الإسلام والتكافل بين الأجيال
التكافل بين الأجيال، لون آخر من ألوان التكافل التي حض عليها الإسلام، ويعني التكافل بين أجيال الأمة بعضها وبعض، وهو يكمل التكافل بين أقطار الأمة، فهو تكافل زماني، بجوار التكافل المكاني. ويعني: ألا يستأثر جيل بخيرات الأرض المذخورة والمنشورة، بل يجب على الجيل الحاضر أن يراعي الجيل المقبل، مثل صنيع الأب الذي يدخر لأبنائه[1]. فقضية التكافل لا تقف فقط عند أبناء المجتمع المسلم (الإقليم المحلي)، بل تتخطاه إلى الدولة المسلمة التي تضم مختلف الأقاليم، وأيضا الأمة المسلمة بكافة دولها، كي تساعد الدولُ الغنيةُ الفقيرةَ منها، هذا بعد مكاني في التكافل، وهناك بعد زماني يتصل بمستقبل الوطن وأبنائه، وهذا له أصل عظيم في الشريعة الإسلامية، وقد نبّه عليه القرآن الكريم، وتم تطبيقه في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بفترة زمنية بسيطة، وتمت استشارة كبار الصحابة، ومن ثم الوصول لحكم في المسألة، وهو ما سيتم بسطه، والوقوف عند جوانب القضية بشكل تفصيلي أملا لتواصل الأمة الآن في نهضتها الحضارية الجديدة، ما استهله سلفنا الصالح، ليكون عودا على بدء، وتراكما على أصل. قضية أرض السواد: لقد نظر الإسلام لهذا الحق للأجيال القادمة، منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت هذه الرؤية حاضرة منذ وقت مبكر حين ظهرت مشكلة " أرض السواد "، وهي ما يشار به إلى سواد كسرى الذي فتحه المسلمون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرض العراق، وقد سُمي سوادا لسواده بالزرع والأشجار؛ لأنه متاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم إليه ظهرت خضرة الزرع والأشجار فتعطي لوني الخضرة والسواد[2]. فحين تم فتح هذه الأرض، وحار المسلمون في توزيع هذه المساحات الشاسعة جدا، فالمعتاد أنها توزع على الفاتحين؛ حيث عُرِض الأمر على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأبى أن يعطي السواد للجنود والقادة الفاتحين، فقالوا: إنا فتحناه عنوة. فقال عمر: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ فأخاف أن تفاسدوا بينكم في المياه، وأخاف أن تقتتلوا. فأقر أهل السواد في أرضهم، وضرب على رؤوسهم الضرائب - يعني الجزية - وعلى أرضهم الطسق - يعني الخراج - ولم يقسمها بين الفاتحين. وقد أرسل في ذلك كتابا إلى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: " أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم، وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر، ما أجلبَ الناس عليك من كراع أو مال، فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها، ليكون ذلك أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها فيمن حضر لم يكن لم يجيء بعدهم شيء " [3] وهذا يعني النظرة المستقبلية التي كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث رأى أن الأرض سيستأثر بها الجيل الحالي من المسلمين، الذين قاموا بفتح هذه البلاد عنوة، وتحرم منها الأجيال التالية، لذا تساءل عن حقوق الأجيال التالية، وخاف أن تشغلهم هذه الأرض عن مواصلة الجهاد وحماية الأرض ونشر الإسلام، وأيضا خشي أن ينشغلوا بالماء والزراعة، وأمورهما، فيختلفوا، وتختلف قلوبهم تبعا لذلك. لذا، كانت رؤيته جامعة ما بين الآني والقادم: فالآني: هو الاستفادة من جيش المسلمين في مواصلة الجهاد وحماية الدين والدولة، وأيضا خوفا أن يتقاتلوا حول الأرض والماء. ورؤيته إلى المستقبل: مراعاة لحقوق الأجيال التالية التي ستجد أن فئة من المسلمين سبقتهم فنالوا الأرض وتوارثها أبناؤهم، وهم حرموا منها، وهي أراض شاسعة. أما القادم، فإن الدولة المسلمة ستحفظ هذه الأراضي الزراعية لتمد الخزانة بالمال اللازم، الذي ينفق على عموم المسلمين، في الجيل الحالي والأجيال القادمة.
