الكبر و العجب
إعزاز العلم و صيانته لا يعني الكبر بسببه، ولا العجب به.
الكبر و العجب خلقان مذمومان، يترفع عنهما آحاد المؤمنين فكيف بأهل العلم منهم؟! و قد ذم الله تعالى الكبر في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، فقال تعالى:" سَأَصْرِ*فُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُ*ونَ فِي الْأَرْ*ضِ بِغَيْرِ* الْحَقِّ وَإِن يَرَ*وْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَ*وْا سَبِيلَ الرُّ*شْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَ*وْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿١٤٦﴾ " الأعراف146.
و قال تعالى مخاطبا إبليس-لعنه الله-:" قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ* فِيهَا فَاخْرُ*جْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِ*ينَ ﴿١٣﴾ " الأعراف13.
و قال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُ*وا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِ*مِينَ ﴿٤٠﴾ " الأعراف40.
و قال تعالى:" كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ* جَبَّارٍ* ﴿٣٥﴾ " غافر35.
و الآيات في ذم الكبر و العجب كثيرة كثيرة، و أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم في هذا المعنى كثيرة أيضا و ضافية:
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" لا يدخلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ . قال رجلٌ : إنَّ الرَّجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً . قال : إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ . الكِبرُ بَطرُ الحقِّ وغمطُ النَّاسِ " صحيح مسلم91.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال:" بيْنما رجلٌ يمشِي في حُلَّةٍ تُعجِبُهُ نفسُهُ ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ ، إذْ خسَفَ اللهُ بهِ الأرْضَ ، فهو يتجلْجَلُ فيها إلى يومِ القيامَةِ " صحيح الجامع2875.
الكبر ظاهر و باطن:
< إعلم أن الكبر ينقسم إلى ظاهر و باطن، فالباطن هو خلق في النفس، و الظاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح، و اسم الكبر بالخلق الباطن أحق، أما الأعمال فإنها ثمرات لذلك الخلق.
و خلق الكبر موجب للأعمال، و لذلك إذا ظهر على الجوارح يقال: تكبّر، و إذا لم يظهر يقال: في نفسه كبر.
و لا يتصور أن يكون متكبرا إلا أن يكون مع غيره، و هو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبرا، و لا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبرا، فإنه قد يستعظم نفسه، و لكنه يرى غيره أعظم منه، أو مثل نفسه فلا يتكبر عليه.
ثم هذه العزة تقتضي أعمالا في الظاهر و الباطن هي ثمرات، و يسمى ذلك تكبرا.
فهو إن حاج أو ناظر أنف أن يرد عليه، و إن وعظ استنكف من القبول، و إن وعظ عنف في النصح، و إن رد عليه شيء من قوله غضب، و إن علّم لم يرفق بالمتعلمين و استذلهم و انتهرهم و امتن عليهم و استخدمهم، و ينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير، استجهالا لهم و احتقارا، و الأعمال الصادرة عن خلق الكبر كثيرة، و هي أكثر من أن تحصى فلا حاجة إلى تعدادها فإنها مشهورة.
فهذا هو الكبر، و آفته عظيمة، و غائلته هائلة، و فيه يهلك الخواص من الخلق، و كيف لا تعظم آفته و قد قال صلى الله عليه و سلم:" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " رواه مسلم.
الفرق بين الكبر و المهابة:
قد يلتبس الكبر بغيره مما ليس كبرا بل هو مشروع، و هناك فرق دقيق بين المهابة التي هي أثر من آثار الطاعة و القرب، والكبر الذي هو من أخص صفات إبليس لعنه الله.
قال ابن القيم رحمه الله:" الفرق بين المهابة و الكبر: أن المهابة أثر من آثار امتلاء القلب بعظمة الله و محبته و إجلاله، فإذا امتلأ القلب بذلك حل فيه النور، و نزلت عليه السكينة، و ألبس رداء الهيبة، فاكتسى وجهه الحلاوة و المهابة، فأخذ بمجامع القلوب محبة و مهابة، فحنت إليه الأفئدة و قرت به العيون و أنست به القلوب، فكلامه نور و مدخله نور و مخرجه نور و عمله نور، و إن سكت علاه الوقار، و إن تكلم أخذ بالقلوب و الأسماع.
و أما الكبر، فأثر من آثار العجب و البغي في قلب قد امتلأ بالجهل و الظلم، ترحلت منه العبودية، و نزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، و مشيه بينهم تبختر، و معاملته لهم معاملة الإستئثار لا الإيثار و لا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيها، لا يبدأ من لقيه بالسلام، و إن رد عليه، رأى أنه قد بالغ في الإنعام عليه، لا ينطلق لهم وجهه، و لا يسعهم خلقه، و لا يرى لأحد عليه حقا، و يرى حقوقه على الناس، و لا يرى فضلهم عليه، و يرى فضله عليهم، و لا يزداد من الله إلا بعدا و من الناس إلا صغارا و بغضا " (الروح) لإبن القيم ص316.
درجات العباد و العلماء في الكبر:
ثم إن العبّاد و العلماء ليسوا في الكبر سواء، بل هم فيه على درجات.
قال ابن قدامة رحمه الله:" إعلم أنّ العلماء و العباد في آفة الكبر على ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون الكبر مستقرا في قلب الإنسان منهم، فهو يرى نفسه خيرا من غيره، إلا أنه يجتهد و يتواضع، فهذا في قلبه شجرة الكبر مغروسة، إلا أنه قد قطع أغصانها.
