إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله......
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
معاشر المؤمنين: عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاَءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَر)).
عباد الله:
لقد كثرت الفتن في هذا الزمان، وأصبح المسلم يرى الفتن بكرة وعشياً، وحلَّ من البلايا والمحن والنوازل والخطوب الجسام الشيءُ الكثير، وما ذاك إلاَّ بسبب ما آل إليه حالُ المسلمين من ضياعٍ وتشتت، وبُعدهم عن منهج الإسلام، وتفشي المنكراتِ بينهم؛ فتسلطت عليهم الأمم الكافرة، واستباحت بيضَتَهم.
وقد أنذر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الفتن وحذَّر من الوقوع فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: ((بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا، أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا)). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ)). قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ: ((الْقَتْلُ)).
عباد الله:
إنَّ من الكياسة والفطنة أن يعرف المسلم منهج السلف الصالح في مواجهة الفتن، وكيف كانوا يتعاملون معها عند وقوعها، لأن الفتن إذا لم تُراعَ أحوالها، وتُنظر نتائجها؛ فإنها تُشكِّلُ خطراً على المجتمع، إلا أن يشاء الله.
وسوف نستعرض شيئاً مختصرا من مواقف السلف الصالح ومنهجهم في التعامل مع الفتن والمحن عند وقوعها؛ ليكون المسلم على بصيرة من أمر دينه، ولنقتفي أثرهم، فمن سار خلف مهتدٍ وِفْقَ الأدلة الشرعية فلن يندم أبداً. ونسأل الله التوفيق والسداد.
أحبتي في الله:
إنَّ أوَّلَ ما يُعتصمُ به من الفتن: كتابُ الله عزَّ وجل، وسُنةُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا نجاة للأمة من الفتن والشدائد إلا بالاعتصام بهما، ومن تمسك بهما أنجاه الله، ومن دعا إليهما هُدِيَ إلى صراط مستقيم، يقول الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ)).
ومما يعصِمُ من الفتن: الالتفاف حول العلماء الربانيِّن؛ أئمةِ أهل السنة والجماعة؛ فهم أنصارُ شرع الله، والذين يبينون للناس الحقَّ من الباطلِ، والهُدَى من الضلال، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ))، فحضورَ حِلَقِهِم، وزيارتَهم، وتوثيقَ العلاقةِ بهم؛ يقطع على أعداءِ الإِسلام السبيل للنخر في الإِسلام وتمزيق وحدة المسلمين.
فالعلماء هم القدوة، وهم المربّون، وهم العون بعد الله في هذا الطريق ومن هذه الفتن، والذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية، يقول ابنُ القيم رحمه الله: وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه - يعني شيخَ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهبَ ذلك كُلُّه عنا.
ومما يُعتصم به من الفتن: لزوم الجماعة، فالله جل وعلا يقول: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾، ونبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ((أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ))، وفي رواية: ((مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ))، وقد أوصى ابنُ مسعود رضي الله عنه من سألوه عن الفتن بقوله: (اتقوا الله واصبروا حتى يستريحَ بَرٌ، أو يُستَرَاحَ من فَاجِر، وعليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أُمَّةَ محمدٍ على ضلالة)، ولما سأل حذيفةُ رضي الله عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الشر وبيَّنه له، قال: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال له: ((تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ)).
واعلموا عباد الله أنَّ الجماعةَ ليست بالكثرة؛ ولكنَّ الجماعة من كان على منهج أهل السُّنَّة والجماعة، يقول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعة.
ومما يعْصِمُ من الفتن: التَّسَلُّحُ بالعلم الشرعي، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّهُ سَيُصِيبُ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ بَلاءٌ شَدِيدٌ لا يَنْجُو مِنْهُ إلاَّ رَجُلٌ عَرَفَ دِينَ اللهِ فَجَاهَدَ علَيْهِ بِلِسَانِهِ وقَلْبِه)).
فالعلم الشرعي مطلبٌ مهمٌ في مواجهة الفتن؛ ليكون المسلمُ على بصيرةٍ من دينه، ومن فقد العلم الشرعي تخبَّطَ في الفتن، قال شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: إذا انقطع عن الناس نور النبوة؛ وقعوا في ظلمة الفتن، وحدثت البدع والفجور، ووقع الشر بينهم.
ومما يعصم من الفتن: التأني والرفقُ والحلمُ وعدمُ العجلة، حتى يَرَى الأمورَ على حقيقتِها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ))، وقال لأشج عبدالقيس: ((إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ، الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ)).
أما العجلة فإنها ليست من منهج الأمة المحمدية، وخاصة في زمن الفتن.
ومما يعْصِمُ من الفتن: الثقةُ بنصر الله، وأن المستقبلَ للإسلام، مهما ادلهمَّت الظلمات، واشتدَّت الفتن، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110].
ومما يُعتصم به من الفتن: النظرُ في عواقب الأمور، ففي زمن الفتن ليس كُلُّ مقالٍ يُقَال، ولا كُلُّ فعلٍ يُفْعَل، وإن بَدَا لك حسناً حتى تعلمَ عواقبَه وما يترتَّب عليه، فقد سكت السلف الصالح عن أشياءٍ كثيرة أحبوها؛ طلباً للسلامة في دينهم.