وقد اتخذ عمر بن الخطاب خطوات لذلك، فبعث عمر بن حنيق، يمسح أرض السواد، فوضع على جريب (عشرة آلاف ذراع)، سواء كان غامراً أو عامراً، عند نيله الماء وكان مزروعاً حنطة أو شعيراً، ما قيمته قفيزاً أو درهماً، ووضع على جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب الرطب خمسة دراهم. وقد مسح أرض السواد فوجدها ستة وثلاثين ألف ألف جريب، وهذا من قبل تخوم مدينة الموصل ممتدا مع الماء إلى ساحل البحر (النهر) في بلاد عبادان، ومن الجبل من أرض حلوان إلى منتهى أرض القادسية [4]. وهي الأرض المنزرعة المعروفة بين النهرين في ذلك الوقت، يبقى فلاحوها عليها، ليستفيدوا منها، فهم أخبر بها، ويدفعون الجزية عن أنفسهم لمن يستحق منهم، و الخراج على الأرض حسب المساحة المخصصة لكل منهم، وحسب المحاصيل المنزرعة، ولتكون العوائد المالية ذخيرة للدولة المسلمة، وحفظا لحقوق الأجيال القادمة من المسلمين. وقد دلّ الموقف السابق على مدى اجتهاد الصحابة في قراءة الواقع والقضايا المستجدة في الإسلام، ولكونهم متشربين أحكام القرآن، ومربّين على أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا واعين لأهداف الإسلام ومراميه بشكل مباشر، فهم أفضل قدوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في فهم أحكام الكتاب والسنة وتحرِّي مقاصدهما عند التطبيق، وكما يقول ابن القيم رحـمه الله: "وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها، وأتبع له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده " [5] وقد ذكره في باب " العمل بالقياس مركوز في فطر الناس "، حيث أشار إلى أن سليقة الصحابة اللغوية كانت تدرك مرامي اللغة وتعرف جوانب عديدة من إيحاءات الألفاظ، وأن الفطرة البشرية تميل بطبيعتها إلى القياس، وهذا قد حققه الصحابة المجتهدون - رضوان الله عليهم -، بأنهم كانوا يستدلون على القضية من خلال النظائر المباشرة والقرائن التي يستشفونها من النصوص، يقول موضحا: " فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عملٌ بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته " [6] فالمجتهد يضع نصب عينيه وهو يبحث في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الصحيحة ما يفيد الناس، ويسعى إلى معرفة ما وراء اللفظ، والإشارات المبثوثة في ثناياه. لقد توقف عمر رضي الله عنه في قسمة سواد العراق حفظاً لمصلحة الجماعة وأجيال الأمة المستقبلة، ووجه الاستدلال هنا أن عمر رضي الله عنه نظر إلى مصلحة الأجيال القادمـة التي قد لا تحظى بما يقيم أودها إذا قسمت الأراضي بين الفاتحين فقط؛ مما يحصر المال في أيدي فئة معينة تتوارثه دون الآخرين، وهذا مناف لمقصد العدل الـذي ما أنزلت الشرائع وأرسلت الرسل إلا لإقامته وتحقيقه[7].