الثانية: أن يظهر لك بأفعاله، من الترفع في المجالس، و التقدم على الأقران، و الإنكار على من يقصر في حقه، فترى العالم يصعر خده للناس، كأنه معرض عنهم، و العابد يعيش كأنه مستقذر لهم، و هذان قد جهلا ما أدب الله به نبيه صلى الله عليه و سلم حين قال:" و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " الشعراء215.
الثالثة: أن يظهر الكبر بلسانه، كالدعاوى و المفاخرة، و تزكية النفس، و حكايات الأحوال في معرض المفاخرة لغيره.
و اعلم أن التكبر يظهر في شمائل الإنسان، كصعر وجهه، و نظره شزرا، و إطراق رأسه، و جلوسه متربعا و متكئا، و في أقواله، حتى في صوته و نغمته، و صيغة إيراده الكلام، و يظهر ذلك أيضا في مشيه و تبختره، و قيامه و قعوده و حركاته و سكناته، و سائر تقلباته.
الكبر بالعلم:
ما به يتكبر المتكبر على غيره كثير، منه: العلم، ومنه: العمل و العبادة، و منه: الصورة الظاهرة من جمال و حسن هيئة.
< و الكبر بالعلم، هو من أعظم الآفات و أغلب الأدواء و أبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة و جهد جهيد، و ذلك لأنّ قدر العلم عظيم عند الله، عظيم عند الناس، و هو أعظم من قدر المال و الجمال و غيرهما، بل لا قدر لهما أصلا إلا إذا كان معهما علم و عمل.
و لذلك قال كعب الأحبار:" إن للعلم طغيانا كطغبان المال ".
و قال عمر رضي الله عنه:" العالم إذا زلّ زلّ بزلته عالَم " .
و لن يقدر العالم على دفع الكبر غلا بمعرفة أمرين:
أحدهما:أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد، و أنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم، فإن من عصى الله تعالى عن معرفة و علم فجنايته أفحش، إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم.
الأمر الثاني: أن العالم يعرف أن الكبر لا يليق إلا بالله عز و جل وحده، و أنه إذا تكبر صار ممقوتا عند الله بغيضا، و قد أحب الله منه أن يتواضع و قال له: إن لك عندي قدرا ما لم تر لنفسك قدرا، فإن رأيت لنفسك قدرا فلا قدر لك عندي، فلابد و أن يكلف نفسه ما يحبه مولاه منه.
الفرق بين الكبر والعجب:
< الكبر خلق باطن تصدرعنه أعمال هي ثمرته، فيظهر على الجوارح، و ذلك الخلق هو رؤية النفس على المتكبر عليه، يعني: يرى نفسه فوق غيره في صفات الكمال، فعند ذلك يكون متكبرا.
و بهذا ينفصل عن العجب، فإن العجب لا يستدعي غير المعجب، حتى لو قدر أن يخلق الإنسان وحده تصور أن يكون معجبا و لا يتصور أن يكون متكبرا، إلا أن يكون مع غيره و هو يرى نفسه فوقه، فإن الإنسان متى رأى نفسه بعين الإستعظام، حقر من دونه و ازدراه، و صفة هذا المتكبر أن ينظر إلى العامة كأنه ينظر إلى الحمير استجهالا و استحقارا > مختصر منهاج القاصدين291.
( و العجب يدعوا إلى الكبر، لأنه أحد أسبابه، فيتولد من العجب الكبر، و من الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى، و هذا مع الخلق.
و أما مع الله تعالى، فالعجب يدعو إلى نسيان الذنوب و إهمالها فبعض ذنوبه لا يذكرها و لا يتفقدها، لظنه أنه مستغن عن تفقدها فينساها، و ما يتذكره منها فيستصغره و لا يستعظمه، فلا يجتهد في تداركه أو تلافيه، بل يظن أنه يغفر له.
و أما العبادات و الأعمال فإنه يستعظمها و يتبجح بها، و يمن على الله تعالى بفعلها، و ينسى نعمة الله عليه بالتوفيق و التمكين منها، ثم إذا أعجب بها عمي عن آفاتها، و من لم يتفقد آفات الأعمال كان أكثر سعيه ضائعا، فإن الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية من الشوائب قلما تنفع و إنما يتفقد من يغلب عليه الإشفاق و الخوف دون العجب.
و المعجب يغتر بنفسه و برأيه، و يأمن مكر الله و عذابه، و يظن أنه عند الله بمكان، و أن له عند الله منة و حقا بأعماله التي هي نعمة من نعمه، و عطية من عطاياه، و يخرجه العجب إلى أن يثني على نفسه و يحمدها و يزكيها.
و إن أعجب برأيه و عمله و عقله منع ذلك من الإستفادة، و من الإستشارة و السؤال، فيستبد بنفسه و رأيه و يستنكف من سؤال من هو أعلم منه، و ربما يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره، و لا يفرح بخواطر غيره فيصر عليه، و لا يسمع نصح ناصح، و لا واعظ واعظ، بل ينظر إلى غيره بعين الإستجهال، و يصر على خطئه، فإن كان رأيه في أمر دنيوي فيخفق فيه، و إن كان في أمر ديني لا سيما فيما يتعلق بأصول العقائد فيهلك به.
و من أعظم آفاته أن يفتر في السعي، لظنه أنه قد فاز، و أنه استغنى، و هو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه ( تهذيب إحياء علوم الدين2/138.
تعليق