يا أهل القِطَاع... إلى الله الانقطاع!
بسم الله القائل: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق[ ] :3].
يا أهل غزة، إني لا أخاف عليكم ضعف يدٍ، ولا قلة عدد! فإنه {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]. فقط كونوا مؤمنين؛ فإن نصركم حقٌّ أوجبه الله الكريم على نفسه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
لا تبتغوا العزة إلا من الله؛ فإن: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10].
فإن اعتزُّوا بعدَدِهم وعُدَدِهم فاعتز بالله القوي العزيز {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس:65]، واستمطروا نصر الله عليكم بتوكلكم عليه وانقطاعكم إليه، ذلك أنه {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]، ولا ناصر لكم إلا هو حتى ولو أنزل عليكم ملائكة السماء، فإنما هي بشرى واطمئنان، والناصر الله العزيز {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10].
إني لا أخاف عليكم الفقر فإنه من افتقر إلى الله أغناه واستغنى به: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة[ ] :28]
لا نحسب ذنوبكم، أنكم تُغَنُّون أو ترقصون، فأنتم أهل أكبر نسبة في العالم في عدد حفظة القرآن، رقم القصف والحصار، فصرتم بذلك فوق القصف والحصار لا تحته.
يا أهل غزة لا أخشى عليكم ذنبًا أكثر من ذنبِ الالتفات ها هنا أو هنا، ومن ذنب التطلُّع لغير السماء!
أخي فامض لا تلتفت للوراء *** طريقك قد خضبته الدماء
ولا تلتفت هاهنا أو هنـــــاك *** ولا تتطلع لغــــير السماء
ولا تلتفت هاهنا أو هنـــــاك *** ولا تتطلع لغــــير السماء
يا أهل غزة لا ترجوا غير الله، ولا تطمعوا إلا في نصرته ولا تعملوا إلا لرضاه.
إن يوسف عليه السلام مكث في السجن بضع سنين، لمجرد أنه أرسل رسالة لحاكم مصر، يُعَرِّض فيها بإطلاق سراحه وإثبات براءته: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42].
قال ابن عباس:" عوقب يوسف بطول الحبس بضع سنين لما قال للذي نجا منهما {اذكرني عند ربك}، ولو ذكر يوسف ربه لخلصه"
والنتيجة:{فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين}، والضميران "فأنساه وربه يحتملان العود إلى للذي، أي أنسى الشيطان الذي نجا أن يذكره لربه، فالذكر الثاني هو الذكر الأول. ويحتمل أن يعود الضميران إلى ما عاد إليه ضمير وقال أي يوسف- عليه السلام- أنساه الشيطان ذكر الله، فالذكر الثاني غير الذكر الأول. ولعل كلا الاحتمالين مراد، وهو من بديع الإيجاز. وذلك أن نسيان يوسف- عليه السلام- أن يسأل الله إلهام الملك تذكر شأنه كان من إلقاء الشيطان في أمنيته، وكان ذلك سبباً إلهياً في نسيان الساقي تذكير الملك، وكان ذلك عتاباً إلهياً ليوسف عليه السلام على اشتغاله بعون العباد دون استعانة ربه على خلاصه."[الطاهر بن عاشور؛ التحرير والتنوير:12 /279].
والفاء في قوله تعالى:{فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}.. تفيد التعليل، أي أن علة لبثه في السجن بضع سنين هو أنه ركن إلى عون العباد!
يقول سيد قطب رحمه الله: والضمير الأخير في لبث عائد على يوسف. وقد شاء ربه أن يعلمه كيف يقطع الأسباب كلها ويستمسك بسببه وحده، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد ولا سبب يرتبط بعبد. وكان هذا من اصطفائه وإكرامه. إن عباد الله المخلصين ينبغي أن يخلصوا له سبحانه، وأن يدعوا له وحده قيادهم، ويدعوا له سبحانه تنقيل خطاهم. وحين يعجزون بضعفهم البشري في أول الأمر عن اختيار هذا السلوك، يتفضل الله سبحانه فيقهرهم عليه حتى يعرفوه ويتذوقوه ويلتزموه بعد ذلك طاعة ورضى وحباً وشوقاً.. فيتم عليهم فضله بهذا كله.."(الظلال:4/1992).
