السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أيها الإخوان الكرام: إن من المتفق عليه بين المسلمين الأولين كافة، أن السنة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- هي المرجع الثاني والأخير في الشرع الإسلامي، في كل نواحي الحياة من أمور غيبية اعتقادية، أو أحكام عملية، أو سياسية، أو تربوية، وأنه لا يجوز مخالفتها في شيء من ذلك لرأي أو اجتهاد أو قياس، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله في آخر "الرسالة": "لا يحل القياس والخبر موجود"، ومثله ما اشتهر عند المتأخرين من علماء الأصول: "إذا ورد الأثر بطل النظر"، "لا اجتهاد في مورد النص"، ومستندهم في ذلك الكتاب الكريم، والسنة المطهرة.
معنى السُّنَّة:
السُّنَّة في الأصل، هي: كل ما أُضيف للرسول صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقِيَّة، أو خُلُقِيَّة، هذا هو معنى السُّنَّة، ففي الأصل هي: الطريقة، ومنه قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ[1]، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، فكل ما كان على طريقته صلى الله عليه وسلم فهو من سنَّتِه، فقد يكون المأمور به في سنَّته مستحبًا، أو واجبًا حسب ما تقتضيه الأدلة.
ثُمَّ شاع عند المتأخرين أنَّ السُّنَّة هي بمعنى: المستحب، والمندوب، وهو الذي جرى عليه عمل أهل الأصول، والفقه، وهذا المعنى هو المراد في هذه الورقات، فالسُّنَّة على هذا المقصود: هي ما أمر بها الشَّارع ليس على وجه الإلزام، وثمرتها: أنه يُثاب فاعلها، ولا يُعاقب تاركها.
* القرآن يأمر بالاحتكام إلى سنة الرسول:
أما الكتاب ففيه آيات كثيرة، أجتزئ بذكر بعضها في هذه المقدمة على سبيل الذكرى؛ {فَإِنَّ الذِّكْرَ*ىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
1- قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَ*سُولُهُ أَمْرً*ا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَ*ةُ مِنْ أَمْرِ*هِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب:36].
2- وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّـهِ وَرَ*سُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
3- وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّ*سُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِ*ينَ} [آل عمران:32].
4- وقال عز من قائل: {وَأَرْ*سَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَ*سُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا. مَّن يُطِعِ الرَّ*سُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْ*سَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80].
5- وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ*سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ* مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُ*دُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّ*سُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ* ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ* وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
6- وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِ*يحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُ*وا ۚ إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِ*ينَ} [الأنفال:46].
7- وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ*سُولَ وَاحْذَرُ*وا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَ*سُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
8- وقال: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّ*سُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّـهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ* الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ*هِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
9- وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّـهِ وَلِلرَّ*سُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْ*ءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُ*ونَ} [الأنفال:24].
10- وقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِ*ي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ* خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٣﴾ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارً*ا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:13-14].
11- وقال: {أَلَمْ تَرَ* إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِ*يدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُ*وا أَن يَكْفُرُ*وا بِهِ وَيُرِ*يدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّ*سُولِ رَ*أَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء:60-61].
12- وقال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَ*سُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ وَيَخْشَ اللَّـهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51-52].
13- وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّ*سُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
14- وقال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَ*سُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْ*جُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ* وَذَكَرَ* اللَّـهَ كَثِيرً*ا} [الأحزاب:21].
15- وقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ. وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:1-4].
16- وقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ* لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُ*ونَ} [النحل:44].
إلى غير ذلك من الآيات المباركات.
* الأحاديث الداعية إلى اتباع النبي في كل شيء:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قالوا: ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» (أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام).
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "جاءت ملائكة إلى النبي وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا، فقالوا: مَثَلُه كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيه مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يُجِبْ الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أَوِّلوها يفقهها، فقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس" (أخرجه البخاري أيضًا).
3- عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق» (أخرجه البخاري ومسلم).
4- عن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وإلا فلا» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه والطحاوي وغيرهم بسند صحيح) .
5- عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه» (رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه وأحمد بسند صحيح).
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهم (ما تمسكتم بهما) كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض» (أخرجه مالك مرسلًا، والحاكم مسندًا وصححه).
* ما تدل عليه النصوص السابقة:
وفي هذه النصوص من الآيات والأحاديث أمور هامة جدًا يمكن إجمالها فيما يلي:
1- أنه لا فرق بين قضاء الله وقضاء رسوله، وأن كلًّا منهما، ليس للمؤمن الخيرة في أن يخالفهما، وأن عصيان الرسول كعصيان الله تعالى، وأنه ضلال مبين.
2- أنه لا يجوز التقدم بين يدي الرسول كما لا يجوز التقدم بين يدي الله تعالى، وهو كناية عن عدم جواز مخالفة سنته، قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين"(1/ 58): "أي: لا تقولوا حتى يقول، وتأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضي".
3- أن التولي عن طاعة الرسول إنما هو من شأن الكافرين.
4- أن المطيع للرسول مطيع لله تعالى.
5- وجوب الرد والرجوع عند التنازع والاختلاف في شيء من أمور الدين إلى الله وإلى الرسول، قال ابن القيم (1/ 54): "فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل -يعني قوله: وأطيعوا الرسول- إعلامًا بأن طاعته تجب استقلالًا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقًا سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه «أوتي الكتاب ومثله معه»، ولم يأمر بطاعة أُولي الأمر استقلالًا، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول". ومن المتفق عليه عند العلماء أن الرد إلى الله إنما هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، وأن ذلك من شروط الإيمان.
6- أن الرضى بالتنازع، بترك الرجوع إلى السنة للخلاص من هذا التنازع؛ سبب هام في نظر الشرع لإخفاق المسلمين في جميع جهودهم، ولذهاب قوتهم وشوكتهم.
7- التحذير من مخالفة الرسول لما لها من العاقبة السيئة في الدنيا والآخرة.
8- استحقاق المخالفين لأمره الفتنة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
9- وجوب الاستجابة لدعوة الرسول وأمره، وأنها سبب الحياة الطيبة، والسعادة في الدنيا والآخرة.
10- أن طاعة النبي سبب لدخول الجنة والفوز العظيم، وأن معصيته وتجاوز حدوده سبب لدخول النار والعذاب المهين.
11- أن من صفات المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر أنهم إذا دُعُوا إلى أن يتحاكموا إلى الرسول وإلى سنته، لا يستجيبون لذلك، بل يصدون عنه صدودًا.
12- وأن المؤمنين على خلاف المنافقين، فإنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بادروا إلى الاستجابة لذلك، وقالوا بلسان حالهم وقالهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، وأنهم بذلك يصيرون مفلحين، ويكونون من الفائزين بجنات النعيم.
13- كل ما أمرنا به الرسول يجب علينا اتباعه فيه، كما يجب علينا أن ننتهي عن كل ما نهانا عنه.
14- أنه أسوتنا وقدوتنا في كل أمور ديننا إذا كنا ممن يرجو الله واليوم الآخر.
15- وأن كل ما نطق به رسول الله مما لا صلة له بالدين والأمور الغيبية التي لا تعرف بالعقل ولا بالتجربة؛ فهو وحي من الله إليه، { لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].
16- وأن سنته صلى الله عليه وسلم هي بيان لما أنزل إليه من القرآن.
17- وأن القرآن لا يغني عن السنة، بل هي مثله في وجوب الطاعة والاتباع، وأن المستغني به عنها مخالف للرسول عليه الصلاة والسلام غير مطيع له، فهو بذلك مخالف لما سبق من الآيات.
18- أن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله، وكذلك كل شيء جاء به رسول الله مما ليس في القرآن، فهو مثل ما لو جاء في القرآن لعموم قوله: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه».
