي.
وباستثناء الأنَفة المحمودة أو المباحَة، فإنَّ الإنسان مطالَب بتهذيبِ نفْسه وتخليصها مِن كلِّ خلُق ذميم، ومنه الكِبْر وما يندرج معه مِن الأنَفَة.
والحقُّ أنَّ ذلك لن يتمَّ ولن يتحقَّق إلا بالمجاهدة، وعن طريقِ الوسائل الذاتية والخارجيَّة.
فمِن الوسائل الذاتية:
1- العقل، فإنَّه كما يقول الراغب الأصفهاني في كتابه "الذريعة إلى مكارم الشريعة" (ص: 101): "مشيرٌ ناصِح عالِم".
أي: إنَّه مصدر للتحسين والتقبيح، يعرف به حُسن الشيء وقُبحه.
2- القلْب، فإنَّه محلُّ الإيمان، ومزرَعة الاعتقاد، ومتَى كان سالمًا ضَمِن السلامةَ لكلِّ الجوارح.
3- الفِطرة السليمة؛ ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾ [الروم: 30].
ومن الوسائل الخارجية:
1- العِلم، فإنَّه أساسُ العمل ودليله، والعِلم - غير المحظور - كله خيرٌ وشرَف، ولكنَّه يتفاوت بحسبِ المعلوم، ولا شكَّ أنَّ العِلم بالله تعالى وحُكمه وشَرْعه هو أفضلُ المعلومات والمعارف.
2- الخشية؛ أي: خشية الله تعالى ومراقبته في السرِّ والعَلن، كما قال الحقُّ سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]. وقدْ قال غيرُ واحد مِن السلف: العِلم هو الخشية.
3- الجليس الصالِح: فإنَّه كبائع المِسك، إمَّا أن يحذيَك، أو تبتاع منه، أو تجد ريحًا طيِّبة - كما في الحديث الصحيح.
وما يَشهَد له الحسُّ والتجربة أنَّ للجليس أثرًا واضحًا على جليسه، فالمرء على دِين خليله:
ورَحِم الله الشاعر لبيدًا إذ يقول:
مَا عَاتَبَ الْمَرْءَ اللَّبِيبَ كَنَفْسِهِ وَالْمَرْءُ يُصْلِحُهُ الجَلِيسُ الصَّالِحُ |
أجل؛ فإذا تضافرتْ تلك الوسائل، فإنَّ النفس تتهذَّب وتتربَّى على الفضيلة، وتنقبض عن كلِّ رذيلة.
فهل يُحاسِب الإنسان نفسَه قبلَ أن تُحاسَب؟!
إنها دعوةٌ مخلصة لكلِّ عاقل - وعلى الأخصِّ طالِب العِلم وحامله - أن يتخلَّص من الكِبْر وإنْ كان مثقال ذرَّة، وأن يجعل نفْسَه في موقع العِزَّة والإباء، ولا يرضَى لها المهانة والذلَّة في سبيلِ أهوائها، فإنَّها كما قيل:
هَبَطَتْ إِلَيْكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرْفَعِ وَرْقَاءُ ذَاتُ تَعَزُّزٍ وَتَمَنُّعِ |
تعليق