واستند عمر رضي الله عنه في اجتهاده إلى آيات سورة الحشر: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْن الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾[8] وقد جاء في التفسير قول عمر رضي الله عنه: وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، قال عمر: هذه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، أما القرى العربية نحو فدك وكذا وكذا، فقوله تعالى: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾، وأيضا ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [الحشر: 8] وهم المهاجرون، وأيضا ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [الحشر: 9] وهم الأنصــار، أما المسلمون القادمون فقد اختصهم قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [الحشر: 10] فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق أو قال: حظ - إلا بعض من تملكون من أرقائكم.وفي رواية أخرى: قرأ عمر بن الخطاب: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ حتى بلغ ﴿ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60] ، ثم قال هذه لهؤلاء، ثم قرأ: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [الأنفال: 41]، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [الحشر: 7] حتى بلغ: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ ﴾ ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ﴾، ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾. ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة وليس أحد إلا له فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي - وهو بسرو حمير - نصيبه فيها، لم يعرق فيها جبينه[9]. فاستدل عمر (رضي الله عنه) بالآيات القرآنية، مستحضرا أسباب نزولها في فتح عدد من القرى العربية أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأبان اجتهاده المبني على رؤية شاملة، تكفل حق الفاتحين، وأيضا حقوق سائر المسلمين في أي مكان من الدولة، وحق من جاء من بعدهم من المؤمنين. وقد أخبر ابن المنذر- ما يؤكد هذا المعنى - عن عمر بن الخطاب قال: ما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم [10].. التأصيل الفقهي للقضية: تناول الإمام القرطبي في تفسيره للآية ما يوضح هذه القضية فقهيا؛ فالأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل، عليها ثلاثة أضرب: الأول: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم؛ كالصدقات والزكوات. والثاني: الغنائم؛ وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف؛ كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له. فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها حسب ما ذكره الله تعالى في سورة التوبة، وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء، كما قال في سورة " الأنفال ": ﴿ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1]، ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنفال: 41] الآية. فأما الفيء فقسمته وقسمة الخمس سواء. والأمر عند الإمام مالكفيهما إلى الإمام، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه كله بين الناس، وسوى فيه بين عربيّهم ومولاهم. ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا، ويعطوا ذوو القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء سهمهم على ما يراه الإمام، وليس له حد معلوم [11]. فأمرُ الفيء متروك للإمام، ينظر فيه كما يشاء وفق مصلحة المسلمين، وما أضافه عمر في هذا الشأن أنه جعل النظرة عامة شاملة المسلمين الذين لم يحاربوا وأيضا أولادهم وأحفادهم. وبناء على هذا الموقف، اختلف الفقهاء - بعد ذلك - في فتح السواد وفي حكم هذا الفتح، فذهب فقهاء العراقإلى أنه فتح عنوة، لكن لم يقسمه عمر رضي الله عنه بين الغانمين وأقره على سكانه، وضرب الخراج على أرضه. والظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله في السواد أنه فُتِح عنوة واقتسمه الفاتحون ملكا ثم أنزلهم عمر فنزلوا إلا طائفة استطاب نفوسهم بمال عاوضهم به، أي أرضاهم بالمال، عن حقوقهم منه، فلما خلص للمسلمين ضرب عمر رضي الله عنه عليه خراجا. واختلف أصحاب الشافعي في حكمه؛ فذهب