الكبر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن من الصفات المذمومة التي ذمها الله ورسوله صفة الكبر، قال الغزالي - رحمه الله -: "هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير"[1]، وقال بعضهم: "الكبر: هو استعظام الإنسان نفسه واستحسان ما فيه من الفضائل والاستهانة بالناس واستصغارهم والترفع على من يجب التواضع له"[2].
والتعريفان يصبان في معنى واحد.
"قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]. ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ ﴾: أي تميله وتُعرض به عن الناس تكبراً عليهم، والمرح: التبختر، وقال تعالى عن موسى - عليه السلام -: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27]".
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ[3] وَغَمْطُ النَّاسِ[4]"[5].
ففي هذا الحديث بيان أن الكبر على نوعين: الأول: الاستكبار على الله وعلى دينه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كاستكبار فرعون وأمثاله ممن استنكف أن يكون عبدًا لله، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27]. فإن نبي الله موسى دعاه إلى الهدى فاستكبر، وقال لقومه: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ﴾ [النازعات: 24، 25]. وجعله لمن بعده عبرة وآية، قال تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 92]. وهذا المصير هو مصير كل جبار ومعاند قبل فرعون وبعده، يشتركون كلهم في ذلك المصير المخزي كما اشتركوا في التكبر على الله وعلى رسوله، قال تعالى: ﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 33 - 35].
والكبرياء من خصائص الجبار سبحانه كما جاء في الحديث المخرج في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَالَ اللَّهُ - عز وجل -: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ"[6].
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكبر من صفات أهل النار، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللَّهُ -عز وجل- لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَرُبَّمَا قَالَ: أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا"[7].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سلمة ابن عبدالرحمن بن عوف قال: الْتَقَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُاللَّهِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى الْمَرْوَةِ، فَتَحَدَّثَا، ثُمَّ مَضَى عَبْدُاللَّهِ ابْنُ عَمْرٍو وَبَقِيَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ هَذَا: يَعْنِي عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ"[8].
والمتكبرون شر خلق الله، ويُحشرون يوم القيامة وعلى وجوههم الذل والصغار، قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 60]. وقال تعالى: ﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾ [الشورى: 45].
وروى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ"[9]. وجاء في تفسيرها بأنها صديد أهل النار.
ومن هذا النوع أن يبلغ الإنسان الحق من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينقاد له، بل يعرض عنه أنفةً واستكباراً، قال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
وفي مثل هذا نزل قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
وفي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: "كُلْ بِيَمِينِكَ"، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: "لَا اسْتَطَعْتَ"، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ[10].
النوع الثاني: التكبر على الخلق وقد مر بيانه بأنه غمط الناس: أي احتقارهم وازدراؤهم، وهذا إنما ينشأ عند أهل النقص والدناءة، فيريدون تعويض ذلك بإظهار ما ليسوا بأهله، وحينئذ ينشأ الكبر عندهم، ولهذا جاء التوجيه النبوي الكريم بالأمر بالتواضع قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"[11].
قال الغزالي - رحمه الله -: "فالكبر آفة عظيمة هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء، فضلاً عن عوام الخلق، وكيف لا تعظم آفته وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، وإنما صار حجاباً دون الجنة، لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، لأنه لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وفيه شيء من الكبر، فما من خُلُقٍ ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ كبره، وما من خُلُقٍ محمودٍ إِلَّا وهو عاجز عنه خوفاً من أن يفوته عزه، فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه، والأخلاق الذميمة متلازمة، والبعض منها داع إلى البعض، وشر أنواع الكبر ما يمنع من الاستفادة من العلم، وقبول الحق، والانقياد له"[12]. ا هـ.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الكبر يشمل تزكية النفس والإعجاب بها عند الآخرين، والتكبر بالنسب، والمال، والجاه، والقوة، والجمال.
فصاحب النسب الشريف يتكبر على من ليس كذلك، وإن كان أرفع منه عملاً، والغني يتكبر بما له على الفقير، وصاحب المنصب يتكبر على من ليس كذلك، والمرأة الجميلة تتكبر على المرأة التي ليست كذلك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أوَ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ"[13].
[1] إحياء علوم الدين (3/345).
[2] تهذيب الأخلاق للجاحظ ص32.
[3] بطر الحق: دفعه ورده على قائله.
[4] غمط الناس: احتقارهم.
[5] برقم 91.
[6] برقم 2620 وسنن أبي داود برقم 4090 واللفظ له.
[7] برقم 7449 وصحيح مسلم برقم 2846.
[8] (11/590) برقم 7015 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط البخاري.
[9] برقم 2492 وقال هذا حديث حسن صحيح.
[10] برقم 2021.
[11] برقم 2865.
[12] إحياء علوم الدين (3/345).
[13] برقم 3955 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/254) برقم 3100.
منقول
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد: فإن من الصفات المذمومة التي ذمها الله ورسوله صفة الكبر، قال الغزالي - رحمه الله -: "هو استعظام النفس ورؤية قدرها فوق قدر الغير"[1]، وقال بعضهم: "الكبر: هو استعظام الإنسان نفسه واستحسان ما فيه من الفضائل والاستهانة بالناس واستصغارهم والترفع على من يجب التواضع له"[2].
والتعريفان يصبان في معنى واحد.
"قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]. ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ ﴾: أي تميله وتُعرض به عن الناس تكبراً عليهم، والمرح: التبختر، وقال تعالى عن موسى - عليه السلام -: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27]".
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ[3] وَغَمْطُ النَّاسِ[4]"[5].
ففي هذا الحديث بيان أن الكبر على نوعين: الأول: الاستكبار على الله وعلى دينه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كاستكبار فرعون وأمثاله ممن استنكف أن يكون عبدًا لله، قال تعالى: ﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [غافر: 27]. فإن نبي الله موسى دعاه إلى الهدى فاستكبر، وقال لقومه: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى ﴾ [النازعات: 24، 25]. وجعله لمن بعده عبرة وآية، قال تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ [يونس: 92]. وهذا المصير هو مصير كل جبار ومعاند قبل فرعون وبعده، يشتركون كلهم في ذلك المصير المخزي كما اشتركوا في التكبر على الله وعلى رسوله، قال تعالى: ﴿ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [الصافات: 33 - 35].
والكبرياء من خصائص الجبار سبحانه كما جاء في الحديث المخرج في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَالَ اللَّهُ - عز وجل -: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ"[6].
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الكبر من صفات أهل النار، روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "احْتَجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ، فَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الْجَبَّارُونَ وَالْمُتَكَبِّرُونَ، وَقَالَتْ هَذِهِ: يَدْخُلُنِي الضُّعَفَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، فَقَالَ اللَّهُ -عز وجل- لِهَذِهِ: أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَرُبَّمَا قَالَ: أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَقَالَ لِهَذِهِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا"[7].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي سلمة ابن عبدالرحمن بن عوف قال: الْتَقَى عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَبْدُاللَّهِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى الْمَرْوَةِ، فَتَحَدَّثَا، ثُمَّ مَضَى عَبْدُاللَّهِ ابْنُ عَمْرٍو وَبَقِيَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَبْكِي، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ هَذَا: يَعْنِي عَبْدَاللَّهِ بْنَ عَمْرٍو زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ، أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ"[8].
والمتكبرون شر خلق الله، ويُحشرون يوم القيامة وعلى وجوههم الذل والصغار، قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 60]. وقال تعالى: ﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ﴾ [الشورى: 45].
وروى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ"[9]. وجاء في تفسيرها بأنها صديد أهل النار.
ومن هذا النوع أن يبلغ الإنسان الحق من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينقاد له، بل يعرض عنه أنفةً واستكباراً، قال تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63].
وفي مثل هذا نزل قوله تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65].
وفي صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: "كُلْ بِيَمِينِكَ"، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: "لَا اسْتَطَعْتَ"، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ[10].
النوع الثاني: التكبر على الخلق وقد مر بيانه بأنه غمط الناس: أي احتقارهم وازدراؤهم، وهذا إنما ينشأ عند أهل النقص والدناءة، فيريدون تعويض ذلك بإظهار ما ليسوا بأهله، وحينئذ ينشأ الكبر عندهم، ولهذا جاء التوجيه النبوي الكريم بالأمر بالتواضع قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ"[11].
قال الغزالي - رحمه الله -: "فالكبر آفة عظيمة هائلة، وفيه يهلك الخواص من الخلق، وقلما ينفك عنه العباد والزهاد والعلماء، فضلاً عن عوام الخلق، وكيف لا تعظم آفته وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، وإنما صار حجاباً دون الجنة، لأنه يحول بين العبد وبين أخلاق المؤمنين كلها، وتلك الأخلاق هي أبواب الجنة، والكبر يغلق تلك الأبواب كلها، لأنه لا يقدر على أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وفيه شيء من الكبر، فما من خُلُقٍ ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ كبره، وما من خُلُقٍ محمودٍ إِلَّا وهو عاجز عنه خوفاً من أن يفوته عزه، فمن هذا لم يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة منه، والأخلاق الذميمة متلازمة، والبعض منها داع إلى البعض، وشر أنواع الكبر ما يمنع من الاستفادة من العلم، وقبول الحق، والانقياد له"[12]. ا هـ.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن الكبر يشمل تزكية النفس والإعجاب بها عند الآخرين، والتكبر بالنسب، والمال، والجاه، والقوة، والجمال.
فصاحب النسب الشريف يتكبر على من ليس كذلك، وإن كان أرفع منه عملاً، والغني يتكبر بما له على الفقير، وصاحب المنصب يتكبر على من ليس كذلك، والمرأة الجميلة تتكبر على المرأة التي ليست كذلك، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمُ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، إِنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أوَ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ"[13].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] إحياء علوم الدين (3/345).
[2] تهذيب الأخلاق للجاحظ ص32.
[3] بطر الحق: دفعه ورده على قائله.
[4] غمط الناس: احتقارهم.
[5] برقم 91.
[6] برقم 2620 وسنن أبي داود برقم 4090 واللفظ له.
[7] برقم 7449 وصحيح مسلم برقم 2846.
[8] (11/590) برقم 7015 وقال محققوه إسناده صحيح على شرط البخاري.
[9] برقم 2492 وقال هذا حديث حسن صحيح.
[10] برقم 2021.
[11] برقم 2865.
[12] إحياء علوم الدين (3/345).
[13] برقم 3955 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/254) برقم 3100.
منقول