فقد الخشية فيه
قال تعالى:" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ* " فاطر28.
أي إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم، و العلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم و أكثر.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " قال:" الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير ".
و قال سعيد بن جبير:" الخشية هي التي تحول بينك و بين معصية الله عز و جل ".
و قال الحسن البصري:< العالم من خشي الرحمن بالغيب، و رغب فيما رغب الله فيه، و زهد فيما سخط الله فيه، ثم تلا الحسن:" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ* " >.
و عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:" ليس العلم عن كثرة الحديث، و لكن العلم عن كثرة الخشية ".
و قال أحمد بن صالح المصري عن ابن وهب عن مالك قال:" إن العلم ليس بكثرة الحديث، و إنما العلم نور يجعله الله في القلب ".
و قال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال:" كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله عالم بأمرالله، و عالم بالله ليس بعالم بأمر الله، و عالم بأمرالله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله و بأمر الله الذي يخشى الله تعالى و يعلم الحدود و الفرائض، و العالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله و لا يعلم الحدود و الفرائض، و العالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود و الفرائض و لا يخشى الله عز و جل ".
و قد توعد الله عز و جل الذين لا تلين قلوبهم للذكر، و لا يحدث عندهم الخشية، و مدح الذين تدركهم الخشية عند سماع كلامه سبحانه، فقال تعالى:" فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ* اللَّـهِ ۚ أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿٢٢﴾ اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ* مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَ*بَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ* اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ".
قال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، و ما غضب الله على أحد إلا نزع الرحمة من قلبه.
و الشأن كما قال الربيع بن أنس:" من لم يخش الله تعالى فليس بعالم ".
و كما قال مجاهد:" إنما العالم من خشي الله عز و جل ".
و في قول لمجاهد:" إنما الفقيه من يخاف الله عز و جل ".
و قال ابن مسعود رضي الله عنه:" كفى بخشية الله علما و بالإغترار به جهلا ".
و قيل لسعد ابن إبراهيم:" من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه عز و جل " _الجامع لأحكام القرآن_للقرطبي(14/331).
فالخشية و الخشوع من لوازم العلم الحق لا ينفكان عنه بحال أبدا، لأنهما من لوازم الفهم الحق، و هو_ أي: الفهم الحق، و ليس الوقوف على رسوم الألفاظ و صورة العلم _من لوازم العلم الحق.
وقد حكى بعض المعتبرين عن شيخ أفنى عمره في علوم كثيرة، أنه فتن في آخر عمره بفسق أصر عليه، و بارز الله به، و كانت حاله تعطي بمضمونها: أن علمي يدفع عني شر ما أنا فيه و لا يبقى له أثر.
و كان كأنه قد قطع لنفسه بالنجاة، فلا يرى عنده أثر لخوف، و لا ندم على ذنب .قال: فتغير في آخر عمره و لازمه الفقر، فكان يلقى الشدائد و كان يلقى الشدائد و لا ينتهي عن قبح حاله، إلى أن جمعت له يوما قراريط على وجه الكدية فاستحيا من ذلك و قال: يا رب إلى هذا الحد؟؟.
قال الحاكي: فتعجبت من غفلته، كيف نسي الله عز و جل، و أراد منه حسن التدبير له و الصيانة و سعة الرزق، و كأنه ما سمع قوله تعالى:" وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِ*يقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا " الجن16. و لا علم أن المعاصي تسد أبواب الرزق، و أن من ضيع أمر الله ضيعه الله.
فما رأيت علما ما أفاد كعلم هذا، لأن العالم إذا زل انكسر، و هذا مصر لا تؤلمه معصيته.
و كأنه-أي: علمه-يجوز له ما يفعل، أو كأن له التصرف في الدين تحليلا و تحريما، فمرض عاجلا، و مات على أقبح حال.
قال الحاكي: و رأيت شيخا آخر حصّل صور العلم، فما أفادته، كان أي فسق أمكنه لم يتحاش منه، و أي أمر لم يعجبه من القدر عارضه بالإعتراض على المقدر و اللوم، فعاش أكدر عيش، و على أقبح اعتقاد حتى درج.
و هؤلاء لم يفهموا معنى العلم، و ليس العلم صور الألفاظ، إنما المقصود فهم المراد منه، و ذاك يورث الخشية و الخوف ، و يري المنة للمنعم بالعلم، و قوة الحجة له على المتعلم " صيد الخاطر(544).
و الخشوع منزلة من منازل السائرين إلى الله تعالى، لها معالم و عليها شواهد.
و قد شرح ابن القيم رحمه الله في " مدارج السالكين " معالمها، و بين شواهدها غاية البيان و أجلاه. فقال رحمه الله:" الخشوع في أصل اللغة: الإنخفاض، و الذل، و السكون، قال تعالى:" وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّ*حْمَـٰنِ " طه108. أي: سكنت، و ذلت، و خضعت، و منه وصف الأرض بالخشوع، و هو: يبسها، و انخفاضها، و عدمه ارتفاعها بالري و النبات، قال تعالى:" وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَ*ى الْأَرْ*ضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَ*بَتْ " فصلت39.
و الخشوع: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع و الذل، و الجمعية عليه.
و قيل: الخشوع: الإنقياد للحق، و هذا من موجبات الخشوع، فمن علاماته: أن العبد إذا خولف و رد عليه بالحق، إستقبل ذلك بالقبول و الإنقياد.
و قيل: الخشوع: خمود النيران الشهوة، و سكون دخان الصدور، و إشراق نور العظيم في القلب.
و قال الجنيد: الخشوع تذلل القلوب لعلام الغيوب.