أبو سعيد الاصطخري في كثير منهم إلى أن عمر رضي الله عنه وقفه على كافة المسلمين وأقره في أيدي أربابه بخراج ضربه على رقاب الأرضين يكون أجرة لها تؤدى في كل عام، وإن لم تتقدر مدتها لعموم المصلحة فيها[12]. وهنا نقف عند الجملة الأخيرة، فلم يقدّر عمر رضي الله عنه مدة معينة لاستغلال أرض السواد، بل جعلها مفتوحة المدة، وهذا دليل على أنه لم يكن وقفا لأجل معين، بل كان لعموم المسلمين ولمصلحة الأجيال القادمة منهم. وقال الإمام مالك: قد صارت بالغلبة وقفا على المسلمين في حين استدل الإمام أبو حنيفةبما روي عن عمر بن الخطابلما فتح أرض السواد،أراد أن يقسمه بين الغانمين، فشاور علي بن أبي طالب- رضوان الله عليهما - فقال دعها تكون عدة للمسلمين، فتركها ولم يقسمها وضرب عليها خراجا، وقد استدل بقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10]، فكان هذا الدعاء منهم لأجل ما انتقل إليهم من فتوح بلادهم التي استبقوها وقفا عليهم، وبما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة فلم يقسمها وقسم غنائم هوازنولم يقسم أرضهم: فدل على أن الأرض تصير وقفا لا يجوز أن تقسم، ولأن الغنائم كانت على عهد من سلف من الأنبياء تنزل نار من السماء تأكلها؛ فأحلها الله تعالى بعدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته. وبنى الإمام أبو حنيفة حكما واضحا في هذا الشأن، يتجاوز حادثة أرض السواد ليكون نورا تهتدي به الأمة المسلمة: " الإمام في الأرضين مخير بين ثلاثة أشياء، بين أن يقسمها على الغانمين، أو يقسمها على المسلمين، أو يقرها في أيدي أهلها المشركين بخراج يضربه عليها وجزية على رقاب أهلها، تصير خراجا بعد إسلامهم لا تسقط عن رقابهم. وروي أنه لما فتحت مصروكان الأمير عمرو بن العاص،قال له الزبير بن العوام: اقسمها بين الغانمين، فقال: لا، حتى أكتب إلى عمر،فكتب إليه فأجابه عمردعها حتى يغدوفيهما حبل الحبلة، ولأنه لما جاز أن يصالحهم على خراجها قبل القدرة، جاز أن يكون مخيرا فيها بعد القدرة كالرقاب [13]. وهذا المبدأ يحقق جوانب مهمة في التصور الاقتصادي الإسلامي، فالإسلام مثلما يقر الملكية الخاصة، وحق الأفراد في الملكية، يحافظ أيضا على الملكية العامة، ويعترف بها اعترافا أصيلا، والملكية العامة لا تتوقف عند جيل بعينه يعتبر أنه معني بالاستفادة منها، ولا تقف عند المرافق العامة في المجتمع، بل تتخطى ذلك إلى كل ما هو مملوك للناس في أرضها وبحارها وأجوائها.
وإقرار هذا النوع من الملكية له انعكاساته على عملية التوزيع للثروة، وبناء على فقه الموضوع، فإن الملكية العامة في الإسلام تؤدي عددا من الوظائف. الأولى: تحقيق تنمية المجتمع وتقدّمه (بالمشاركة مع الأفراد). والثانية: تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية في الجيل الواحد، ثم تحقيق التوازن بين الأجيال الإسلامية. والثالثة: تغطية احتياجات التضامن الاجتماعي، وتلك إحدى السياسات التي يعمل بها الإسلام على هذا الجانب في المجتمع الإسلامي.
ومن الأمور الدقيقة في تنظيم الملكية العامة في الإسلام أن هناك بعض الأموال التي لا يجوز أن تدخل الملكية الخاصة، وقد اتفق على أموال معينة تقتصر على الملكية العامة (مثل المناجم وما في حكمها) كما اتفق على أن المبدأ الذي يحكم تنظيم هذه الأنواع هو مصلحة الجماعة الإسلامية، وهو مبدأ يفتح الباب أمام إدخال أموال أخرى لهذا المجال [14]. وهو مفهوم التوازن، الذي يعني عدم طغيان فئة واستئثارها بمصادر الثروة، فلابد من التوازن في التوزيع، أيضا بين الأجيال الإسلامية، فلا يعقل أن يستأثر جيل بكل خيرات البلد في زمنه، ويقوم باستنزافها، إنفاقا وإسرافا، ولا يترك شيئا لمن يليهم. إنه لبّ التنمية المستدامة في تعاملها مع الموارد الطبيعية، حيث رفضت أن يستنزف جيل حالي بثروات الوطن، دون نظر إلى حقوق الأجيال القادمة، وهذا معناه حسن إدارة الموارد الطبيعية، وتنميتها، التي لن تتحقق إلا بتنمية البشر القائمين على تنمية الموارد، وتوعيتهم أنهم مستأمنون على ثروات المجتمع الطبيعية، وعليهم أن يأخذوا حظّهم منها، ويسلموها لأبنائهم مُحافَظا عليها، قابلة للنماء، واكتشاف المزيد. وبهذا تتضامن الأجيال وتتواصل، ويدعو اللاحق للسابق، بدل أن يلعن آخر الأمة أولها [15]، ويتحسر الأحفاد على ثروات تولت لم يصنها الآباء والأجداد.
