كان الغلام الصّغير يُطلُّ كلّ ليلة من نافذة منزلهم بعد صلاة العشاء، يقلب بصره هنا وهناك ، تارةً إلى منزل جيرانهم وتارةً ينظر على السّماء وقد ازدان فضاؤها بالنّجوم اللامعة من كلّ لون. ولكن شيئًا غريبًا لطالما حير عقل الغلام.
ألا وهو أمر ذلك الجذع الّذي كان يراه منصوبًا فوق سطح منزل جارهم أبي منصور!
حيث أنّ الصّغير لم يستطيع أن يجد تفسيرًا لكيفية نمو ذلك "الجذع" فوق السّطح أثناء الليل، ثم هو لا يرى له أثر أثناء النّهار!
ومضت أيام عديدة على الغلام الصّغير، ورأسه يدور بمختلف الأفكار والخيالات، حتى كانت ليلة لم ير فيها "الجذع" فوق منزل جارهم كالعادة. فما كان من الغلام إلا أن مشي إلى أمّه حتى جلس على جانبها، ولف يده حول عنقها، ثم سألها: أمي! هل تعرفين أين ذهب ذلك "الجذع" الّذي كان فوق منزل جارنا أبي منصور؟ نظرت الأم إليه يدهشه وقالت: جذع؟! منذ متى يا صغيري كانت الأشجار تطلع فوق أسطح المنازل؟
رد الغلام بإصرار : لقد كان هناك! كنت أراه كلّ ليلةٍ، وكان لا يظهر أثناء النّهار.
أخذت الأم تفكر لما رأت إصرار ولدها، ثم تذكرت شيئًا كان فيه حل ذلك اللغز، فتبسمت وهي تمسح بيدها رأس الصّغير وتقول: يا حبيبي! ذلك لم يكن جذعًا بل هو جارنا منصور بن المعتمر كان يقوم الليل، ثم مات -يرحمه الله-!
ونحن نقول -يرحمك الله- يا منصور! لقد كان لشدة سكونه وخشوعه في صلاته، يحسبه النّاظر إليه جذع شجرة.
فكيف لو نظر منصور إلى حال كثير من إخواننا اليوم الّذين إذا دخلوا في الصّلاة، فكأنما قد أصيبوا بحساسية في الجلد! فتراهم يحكون أنوفهم وذقونهم، وبطونهم، والبعض يحك ظهره، بل ورأينا من ينحني بظهره على هيئة الراكع -بينما الأمام لا يزال في القيام!- ليحكّ رجله. وبعضهم قد رفع رجله بدلًا من ذلك ليحكها كهيئة الدّابّة! وآخر ينظر إلى ساعته بين الرّكعة والّتي تليها ليحسب المدة الّتي مضت من الصّلاة. وبعض النّاس يبتكر وسائل لدفع الإمام على التّعجيل في الصّلاة، فتراه يتنحنح بصوتٍ ونبرةٍ مقصودةٍ. وبعضهم يرفع صوته بآمين في الصّلاة السّريّة، لينبه الإمام أنّه لم يبق أمامه سوى القليل من الوقت ليركع!
وهكذا صار الواحد يرى عجائب وغرائب من بعض المصلين -هداهم الله- مما لا يمكن تفسيره إلا أنّه نابعٌ من ذهاب الخشوع وقلة الخوف من الله.
وبسبب ذهاب الخشوع صارت الصّلاة عند بعض المسلمين ثقيلة، يريد أن يؤديها على أي وجه كأنّما يتخلص من عبءٍ ثقيلٍ!
وبسبب ذهاب الخشوع صارت الصّلاة عادةٌ وليست عبادةٌ يشتاق إليها..
وبسبب هاب الخشوع صارت الصّلاة وقتًا للحسابات والشّرود في أودية الدّنيا..
وبسبب ذهاب الخشوع صارت الصّلاة لا تنهي كثيرًا من المصلين عن المنكر وفعل الحرام.. إنّه الخشوع، ذلك الأمر العظيم، والواجب الّذي فرط فيه كثير من المصلين، وبالتّالي لم يعد لصلاتهم آثر في حياتهم وسلوكهم ومعاملاتهم.