و أجمع العارفون أن الخشوع محله القلب، و ثمرته الجوارح، و هي تظهره.
و قال النبي صلى الله عليه و سلم:" التقوى ها هنا ". و أشار إلى صدره ثلاث مرات. رواه مسلم
و قال بعض العارفين: حسن أدب الظاهر عنوان أدب الباطن.
و رأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين و البدن، فقال: يا فلان، الخشوع ها هنا-و أشار إلى صدره-لا هاهنا-و أشار إلى منكبيه-.
و كان بعض الصحابة و هو حذيفة، يقول: إياكم و خشوع النفاق، فقيل له: و ما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا، و القلب ليس بخاشع.
و رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا طأطأ رقبته في الصلاة، فقال: يا صاحب الرقبة، إرفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلب.
و رأت عائشة رضي الله عنها شبابا يمشون و يتماوتون في مشيتهم، فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ فقالوا: نساك. فقالت: كان عمر إذا مشى أسرع، و إذا قال أسمع،و إذا ضرب أوجع، و إذا أطعم أشبع، و كان هو الناسك حقا.
و الحق_يقول ابن القيم_أن الخشوع، معنى يلتئم من التعظيم، و المحبة، و الذل، و الإنكسار " مدارج السالكين لإبن القيم(1/520).
فإذا أثمر العلم في القلب خشية و خشوعا، فهذا هو العلم النافع الذي سأل النبي صلى الله عليه و سلم ربه سبحانه، و إذا لم يثمر العلم في القلب خشية و إخباتا، فهذا هو العلم الذي تعوذ النبي صلى الله عليه و سلم منه، و أمر الأمة أن تتعوذ بالله منه.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال:" هذا أوان يختلس فيه العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء ". فقال زياد بن لبيد الأنصاري: كيف يختلس منا، و قد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه، و لنقرأنه نساءنا و أبناءنا.
فقال: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة و الإنجيل عند اليهود و النصارى، فماذا تغني عنهم؟! ".
قال جبير بن نفير: فلقيت عبادة بن الصامت، قلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ فأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الناس، الخشوع، يوشك أت تدخل مسجد جماعة فلا ترى فيه رجلا خاشعا. صححه الألباني في صحيح الترمذي2653.
" فالعلم النافع: هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة و الخشية و الإخبات لله و التواضع و الإنكسار، و إذا لم يباشر القلب ذلك العلم، و إنما كان على اللسان، فهو حجة الله على ابن آدم يقوم على صاحبه و غيره.
كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، و لكن إذا وقع في القلب، فرسخ فيه نفع صاحبه.
و لهذا المعنى وصف الله سبحانه في كتابه العلماء بالخشية كما قال تعالى:
" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " فاطر68.
و قال " أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ* الْآخِرَ*ةَ وَيَرْ*جُو رَ*حْمَةَ رَ*بِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ* أُولُو الْأَلْبَابِ " الزمر9.
و وصف العلماء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع، كما قال تعالى:" قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّ*ونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ﴿١٠٧﴾ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَ*بِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَ*بِّنَا لَمَفْعُولًا ﴿١٠٨﴾ وَيَخِرُّ*ونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩ ﴿١٠٩﴾ " الإسراء108-109.
و قوله تعالى في وصف هؤلاء الذين أوتوا العلم:" فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ* اللَّـهِ ۚ أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿٢٢﴾ اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ* مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَ*بَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ* اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٢٣﴾ " الزمر22-23. و لين القلوب: هو زوال قساوتها لحدوث الخشوع فيها و الرقة.
و قد عاتب الله من لا يخشع قلبه لسماع كتاب الله و تدبره، قال تعالى:" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ* اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ " الحديد16.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا و بين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. أخرجه مسلم3068.
و قد سمع كثير من الصالحين هذه الآية تتلى فأثرت فيهم أثارا متعددة، فمنهم من مات عند ذلك لإنصداع قلبه بها، و منهم من تاب عند ذلك و خرج عما فيه.
و قال تعالى:" لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا الْقُرْ*آنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَ*أَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ " الحشر:21.
قال أبو عمران الجوني: و الله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لمحاها و دحاها.
و كان مالك بن دينار-رحمه الله-يقرأ هذه الآية ثم يقول: أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذه الآية إلا صدع قلبه ".
و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم يستعيذ بالله من قلب لا يخشع، كما قال في صحيح مسلم2722 عن زيد بن أرقم: أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول:" اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، و من قلب لا يخشع، و من نفس لا تشبع، و من دعوة لا يستجاب لها " الخشوع في الصلاة لإبن رجب الحنبلي(ص14).
قال أبو عمر رحمه الله في جامع بيان العلم (1/288):" قال يزيد بن قودر: يوشك أن ترى رجالا يطلبون العلم فيتغايرون عليه كما يتغاير الفساق على المرأة، ذلك حظهم منه ".
و أخرج بسنده عن سفيان الثوري قال: إنما يُتَعلم العلم ليتقى الله به، و إنما فضل العلم على غيره، لأنه يتقى الله به.
قال أبو الأسود الدؤلي رحمه الله:
يا أيها الرجل المعلم غيره...... ألا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام و ذي الضنى........ كيما يصح به و أنت سقيم
و أراك تلقح بالرشاد عقولنا........ أبدا و أنت من الرشاد عديم
إبدأ بنفسك فانهها عن غيها......... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يسمع ما تقول و يقتدى.......... بالعلم منك و ينفع التعليم
لا تنه عن خلق و تأتي مثله......... عار عليك إذا فعلت عظيم
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يزيدنا علما و أن ينفعنا بما علمنا و أن يجعلنا من عباده المتقين
تعليق