التكافل بين الأجيال، لون آخر من ألوان التكافل التي حض عليها الإسلام، ويعني التكافل بين أجيال الأمة بعضها وبعض، وهو يكمل التكافل بين أقطار الأمة، فهو تكافل زماني، بجوار التكافل المكاني. ويعني: ألا يستأثر جيل بخيرات الأرض المذخورة والمنشورة، بل يجب على الجيل الحاضر أن يراعي الجيل المقبل، مثل صنيع الأب الذي يدخر لأبنائه[1]. فقضية التكافل لا تقف فقط عند أبناء المجتمع المسلم (الإقليم المحلي)، بل تتخطاه إلى الدولة المسلمة التي تضم مختلف الأقاليم، وأيضا الأمة المسلمة بكافة دولها، كي تساعد الدولُ الغنيةُ الفقيرةَ منها، هذا بعد مكاني في التكافل، وهناك بعد زماني يتصل بمستقبل الوطن وأبنائه، وهذا له أصل عظيم في الشريعة الإسلامية، وقد نبّه عليه القرآن الكريم، وتم تطبيقه في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بفترة زمنية بسيطة، وتمت استشارة كبار الصحابة، ومن ثم الوصول لحكم في المسألة، وهو ما سيتم بسطه، والوقوف عند جوانب القضية بشكل تفصيلي أملا لتواصل الأمة الآن في نهضتها الحضارية الجديدة، ما استهله سلفنا الصالح، ليكون عودا على بدء، وتراكما على أصل. قضية أرض السواد: لقد نظر الإسلام لهذا الحق للأجيال القادمة، منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت هذه الرؤية حاضرة منذ وقت مبكر حين ظهرت مشكلة " أرض السواد "، وهي ما يشار به إلى سواد كسرى الذي فتحه المسلمون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أرض العراق، وقد سُمي سوادا لسواده بالزرع والأشجار؛ لأنه متاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر كانوا إذا خرجوا من أرضهم إليه ظهرت خضرة الزرع والأشجار فتعطي لوني الخضرة والسواد[2]. فحين تم فتح هذه الأرض، وحار المسلمون في توزيع هذه المساحات الشاسعة جدا، فالمعتاد أنها توزع على الفاتحين؛ حيث عُرِض الأمر على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فأبى أن يعطي السواد للجنود والقادة الفاتحين، فقالوا: إنا فتحناه عنوة. فقال عمر: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ فأخاف أن تفاسدوا بينكم في المياه، وأخاف أن تقتتلوا. فأقر أهل السواد في أرضهم، وضرب على رؤوسهم الضرائب - يعني الجزية - وعلى أرضهم الطسق - يعني الخراج - ولم يقسمها بين الفاتحين. وقد أرسل في ذلك كتابا إلى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: " أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم، وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر، ما أجلبَ الناس عليك من كراع أو مال، فاقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار لعمالها، ليكون ذلك أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها فيمن حضر لم يكن لم يجيء بعدهم شيء " [3] وهذا يعني النظرة المستقبلية التي كانت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث رأى أن الأرض سيستأثر بها الجيل الحالي من المسلمين، الذين قاموا بفتح هذه البلاد عنوة، وتحرم منها الأجيال التالية، لذا تساءل عن حقوق الأجيال التالية، وخاف أن تشغلهم هذه الأرض عن مواصلة الجهاد وحماية الأرض ونشر الإسلام، وأيضا خشي أن ينشغلوا بالماء والزراعة، وأمورهما، فيختلفوا، وتختلف قلوبهم تبعا لذلك. لذا، كانت رؤيته جامعة ما بين الآني والقادم: فالآني: هو الاستفادة من جيش المسلمين في مواصلة الجهاد وحماية الدين والدولة، وأيضا خوفا أن يتقاتلوا حول الأرض والماء. ورؤيته إلى المستقبل: مراعاة لحقوق الأجيال التالية التي ستجد أن فئة من المسلمين سبقتهم فنالوا الأرض وتوارثها أبناؤهم، وهم حرموا منها، وهي أراض شاسعة. أما القادم، فإن الدولة المسلمة ستحفظ هذه الأراضي الزراعية لتمد الخزانة بالمال اللازم، الذي ينفق على عموم المسلمين، في الجيل الحالي والأجيال القادمة.
