بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وبعد:
فكم هي جميلة ابنة أخي.. ستكون إن شاء الله زوجةً لولدي, إن نظرات الإعجاب تحيط بها فهي محبوبة وسأفاتح أخي ليعجل بعقد القران, فقد وعدني بذلك... ولم يبق لها سوى الشهور القلائل لتتخرج من الجامعة.. إنها أنيقة.. جميلة.. وكم هي رشيقة ومرحة.
لكن أرى يا زوجتي ألا تستعجلي فقد بلغني أنها مغرورة.. وبالدنيا متعلقة مسرورة.
ماذا تريدها أن تكون؟! إنها شابة يافعة لابد لها من أن تتزين وتمرح وتلعب وتعيش سنها بدلال..
عجباً لَكُن يا نساء, كثيراً منكن مغرورات وبالدنيا فرحات متعلقات, تملنَ لها ميلاً.. وتنافسنها تنافساً, وكثيراً منكن عن الموت غافلات, ولما بعد الموت ساهيات.. وفي الأزياء والموضة والأكسسورات منهمكات.
- كفاك يا رجل: لا تمت فرحتي...
وتمر الأيام.. ويعقد القران.. ويحدد للزواج الميعاد.. الوجوه مبتسمة.. هنا وهناك.. تبادل للتهاني والتبريكات.. فهذه ليلة فرح.. وسرور وطرب.. وطبول.. وغداً المفاجاة والفاجعة.. وما أدراك ما غداً..!
إنها لا تعلم ما سوف يحدث في الغد.. وهذه الدنيا مخيفة.. والموت لا يعرف صحيحاً أو مريضاً.. كما أنه لا يعرف الانتظار.. ولا يفرق بين صغير أو كبير.. فلو كان للموت نعلٌ يُسمع قرعُه, وطَرقٌ على الأبواب يُطرق؛ لتهيأنا للقدوم على الله بالسجود, وأخذنا بالتضرع والرجوع, وبالاستغفار من كثرة الذنوب, ولامتنعنا عن المعاصي, وأكثرنا الأعمال الصالحات.. لكن.. هيهات.. هيهات فلا أحد يعلم متى يأتيه الموت, ولا أين يأتيه, ولا على أي حالة يأتيه, قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42].
وتموت هذه الشابة في ليلة عرسها, فيا للحزن الشديد!! يا لتساقط الدموع من العيون المحيطة بالموقف!!! إنهم يبكون.. يبكون!! وبالأمس كانوا يضحكون!! بالأمس تهاني.. واليوم تعازي !! {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦].. إنها ممدة لا حراك, سبحان الحي القيوم الذي لا يموت.. قبل ساعات كانت هنا وهناك.. كانت توزع الابتسامات.. وتتبادل التهاني والضحكات.. وتصافح هذا وذاك.. تقوم وتسرع في الخطوات.. ولآن.. لا حراك.. إنهم يحيطون بها.. ينظرون ويبكون.. والحزن يخيم على الجميع, والبعض له أنين!! إنها دنيا مفجعة!! لا تستقر على حال, ولا تدوم لأحد.
* كانت البارحة تودع خطيبها من النافذة في حياء.. وتنظر إليه نظرة اللهفان.. تبتسم للمستقبل الآتي, وينظر إليها وتنظر إليه.. والقمر بينهما قد شاع.. وعليهما بضوئه قد لاح, لاطفها في حياء فتبسمت.. وإلى الوراء تراجعت.. وإلى فراشها قد عادت.. ونامت جميلة الملابس.. والعطر منها قد فاح.. ونامت نومة طويلة.. لقد فارقت الحياة {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42].
من آخر الموضة جُرِدت.. وبالقماش الأبيض أُلبست.. والعطر الفواح قد زاح... وبالسدر والكافور استبدلت بعد أن غُسِلت..
