الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
- هناك صفات ذميمة وعادات قبيحة ذمّها الإسلام
وحذّر منها أشدّ تحذير، لما لها من الآثار السيئة على من تلبّس بها وأصرّ عليها، لمناقضتها ما يجب أن يكون عليه المسلم من صفات حميدة وسجايا جميلة.
من هذه الصفات: صفة الكبر ذلك المرض الفتّاك والداء العضال الذي يفتك بالدين فتكًا، ويورد صاحبه المهالك، ويراكم عليه الذنوب والآثام، متى استشرى في النفس وتمكّن فيها، لما يمثله من انحراف خلقي يؤدّي إلى أسوأ النتائج وأوخم العواقب الناجمة عن الغرور بالنفس، والعجب بالذات و احتقار الآخرين وازدراءهم، والنظر إليهم بعين الاستصغار والمهانة، وليس هذا فحسب بل لقد قيل: إن الكبر أسوأ ما يصيب الإنسان من أمراض القلب، فما من خلق من الأخلاق المذمومة إلا ويكون صاحب الكبر متصفًا به -والعياذ بالله- فهو لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، ولا يقدر على التواضع، ولا يتخلّص من الحقد، ولا يتغلّب على الغضب والغيظ، ولا يستطيع دفع الحسد عن نفسه، ولا يقبل نصيحة ناصح، ولا تعليم عالِم، ولا يعامل الناس إلا بالازدراء والاحتقار، وإذا مشى اختال، وإذا تكلّم افتخر، وإذا نصح سخر من الناس وحقّرهم، وإذا تحدث تقعّر في الكلام وتشدّق، وإذا جالس الناس غضِب وإذا لم يكن له صدر المجلس وأول الكلام وغاية التعظيم والاحترام.
- يقول أحد الحكماء: "المتكبّر كالصاعد فوق الجبل يرى الناس صغارًا ويرونه صغيرًا".
- والكبر ليس من خلق المسلم الحق، ولا ينبغي لمثله -لأنها صفة تتنافى مع سلوكه، لما فيها من منافاة للتواضع، ولأنها تورث الحقد والغضب وازدراء الغير واحتقارهم، اعتمادًا على العلم أو المال أو الجمال أو الحسب والنسب أو الجاه أو المنصب، وهذا كلّه زائل لا محالة- إذ المسلم يتواضع ليرتفع، ولا يتكبّر لئلاّ ينخفض، إذ سنّة الله جارية في رفع المتواضعين ووضع المتكبّرين، قال -صلى الله عليه وسلم-: «حقّ على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه» [رواه البخاري].
- إن الكبرياء من صفات الألوهية التي لا يحق لمخلوق ضعيف أن يتصف بها، لما في ذلك من خروج عن معنى العبودية، واعتداء على مقام الألوهية، ومنازعةً لصاحب العظمة والكبرياء -جلّ جلاله- قال -صلى الله عليه وسلم-: «يقول الله -عز وجل-: العز إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني شيئا منهما عذبته» [صححه الألباني].
صفات المتكبّرين
- للمتكبّرين صفات وهيئات تظهر عليهم، وتتضح في تصرّفاتهم، يعرفون بها، ويتميزون بها عن غيرهم. فالمتكبّر يشمخ بأنفه إذا تكلّم، لاويًا عنقه، يقارب خطاه إذا مشى، متطاولًا على إخوانه، مترفعًا على أقرانه، ينظر للناس شذرًا بمؤخّر العين، متقدّمًا عليهم إذا مشى ومحتقرًا لهم، لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، لا يقدر على التواضع، ولا يقدر على ترك الحقد أو الغضب، ولا على كظم الغيظ، ولا يسلم من ازدراء الناس واحتقارهم، ولا يسلم من اغتيابهم وتنقصهم، لأن فيه من العظمة والكبرياء ما يمنعه من ذلك، فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر مضطر إليه ليحفظ به مكانته وكبرياءه.
- والمتكبّر عدوّ لله ولنفسه وللناس، فهو يقصّر في الواجب ويدّعي ما ليس له، ويتشدّق في الكلام ويحبّ تصدّر المجالس والثناء والمديح، وإنه لثقيل في حركاته وسكناته، بغيض في أمره ونهيه ومجالسته ومؤاكلته.
- والمتكبّر يأنف أن يتعاطى شغلًا في بيته، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما روت عائشة -رضي الله عنها- يكون في مهنة أهله -يعني يخدمهم.
