السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا عصبية بل أخوةٌ إسلامية
أيها الإخوة المسلمون: مَرَضٌ اجتماعيٌّ خبيث، وفيروسٌ وبائيٌّ فتَّاك، وسرطانٌ مدمرٌ للشعوب، حاربه الإسلامُ حرْبًا لا هوادةَ فيها؛ لأنَّ عواقبَه وخيمةٌ، ونتائجَه خطيرةٌ. إنَّه: العصبيَّةُ، والقبليَّةُ، والعُنْصرِيَّةُ، والطبقِيَّة، والإقْلِيميَّةُ، والمَذْهبيَّة، والطائفيَّة، والحِزْبيَّةُ، والنُّعَرَةُ الجاهلية، والفخْرُ بالأحساب، والطَّعْنُ في الأنساب.
إنَّك -يا مسلم- أضحيْتَ تسمع صباحَ مساءَ نداءاتٍ غريبةً، تقال إمَّا على وَجْهِ السُّخرية والسَّبِّ، أو من باب الفَخْر والعُجْبِ: يا سعودي، يا خليجي، يا مصري، يا سوداني، يا سوري، يا هندي، يا باكستاني، يا بنغالي، يا جاوي، يا غامدي، يا زهراني، يا جيزاني، يا قصيمي، يا نجدي، يا حجازي، يا قبيلي، يا خضيري،...إلخ هذه الألقاب. ولو قيلتْ من باب التعريف، أو على وجه التمييز، فلا بأس. أمَّا على سبيل المُبَاهاةِ والمُفَاخرةِ أو التنقُّصِ والتنَدُّرِ فلا يجوز؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18]، وقال سبحانه: (وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
أيها الناس! يا بني آدم!: جاء الإسلامُ والناسُ في جاهليةٍ جهلاء، فأخرج اللهُ به الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الجَوْر إلى القِسْط، ومن المعتقدات الفاسدة إلى العقيدة الصحيحة، ومن الأخلاق المنحلَّة إلى الأخلاق الحسنة.
جاء الإسلام وكان أصحابُ الجاهلية لديهم بعضُ المحاسنِ من نَجْدةِ الملهوف، وإكرامِ الضيف، ونُصْرَةِ المظلوم، وغيرِها، فجاء الإسلام لتثبيت ذلك والحثِّ عليه، «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأخلاق».
الراوي: أبو هريرة المحدث: ابن عبدالبر - المصدر: التمهيد - الصفحة أو الرقم: 24/333خلاصة حكم المحدث: صحيح
ولكن الإسلام جاء وعند أصحاب الجاهلية أخلاقٌ سَمْجَةٌ قبيحةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ. ومن الأخلاق التي كانت في الجاهلية: خُلُقُ العَصَبِيَّةِ والقَبَلِيَّة على الباطل.
فجاء الإسلامُ ونفَّر منها، وصوَّر ذلك الفعلَ القبيحَ تصويرًا بليغًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ: كَمَثَلِ بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ؛ فَهُوَ يُنْزَعُ مِنْهَا بِذَنَبِهِ» رواه أبو داود وغيره بسند صحيح، ومعنى الحديث: أنَّ المُتعَصِّبَ قد هلك ووقع في الإثم، كالبعير إذا سقط وتردَّى في بئر، فصار يُجَرُّ بِذَنَبِهِ ولا يُقْدَر على خلاصه ونجاتِه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» رواه مسلم، والعِمِّيَّةُ: هي الأمرُ الأعمى لا يَسْتَبِيْنُ وجْهُه.
نعم يا عباد الله: جاء الإسلام والقبائلُ متناحرةٌ فيما بينها، كلُّ قبيلةٍ تَحُطُّ من شأن الأخرى، كلُّ فردٍ يقاتل من أجل قبيلته، يفرحُ لِفَرحِها ويغضبُ لغضَبها؛ رشاده وغِوايتُه مع القوم والطائفة والإقليم، حاله كما قال الشاعرُ الجاهليُّ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:
وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ وَإنْ تَرْشُدْ غَزيَّةُ أرْشُدِ
ولكنَّ الإسلام يقرِّر: "ليس منَّا من دعا إلى عصبية".
جاء الإسلام فوضع الضوابط، وقعَّد القواعد، وأصَّل الأصول، ومن القواعد التي وضعها الإسلام؛ قاعدة: لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ إلا بالتقوى؛ فعن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عن قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» رواه أحمد بسند صحيح.
وخطب الناسَ يومَ فتْحِ مكةَ فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)» رواه الترمذي بسند صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ» رواه أبو داود بسند حسن.
إن التعَصُّبَ والتحَزُّبَ من خصال الجاهلية، ذاتَ مرَّةٍ عيَّرَ أبو ذَرٍّ رضي الله عنه غلامًا له بأمِّه، فلمَّا بَلَغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» متفقٌ عليه، أي ما زال فيك خَصْلةٌ من خِصَال الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأحساب، ويطعنون في الأنساب؛ كما جاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ» رواه مسلم.
لقد عَمِلَ الإسلامُ على غَرْس رابطة الدين، ووشيجةِ العقيدة؛ لأنها الآصرةُ التي يتجمع عليها الناس طائعين قانعين، وليست وشيجةَ الدَّمِ والنسب، ولا وشيجةَ الأرضِ والبلد، ولا وشيجةَ القومِ والجنس، ولا وشيجةَ اللون واللغة، ولا وشيجةَ الحِرْفةِ والفريقِ والطائفةِ والحزبِ والجماعةِ، بلْ إنها وشيجةُ العقيدة فحسب. فقد جمعتْ هذه العقيدةُ صهيباً الروميَّ، وبلالاً الحبشيَّ، وسلمانَ الفارسيَّ، وأبا بكرٍ العربيَّ القُرَشيَّ تحت رايةٍ واحدةٍ، رايةِ الإسلام، وتوارت معها جميعُ النّعَرَاتِ والعصبيَّاتِ.
إخوةَ العقيدةِ والإيمان: ها هو مُرَبِّي الأمةِ وقائدُها عليه الصلاة والسلام يُعلِّمُ ويُرَبِّي، إذ يقول لخير القرون كلِّها مهاجرين وأنصارًا: «دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». وما هي المنتنة الذميمة؟! صَيْحةٌ نادى بها أنصاريٌّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، فَرَدَّ مهاجريٌّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، (كسع يعني: ضربه في مؤخرته) فقالَ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» والحديث في الصحيحين.
حقاً إنها منتنة، والحمدُ للهِ انتهى أمْرُ هذا النَّتَنِ، وماتَتْ نُعَرَةُ الجِنْس، واختفتْ لَوْثةُ القوم. ومنذُ ذلكَ الحينِ غَدَتْ دارُ الإسلامِ التي تُحَكِّمُ الشريعةَ وطَنَ المسلمِ الكبيرَ، فالعقيدةُ أَذَابَتْ العصبيةَ، ورابطةُ الدِّين صَهَرتْ العُنْصُرِيَّةَ، وسَمَتِ عَلاقَةُ المسلم بأخيه وطيدةً متيْنَةً راسخةً، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» رواه مسلم.
لا عصبية بل أخوةٌ إسلامية
أيها الإخوة المسلمون: مَرَضٌ اجتماعيٌّ خبيث، وفيروسٌ وبائيٌّ فتَّاك، وسرطانٌ مدمرٌ للشعوب، حاربه الإسلامُ حرْبًا لا هوادةَ فيها؛ لأنَّ عواقبَه وخيمةٌ، ونتائجَه خطيرةٌ. إنَّه: العصبيَّةُ، والقبليَّةُ، والعُنْصرِيَّةُ، والطبقِيَّة، والإقْلِيميَّةُ، والمَذْهبيَّة، والطائفيَّة، والحِزْبيَّةُ، والنُّعَرَةُ الجاهلية، والفخْرُ بالأحساب، والطَّعْنُ في الأنساب.
إنَّك -يا مسلم- أضحيْتَ تسمع صباحَ مساءَ نداءاتٍ غريبةً، تقال إمَّا على وَجْهِ السُّخرية والسَّبِّ، أو من باب الفَخْر والعُجْبِ: يا سعودي، يا خليجي، يا مصري، يا سوداني، يا سوري، يا هندي، يا باكستاني، يا بنغالي، يا جاوي، يا غامدي، يا زهراني، يا جيزاني، يا قصيمي، يا نجدي، يا حجازي، يا قبيلي، يا خضيري،...إلخ هذه الألقاب. ولو قيلتْ من باب التعريف، أو على وجه التمييز، فلا بأس. أمَّا على سبيل المُبَاهاةِ والمُفَاخرةِ أو التنقُّصِ والتنَدُّرِ فلا يجوز؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان: 18]، وقال سبحانه: (وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الحجرات: 11].
أيها الناس! يا بني آدم!: جاء الإسلامُ والناسُ في جاهليةٍ جهلاء، فأخرج اللهُ به الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الجَوْر إلى القِسْط، ومن المعتقدات الفاسدة إلى العقيدة الصحيحة، ومن الأخلاق المنحلَّة إلى الأخلاق الحسنة.
جاء الإسلام وكان أصحابُ الجاهلية لديهم بعضُ المحاسنِ من نَجْدةِ الملهوف، وإكرامِ الضيف، ونُصْرَةِ المظلوم، وغيرِها، فجاء الإسلام لتثبيت ذلك والحثِّ عليه، «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الأخلاق».