19- أن العصمة من الانحراف والضلال إنما هو التمسك بالكتاب والسنة، وأن ذلك حكم مستمر إلى يوم القيامة، فلا يجوز التفريق بين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
* لزوم اتباع السنة على كل جيل في العقائد والأحكام:
أيها الإخوة الكرام! هذه النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة كما أنها دلت دلالة قاطعة على وجوب اتباع السنة اتباعًا مطلقًا في كل ما جاء به النبي، وأن من لم يرضَ بالتحاكم إليها والخضوع لها فليس مؤمنًا، فإني أريد أن ألفت نظركم إلى أنها تدل بعموماتها وإطلاقاتها على أمرين آخرين هامين أيضًا:
الأول: أنها تشمل كل من بلغته الدعوة إلى يوم القيامة، وذلك صريح في قوله تعالى: {لِأُنذِرَ*كُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقوله: {وَمَا أَرْ*سَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرً*ا وَنَذِيرً*ا} [سبأ:28]، وفسَّره بقوله في حديث: «…وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة» (متفق عليه)، وقوله: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار» (رواه مسلم وابن منده وغيرهما، الصحيحة [157]) .
والثاني: أنها تشمل كل أمر من أمور الدين، لا فرق بين ما كان منه عقيدة علمية، أو حكمًا عمليًا، أو غير ذلك، فكما كان يجب على كل صحابي أن يؤمن بذلك كله حين يبلغه من النبي أو من صحابي آخر عنه كان يجب كذلك على التابعي حين يبلغه عن الصحابي، فكما لا يجوز للصحابي مثلًا أن يرد حديث النبي إذا كان في العقيدة بحجة أنه خبر آحاد سمعه عن صحابي مثله عنه، فكذلك لا يجوز لمن بعده أن يرده بالحجة نفسها مادام أن المخبر به ثقة عنده، وهكذا ينبغي أن يستمر الأمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد كان الأمر كذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين كما سيأتي النص بذلك عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.
أيها الإخوان الكرام: إن من المتفق عليه بين المسلمين الأولين كافة، أن السنة النبوية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- هي المرجع الثاني والأخير في الشرع الإسلامي، في كل نواحي الحياة من أمور غيبية اعتقادية، أو أحكام عملية، أو سياسية، أو تربوية، وأنه لا يجوز مخالفتها في شيء من ذلك لرأي أو اجتهاد أو قياس، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله في آخر "الرسالة": "لا يحل القياس والخبر موجود"، ومثله ما اشتهر عند المتأخرين من علماء الأصول: "إذا ورد الأثر بطل النظر"، "لا اجتهاد في مورد النص"، ومستندهم في ذلك الكتاب الكريم، والسنة المطهرة.
معنى السُّنَّة:
السُّنَّة في الأصل، هي: كل ما أُضيف للرسول صلى الله عليه وسلم من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خَلْقِيَّة، أو خُلُقِيَّة، هذا هو معنى السُّنَّة، ففي الأصل هي: الطريقة، ومنه قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ[1]، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، فكل ما كان على طريقته صلى الله عليه وسلم فهو من سنَّتِه، فقد يكون المأمور به في سنَّته مستحبًا، أو واجبًا حسب ما تقتضيه الأدلة.
ثُمَّ شاع عند المتأخرين أنَّ السُّنَّة هي بمعنى: المستحب، والمندوب، وهو الذي جرى عليه عمل أهل الأصول، والفقه، وهذا المعنى هو المراد في هذه الورقات، فالسُّنَّة على هذا المقصود: هي ما أمر بها الشَّارع ليس على وجه الإلزام، وثمرتها: أنه يُثاب فاعلها، ولا يُعاقب تاركها.
* القرآن يأمر بالاحتكام إلى سنة الرسول:
أما الكتاب ففيه آيات كثيرة، أجتزئ بذكر بعضها في هذه المقدمة على سبيل الذكرى؛ {فَإِنَّ الذِّكْرَ*ىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
1- قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّـهُ وَرَ*سُولُهُ أَمْرً*ا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَ*ةُ مِنْ أَمْرِ*هِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا} [الأحزاب:36].
2- وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّـهِ وَرَ*سُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
3- وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَالرَّ*سُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِ*ينَ} [آل عمران:32].
4- وقال عز من قائل: {وَأَرْ*سَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَ*سُولًا ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّـهِ شَهِيدًا. مَّن يُطِعِ الرَّ*سُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّـهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْ*سَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80].
5- وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ*سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ* مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُ*دُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّ*سُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ* ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ* وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59].
6- وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِ*يحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُ*وا ۚ إِنَّ اللَّـهَ مَعَ الصَّابِرِ*ينَ} [الأنفال:46].
7- وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ*سُولَ وَاحْذَرُ*وا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَ*سُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92].
8- وقال: {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّ*سُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّـهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ* الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ*هِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
9- وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّـهِ وَلِلرَّ*سُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْ*ءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُ*ونَ} [الأنفال:24].
10- وقال: {وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِ*ي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ* خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٣﴾ وَمَن يَعْصِ اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارً*ا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [النساء:13-14].
11- وقال: {أَلَمْ تَرَ* إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِ*يدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُ*وا أَن يَكْفُرُ*وا بِهِ وَيُرِ*يدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَإِلَى الرَّ*سُولِ رَ*أَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء:60-61].
12- وقال سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّـهِ وَرَ*سُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَ*سُولَهُ وَيَخْشَ اللَّـهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51-52].
13- وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّ*سُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۖ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7].
14- وقال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَ*سُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْ*جُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ* وَذَكَرَ* اللَّـهَ كَثِيرً*ا} [الأحزاب:21].
15- وقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ. وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:1-4].
16- وقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ* لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُ*ونَ} [النحل:44].
إلى غير ذلك من الآيات المباركات.
* الأحاديث الداعية إلى اتباع النبي في كل شيء:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»، قالوا: ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى» (أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الاعتصام).
2- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "جاءت ملائكة إلى النبي وهو نائم، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مثلًا، فاضربوا له مثلًا، فقالوا: مَثَلُه كمثل رجل بنى دارًا، وجعل فيه مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يُجِبْ الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أَوِّلوها يفقهها، فقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد، فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس" (أخرجه البخاري أيضًا).
3- عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق» (أخرجه البخاري ومسلم).
4- عن أبي رافع رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه وإلا فلا» (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجه والطحاوي وغيرهم بسند صحيح) .
5- عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه، فله أن يعقبهم بمثل قراه» (رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه وأحمد بسند صحيح).
6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: «تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهم (ما تمسكتم بهما) كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض» (أخرجه مالك مرسلًا، والحاكم مسندًا وصححه).
* ما تدل عليه النصوص السابقة:
وفي هذه النصوص من الآيات والأحاديث أمور هامة جدًا يمكن إجمالها فيما يلي:
1- أنه لا فرق بين قضاء الله وقضاء رسوله، وأن كلًّا منهما، ليس للمؤمن الخيرة في أن يخالفهما، وأن عصيان الرسول كعصيان الله تعالى، وأنه ضلال مبين.
2- أنه لا يجوز التقدم بين يدي الرسول كما لا يجوز التقدم بين يدي الله تعالى، وهو كناية عن عدم جواز مخالفة سنته، قال الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين"(1/ 58): "أي: لا تقولوا حتى يقول، وتأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويمضي".
3- أن التولي عن طاعة الرسول إنما هو من شأن الكافرين.
4- أن المطيع للرسول مطيع لله تعالى.
5- وجوب الرد والرجوع عند التنازع والاختلاف في شيء من أمور الدين إلى الله وإلى الرسول، قال ابن القيم (1/ 54): "فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل -يعني قوله: وأطيعوا الرسول- إعلامًا بأن طاعته تجب استقلالًا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقًا سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه «أوتي الكتاب ومثله معه»، ولم يأمر بطاعة أُولي الأمر استقلالًا، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول". ومن المتفق عليه عند العلماء أن الرد إلى الله إنما هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته، وإلى سنته بعد وفاته، وأن ذلك من شروط الإيمان.
6- أن الرضى بالتنازع، بترك الرجوع إلى السنة للخلاص من هذا التنازع؛ سبب هام في نظر الشرع لإخفاق المسلمين في جميع جهودهم، ولذهاب قوتهم وشوكتهم.
7- التحذير من مخالفة الرسول لما لها من العاقبة السيئة في الدنيا والآخرة.
8- استحقاق المخالفين لأمره الفتنة في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة.
9- وجوب الاستجابة لدعوة الرسول وأمره، وأنها سبب الحياة الطيبة، والسعادة في الدنيا والآخرة.
10- أن طاعة النبي سبب لدخول الجنة والفوز العظيم، وأن معصيته وتجاوز حدوده سبب لدخول النار والعذاب المهين.
11- أن من صفات المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر أنهم إذا دُعُوا إلى أن يتحاكموا إلى الرسول وإلى سنته، لا يستجيبون لذلك، بل يصدون عنه صدودًا.
12- وأن المؤمنين على خلاف المنافقين، فإنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بادروا إلى الاستجابة لذلك، وقالوا بلسان حالهم وقالهم: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51]، وأنهم بذلك يصيرون مفلحين، ويكونون من الفائزين بجنات النعيم.
13- كل ما أمرنا به الرسول يجب علينا اتباعه فيه، كما يجب علينا أن ننتهي عن كل ما نهانا عنه.
14- أنه أسوتنا وقدوتنا في كل أمور ديننا إذا كنا ممن يرجو الله واليوم الآخر.
15- وأن كل ما نطق به رسول الله مما لا صلة له بالدين والأمور الغيبية التي لا تعرف بالعقل ولا بالتجربة؛ فهو وحي من الله إليه، { لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42].
16- وأن سنته صلى الله عليه وسلم هي بيان لما أنزل إليه من القرآن.
17- وأن القرآن لا يغني عن السنة، بل هي مثله في وجوب الطاعة والاتباع، وأن المستغني به عنها مخالف للرسول عليه الصلاة والسلام غير مطيع له، فهو بذلك مخالف لما سبق من الآيات.
18- أن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله، وكذلك كل شيء جاء به رسول الله مما ليس في القرآن، فهو مثل ما لو جاء في القرآن لعموم قوله: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه».
19- أن العصمة من الانحراف والضلال إنما هو التمسك بالكتاب والسنة، وأن ذلك حكم مستمر إلى يوم القيامة، فلا يجوز التفريق بين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
* لزوم اتباع السنة على كل جيل في العقائد والأحكام:
أيها الإخوة الكرام! هذه النصوص المتقدمة من الكتاب والسنة كما أنها دلت دلالة قاطعة على وجوب اتباع السنة اتباعًا مطلقًا في كل ما جاء به النبي، وأن من لم يرضَ بالتحاكم إليها والخضوع لها فليس مؤمنًا، فإني أريد أن ألفت نظركم إلى أنها تدل بعموماتها وإطلاقاتها على أمرين آخرين هامين أيضًا:
الأول: أنها تشمل كل من بلغته الدعوة إلى يوم القيامة، وذلك صريح في قوله تعالى: {لِأُنذِرَ*كُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام:19]، وقوله: {وَمَا أَرْ*سَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرً*ا وَنَذِيرً*ا} [سبأ:28]، وفسَّره بقوله في حديث: «…وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة» (متفق عليه)، وقوله: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار» (رواه مسلم وابن منده وغيرهما، الصحيحة [157]) .
والثاني: أنها تشمل كل أمر من أمور الدين، لا فرق بين ما كان منه عقيدة علمية، أو حكمًا عمليًا، أو غير ذلك، فكما كان يجب على كل صحابي أن يؤمن بذلك كله حين يبلغه من النبي أو من صحابي آخر عنه كان يجب كذلك على التابعي حين يبلغه عن الصحابي، فكما لا يجوز للصحابي مثلًا أن يرد حديث النبي إذا كان في العقيدة بحجة أنه خبر آحاد سمعه عن صحابي مثله عنه، فكذلك لا يجوز لمن بعده أن يرده بالحجة نفسها مادام أن المخبر به ثقة عنده، وهكذا ينبغي أن يستمر الأمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد كان الأمر كذلك في عهد التابعين والأئمة المجتهدين كما سيأتي النص بذلك عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.