بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد..
فأنقل لحضراتكم هذا الحوار الإيماني الذي دار بين كاتب الموضوع، وشاب إلتقى به بقدر الله تعالى،
يبدأ كاتب الموضوع -شائع بن محمد الغبيشي-، فيـقــــول:
جمعتني به الصدفة، نظرت إليه و قد ارتسم على محياه آثار التعب و الإعياء، قرأت في وجهه الألم والحسرة والضيق،
بادرته بالسلام رد علي: مرحباً
أتبعته السؤال بتطفل دفعني إليه ما بداخلي من رغبة في تخفيف بعض ما يعانيه فقلت: أخي مالي أراك متعباً مهموماً ؟
رد علي بسرعة يخالطها بعض الارتباك : لا شيء لا شيء
عاودته السؤال مرة أخري : أخي أرجوك أفصح لي عما بداخلك لعلي أسهم في مساعدتك
فأجاب : دعني دعني لا أحد يستطيع مساعدتي
قلت له : أرجوك اسمح لي إن أشاركك و لو في الهم الذي تحمله ، و اعلم أن إفصاحك عن بعض ما تعانيه يهون عليك الكثير و الكثير
فلا تحرمني مساعدتك فإني مشفق عليك
سكت قليلاً ثم قال :
مشكلتي أن الهمَّ يحاصرني أشعر بضيق شديد تكاد تختلف له أضلعي كأن جبال الدنيا قد وضعت على صدري هموم متتابعة، أرق بالليل، وشقاء بالنهار؛
حاولت تبديد تلك الهموم، فعلت كل شيء؛ غنيت ورقصت، سافرت وعبثت، وسكرت وأدمنت، صاحبت أشقى الأصدقاء، وعاقرت أجمل النساء؛
فلم ازدد إلا شقاء و بلاء.. فقلي بربك هل أجد عندك الدواء ؟
لا أخفيك سراً أني تمنيت الموت لأتخلص من حياة الضنك و الشقاء فهل تملك حلاً لمشكلتي ؟ لا أظن ذلك!!
بادرته بابتسامة ممزوجة بالشفقة و قلت له :
نعم أملك الحل لمشكلتك وهو هين يسير و أنت تملك زمامه
قال: أتهزأ بي و قد كشفت لك مكنون صدري الذي لم اكشفه لا حد قط ؟
قلت له :لا أهزأ بك بل أقسم لك بالله أنك تملك العلاج و بيدك أنت زمامه
أجابني بلهفة : قل لي ما هو هذا الحل الذي يخرجني من ألمي و حيرتي و شقائي ؟
قلت له : أيها الحبيب إن دواءك في الاستقامة على أمر الله
ضحك ضحكة ساخرة و قال :
الاستقامة ! لماذا الاستقامة ؟ هل تريد أن تزيدني تعقيداً و هماً و ضيقاً ؟ ألا يكفي ما أعانيه ؟
فقد سألت عن حياة المستقيمين فقيل لي أنهم معقدون يحرّمون كل شيء، لا يعرف الضحك إلى ثغورهم سبيلاً، كل أوقاتهم حزن و بكاء!
فكيف أجد في حياتهم الدواء ؟
قلت له : هل جربت بنفسك الاستقامة ؟ هل عاشرت أحد المستقيمين ؟
قال : لا و لكن لماذا الاستقامة ؟ أتظن أنها ستحل مشكلتي ؟ ولماذا الاستقامة بالذات ؟
قلت له : أما وقد أكثرت عليَّ السؤال لماذا الاستقامة ؟ فأمهلني بعض الوقت أجيبك على هذا السؤال؛
فهل في وقتك متسع كي أبين لك كيف تكون الاستقامة سبباً للسعادة و لماذا الاستقامة بالذات ؟
أجابني : تفضل فوقتي كله ملك لك؛ فالفراغ يكاد يغتالني .
قلت : إذاً فتحملني حتى أتم حديثي و لي رجاء ألا تقاطعني , فقط أرعني سمعك .
قال : لا بأس لا بأس تفضل .
قلت له :
أولاً : لماذا الاستقامة ؟
لأن الاستقامة استجابة لأمر الله و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم
فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود:112)
و أمر عز و جل بالاستقامة فقال : ( فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) (فصلت: من الآية6)
و في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم :
( سددوا و قاربوا ) و السداد هو حقيقة الاستقامة و هو الإصابة في جميع الأقوال و الأعمال و المقاصد [1]
و قال صلى الله عليه و سلم ( استقيموا و لن تحصوا ...) [2]
وعن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم :
( قل اللهم اهدني و سددني ) [3] ،
وفي رواية لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ( اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ الهُدى والتُّقى والعَفافَ والغِنى ) [4]
و عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا اسأل عنه أحداً بعدك قال :
( قُلْ آمنتُ باللهِ ثُمَّ استقِمْ ) [5]
فاستقامتك أخي الحبيب استجابة لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم؛ والاستجابة لله ولرسوله من أعظم أسباب الفلاح والفوز، قال تعالى :
( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (الأحزاب: 71)
قال القرطبي رحمه الله : من يطع الله و رسوله ، فقد ظفر بالكرامة العظمى من الله،
وقال الشوكاني رحمه الله : أي ظفر بالخير ظفراً عظيماً ، و نال خير الدنيا و الآخرة .