وقد اتخذ عمر بن الخطاب خطوات لذلك، فبعث عمر بن حنيق، يمسح أرض السواد، فوضع على جريب (عشرة آلاف ذراع)، سواء كان غامراً أو عامراً، عند نيله الماء وكان مزروعاً حنطة أو شعيراً، ما قيمته قفيزاً أو درهماً، ووضع على جريب الكرم عشرة دراهم، وعلى جريب الرطب خمسة دراهم. وقد مسح أرض السواد فوجدها ستة وثلاثين ألف ألف جريب، وهذا من قبل تخوم مدينة الموصل ممتدا مع الماء إلى ساحل البحر (النهر) في بلاد عبادان، ومن الجبل من أرض حلوان إلى منتهى أرض القادسية [4]. وهي الأرض المنزرعة المعروفة بين النهرين في ذلك الوقت، يبقى فلاحوها عليها، ليستفيدوا منها، فهم أخبر بها، ويدفعون الجزية عن أنفسهم لمن يستحق منهم، و الخراج على الأرض حسب المساحة المخصصة لكل منهم، وحسب المحاصيل المنزرعة، ولتكون العوائد المالية ذخيرة للدولة المسلمة، وحفظا لحقوق الأجيال القادمة من المسلمين. وقد دلّ الموقف السابق على مدى اجتهاد الصحابة في قراءة الواقع والقضايا المستجدة في الإسلام، ولكونهم متشربين أحكام القرآن، ومربّين على أيدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا واعين لأهداف الإسلام ومراميه بشكل مباشر، فهم أفضل قدوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في فهم أحكام الكتاب والسنة وتحرِّي مقاصدهما عند التطبيق، وكما يقول ابن القيم رحـمه الله: "وقد كانت الصحابة أفهم الأمة لمراد نبيها، وأتبع له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده " [5] وقد ذكره في باب " العمل بالقياس مركوز في فطر الناس "، حيث أشار إلى أن سليقة الصحابة اللغوية كانت تدرك مرامي اللغة وتعرف جوانب عديدة من إيحاءات الألفاظ، وأن الفطرة البشرية تميل بطبيعتها إلى القياس، وهذا قد حققه الصحابة المجتهدون - رضوان الله عليهم -، بأنهم كانوا يستدلون على القضية من خلال النظائر المباشرة والقرائن التي يستشفونها من النصوص، يقول موضحا: " فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عملٌ بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها، أو من مقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته " [6] فالمجتهد يضع نصب عينيه وهو يبحث في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة الصحيحة ما يفيد الناس، ويسعى إلى معرفة ما وراء اللفظ، والإشارات المبثوثة في ثناياه. لقد توقف عمر رضي الله عنه في قسمة سواد العراق حفظاً لمصلحة الجماعة وأجيال الأمة المستقبلة، ووجه الاستدلال هنا أن عمر رضي الله عنه نظر إلى مصلحة الأجيال القادمـة التي قد لا تحظى بما يقيم أودها إذا قسمت الأراضي بين الفاتحين فقط؛ مما يحصر المال في أيدي فئة معينة تتوارثه دون الآخرين، وهذا مناف لمقصد العدل الـذي ما أنزلت الشرائع وأرسلت الرسل إلا لإقامته وتحقيقه[7].