لا نخرق السنن، ولا نطعن في التوحيد، فإن "ترك الأسباب طعن في الشرع، والاعتماد عليها طعن في التوحيد"، والتوكل لا ينافي ركوب الأسباب، وإنما ينافي الركونَ إليها، فهذا سيد الموحدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حتى مع حاجته إلى ما في أيدي البشر، لم يطلبها من البشر المحاويج، وإنما طلبها من الله الذي يملكها ويملكهم، ونواصيهم بيده سبحانه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37]. إن إبراهيم لم يركن إلى الأرض، بل طلب من رب الناس، أن يميل إليه قلوب الناس، {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} .
وكما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}[الطلاق:2-3]. حسبُه كافيه ما أَهَمَّه، موسِّعٌ عليه ما ضاق. ولذلك جاء هذا المعنى لجميع العباد في أذكار الصباح والمساء، ليلَقِّنوا أنفسَهم درس التوكل، وليُذَكِّرُوها الانقطاعَ إلى الله كل لحظة، فمن قال {حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو ربّ العرش العظيم}، «من قالها حين يصبح وحين يمسي سبع مرّات كفاه الله ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة»(ابن السني، برقم:[71]، وصحح إسناده شعيب وعبد القادر الأرناؤوط، وانظر: زاد المعاد: 2 /376).
وهو الركن الركين الذي ركن إليه سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين إلقي في النار ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: «كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل» "(البخاري؛ صحيح البخاري، برقم:[4564])، ويُروَى أنه جاء جبريل عليه السلام وهو مقذوف فقال: ألكَ إليَّ حاجة؟ فقال إبراهيم علي السلام: أمَّا إليك فلا؛ وأما إلى الله فنعم!!
وهي الكلمة التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام حين اشتد عليهم الخطب وعظهم الموت والجراح في أُحد: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:172-173]. ومازالت كلمة معطاءة وعقيدة كافية.
أخي الغزَّاوي، بل أخي الغازي، إذا كنت بالله مستعصمًا وعليه متوكلًا، وفي عطائه طامعًا وفي نصره راجيًا، فكلما جاء من أيدي البشر فهو رزق ساقه الله إليك، وكل يدٍ قَصُرت أن تصلك بشيء، فإنما هو منحة من الله أن أعتق ذمتك من منة بشرٍ، لو مدَّ يده بخيرٍ فإنما لنفسه يقدمها، لكنه المحروم، فلا تفرح بما يصلك إلا فرحًا برَزقِ الله لك من أفئدة عباده وأيديهم، من ماله الذي أعطاهم، وما لم يصلك فلا تحزن عليه إلا حزنًا وشفقة على من بخل عن نفسه وأغناك عن منته، والملكان يناديان، كما في الحديث: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا» (البخاري، برقم:[1442]، ومسلم، برقم:[1010] في صحيحيهما)، وإذا كان هذا في إنفاق المال، فما بالك بإنفاق الدماء والأرواح والأولاد في سبيل الله.
أخي الغزَّاوي، بل أخي الغازي وأختي الغازية، لا يفتُّ في عضُدك أن قالوا: دماء غزة تنزف! كلا، فإن غزة تتبرع بدمها لتحيا الأمة المحتضرة ذلة وخنوعًا، أو كبتًا واستضعافًا، إلا من رحم الله من جماعات المسلمين وأوزاعهم؛ ممن لا دولة لهم ولا حكومة.
ننصح لكم ونحن أولى بأن نستمع لنصحكم...
نُعلمكم، ونحن أولى بأن نتعلم منكم...
ندعو لكم؛ وأولى بنا أن نطلب منكم الدعاء.
ألا فسامحونا ولتتبرعوا علينا أيضًا ببعض دموعكم، فحن النازفون، نزفت مشاعرنا وذابت قلوبنا، ونحن المحاصرون وأنتم الأحرار.
أخي أنت حرٌ وراء السدود *** أخي أنت حرٌ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصـــــما *** فماذا يضيرك كيد العبيــد
إذا كنت بالله مستعصـــــما *** فماذا يضيرك كيد العبيــد
تعليق