ضُفِر الشعر ثلاثاً بعد أن كان على الأكتاف, وإنها الآن رُفعت على الأكتاف.. وأمام المصلين وضعت في صلاة لا ركوع فيها ولا سجود.. أربع تكبيرات.. وإلى القبر المسير.. وإلى ربك المصير.. الشمس متوهجةٌ.. وتربة القبر حارقةٌ.. ها هي الآن في القبر تطرح.. والتراب على قبرها يجمع.. ولوحدها تترك.. للوحدة.. والديدان.. أين هي الآن؟! قُبضت .. ورحلت بلا استئذان.. لتبدأ المشوار.. تركوها وحيدةً. بعدما فرغوا من الدفن.. وأغلقوا باب المقبرة.. وإلى معائشهم قد عادوا.. أين هي الآن؟!
أبي يا من كنت تناديني بقرة العين.. لا تفارقني طرفة عين.. لم تتركني الآن ابقَ معي.. إني أناديك ابق معي الآن..
أمي يا منبع الحنان.. لا أصدق أنكِ تتخلين عني الآن!! أين الحبُ والحنان؟!
أختاه.. يا من كنت معي بالليل والنهار.. أين أنتِ الآن؟! أختي.. يا أعز الصديقات.. لمَ لا تسمعوني؟!.. أجيبوني.. ابقوا معي الآن.. آه..آه..آه.. يا ليتني كنت من الصالحات.. ولمثل هذا اليوم من المتزودات.. ولمصاحبة المتقيات من الحريصات. قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
آهٍ لو تعود
آهٍ لو تعود الحياة ويمتد العمر.. لقضيت وقتي في الصالحات.. ولتزودت بالحسنات.. ولكنت للقرآن من المتدبرات.. ولذكر الله من الذاكرات.. وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القائمات.. ولكن.. هيهات... هيهات... أين الأهل والخلان؟! أين السهرات؟!! أين الموضات؟! أين المساحيق؟!! أين المزاح؟! أين الصديقات؟!! إنها الآن.. رهينة, قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
تـــزود من التـقـى فـإنـــك لا تــدري *** إذا جـن ليـلٌ هـل تعيـش إلى الفجـر
فـكـم من صحيـح مـات من غير عِلة *** وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم *** وقد أدخـلـت أجسادهـم ظلمة القبـر
وكـم من عــروس زينوهــا لزوجـهـا *** قد نُسجــت أكفـانهـا وهي لا تـدري
وبدأ المشوار
ضمة القبر.. ومنكر ونكير يأتيان ليُجلسان العبد فيسألانه... فإن كان من المقربين فروح وريحان ونعيم بالجنان... وإن كان من أصحاب اليمين... فسلام لك من أصحاب اليمين.. وأما أنتم أيها الضالون الغافلون... فنزلٌ من حميم.. وتصلية جحيم...
أما القبر فهو إما روضة من رياض الجنات.. أو حفرةٌ من نيران مهلكات.
عن هانىء مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته. فقيل له: تذكرُ الجنة والنار فلا تبكي, وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القبر أول منازل الآخرة, فإِن ينجُ منه فما بعده أيسر منه, وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه», قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه» [رواه الإمام أحمد].
وبعد ذلك ماذا سيكون؟... نفخ في الصور... ثم هم قيامٌ ينظرون.. وعلى الأقدام سائرون.. لا ملابس ولا أكفان.. بل حفاةٌ عراة.. لا حميم أو نصير ينفع الآن... فإنما هي زجرة واحدة... فإذا هم بالساهرة.. الأولون والآخرون.. ها هي الخلائق تدافعت.. والنفوس جُمعت.. حتى الوحوش حُشرت... لم يغادر ربي منهم أحداً... القبور بُعثرت... هذا يوم الدين... البحار فُجِرت... هذا يوم الصاخة.. الشمس كوِرت.. هذا يوم الطامة.. النجوم انكدرت... هذا يوم الحشر... الجبالُ سُيِرت... هذا يوم التغابن... السماء كُشطت.. هذا يوم القيامة... الشمس من رؤوس الخلائق اقتربت... والجلود عرقت... والحلوق تقطعت...
ياكثير المعاصي... كيف حالك الآن؟!