واستند عمر رضي الله عنه في اجتهاده إلى آيات سورة الحشر: ﴿ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْن الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إنَّك رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾[8] وقد جاء في التفسير قول عمر رضي الله عنه: وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب، قال عمر: هذه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، أما القرى العربية نحو فدك وكذا وكذا، فقوله تعالى: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾، وأيضا ﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ﴾ [الحشر: 8] وهم المهاجرون، وأيضا ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ [الحشر: 9] وهم الأنصــار، أما المسلمون القادمون فقد اختصهم قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾ [الحشر: 10] فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق أو قال: حظ - إلا بعض من تملكون من أرقائكم.وفي رواية أخرى: قرأ عمر بن الخطاب: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ﴾ حتى بلغ ﴿ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60] ، ثم قال هذه لهؤلاء، ثم قرأ: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [الأنفال: 41]، ثم قال: هذه لهؤلاء، ثم قرأ: ﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [الحشر: 7] حتى بلغ: ﴿ لِلْفُقَرَاءِ ﴾ ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ﴾، ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ﴾. ثم قال: استوعبت هذه الآية المسلمين عامة وليس أحد إلا له فيها حق، ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي - وهو بسرو حمير - نصيبه فيها، لم يعرق فيها جبينه[9]. فاستدل عمر (رضي الله عنه) بالآيات القرآنية، مستحضرا أسباب نزولها في فتح عدد من القرى العربية أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأبان اجتهاده المبني على رؤية شاملة، تكفل حق الفاتحين، وأيضا حقوق سائر المسلمين في أي مكان من الدولة، وحق من جاء من بعدهم من المؤمنين. وقد أخبر ابن المنذر- ما يؤكد هذا المعنى - عن عمر بن الخطاب قال: ما على وجه الأرض مسلم إلا وله في هذا الفيء حق إلا ما ملكت أيمانكم [10].. التأصيل الفقهي للقضية: تناول الإمام القرطبي في تفسيره للآية ما يوضح هذه القضية فقهيا؛ فالأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل، عليها ثلاثة أضرب: الأول: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم؛ كالصدقات والزكوات. والثاني: الغنائم؛ وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب والقهر والغلبة. والثالث: الفيء، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ولا إيجاف؛ كالصلح والجزية والخراج والعشور المأخوذة من تجار الكفار. ومثله أن يهرب المشركون ويتركوا أموالهم، أو يموت أحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له. فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملين عليها حسب ما ذكره الله تعالى في سورة التوبة، وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما شاء، كما قال في سورة " الأنفال ": ﴿ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1]، ثم نسخ بقوله تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنفال: 41] الآية. فأما الفيء فقسمته وقسمة الخمس سواء. والأمر عند الإمام مالكفيهما إلى الإمام، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل، وإن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه كله بين الناس، وسوى فيه بين عربيّهم ومولاهم. ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا، ويعطوا ذوو القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء سهمهم على ما يراه الإمام، وليس له حد معلوم [11]. فأمرُ الفيء متروك للإمام، ينظر فيه كما يشاء وفق مصلحة المسلمين، وما أضافه عمر في هذا الشأن أنه جعل النظرة عامة شاملة المسلمين الذين لم يحاربوا وأيضا أولادهم وأحفادهم. وبناء على هذا الموقف، اختلف الفقهاء - بعد ذلك - في فتح السواد وفي حكم هذا الفتح، فذهب فقهاء العراقإلى أنه فتح عنوة، لكن لم يقسمه عمر رضي الله عنه بين الغانمين وأقره على سكانه، وضرب الخراج على أرضه. والظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله في السواد أنه فُتِح عنوة واقتسمه الفاتحون ملكا ثم أنزلهم