و قال تعالى:
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ) (الأنفال: من الآية24)
فلا حياة على الحقيقة و لا سعادة في الدنيا و الآخرة إلا في الاستجابة لأمر الله و أمر رسوله صلى الله عليه و سلم .
قال ابن القيم رحمه الله : فتضمنت هذه الآية أموراً :
أحدها : أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله وللرسول ظاهراً وباطناً فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا ، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان.
و قال رحمه الله :
( لا سبيل إلى السعادة و الفلاح في الدنيا و الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب من الخبيث على التفصيل إلا من جهتهم،
ولا ينال رضى الله البتة إلا على أيديهم؛ فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم، وما جاؤوا به فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه والعين إلى نورها و الروح إلى حياتها).
فهل تستجيب أخي الحبيب لنداء الرب عز وجل حين دعاك إلى الاستقامة ؟
ثانياً : لماذا الاستقامة ؟
لأن الاستقامة موافقة للفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها قال تعالى :
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم:30)
قال السعدي رحمه : الفطرة هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها و جعلهم مفطورين على محبة الخير و إيثاره و كراهة الشر و دفعه و فطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير و الإخلاص لله و التقرب إليه.
قال صلى الله عليه و سلم :
(كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ ، فأبواه يُهَوِّدانِه ، أو يُنَصِّرانِه ، أو يُمَجِّسانِه ، كمثلِ البَهِيمَةِ تُنْتِجُ البَهِيمَةَ ، هل ترى فيها جَدْعَاءَ) [6]
و في الحديث القدسي :
(وإنِّي خَلَقْتُ عبادي حُنَفاءَ كُلَّهم، وإنَّهُم أتتْهُمُ الشياطينُ فاجْتَالَتْهُمْ عن دينِهِمْ،... ) [7]
أخي الحبيب إني أدعوك إلى الاستقامة لأنها عودة إلى الفطرة التي فطرك الله عليها..
إني أدعوك للتمرد على الشيطان الذي حرفك عن فطرتك السوية؛ فأنت يا أخي تملك رصيداً عظيماً يدفعك إلى الاستقامة بقوة..
إنه رصيد الفطرة إن علاها ركام الذنوب والآثام؛ حتى وإن اشتطت عن الطريق السوي، حتى وإن بعدت بينه وبين الحق الشُقة؛
فبمجرد أن تعلن العودة إليها تسعفك و تؤازرك فهلا بادرة بالاستقامة ؟
أخي الحبيب اعلم أن ما تعانيه من شقاء وتعاسة؛ إنما هو بسبب مخالفتك لهذه الفطرة؛ فأنت في صراع دائم معها حتى تُسلِّم لها العنان ,
فهل تُسلِّم لها و تُوافقها لتَسْلَم من الهم والغم والشقاء ؟
هل تسعفها بالحياة المستقيمة السوية ؟ فتجني ذلك سعادة و راحة و سروراً .
تابعونا.. فـ للحوار بقية، بأمر الله رب البريَّة......
________________________________________________
[1] عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أتدرونَ ما هذانِ الكِتابانِ ؟
[ فقالَ للَّذي فِي يدِه اليُمنى ] هذا كتابٌ مِن ربِّ العالمينَ ، فيهِ أسماءُ أهلِ الجنَّةِ ، و أسماءُ آبائِهم و قبائِلِهم ،
ثمَّ أُجمِلَ على آخرِهم ، فلا يُزادُ فيهِم ، و لا يُنْقَصُ منهُم أبدًا ،
[ ثمَّ قال للَّذي في شِمالِه ] هذا كتابٌ من ربِّ العالمينَ ، فيهِ أسماءُ أهلِ النَّارِ ، و أسماءُ آبائِهم و قبائِلِهم ،
ثمَّ أُجملَ علَى آخرِهم ، فلا يُزادُ فيهم و لا يُنْقَصُ منهُم أبدًا ،
سدِّدُوا و قارِبوا ، فإنَّ صاحِبَ الجنَّةِ يُخْتَمُ لهُ بعملِ أهلِ الجنَّةِ ، و إنْ عمِل أيَّ عملٍ
وإنَّ صاحبَ النَّارِ يُخْتَمُ لهُ بعملِ أهلِ النَّارِ ، و إنْ عمِل أيَّ عملٍ ؛
فرغ ربُّكم مِن العبادِ ، فَريقٌ فِي الجنَّةِ و فريقٌ في السَّعيرِ "صححه الإمام الألباني في صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 88
[2] عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" استَقيموا ولن تُحصوا، واعلَموا أنَّ مِن أفضلِ أعمالِكُمُ الصَّلاةَ، ولا يحافظُ علَى الوضوءِ إلَّا مؤمنٌ "
صححه الإمام الألباني في صحيح ابن ماجه - الصفحة أو الرقم: 227
[3] عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: قال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
" قل : اللهمَّ ! اهدِني وسدِّدْني . واذكر ، بالهدى ، هدايتَك الطريقَ . والسَّدادَ ، سدادَ السَّهمِ " .
[4] رواه الإمام مسلم في صحيحه - الصفحة أو الرقم: 2721
[5] صححه الإمام الألباني في صحيح الجامع - الصفحة أو الرقم: 4395
[6] رواه البخاري - الصفحة أو الرقم: 1385
[7] من حديث مطَوَّل، رواه الإمام مسلم في صحيحه، الصفحة أو الرقم: 2865
تعليق