يا عاق والديك كيف حالك الآن؟
يا تارك الصلاة كيف حالك الآن؟
يا كاسية يا عارية كيف حالكِ الآن؟
ما أكثر الخلائق.. سبحانه كأنهم نفسٌ واحدة... لا تخفى عليه منهم خافية.. الأبصار خاشعة... والقلوب واجفة.. والصحف نُشرت.. كيف استلمت الكتاب؟! اقرئي ما كان بالليل والنهار.. كيف أمضيت الأوقات في القيل والقال..؟ وماذا كان منك من الأعمال..؟ ما من كبيرة أو صغيرة إلا أحصيت في هذا الكتاب.. ها قد جيء بها للحساب.. ها قد جيء بها للسؤال.. وكانت في دنيا الزوال تتمنى ألف مرة ومرة... ألا ينكشف أمرها بالمرة.
كيف حالك يا فتاة عند وضع الموازين.. والنار لها شهيقٌ وزفير... والله إنك واردتها على الصراط... هذا ما جاء في محكم التنزيل... نسأل الله لنا ولك التثبيت... الأقدام ترتعد.. والقلوب تُقتلع.. أدق من الشعرة.. وأحدُ من السيف.. هيا اجتازي هذا الصراط.. وابدئي.. فقد جاءك النذير في دنيا الغرور, إن كنت مستقيمة فسوف تجتازين هذا الخطر العظيم.. المفزع.. المنتظر..
هذا ما سيكون.. فمن الآن ابدئي.. وإلى الله ارجعي وكوني ممن هُم من الفزع آمنين.. فالله عزيز غفور.. يحب التائبين, والذين هم على الصراط المستقيم سائرون.. لتتلقاهم ملائكة الله الكرام هذا يومكم الذي كنتم توعدون.. ظل ظليل... نعيم مقيم في الانتظار.. للحافظات فروجهن.. للمحجبات.. للصائنات أنفسهن.. لمن يتقين الله ويعملن لما بعد الممات.. ومن ربِهن مشفقات. ومنه سبحانه وجلات, وعليه مُقبلات.. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات:50] فهو سبحانه أرحم الراحمين.. شديد العقاب, فالعودة.. أختاه.. العودة.. قبل أن تأتي مصيبة الموت {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11].
* يا أختاه: إني عليك من المشفقين, ولك من الناصحين.. متمنياً لك السعادة في الدارين فاحذري شياطين الثقلين.. وبالصالحات أثقلي الموازين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]. ولا تصحبي اللاهيات فتكوني من الخاسرات, واصحبي الصالحات لتكوني من الفائزات..
قد مضى العمر وفات *** يـا أسـيــر الغفـــلات
حصِــل الزاد وبــادر *** مسرعــاً قبل الفـوات
فإلـى كــم ذا التعامــي *** عن أمورٍ واضحـات
وإلى كــم أنت غـارق *** في بحــار الظلمــات
لــم يــكن قلبـك أصـلاً *** بالزواجر والعظـات
بينمـا الإنسـان يســأل *** عن أخيه قيـل مـات
وتـــراهـــم حـملــــوه *** سـرعـــة للفـلـــوات
أهـلــه يبكــون عليـــه *** حســرة بالعبـــرات
أيــن من كان يفخــر *** بالجيـاد الصـــافنات
ولــه مـــال وفـيـــــر *** كالجبـال الراسيـــات
سـار عنه رغـم أنـفٍ *** للقبــور الموحشــات
كم بها من طول مكثٍ *** من عظـام ناخــرات
فاغتنـم العمـر وبـادر *** بالتقـى قبل الممـــات
وأنـب وارجـع واقلـع *** من عظيـم السيئـــات
واطلب الغفـران ممن *** تُرجـى منه الهبـــات
والحمد لله الذي يبدل السيئات حسنات.. للتائبين والتائبات.. ويدخل من يشاء في رحمته إنه هو الخبير العليم. الذي لا يظلم مثقال ذرة, مضاعف الحسنات, والسيئة بمثلها.. فهو الرحمن الرحيم.. اللهم اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات.. وصلِ اللهم على مبعوث الهدى والرحمات, من أخرجنا به من الظلمات.. إلى النور والكرامات.. عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى أهل بيته الطيبين. وصحبه الكرام المتقين. وعلى جميع من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. آمين.