عمر فنزلوا إلا طائفة استطاب نفوسهم بمال عاوضهم به، أي أرضاهم بالمال، عن حقوقهم منه، فلما خلص للمسلمين ضرب عمر رضي الله عنه عليه خراجا. واختلف أصحاب الشافعي في حكمه؛ فذهب أبو سعيد الاصطخري في كثير منهم إلى أن عمر رضي الله عنه وقفه على كافة المسلمين وأقره في أيدي أربابه بخراج ضربه على رقاب الأرضين يكون أجرة لها تؤدى في كل عام، وإن لم تتقدر مدتها لعموم المصلحة فيها[12]. وهنا نقف عند الجملة الأخيرة، فلم يقدّر عمر رضي الله عنه مدة معينة لاستغلال أرض السواد، بل جعلها مفتوحة المدة، وهذا دليل على أنه لم يكن وقفا لأجل معين، بل كان لعموم المسلمين ولمصلحة الأجيال القادمة منهم. وقال الإمام مالك: قد صارت بالغلبة وقفا على المسلمين في حين استدل الإمام أبو حنيفةبما روي عن عمر بن الخطابلما فتح أرض السواد،أراد أن يقسمه بين الغانمين، فشاور علي بن أبي طالب- رضوان الله عليهما - فقال دعها تكون عدة للمسلمين، فتركها ولم يقسمها وضرب عليها خراجا، وقد استدل بقوله تعالى ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ﴾ [الحشر: 10]، فكان هذا الدعاء منهم لأجل ما انتقل إليهم من فتوح بلادهم التي استبقوها وقفا عليهم، وبما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة فلم يقسمها وقسم غنائم هوازنولم يقسم أرضهم: فدل على أن الأرض تصير وقفا لا يجوز أن تقسم، ولأن الغنائم كانت على عهد من سلف من الأنبياء تنزل نار من السماء تأكلها؛ فأحلها الله تعالى بعدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته. وبنى الإمام أبو حنيفة حكما واضحا في هذا الشأن، يتجاوز حادثة أرض السواد ليكون نورا تهتدي به الأمة المسلمة: " الإمام في الأرضين مخير بين ثلاثة أشياء، بين أن يقسمها على الغانمين، أو يقسمها على المسلمين، أو يقرها في أيدي أهلها المشركين بخراج يضربه عليها وجزية على رقاب أهلها، تصير خراجا بعد إسلامهم لا تسقط عن رقابهم. وروي أنه لما فتحت مصروكان الأمير عمرو بن العاص،قال له الزبير بن العوام: اقسمها بين الغانمين، فقال: لا، حتى أكتب إلى عمر،فكتب إليه فأجابه عمردعها حتى يغدوفيهما حبل الحبلة، ولأنه لما جاز أن يصالحهم على خراجها قبل القدرة، جاز أن يكون مخيرا فيها بعد القدرة كالرقاب [13]. وهذا المبدأ يحقق جوانب مهمة في التصور الاقتصادي الإسلامي، فالإسلام مثلما يقر الملكية الخاصة، وحق الأفراد في الملكية، يحافظ أيضا على الملكية العامة، ويعترف بها اعترافا أصيلا، والملكية العامة لا تتوقف عند جيل بعينه يعتبر أنه معني بالاستفادة منها، ولا تقف عند المرافق العامة في المجتمع، بل تتخطى ذلك إلى كل ما هو مملوك للناس في أرضها وبحارها وأجوائها.
وإقرار هذا النوع من الملكية له انعكاساته على عملية التوزيع للثروة، وبناء على فقه الموضوع، فإن الملكية العامة في الإسلام تؤدي عددا من الوظائف. الأولى: تحقيق تنمية المجتمع وتقدّمه (بالمشاركة مع الأفراد). والثانية: تحقيق التوازن بين أفراد الجماعة الإسلامية في الجيل الواحد، ثم تحقيق التوازن بين الأجيال الإسلامية. والثالثة: تغطية احتياجات التضامن الاجتماعي، وتلك إحدى السياسات التي يعمل بها الإسلام على هذا الجانب في المجتمع الإسلامي.
ومن الأمور الدقيقة في تنظيم الملكية العامة في الإسلام أن هناك بعض الأموال التي لا يجوز أن تدخل الملكية الخاصة، وقد اتفق على أموال معينة تقتصر على الملكية العامة (مثل المناجم وما في حكمها) كما اتفق على أن المبدأ الذي يحكم تنظيم هذه الأنواع هو مصلحة الجماعة الإسلامية، وهو مبدأ يفتح الباب أمام إدخال أموال أخرى لهذا المجال [14]. وهو مفهوم التوازن، الذي يعني عدم طغيان فئة واستئثارها بمصادر الثروة، فلابد من التوازن في التوزيع، أيضا بين الأجيال الإسلامية، فلا يعقل أن يستأثر جيل بكل خيرات البلد في زمنه، ويقوم باستنزافها، إنفاقا وإسرافا، ولا يترك شيئا لمن يليهم. إنه لبّ التنمية المستدامة في تعاملها مع الموارد الطبيعية، حيث رفضت أن يستنزف جيل حالي بثروات الوطن، دون نظر إلى حقوق الأجيال القادمة، وهذا معناه حسن إدارة الموارد الطبيعية، وتنميتها، التي لن تتحقق إلا بتنمية البشر القائمين على تنمية الموارد، وتوعيتهم أنهم مستأمنون على ثروات المجتمع الطبيعية، وعليهم أن يأخذوا حظّهم منها، ويسلموها لأبنائهم مُحافَظا عليها، قابلة للنماء، واكتشاف المزيد. وبهذا تتضامن الأجيال وتتواصل، ويدعو اللاحق للسابق، بدل أن يلعن آخر الأمة أولها [15]، ويتحسر الأحفاد على ثروات تولت لم يصنها الآباء والأجداد.