والخشوع كما ذكر العارفون بالله هو قيام القلب بين يدي الرّبّ بالخضوع والذّل. ومتى ما خشع القلب، خضعت الجوارح وسكنت إجلالًا وتعظيمًا لربّها -عزّ وجلّ-. قال عمر بن الخطاب: "إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة! قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله فيها".
ولأن الخشوع أمر لابد من وجوده في الصّلاة حتى يقبلها الله -عزّ وجلّ-، ويحصل للمصلي أجرها كما جاء في الحديث «إنّ العبد ليصلّي الصّلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» [صححه الألباني 36 في صفة الصّلاة]، لذلك كان لازمًا علينا أن نعيد النّظر في صلاتنا، وننظر في الأمور الّتي تعيننا على تحقيق الخشوع فنسعى في تحصيلها.
ولنتأمل سوية بعض تلك الأمور المعينة على الخشوع، فمن تلك الأمور..
1- أن ينخلع المصلي من الدّنيا وكلّ ما فيها بمجرد قوله: الله أكبر!
فالله أكبر من كلّ شيءٍ!
من تجارته وأمواله!
من أهله وأبنائه!
نم همومه وأحواله!
وكلّ شيءٍ يخطر على البال فالله أكبر منه وأجلّ وأعظم، وهو بالتّالي أجدر أن يصرف العبد كل تركيزه واهتمامه إليه.
والإنسان لو تفكر قليلًا، لرأى أن وقت الصّلاة سيقضيه على أيّة حال، خاشعًا كان أو غير خاشعٍ، فلماذا لا يقضي ذلك الوقت خاشعًا حتى يؤجر وتحصل له ثمرة الصّلاة؟ وذلك خير من أن يقضيه غير خاشعٍ، ثم لا يعلم هل تقبل منه تلك الصّلاة، أم يردها الله على وجه صاحبها.
سأل نفرٌ من النّاس عامر بن قيس: أتحدث نفسك في الصّلاة؟ فقال: وهل هناك شيءٌ أحبّ إلي من الصّلاة أحدث به نفسي! فقالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصّلاة، فقال: أبالجنّة والحور ونحو ذلك؟قالوا: لا. ولكن بأهلنا وأموالنا. قال عامر: لأن يقطع جسدي بالسّيوف أهو على من ذلك.
2- أن يستشعر المصلّي مناجاته لربّه، وأنّ الله -عزّ وجلّ- ينظر إليه وسمع ما يقوله فالمصلّي إذا وقف للصّلاة فهو إنّما يقف بين يدي ربّه، ويناجيه كما قال نبينا محمد -صلّى الله عليه وسلم-.
يقول أبو بكر المزني: من مثلك يا ابن آدم؟ خُلّي بينك وبين الماء والمحراب، متى ما شئت تطهرت ودخلت على ربّك ليس بينك وبينه ترجمانٌ ولا حاجبٌ.
ولا يزال الله -سبحانه- مقبلًا على عبده المصلّي ما دام العبد ملتفتًا إلى الله بقلبه ووجهه، فإذا التفت العبد وسهى انصرف الله عنه.
ثم أنظر أخي المصلّي إلى الفضل الكبير والشّرف العظيم، الّذي يشرف الله به عبده الخاشع له عند قراءته للفاتحة.
فإن المصلي إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قال الله -عزّ وجلّ-: حمدني عبدي.
وإذا قال المصلي: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قال الله -عزّ وجلّ-: أثنى علي عبدي.
وإذا قال المصلي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قال الله -عزّ وجلّ: مجدني عبدي.
وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال الله -عزّ وجلّ-: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل! ثم إذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7]،
قال الله -عزّ وجلّ-: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل!
فيا الله ما أعظم هذا الفضل! الله -عزّ وجلّ- بعظمته وجلاله يسمع من عبده! بل ويعطيه سؤاله بأن يهديه للصّراط المستقيم في الدّنيا والآخرة!