* * *
إعداد
طلال بن معيض العمراني
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, وبعد:
فكم هي جميلة ابنة أخي.. ستكون إن شاء الله زوجةً لولدي, إن نظرات الإعجاب تحيط بها فهي محبوبة وسأفاتح أخي ليعجل بعقد القران, فقد وعدني بذلك... ولم يبق لها سوى الشهور القلائل لتتخرج من الجامعة.. إنها أنيقة.. جميلة.. وكم هي رشيقة ومرحة.
لكن أرى يا زوجتي ألا تستعجلي فقد بلغني أنها مغرورة.. وبالدنيا متعلقة مسرورة.
ماذا تريدها أن تكون؟! إنها شابة يافعة لابد لها من أن تتزين وتمرح وتلعب وتعيش سنها بدلال..
عجباً لَكُن يا نساء, كثيراً منكن مغرورات وبالدنيا فرحات متعلقات, تملنَ لها ميلاً.. وتنافسنها تنافساً, وكثيراً منكن عن الموت غافلات, ولما بعد الموت ساهيات.. وفي الأزياء والموضة والأكسسورات منهمكات.
- كفاك يا رجل: لا تمت فرحتي...
وتمر الأيام.. ويعقد القران.. ويحدد للزواج الميعاد.. الوجوه مبتسمة.. هنا وهناك.. تبادل للتهاني والتبريكات.. فهذه ليلة فرح.. وسرور وطرب.. وطبول.. وغداً المفاجاة والفاجعة.. وما أدراك ما غداً..!
إنها لا تعلم ما سوف يحدث في الغد.. وهذه الدنيا مخيفة.. والموت لا يعرف صحيحاً أو مريضاً.. كما أنه لا يعرف الانتظار.. ولا يفرق بين صغير أو كبير.. فلو كان للموت نعلٌ يُسمع قرعُه, وطَرقٌ على الأبواب يُطرق؛ لتهيأنا للقدوم على الله بالسجود, وأخذنا بالتضرع والرجوع, وبالاستغفار من كثرة الذنوب, ولامتنعنا عن المعاصي, وأكثرنا الأعمال الصالحات.. لكن.. هيهات.. هيهات فلا أحد يعلم متى يأتيه الموت, ولا أين يأتيه, ولا على أي حالة يأتيه, قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42].
وتموت هذه الشابة في ليلة عرسها, فيا للحزن الشديد!! يا لتساقط الدموع من العيون المحيطة بالموقف!!! إنهم يبكون.. يبكون!! وبالأمس كانوا يضحكون!! بالأمس تهاني.. واليوم تعازي !! {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦].. إنها ممدة لا حراك, سبحان الحي القيوم الذي لا يموت.. قبل ساعات كانت هنا وهناك.. كانت توزع الابتسامات.. وتتبادل التهاني والضحكات.. وتصافح هذا وذاك.. تقوم وتسرع في الخطوات.. ولآن.. لا حراك.. إنهم يحيطون بها.. ينظرون ويبكون.. والحزن يخيم على الجميع, والبعض له أنين!! إنها دنيا مفجعة!! لا تستقر على حال, ولا تدوم لأحد.
* كانت البارحة تودع خطيبها من النافذة في حياء.. وتنظر إليه نظرة اللهفان.. تبتسم للمستقبل الآتي, وينظر إليها وتنظر إليه.. والقمر بينهما قد شاع.. وعليهما بضوئه قد لاح, لاطفها في حياء فتبسمت.. وإلى الوراء تراجعت.. وإلى فراشها قد عادت.. ونامت جميلة الملابس.. والعطر منها قد فاح.. ونامت نومة طويلة.. لقد فارقت الحياة {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42].
من آخر الموضة جُرِدت.. وبالقماش الأبيض أُلبست.. والعطر الفواح قد زاح... وبالسدر والكافور استبدلت بعد أن غُسِلت..