الراوي: أبو هريرة المحدث: ابن عبدالبر - المصدر: التمهيد - الصفحة أو الرقم: 24/333خلاصة حكم المحدث: صحيح
ولكن الإسلام جاء وعند أصحاب الجاهلية أخلاقٌ سَمْجَةٌ قبيحةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ. ومن الأخلاق التي كانت في الجاهلية: خُلُقُ العَصَبِيَّةِ والقَبَلِيَّة على الباطل.
فجاء الإسلامُ ونفَّر منها، وصوَّر ذلك الفعلَ القبيحَ تصويرًا بليغًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ: كَمَثَلِ بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ؛ فَهُوَ يُنْزَعُ مِنْهَا بِذَنَبِهِ» رواه أبو داود وغيره بسند صحيح، ومعنى الحديث: أنَّ المُتعَصِّبَ قد هلك ووقع في الإثم، كالبعير إذا سقط وتردَّى في بئر، فصار يُجَرُّ بِذَنَبِهِ ولا يُقْدَر على خلاصه ونجاتِه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» رواه مسلم، والعِمِّيَّةُ: هي الأمرُ الأعمى لا يَسْتَبِيْنُ وجْهُه.
نعم يا عباد الله: جاء الإسلام والقبائلُ متناحرةٌ فيما بينها، كلُّ قبيلةٍ تَحُطُّ من شأن الأخرى، كلُّ فردٍ يقاتل من أجل قبيلته، يفرحُ لِفَرحِها ويغضبُ لغضَبها؛ رشاده وغِوايتُه مع القوم والطائفة والإقليم، حاله كما قال الشاعرُ الجاهليُّ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ:
وَهَلْ أنَا إلا مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ وَإنْ تَرْشُدْ غَزيَّةُ أرْشُدِ
ولكنَّ الإسلام يقرِّر: "ليس منَّا من دعا إلى عصبية".
جاء الإسلام فوضع الضوابط، وقعَّد القواعد، وأصَّل الأصول، ومن القواعد التي وضعها الإسلام؛ قاعدة: لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ إلا بالتقوى؛ فعن جابرِ بنِ عبد الله رضي الله عن قال: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» رواه أحمد بسند صحيح.
وخطب الناسَ يومَ فتْحِ مكةَ فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلاَنِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)» رواه الترمذي بسند صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم: «لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ» رواه أبو داود بسند حسن.
إن التعَصُّبَ والتحَزُّبَ من خصال الجاهلية، ذاتَ مرَّةٍ عيَّرَ أبو ذَرٍّ رضي الله عنه غلامًا له بأمِّه، فلمَّا بَلَغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ذلك قال: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» متفقٌ عليه، أي ما زال فيك خَصْلةٌ من خِصَال الجاهلية؛ لأنهم كانوا يتفاخرون بالأحساب، ويطعنون في الأنساب؛ كما جاء في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ» رواه مسلم.
لقد عَمِلَ الإسلامُ على غَرْس رابطة الدين، ووشيجةِ العقيدة؛ لأنها الآصرةُ التي يتجمع عليها الناس طائعين قانعين، وليست وشيجةَ الدَّمِ والنسب، ولا وشيجةَ الأرضِ والبلد، ولا وشيجةَ القومِ والجنس، ولا وشيجةَ اللون واللغة، ولا وشيجةَ الحِرْفةِ والفريقِ والطائفةِ والحزبِ والجماعةِ، بلْ إنها وشيجةُ العقيدة فحسب. فقد جمعتْ هذه العقيدةُ صهيباً الروميَّ، وبلالاً الحبشيَّ، وسلمانَ الفارسيَّ، وأبا بكرٍ العربيَّ القُرَشيَّ تحت رايةٍ واحدةٍ، رايةِ الإسلام، وتوارت معها جميعُ النّعَرَاتِ والعصبيَّاتِ.
إخوةَ العقيدةِ والإيمان: ها هو مُرَبِّي الأمةِ وقائدُها عليه الصلاة والسلام يُعلِّمُ ويُرَبِّي، إذ يقول لخير القرون كلِّها مهاجرين وأنصارًا: «دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». وما هي المنتنة الذميمة؟! صَيْحةٌ نادى بها أنصاريٌّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، فَرَدَّ مهاجريٌّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، (كسع يعني: ضربه في مؤخرته) فقالَ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» والحديث في الصحيحين.
حقاً إنها منتنة، والحمدُ للهِ انتهى أمْرُ هذا النَّتَنِ، وماتَتْ نُعَرَةُ الجِنْس، واختفتْ لَوْثةُ القوم. ومنذُ ذلكَ الحينِ غَدَتْ دارُ الإسلامِ التي تُحَكِّمُ الشريعةَ وطَنَ المسلمِ الكبيرَ، فالعقيدةُ أَذَابَتْ العصبيةَ، ورابطةُ الدِّين صَهَرتْ العُنْصُرِيَّةَ، وسَمَتِ عَلاقَةُ المسلم بأخيه وطيدةً متيْنَةً راسخةً، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» رواه مسلم.
تعليق