لقد كان بعض التّابعين إذا قام إلى الصّلاة تغير لونه، وكان إذا سأل عن ذلك قال: أتدرون بين يدي من أقف ومن أناجي.
3- أن يتدبر المصلي الآيات والأذكار الّتي يرددها في صلاته.
لقد قام النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- بآيةٍ واحدةٍ يرددها حتى أصبح، وهي قوله الله -عزّ وجلّ-: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].
ويذكر أن أبا حنيفة -رحمه الله- قام ليلةً كاملةً بآية هي {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، يرددها ويبكي ويتضرع وباتت جماعة من أصحاب الحسن عنده ذات ليلةٍ، فقام الحسن من الليل فصلّى فلم يزل يردده هذه الآية حتى السّحر {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النّحل: 18]. فلمّا جاء الصّباح قال له أصحابه: يا أبا سعيد لم تكد تجاوز هذه الآية سائر الليل. قال: أرى فيها معتبرًا ما أرفع بصري ولا أرده إلا وقد وقع على نعمة من نعم الله، وما لا نعلم من نعم الله أكثر.
وهنا لابد من إشارةٍ مهمّةٍ إلا أنّه لا بد للمصلّي حتى يتدبر الآية أن يكون عارفًا بمعناها، ولذا فلابد للشخص -بقدر استطاعته- من أن يكون له شيءٌ من القراءة في كتب التّفسير أو معاني القرآن، حتى يفهم الآيات على الوجه الصّحيح، ويعلم مراد الله منها.
كذلك فإن تدبر الأذكار الّتي يقولها المصلّي له أثرٌ في تحصيل الخشوع.«كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده. قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. فلما انصرف، قال: من المتكلم. قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها، أيهم يكتبها أول» رواه البخاري 799
تلك كانت بعض الأمور المعينة على تحصيل الخشوع، وهناك أمورٌ أخرى كثيرةٌ يضيق المقام عن التّفصيل فيها ونشير إليها مثل: التّبكير إلى المسجد والحرص على الصّفّ الأول، وتأدية النّوافل، والنّظر إلى موضع السّجود، والاستعاذة بالله من الشّيطان، والبعد عن كل ما يلهي العبد ويشغله عن صلاته (كالهاتف الجوال الذي ابتلينا به في هذا الزّمان مثلًا).
وختامًا..
فإن كثيرًا من مشاكل ضعف الإيمان الّتي نعانيها اليوم يكمن في عدم تأدية الصّلاة على الوجه الصّحيح، فمتى سندرك أن حلّ الكثير من مشاكلنا هو في الخشوع؟
وليس ما نراه اليوم من تفشي المعاصي والمنكرات في مجتمعات المسلمين، وبعد عن شرع الله وهدي رسولهنّ وما كان من أثر ذلك من ضعف المسلمين وذلّتهم وتسلط الأعداء عليهم، إلا بسبب عدم القيام. بما أوجبه الله عليهم. ومن ذلك واجب القيام بالصّلاة، و"القيام" بالصّلاة أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن تأدية الصّلاة كيفما اتفق، فالقيام بالصّلاة الإتيان بها على الوجه الّذي أراده الله -تعالى-، وأعظم أمر تقوم عليه الصّلاة هو الخشوع، فهو لبّها وروحها، والصّلاة بلا خشوعٍ صلاةٌ ميتةٌ لا روح فيها.
إنّ الخشوع لله هو نقطة البداية والانطلاق نحو فلاح الدّنيا والآخرة، فلماذا لا نبدأ الآن وننطلق؟
لقد كان من أعظم ما يميز سلفنا الصّلاح -رضي الله عنهم- هو خشوعهم في صلاتهم، ولذلك استحقوا وصف الله لهم بالإيمان {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2].
لقد كانت أرواحهم متعلقة بربّها، تهفو نحو السّماء، تعبد الله كأنّك تراه، ولذلك كان أصحاب تلك القلوب فاتحين منصورين بتأييد الله لهم وأدان الله لهم الدّنيا من أقصاها على أدناها لمّا علم من صدق نياتهم وصلاح نفوسهم.
فهل نقتفي أثرهم ونهتدي بسيرتهم؟
نحن والله الفائزون إن فعلنا!
ألا وهو أمر ذلك الجذع الّذي كان يراه منصوبًا فوق سطح منزل جارهم أبي منصور!
حيث أنّ الصّغير لم يستطيع أن يجد تفسيرًا لكيفية نمو ذلك "الجذع" فوق السّطح أثناء الليل، ثم هو لا يرى له أثر أثناء النّهار!
ومضت أيام عديدة على الغلام الصّغير، ورأسه يدور بمختلف الأفكار والخيالات، حتى كانت ليلة لم ير فيها "الجذع" فوق منزل جارهم كالعادة. فما كان من الغلام إلا أن مشي إلى أمّه حتى جلس على جانبها، ولف يده حول عنقها، ثم سألها: أمي! هل تعرفين أين ذهب ذلك "الجذع" الّذي كان فوق منزل جارنا أبي منصور؟ نظرت الأم إليه يدهشه وقالت: جذع؟! منذ متى يا صغيري كانت الأشجار تطلع فوق أسطح المنازل؟
رد الغلام بإصرار : لقد كان هناك! كنت أراه كلّ ليلةٍ، وكان لا يظهر أثناء النّهار.
أخذت الأم تفكر لما رأت إصرار ولدها، ثم تذكرت شيئًا كان فيه حل ذلك اللغز، فتبسمت وهي تمسح بيدها رأس الصّغير وتقول: يا حبيبي! ذلك لم يكن جذعًا بل هو جارنا منصور بن المعتمر كان يقوم الليل، ثم مات -يرحمه الله-!
ونحن نقول -يرحمك الله- يا منصور! لقد كان لشدة سكونه وخشوعه في صلاته، يحسبه النّاظر إليه جذع شجرة.
فكيف لو نظر منصور إلى حال كثير من إخواننا اليوم الّذين إذا دخلوا في الصّلاة، فكأنما قد أصيبوا بحساسية في الجلد! فتراهم يحكون أنوفهم وذقونهم، وبطونهم، والبعض يحك ظهره، بل ورأينا من ينحني بظهره على هيئة الراكع -بينما الأمام لا يزال في القيام!- ليحكّ رجله. وبعضهم قد رفع رجله بدلًا من ذلك ليحكها كهيئة الدّابّة! وآخر ينظر إلى ساعته بين الرّكعة والّتي تليها ليحسب المدة الّتي مضت من الصّلاة. وبعض النّاس يبتكر وسائل لدفع الإمام على التّعجيل في الصّلاة، فتراه يتنحنح بصوتٍ ونبرةٍ مقصودةٍ. وبعضهم يرفع صوته بآمين في الصّلاة السّريّة، لينبه الإمام أنّه لم يبق أمامه سوى القليل من الوقت ليركع!
وهكذا صار الواحد يرى عجائب وغرائب من بعض المصلين -هداهم الله- مما لا يمكن تفسيره إلا أنّه نابعٌ من ذهاب الخشوع وقلة الخوف من الله.
وبسبب ذهاب الخشوع صارت الصّلاة عند بعض المسلمين ثقيلة، يريد أن يؤديها على أي وجه كأنّما يتخلص من عبءٍ ثقيلٍ!
وبسبب ذهاب الخشوع صارت الصّلاة عادةٌ وليست عبادةٌ يشتاق إليها..
وبسبب هاب الخشوع صارت الصّلاة وقتًا للحسابات والشّرود في أودية الدّنيا..
وبسبب ذهاب الخشوع صارت الصّلاة لا تنهي كثيرًا من المصلين عن المنكر وفعل الحرام.. إنّه الخشوع، ذلك الأمر العظيم، والواجب الّذي فرط فيه كثير من المصلين، وبالتّالي لم يعد لصلاتهم آثر في حياتهم وسلوكهم ومعاملاتهم.
والخشوع كما ذكر العارفون بالله هو قيام القلب بين يدي الرّبّ بالخضوع والذّل. ومتى ما خشع القلب، خضعت الجوارح وسكنت إجلالًا وتعظيمًا لربّها -عزّ وجلّ-. قال عمر بن الخطاب: "إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة! قيل له: وكيف ذلك؟ قال: لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله فيها".
