الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
ففي غمرات هذه الأحداث العصيبة التي تجتاح المسلمين في غزة، وفى فلسطين و فى المسجد الأقصى حيث يتهاوى الشهداء؛ الواحد تلو الآخر، وتنهار البيوت فوق رؤوس ساكنيها، وتقصف المساجد وهي تعج بالمصلين، ويُمنع المصلين من الصلاة ويختال العدو الغاشم الظالم بآلته العسكرية الضخمة، أمام قومٍ عزَّل، لا يملكون إلا إيماناً بالله، وبضعة أسلحة، لا تكافئ ما بيد عدوهم، ولا تدانيه .
في هذه الأجواء المحمومة، المظلمة، المدلهمة، ومن بين صرخات اليتامى، والثكالى، وتأوهات العجائز، والشيوخ، وأنين الجرحى، والمصابين، يتعالى قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42]، ليطمئنالنفس المؤمنة بأن الله القوي، القادر، الغالب، القاهر، شاهد، مطَّلع، يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، وأنه، سبحانه وبحمده، وإن أذن بنوع بلاءٍ من الخوف، والجوع، ونقص من الأموال، الأنفس، والثمرات، فله في ذلك حكمة بالغة، وسنة ماضية.
فإلى إخواننا في غزة، نسوق هذه الحادثة التاريخية، والعبرة الإيمانية:
هذا اليوم (العاشر من محرم)، يوم عاشوراء، يوم مجيد، وتاريخ ذو دلالة، يومٌ نجَّا الله فيه موسى ومن معه، وأغرق فرعون ومن معه، في آيةٍ كونيةٍ غير مسبوقة، توقفت فيها قوانين الطبيعة والفيزياء عن العمل، إذعاناً لإرادة الله الكونية، لترسم مشهداً عجيباً مدهشاً: شعب قليل، مستضعف، يقوده نبي الله موسى عليه السلام، على حافة بحرٍ متلاطم الأمواج، وفي الأفق يلوح جيش عرمرم، مدجج بالسلاح، يقوده طاغية، مستكبر، فرعون مصر، يدفعه الغيظ والحنق، مهرولاً خلف القلة المستضعفة، فيهتف أصحاب موسى المرتجفون: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [سورة الشعراء: 61]؛ البحر أمامنا، والعدو خلفنا!!، فلا يملك النبي الكريم، الواثق بوعد الله، إلا أن يقول بمنتهى الحزم، واليقين: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}[سورة الشعراء: 62].
فهداه ربه، وأمره أن يضرب البحر بعصاه، الذي لا يعدو أن يكون جزلاً من حطب، فتقع آية ربانية رائعة، ينفلق هذا البحر المتلاطم، ويستحيل طرائق قدداً، بينها حواجز مائية شاهقة، شاخصة، كل واحد منها كالجبل الأشم، لينحدر بنو إسرائيل، يطئون الثرى، الذي كان مضمَّخاً قبل ثوانٍ بماء البحر، فيجتازوه مُصعِدين إلى الجانب الآخر، في مسيرة عجيبة، غريبة...
ثم يجترئ الظالم الغشوم، ويُزيَّن له اللحاق بفريسته، ليفتك بها، ذاهلاً عن البعد الكوني لهذه الآية، لتحل به الهلكة؛ فما أن يتكامل هؤلاء خارجين، ويتكامل هؤلاء داخلين، حتى يأمر الرب المالك، المدبر، البحر أن ينطبق، فتعصف الأمواج الهادرة بفرعون وملئه، وتتلاعب بهم كما تتلاعب الرياح بالقش، في مشهد مهين، مذل، مرعب. ولا أجمل من التصوير القرآني لهذه الآية. قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 61-68].
إن أصناف الطغيان كثيرة، وأنواع الطغاة متعددة ؛ فإذا كان بالأمس فرعون ففي الحياة كثير من أصناف الفراعنة، "وعلى كل ما عُرف من طغيان فرعون فقد كان في تصرفه هذا أقل طغياناً من طواغيت كثيرة في القرن العشرين في مواجهة دعوة الدعاة إلى ربوبية رب العالمين، وتهديد لسلطان الباطل بهذه الدعوة الخطيرة" [6].
فهل يستيقظ الناس وهم يعيشون محنة من أقسى ما عرف العالم الإسلامي من المحن، ويمرون في حنايا فتنة كبيرة نسأل الله عز وجل أن يجعلها نصراً للحق والإسلام والمسلمين؟ وكل ذلك بفعل الطغيان، وتصرفات طاغية جبار دفعه طغيانه إلى ارتكاب أبعد صنوف الشرور وأقسى أنواع المظالم.
فصبراً يا أهل غزة، صبراً يا أهل فلسطين ! سنن الله ثابتة، ومصارعه للطغاة باقية. ثقوا بأن الله بالمرصاد، وأنه سيشفي صدور قومٍ مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبكم. فالذي أهلك فرعون، وهامان، وجنودهما، قادر أن يهلك اليهود ومن عاونهم واعلموا أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسراً.