إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

كيف تكون حليما؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كيف تكون حليما؟



    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعــد:

    فمن أجمل ما يتحلى به المرء خلق الحلم وهو أحق الصفات والأفعال بذوي العقول والألباب لما فيه من شرف النفس، وعلو الهمة، وسعة الصدر، وسلامة البدن واجتلاب الحمد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله، الحلم والأناة» [رواه مسلم].

    والحلم هو ضبط النفس عند هيجان الغضب، وترك الانتقام مع القدرة عليه وتلك علامة قوة وصحة وليس علامة ضعف ومرض، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» [متفق عليه]، الأناة: التؤدة.


    النبي صلى الله عليه وسلم والحلم

    الحلم هو خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان صلى الله عليه وسلم أحلم الناس وأصبرهم على أذى الخلق، فكم كان الكفار والمشركون والمنافقون وجفاة الأعراب يسمعونه ما يكره ويقولون له ما يغضب، ويتعنتون معه أشد التعنت، فمن قائل: "كذاب وساحر وكاهن ومجنون"، ومن قائل: "أما وجد الله غير محمد يرسله إلينا"، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، ومنهم من اتهمه في عرضه، وقال في زوجه الصديقة بنت الصديق قولا عظيمًا.

    ومنهم من ازداد تعنته فقال له: "يا محمد قد علمت أنه ليس أحدًا من الناس أضيق منا بلادًا ولا أقل منا مالا ولا أشد عيشًا، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخًا صدوقًا، فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟"، فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبعث بهذا، وإنما جاء من عند الله بالحق الذي يدعوهم إليه، فإن قبلوه فازوا وسعدوا، وإن ردوه صبر عليهم حتى يحكم الله بينه وبينهم.

    فانتقلوا من هذا التعنت إلى تعنت آخر فقالوا له: "إن لم تجبنا إلى ما سألناك فسل ربك يبعث ملكًا يصدقك بما تقول، وسله أن يجعل لك جنات وكنوز وقصور من ذهب وفضة ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه"، فأجابهم صلى الله عليه وسلم بمثل ما أجابهم به أولا، وأنزل الله تعالى قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 90-93].

    صبر النبي صلى الله عليه وسلم وتحمل كل هذه العذابات والآلام: جاءه أعرابى بوال على عقبيه لا يساوي فلسًا فجذبه بردائه جذبًا شديدًا حتى أثرت حاشية الرداء في عنق النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وضحك وأمر له بعطاء" [متفق عليه].

    وقيل له مرة: "يا رسول الله ادع على المشركين". فقال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة» [رواه مسلم].
    وجاءه الطفيل بن عمرو الدوسي فقال له: "يا رسول الله إن دوسًا عصت وأبت، فادع الله عليهم فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه -فقال الناس هلكت دوس- فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد دوسًا وائت بهم» [متفق عليه].
    هكذا كان حلمه صلى الله عليه وسلم وصبره على الأذى ولو أراد لأذاق من يؤذيه حرارة السيف وألم السياط ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يعفو ويصفح ويغفر ويرحم، ويعرض عن الجاهلين، وإنهم لأهون شيء عليه. وقد وصفه الله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [ال عمران: 159].

    قال الحسن البصري: "هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به فكيف يقولون أنه كان متعطشًا للدماء؟!".
    كيف يقولون ذلك وهو الذي عفا عن أهل مكة يوم الفتح وقال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، مع إنهم حاربوه وجدوا في عداوته، وأخرجوه من بلده، وعذبوا أصحابه وقتلوا منهم نفرًا كثيرًا.

    قال الماوردي فى صفة حلمه صلى الله عليه وسلم: "كان أحلم في النفار من كل حليم، وأسلم في الخصام من كل سليم، وقد مني بجفوة الأعراب، فلم توجد منه نادرة، ولم يحفظوا عليه بادرة، ولا حليم غيره إلا ذو عثرة، ولا وقور سواه إلا ذو هفوة، فإن الله سبحانه وتعالى عصمه من نزغات الهوى، وطيش القدرة، ليكون بأمته رؤوفًا، وعلى الخلق عطوفًا، قد تناولته قريش بكل كبيرة وقصدته بكل جريرة، وهو صبور عليهم، معرض عنهم، وما انفرد بذلك سفهائهم دون حلمائهم، ولا أراذلهم دون عظمائهم، بل تمالأ عليه الجلة والدون، فكلما كانوا عليه في الأمر أشد وألح،كان عنهم أعرض وأصفح، حتى قهر فعفا وقدر فغفر، وقال لهم حين ظهر بهم يوم الفتح: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

    كيفية اكتساب الحلم

    الحلم إن لم يكن في الإنسان سجية وطبعا، فإنه يمكن أن يكتسب بالتجربة والصبر، ولذلك قال معاوية رضي الله عنه: "لا حلم إلا بالتجربة"، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، ومن يتوخ الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه".
    وكان الناس إذا تعجبوا من حلم الأحنف بن قيس قال لهم: "إني لأجد ما تجدون ولكني صبور". قال ابن حبان: "العاقل يلزم الحلم عن كافة الناس، فإذا صعب ذلك عليه فليتحالم، لأنه يرتقى به إلى درجة الحلم".
    احفظ لسانـك إن لقيت مشاتمـًا *** لا تــجـريـــن مــع اللئيــــم إذا جـــرى
    ومن يشتري عرض اللئيم بعرضه *** يحوي الندامة حين يقبض ما اشترى


    فالواجب على العاقل إذا غضب واحتد أن يذكر كثرة حلم الله عنه مع تواتر انتهاكه محارمه وتعديه حرماته ثم يحلم لا يخرجه غضبه إلى الدخول في أسباب المعاصي.