ولأن الخشوع أمر لابد من وجوده في الصّلاة حتى يقبلها الله -عزّ وجلّ-، ويحصل للمصلي أجرها كما جاء في الحديث «إنّ العبد ليصلّي الصّلاة ما يكتب له منها إلا عشرها، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» [صححه الألباني 36 في صفة الصّلاة]، لذلك كان لازمًا علينا أن نعيد النّظر في صلاتنا، وننظر في الأمور الّتي تعيننا على تحقيق الخشوع فنسعى في تحصيلها.
ولنتأمل سوية بعض تلك الأمور المعينة على الخشوع، فمن تلك الأمور..
1- أن ينخلع المصلي من الدّنيا وكلّ ما فيها بمجرد قوله: الله أكبر!
فالله أكبر من كلّ شيءٍ!
من تجارته وأمواله!
من أهله وأبنائه!
نم همومه وأحواله!
وكلّ شيءٍ يخطر على البال فالله أكبر منه وأجلّ وأعظم، وهو بالتّالي أجدر أن يصرف العبد كل تركيزه واهتمامه إليه.
والإنسان لو تفكر قليلًا، لرأى أن وقت الصّلاة سيقضيه على أيّة حال، خاشعًا كان أو غير خاشعٍ، فلماذا لا يقضي ذلك الوقت خاشعًا حتى يؤجر وتحصل له ثمرة الصّلاة؟ وذلك خير من أن يقضيه غير خاشعٍ، ثم لا يعلم هل تقبل منه تلك الصّلاة، أم يردها الله على وجه صاحبها.
سأل نفرٌ من النّاس عامر بن قيس: أتحدث نفسك في الصّلاة؟ فقال: وهل هناك شيءٌ أحبّ إلي من الصّلاة أحدث به نفسي! فقالوا: إنا لنحدث أنفسنا في الصّلاة، فقال: أبالجنّة والحور ونحو ذلك؟قالوا: لا. ولكن بأهلنا وأموالنا. قال عامر: لأن يقطع جسدي بالسّيوف أهو على من ذلك.
2- أن يستشعر المصلّي مناجاته لربّه، وأنّ الله -عزّ وجلّ- ينظر إليه وسمع ما يقوله فالمصلّي إذا وقف للصّلاة فهو إنّما يقف بين يدي ربّه، ويناجيه كما قال نبينا محمد -صلّى الله عليه وسلم-.
يقول أبو بكر المزني: من مثلك يا ابن آدم؟ خُلّي بينك وبين الماء والمحراب، متى ما شئت تطهرت ودخلت على ربّك ليس بينك وبينه ترجمانٌ ولا حاجبٌ.
ولا يزال الله -سبحانه- مقبلًا على عبده المصلّي ما دام العبد ملتفتًا إلى الله بقلبه ووجهه، فإذا التفت العبد وسهى انصرف الله عنه.
ثم أنظر أخي المصلّي إلى الفضل الكبير والشّرف العظيم، الّذي يشرف الله به عبده الخاشع له عند قراءته للفاتحة.
فإن المصلي إذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قال الله -عزّ وجلّ-: حمدني عبدي.
وإذا قال المصلي: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قال الله -عزّ وجلّ-: أثنى علي عبدي.
وإذا قال المصلي: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قال الله -عزّ وجلّ: مجدني عبدي.
وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال الله -عزّ وجلّ-: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل! ثم إذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7]،
قال الله -عزّ وجلّ-: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل!
فيا الله ما أعظم هذا الفضل! الله -عزّ وجلّ- بعظمته وجلاله يسمع من عبده! بل ويعطيه سؤاله بأن يهديه للصّراط المستقيم في الدّنيا والآخرة!
لقد كان بعض التّابعين إذا قام إلى الصّلاة تغير لونه، وكان إذا سأل عن ذلك قال: أتدرون بين يدي من أقف ومن أناجي.
3- أن يتدبر المصلي الآيات والأذكار الّتي يرددها في صلاته.