ضُفِر الشعر ثلاثاً بعد أن كان على الأكتاف, وإنها الآن رُفعت على الأكتاف.. وأمام المصلين وضعت في صلاة لا ركوع فيها ولا سجود.. أربع تكبيرات.. وإلى القبر المسير.. وإلى ربك المصير.. الشمس متوهجةٌ.. وتربة القبر حارقةٌ.. ها هي الآن في القبر تطرح.. والتراب على قبرها يجمع.. ولوحدها تترك.. للوحدة.. والديدان.. أين هي الآن؟! قُبضت .. ورحلت بلا استئذان.. لتبدأ المشوار.. تركوها وحيدةً. بعدما فرغوا من الدفن.. وأغلقوا باب المقبرة.. وإلى معائشهم قد عادوا.. أين هي الآن؟!
أبي يا من كنت تناديني بقرة العين.. لا تفارقني طرفة عين.. لم تتركني الآن ابقَ معي.. إني أناديك ابق معي الآن..
أمي يا منبع الحنان.. لا أصدق أنكِ تتخلين عني الآن!! أين الحبُ والحنان؟!
أختاه.. يا من كنت معي بالليل والنهار.. أين أنتِ الآن؟! أختي.. يا أعز الصديقات.. لمَ لا تسمعوني؟!.. أجيبوني.. ابقوا معي الآن.. آه..آه..آه.. يا ليتني كنت من الصالحات.. ولمثل هذا اليوم من المتزودات.. ولمصاحبة المتقيات من الحريصات. قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
آهٍ لو تعود
آهٍ لو تعود الحياة ويمتد العمر.. لقضيت وقتي في الصالحات.. ولتزودت بالحسنات.. ولكنت للقرآن من المتدبرات.. ولذكر الله من الذاكرات.. وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من القائمات.. ولكن.. هيهات... هيهات... أين الأهل والخلان؟! أين السهرات؟!! أين الموضات؟! أين المساحيق؟!! أين المزاح؟! أين الصديقات؟!! إنها الآن.. رهينة, قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38].
تـــزود من التـقـى فـإنـــك لا تــدري *** إذا جـن ليـلٌ هـل تعيـش إلى الفجـر
فـكـم من صحيـح مـات من غير عِلة *** وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم *** وقد أدخـلـت أجسادهـم ظلمة القبـر
وكـم من عــروس زينوهــا لزوجـهـا *** قد نُسجــت أكفـانهـا وهي لا تـدري
وبدأ المشوار
ضمة القبر.. ومنكر ونكير يأتيان ليُجلسان العبد فيسألانه... فإن كان من المقربين فروح وريحان ونعيم بالجنان... وإن كان من أصحاب اليمين... فسلام لك من أصحاب اليمين.. وأما أنتم أيها الضالون الغافلون... فنزلٌ من حميم.. وتصلية جحيم...
أما القبر فهو إما روضة من رياض الجنات.. أو حفرةٌ من نيران مهلكات.
عن هانىء مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته. فقيل له: تذكرُ الجنة والنار فلا تبكي, وتبكي من هذا؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «القبر أول منازل الآخرة, فإِن ينجُ منه فما بعده أيسر منه, وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه», قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت منظراً قط إلا القبر أفظع منه» [رواه الإمام أحمد].
وبعد ذلك ماذا سيكون؟... نفخ في الصور... ثم هم قيامٌ ينظرون.. وعلى الأقدام سائرون.. لا ملابس ولا أكفان.. بل حفاةٌ عراة.. لا حميم أو نصير ينفع الآن... فإنما هي زجرة واحدة... فإذا هم بالساهرة.. الأولون والآخرون.. ها هي الخلائق تدافعت.. والنفوس جُمعت.. حتى الوحوش حُشرت... لم يغادر ربي منهم أحداً... القبور بُعثرت... هذا يوم الدين... البحار فُجِرت... هذا يوم الصاخة.. الشمس كوِرت.. هذا يوم الطامة.. النجوم انكدرت... هذا يوم الحشر... الجبالُ سُيِرت... هذا يوم التغابن... السماء كُشطت.. هذا يوم القيامة... الشمس من رؤوس الخلائق اقتربت... والجلود عرقت... والحلوق تقطعت...
ياكثير المعاصي... كيف حالك الآن؟!