- ومن صفات المتكبّر أن يأنف حمل متاعه إلى سيارته أو إلى بيته، حتى ولو كان لا يثقله.
- ومن صفات المتكبّر أيضًا الأكل والشرب باليد الشمال، وهذا خلاف السنّة والعقل والأدب.
فعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلًا أكل عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بشماله فقال: «كل بيمينك». قال: لا أستطيع. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا استطعت» ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه... [رواه مسلم].
إلى غير ذلك من الصفات الذميمة التي لا ينبغي لمسلمٍ عاقل أن يتّصف بها.
أسباب الكِبر
- الكبر غالبًا لا يأتي بدون سبب، فهو له أسباب يحصل بها وتدفع الإنسان إلى الاتصاف به ومن هذه الأسباب:
1- العلم: ما أسرع التكبّر إلى بعض العلماء أو المثقفين! فلا يلبث أن يستشعر الواحد منهم في نفسه كمال العلم فيستعظم نفسه ويستحقر الناس ويستجهلهم، وسواء أكان العلم شرعيًا أو علمًا ماديًا.
2- الكبر بالحسب والنسب فالذي له نسب شريف يستحقر من ليس له نسب حتى وإن كان أرفع منه علمًا وعملًا، وهذا من أفعال الجاهلية التي نهى الشرع عنها.
3- الكبر بالمال فهذا يحصل بين كثير من الأغنياء المترفين، في لباسهم ومراكبهم ومساكنهم، فيحتقر الغني الفقير ويتكبّر عليه بهذا السبب، أو يحصل من بعض الزوجات التي قد تتكبّر على زوجها بسبب أنها موظفة مثله أو أعلى منه، أو أنها غنية بمالها أو مال أبيها.
4- التكبّر بالمنصب: وهذا يحصل من بعض من يتولّون مراكز مهمة ورفيعة في الدولة، فيرى أنه أفضل ممن دونه فيحتقره، وربما رأى أن الواجب ألا ينّصل به الناس مباشرةً بل لابد من وسيط بينهما، أو ينظر إلى من تحته من الموظفين نظرة احتقار، ويعاملهم كعبيد عنده، وقد يجرّه الكبر إلى أن يركب رأسه أحيانًا فيرتكب أخطاء كبيرة في عمله، وإذا نصِح أعرض وسخط على من نصحه، ولم يمنعه من قبول النصيحة والتوجيه إلا الكبر.
ما جاء في ذمّ الكبر وبيان الوعيد الشديد لأهله
- لقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تذمّ الكبر وتنهى عنه وتحذّر منه، من ذلك قوله -تعالى-: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146].
وقوله -تعالى-: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35].
وقوله -تعالى-: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23].
وقوله -تعالى-: {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72].
وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتلّ جوّاظ مستكبر» [متفق عليه، واللفظ للبخاري]، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر»، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطَر الحق وغمط الناس» [رواه مسلم].
فبين -صلى الله عليه وسلم- أن التجمّل في الهيئة واللباس أمر محبوب عند الله إذا لم يصاحبه كبر واستعلاء على الناس، وأنه ليس من الكبر في شيء، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذر» [حسنه الألباني]، ويكفي أهل الكبر ذمًّ وإثمً أن إمامهم وقائدهم في ذلك إبليس -لعنه الله- الذي تكبّر على الله ولم يسجد لآدم، وفرعون وقارون وأمثالهم، ومن عمِل عمَل قومٍ حريُّ أن يحشر معهم وأن يعذّب بمثل ما يعذبوا به.
- إن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الكبر وتحريمه وما جاء فيها من الوعيد الشديد لأهله من شأنها أن تجعل المسلم ذا القلب الحيّ والإيمان الصادق والضمير اليقظ يقف صاغرًا أمام عظمة الله وجلاله، ويندم خاشعًا ذليلًا على كل ما فرط منه من كبر أو عجب أو خيلاء، ويضرع إلى الله تائبًا منيبًا راجيًا منه أن يرحم ضعفه ويشفيه من داء الكبر ويرزقه الاستكانة للحق والتواضع للخلق، وأن ينير له طريق الهدى ويردّه عن أسباب الهلاك والردى.