لقد قام النّبيّ -صلّى الله عليه وسلم- بآيةٍ واحدةٍ يرددها حتى أصبح، وهي قوله الله -عزّ وجلّ-: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].
ويذكر أن أبا حنيفة -رحمه الله- قام ليلةً كاملةً بآية هي {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، يرددها ويبكي ويتضرع وباتت جماعة من أصحاب الحسن عنده ذات ليلةٍ، فقام الحسن من الليل فصلّى فلم يزل يردده هذه الآية حتى السّحر {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النّحل: 18]. فلمّا جاء الصّباح قال له أصحابه: يا أبا سعيد لم تكد تجاوز هذه الآية سائر الليل. قال: أرى فيها معتبرًا ما أرفع بصري ولا أرده إلا وقد وقع على نعمة من نعم الله، وما لا نعلم من نعم الله أكثر.
وهنا لابد من إشارةٍ مهمّةٍ إلا أنّه لا بد للمصلّي حتى يتدبر الآية أن يكون عارفًا بمعناها، ولذا فلابد للشخص -بقدر استطاعته- من أن يكون له شيءٌ من القراءة في كتب التّفسير أو معاني القرآن، حتى يفهم الآيات على الوجه الصّحيح، ويعلم مراد الله منها.
كذلك فإن تدبر الأذكار الّتي يقولها المصلّي له أثرٌ في تحصيل الخشوع.«كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده. قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. فلما انصرف، قال: من المتكلم. قال: أنا، قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها، أيهم يكتبها أول» رواه البخاري 799
تلك كانت بعض الأمور المعينة على تحصيل الخشوع، وهناك أمورٌ أخرى كثيرةٌ يضيق المقام عن التّفصيل فيها ونشير إليها مثل: التّبكير إلى المسجد والحرص على الصّفّ الأول، وتأدية النّوافل، والنّظر إلى موضع السّجود، والاستعاذة بالله من الشّيطان، والبعد عن كل ما يلهي العبد ويشغله عن صلاته (كالهاتف الجوال الذي ابتلينا به في هذا الزّمان مثلًا).
وختامًا..
فإن كثيرًا من مشاكل ضعف الإيمان الّتي نعانيها اليوم يكمن في عدم تأدية الصّلاة على الوجه الصّحيح، فمتى سندرك أن حلّ الكثير من مشاكلنا هو في الخشوع؟
وليس ما نراه اليوم من تفشي المعاصي والمنكرات في مجتمعات المسلمين، وبعد عن شرع الله وهدي رسولهنّ وما كان من أثر ذلك من ضعف المسلمين وذلّتهم وتسلط الأعداء عليهم، إلا بسبب عدم القيام. بما أوجبه الله عليهم. ومن ذلك واجب القيام بالصّلاة، و"القيام" بالصّلاة أمرٌ مختلفٌ تمامًا عن تأدية الصّلاة كيفما اتفق، فالقيام بالصّلاة الإتيان بها على الوجه الّذي أراده الله -تعالى-، وأعظم أمر تقوم عليه الصّلاة هو الخشوع، فهو لبّها وروحها، والصّلاة بلا خشوعٍ صلاةٌ ميتةٌ لا روح فيها.
إنّ الخشوع لله هو نقطة البداية والانطلاق نحو فلاح الدّنيا والآخرة، فلماذا لا نبدأ الآن وننطلق؟
لقد كان من أعظم ما يميز سلفنا الصّلاح -رضي الله عنهم- هو خشوعهم في صلاتهم، ولذلك استحقوا وصف الله لهم بالإيمان {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2].
لقد كانت أرواحهم متعلقة بربّها، تهفو نحو السّماء، تعبد الله كأنّك تراه، ولذلك كان أصحاب تلك القلوب فاتحين منصورين بتأييد الله لهم وأدان الله لهم الدّنيا من أقصاها على أدناها لمّا علم من صدق نياتهم وصلاح نفوسهم.
فهل نقتفي أثرهم ونهتدي بسيرتهم؟
نحن والله الفائزون إن فعلنا!
تعليق