واعلموا عباد الله أنَّ الصبر من أعظم ما يعين على الاعتصام من الفتن، قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ)). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: ((أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ)).
وعن الزبير بن عدي قال: دخلنا على أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج، فقال: اصبروا، لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعتُ هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين، إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة، فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إفضاله وإنعامه، فله الحمد كُلُّه، وإليه يُرجَعُ الأمر كُلُّه، وإليه المصير، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له......
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستعيذوا به من الفتن، فلا معصومَ إلاَّ من عصمه الله، ﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ [هود: 57].
عباد الله:
في أوقات الفتن تكثر الإشاعات، وتنشط الدعايات، ويُشمِّرُ المُغرِضُون عن سواعدهم بالكَذِبِ والإثَارَة، ولخطورةِ الشائعاتِ على بُنيَةِ المجتمعِ كانَ السلفُ الصالحُ رضوانُ الله عليهم يحرِصُونَ على التَّثَبُّتِ من كُلِّ قول، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6] وكفى بالمرء إثماً أن يُحدِّثَ بكل ما سمع، يقول عمر رضي الله عنه: (إياكم والفتن، فإن وقعَ اللِّسانِ فيها مثلُ وقعِ السيف)، ومن تتبع أحداثَ التاريخِ تبيَّنَ له ذلك.
ومما يعصم من الفتن: البعدُ عن مواطنها وعدمُ التعرضِ لها أو الخوضِ فيها، قالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفُهُ، وَمَنْ وَجَدَ فِيهَا مَلْجَأً فَلْيَعُذْ بِهِ))، قال النووي رحمه الله تعالى: (معناه: بيانُ عظيمِ خطرِهَا والحثُّ على تجنُّبِهَا والهرَبُ منها ومن التشبث في شيء منها، وأنَّ شرَّهَا وفتْنَتَها يكونُ على حَسَبِ التَّعَلُّقِ بها).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لا تقربوا الفتنة إذا حَمِيَتْ، ولا تعرَّضُوا لها إذا عَرَضَتْ، واضْرِبُوا أهْلَهَا إذَا أقْبَلَتْ).
ومِنْ أقوى أسبابِ الاختلافِ بين العبادِ وخصوصاً زمن الفتن: فُقدانُ العدلِ والإنصاف، والله جل وعلا يقول: ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [الأنعام: 152]، ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8]، وبالعدل تزولُ وتُحلُّ كثيرٌ من المشاكل التي تحصُلُ بين المسلمين، ففي ذلك عصمةٌ للمسلم من الوقوع في الفتنة بإذن الله تعالى.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: (فأوصيكم أيها الأخوة بالعدل في الأمور كلها والموازنةِ بينها، والحكمِ للراجح فيها، والتسويةِ بينها في الحكم عند التساوي، وهذه قاعدةٌ كبيرةٌ يجبُ على العاقلِ أن يتمشى عليها في سَيْرِهِ إلى الله، وفي سَيْرِهِ مع عبادِ الله؛ ليكون قائماً بالقسط والله يحب المقسطين). اهـ قوله رحمه الله.
ومن الأخطاء العظيمة في زمن الفتن: مراجعةُ أحاديثِ الفتنِ في وقت الفتنة، وتطبيقُها على أوقاتٍ وأشخاصٍ معيَّنين، وهذا منهجٌ خاطئ، فمنهج أهل السنة والجماعة أنهم يذكرون أحاديث الفتن للتحذير منها، وإبعادِ المسلمين من القرب عنها، وليعتقدوا صحةَ ما أخبر به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ويَدَعُونَ الواقعَ هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمرُ قالوا كما قال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22].
ومما يجب الحذر منه في زمن الفتن: تَسَلُّلُ الأعداءِ بين الصفوف، فقد ازدهرت في هذا الزمن تجارةُ المنافقين وراجت بضاعتُهُم، وكثُرَ أتباعُهُم، فشَيَّدُوا مساجدَ الضِّرَار، وذَرفُوا دموعَ التماسيحِ على الإسلام وأهله، وتظاهَرُوا بالدعوةِ إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبسوا للناس جلد الضأن من اللين، وألسنتُهُم أحلى من العسل، وقلوبهم قلوبُ الذئاب. يقول الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206]. وما نجح المنافقون في تحقيق أهدافهم وخططهم وفتكهم بالإسلام والمسلمين، إلا بسبب قِلَّةِ الوعيِ عند معظم المسلمين.
فالواجب على كل مسلمٍ قادرٍ أن يهتِكَ أستار المنافقين، ويكشِفَ أسرارهم، ويفضَحَ أساليبَهُم وأوكارَهُم؛ حتى لا تكونَ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير.
كما أنَّ على المسلم أن يُكثِرَ من التَّعَوُّذِ بالله من الفتن، أُسْوَةً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم في صلاته: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْتَ بِعِبَادِكَ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُون))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ))، فالفتن إذا أتت لا تصيبُ الظالمَ وحده، وإنما تُصيبُ الجميع.
نسأل الله جل وعلا أن يحفظنا بحفظه، ويكلأنا برعايته، ويعصمنا من شرور المحن، ويميتنا على السنن.
هذا وصلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى فقد أمركم الله فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
تعليق