علاج الكبر
ما من مرض بدني أو نفسي أو قلبي إلا وله علاج يستأصله من جذوره أو على الأقل يخففه تدريجيًا إلى أن يشفى منه الإنسان نهائيًا، والكبر لاشك مرض كغيره من الأمراض القلبية التي تصيب الإنسان ولابد أن له علاجًا بإذن الله، فعلى من ابتلي بشيء منه أن لا يهمله ويركن إليه ويستمر عليه، بل لابدّ له أن يسعى جهده لعلاجه والتخلص منه قبل أن يفتك به ويهلكه، وقد ذكر العلماء للكبر علاجًا ناجحًا بإذن الله يتمثل في عدّة أمور منها:
- أولًا: أن يعرف الإنسان ربه ويعرف نفسه ويعرف أصله وفقره وحاجته، ويعرف نعم الله عليه ويتذكر مقامه بين يديه وعاقبة الكبر يوم القيامة، فإنه إذا عرف كل ذلك حقّ المعرفة علم أنه لا تليق العظمة والكبرياء إلا بالله، وإذا عرف نفسه علم أنه ضعيف ذليل لا يليق به إلا الخضوع لله والتواضع والذلّة له، والتواضع ولين الجانب لخلقه، قال -تعالى-: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17].
- ثانيًا: التواضع لله بالفعل ولسائر الخلق بالمواظبة على أخلاق المتواضعين المتبعين لسنة سيد المرسلين، وأن يدرك المتكبّر أن الذي يتكبر عليه أو يسخر منه قد يكون خيرًا منه عند الله، ولينظر كل ما يقتضيه الكبر من الأفعال فليواظب على نقيضها حتى يصير التواضع له خلقًا، فإن القلوب لا تتخلّق بالأخلاق المحمودة إلا بالعلم والعمل.
- فمن كان يعتريه الكبر بسبب جماله فدواؤه أن ينظر إلى باطنه نظر العقلاء، ولا ينظر إلى الظاهر نظر البهائم، ومتى ما نظر إلى باطنه رأى من القبائح ما يكدّر عليه تعزّزه بجماله، فإن الأقذار في جميع أجزاءه، وفي أول أمره خلق من النطفة وفي بطن أمه يتغذّى بدم الحيض، وأخرج من مجرى البول مرتين، فهل يليق بمن هذه حاله الكبر والتعاظم؟
- وإن كان التكبّر بسبب القوة فالعلاج أن يعلم أن القوة لله جميعًا، ويعلم ما سلط عليه من العِلل والأمراض وأنه لو تألم له أصبع أو عرق من عروق بدنه لتألّم، وصار أعجز من كل عاجز، وأذل من كل ذليل، ثم إن من البهائم ما هو أقوى منه بكثير، فمن كانت هذه حاله فما يليق به الكبر.
- وإن كان التكبّر بسبب المال فالعلاج أن يعلم أن المال عرض زائل، وأن المال من الله أعطاه إياه واستخلفه عليه فقط، والمتكبّر بماله أو عقاره لو ذهب عنه ذلك لعاد في لحظةٍ ذليلًا حقيرًا من أذلّ وأحقر الناس، وكل متكبّر بأمر خارج عن ذاته من أجهل الخلق.
- وإن كان التكبّر بالعلم وهو أعظم الآفات فعلاجه أن يعلم العالِم أن حجّة الله على أهل العلم آكد، وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العالم، وأن من عصى الله على علمٍ ومعرفة أعظم جناية ممن عصى الله على جهل، وإذا تفكّر فيما أمامه من الخطر العظيم وعَلِمَ ما كان عليه السلف الصالح من التواضع والخوف من الله امتنع بإذن الله من الكبر.
- وإن كان التكبّر بسبب المنصب فليعلم أن المنصب عرض زائل، فكما ذهب عن غيره سيذهب عنه ويصبح بلا منصب، وليس له أي قيمة، وسيتفرّق عنه أهل التزلف المحيطون به فيصبح وحيدًا أعزل لا صديق ولا رفيق.
- وإن كان التكبّر بسبب أصله ونسبه فأصله في الحقيقة طين وماء ثم نطفة ثم مضغة ثم علقة ...الخ. أمّا آباؤه وأجداده فما شرفوا إلا بصفاتهم وأخلاقهم وحسن أعمالهم، فإن فعِل مثلهم فقد شرف بعمله لا بهم وإن انحطّ في صفاته وأخلاقه فما ينفعه كرم آبائه وشرف أجداده، بل يصدق فيه قول الشاعر:
لئن فخرت بآباءٍ ذوي شرف *** لقد صدقت ولكن بئسما ولدوا
اللهم طهّر قلوبنا من الكِبر والعجب، وارزقنا اللهم التواضع ولين الجانب والتخلّق بأحسن المحامد.
وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تعليق