    الحلم الممدوح

    لما كان الحلم هو ترك الغضب فالممدوح منه كان مع كمال الغضب وقوته فإن لم يكن للمرء قوة غضب فهو نقصان، غير أن الحلم يحسن في محله فأما إذا كان من حقوق الله تعالى وصيانة الحرم ومصلحة العامة فلا يحسن الحلم كما قيل:

    إذا قيل حلم قلت للحلم موضع *** وحلم الفتى فى غير موضعه جهل

    وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادمًا ولا امراءة قط ولا ضرب بيده إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه شيء فانتقم من صاحبه إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله عز وجل" [رواه مسلم].

    أسباب الحلم

    ينبغي أن يكون السبب الرئيس الباعث على الحلم هو طلب مرضاة الله تعالى ورجاء عفوه كما قال سبحانه: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وهكذا كان حلم النبي صلى الله عليه وسلم.
    وقد ذكر الماوردي عشرة أسباب للحلم وهي اختصارا:

    الأول: الرحمة للجهال

    - قال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل أسمعه كلامًا: "يا هذا لا يغرقنك في سبنا، ودع للصلح موضعًا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه".
    - وشتم رجل الشعبي فقال له: "إن كنت كما قلت فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلت غفر الله لك".

    الثاني: القدرة على الانتصار

    وذلك من سعة الصدر وحسن الثقة، قال بعض البلغاء: "أحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر".

    الثالث: الترفع عن السباب

    وذلك من شرف النفس وعلو الهمة، قال حكيم: "شرف النفس أن تحمل على المكاره، كما تحمل على المكارم".
    وقيل: إن الله تعالى سمى يحيى عليه السلام سيدًا لحلمه، قال أحدهم:

    لا يبلغ المجد أقـوام وإن كرمـوا *** حتى يذلـوا -وإن عــزوا- لأقـوام
    ويشتموا فترى الألوان مسفرة *** لا صفـح ذل ولكن صفـح أحـلام


    الرابع: الاستهانة بالمسيء

    كما قال أحد الزعماء:

    أو كلما طن الذباب طردته *** إن الذباب إذًا علي كريم

    وأكثر رجل من سب الأحنف وهو لا يجيبه، فقال: "والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه"، وأسمع رجل ابن هبيرة فأعرض عنه فقال الرجل: "إياك أعني"، فقال له: "وعنك أعرض". وقال عمرو بن علي:

    إذا نطـق السفيـه فلا تجبه *** فخيــر مـن إجابته السكــوت
    سكـت السفيـه فظـن إني *** عييت عن الجـواب وما عييت


    الخامس: الاستحياء من جزاء الجواب

    وهذا يكون من صيانة النفس وكمال المروءة وقد قال بعض الحكماء: "احتمال السفيه خير من التحلي بصورته والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته".

    السادس: التفضل على السباب

    وهذا يكون من الكرم وحب التآلف، قال الأحنف: "ما عاداني أحد قط إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه".

    السابع: استكفاف الساب وقطع السباب

    وهذا يكون من الحزم كما حكي أن رجلا قال لضرار بن القعقاع: "والله لو قلت واحدة لسمعت عشرًا، ولو قلت عشرًا لم تسمع واحدة"، ويقول أحد الحكماء: "في إعراضك صون أعراضك"، وقيل:

    قل ما بدا لك من زور ومن كذب *** حلمي أصم وأذني غير صماء

    الثامن: الخوف من العقوبة على الجواب

    وهذا يكون من ضعف النفس وربما أوجبه الرأي واقتضاه الحزم، وقد قيل في منثور الحكم: "الحلم حجاب الآفات".

    التاسع: الرعاية ليد سالفة وحرمة لازمة

    وهذا يكون من الوفاء، وحسن العهد، وقد قيل في منثور الحكم: "أكرم الشيم أرعاها للذمم".

    العاشر: المكر وتوقع الفرص الخفية

    وهذا يكون من الدهاء، وقد قيل فى منثور الحكم: "إذا ظهر غضبه قل كيده"، وقال إياس بن قتادة:

    تعـاقب أيدينا ويحلم رأينا *** ونشتم بالأفعال لا بالتكلم

    سياتى يوما لن اكون بينكم بل اكون فى التراب بالله عليكم لاتنسوا العبد الفقير من الدعاء
يعمل...
X