يا عاق والديك كيف حالك الآن؟
يا تارك الصلاة كيف حالك الآن؟
يا كاسية يا عارية كيف حالكِ الآن؟
ما أكثر الخلائق.. سبحانه كأنهم نفسٌ واحدة... لا تخفى عليه منهم خافية.. الأبصار خاشعة... والقلوب واجفة.. والصحف نُشرت.. كيف استلمت الكتاب؟! اقرئي ما كان بالليل والنهار.. كيف أمضيت الأوقات في القيل والقال..؟ وماذا كان منك من الأعمال..؟ ما من كبيرة أو صغيرة إلا أحصيت في هذا الكتاب.. ها قد جيء بها للحساب.. ها قد جيء بها للسؤال.. وكانت في دنيا الزوال تتمنى ألف مرة ومرة... ألا ينكشف أمرها بالمرة.
كيف حالك يا فتاة عند وضع الموازين.. والنار لها شهيقٌ وزفير... والله إنك واردتها على الصراط... هذا ما جاء في محكم التنزيل... نسأل الله لنا ولك التثبيت... الأقدام ترتعد.. والقلوب تُقتلع.. أدق من الشعرة.. وأحدُ من السيف.. هيا اجتازي هذا الصراط.. وابدئي.. فقد جاءك النذير في دنيا الغرور, إن كنت مستقيمة فسوف تجتازين هذا الخطر العظيم.. المفزع.. المنتظر..
هذا ما سيكون.. فمن الآن ابدئي.. وإلى الله ارجعي وكوني ممن هُم من الفزع آمنين.. فالله عزيز غفور.. يحب التائبين, والذين هم على الصراط المستقيم سائرون.. لتتلقاهم ملائكة الله الكرام هذا يومكم الذي كنتم توعدون.. ظل ظليل... نعيم مقيم في الانتظار.. للحافظات فروجهن.. للمحجبات.. للصائنات أنفسهن.. لمن يتقين الله ويعملن لما بعد الممات.. ومن ربِهن مشفقات. ومنه سبحانه وجلات, وعليه مُقبلات.. {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} [الذاريات:50] فهو سبحانه أرحم الراحمين.. شديد العقاب, فالعودة.. أختاه.. العودة.. قبل أن تأتي مصيبة الموت {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11].
* يا أختاه: إني عليك من المشفقين, ولك من الناصحين.. متمنياً لك السعادة في الدارين فاحذري شياطين الثقلين.. وبالصالحات أثقلي الموازين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]. ولا تصحبي اللاهيات فتكوني من الخاسرات, واصحبي الصالحات لتكوني من الفائزات..
قد مضى العمر وفات *** يـا أسـيــر الغفـــلات
حصِــل الزاد وبــادر *** مسرعــاً قبل الفـوات
فإلـى كــم ذا التعامــي *** عن أمورٍ واضحـات
وإلى كــم أنت غـارق *** في بحــار الظلمــات
لــم يــكن قلبـك أصـلاً *** بالزواجر والعظـات
بينمـا الإنسـان يســأل *** عن أخيه قيـل مـات
وتـــراهـــم حـملــــوه *** سـرعـــة للفـلـــوات
أهـلــه يبكــون عليـــه *** حســرة بالعبـــرات
أيــن من كان يفخــر *** بالجيـاد الصـــافنات
ولــه مـــال وفـيـــــر *** كالجبـال الراسيـــات
سـار عنه رغـم أنـفٍ *** للقبــور الموحشــات
كم بها من طول مكثٍ *** من عظـام ناخــرات
فاغتنـم العمـر وبـادر *** بالتقـى قبل الممـــات
وأنـب وارجـع واقلـع *** من عظيـم السيئـــات
واطلب الغفـران ممن *** تُرجـى منه الهبـــات
والحمد لله الذي يبدل السيئات حسنات.. للتائبين والتائبات.. ويدخل من يشاء في رحمته إنه هو الخبير العليم. الذي لا يظلم مثقال ذرة, مضاعف الحسنات, والسيئة بمثلها.. فهو الرحمن الرحيم.. اللهم اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات.. وصلِ اللهم على مبعوث الهدى والرحمات, من أخرجنا به من الظلمات.. إلى النور والكرامات.. عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وعلى أهل بيته الطيبين. وصحبه الكرام المتقين. وعلى جميع من اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. آمين.
* * *
إعداد
طلال بن معيض العمراني