إذلال أهل العلم للعلم
لقد قعّد السلف رضوان الله عليهم قاعدة من القواعد الجامعة، فقالوا: " العلم يؤتى إليه، و لا يأتي إلى أحد ".
لما قدم هارون الرشيد –أمير المؤمنين-بعث إلى مالك فلم يأته، فقال له أبو يوسف: يبلغ أهل العراق أنك بعثت إلى مالك فلم يأتك، إبعث إليه من يأتيك به كرها، فبعث إليه الرشيد مرة ثانية، فأتاه مالك، فقال له الرشيد: يا بن أبي عامر، أبعث إليك فتخالفني! فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، قال: كنت أكتب الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فنزلت: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين " النساء95 .و ابن أم مكتوم عند النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا رسول الله إني رجل ضرير، و قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما قد علمت. فقال النبي صلى الله عليه و سلم:" لا أدري". و قلمي رطب ما جف، حتى وقع فخذ النبي صلى الله عليه و سلم على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله:" غير أولي الضرر" البخاري2677 . يا أمير المؤمنين، حرف واحد بعث به جبريل و الملائكة من مسيرة خمسة آلاف عام، ألا ينبغي أن أعزه وأجله؟.
إن الله تعالى رفعك و جعلك في هذا الموضع بعلمك، فلا تكن أول من يضع عز العلم فيضع الله عزك.
فقال له الرشيد: تأتينا حتى نتعلم عليك و نسمع منك.
قال : أصلحك الله، إن العلم يؤتى و لا يأتي، قال: نأتي و تمنع الناس حتى ننصرف. قال: إذا منع العلم من العامة من العلم لم ينفع الله به الخاصة و لا العامة.
قال له: فتقرأ علي إذا أتيت. قال له: ما قرأت على أحد منذ كذا و كذا، و لا أقرأ على أحد بعد ذلك. قال: فتجعل من يقرأ و نحن نسمع. قال: ذلك لك.
فذهب الرشيد إلى منزل مالك، و أجلس مالكا على المنصة التي يجلس عليها حتى يسمع الحديث، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، ما أدركت أهل بلدنا إلا و هم يحبون أن يتواضعوا لله، فنزل الرشيد على المنصة، و جلس بين يدي مالك رحمه الله، تواضعا لعلمه و انقيادا لقوله.
و هكذا ذهب الرشيد إلى منزل مالك، و تعلم منه، و سمع عليه، و كان القارىء معن ابن عيسى الفزاري. ( الإمام مالك ) للدكتور محمود عبد المتجلي ص50
ما كانت طائفة من طوائف الأمة أعز من العلماء يوما من الدهر، الملوك حكام على الناس، و العلماء حكام على الملوك، و كيف لا و عندهم ميراث النبوة، و سببهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم وثيق متين؟.
أخرج إبن عبد البر رحمه الله بسنده عن سفيان الثوري رحمه الله قال:" كان خيار الناس و أشرافهم المنظور إليهم في الدين، الذين يقومون إلى هؤلاء-يعني ولاة أمورهم-فيأمرونهم و ينهونهم، و كان آخرون يلزمون بيوتهم ليس عندهم ذلك، فكانوا لا ينتفع بهم و لا يذكرون، ثم بقينا حتى صار الذين يأتونهم فيأمرونهم شرار الناس، و الذين لزموا بيوتهم و لم يأتوهم خيار الناس ". جامع بيان العلم(1/184)
و معلوم أن كل فضيلة إنما هي وسط بين رذيلتين، و إعزاز العلم وسط بين إذلاله و التجبر به.
و قد تشتبه المهانة بالتواضع، و المذلة بالخشوع، كما قد يشتبه التكبر بالصيانة و التجبر بالإباء، فاحتاج الأمر إلى بيان و توضيح.
الفرق بين التواضع و المهانة:
قال ابن القيم:" الفرق بين التواضع و المهانة: أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه، و معرفة أسمائه و صفاته و نعوت جلاله و تعظيمه و محبته و إجلاله، و من معرفته بنفسه و تفاصيلها و عيوب عملها و آفاتها، فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع .
و هو: انكسار القلب لله، و خفض جناح الذل و الرحمة لعباده، فلا يرى له على أحد فضلا، و لا يرى له عند أحد حقا، بل يرى الفضل للناس عليه، و الحقوق لهم قبله، و هذا خلق إنما يعطيه الله عز و جل من يحبه و يكرمه و يقربه.
و أما المهانة: فهي الدناءة و الخسة، و بذل النفس و ابتذالها في نيل حظوظها و شهواتها، كتواضع السفَل في نيل شهواتهم، و تواضع المفعول به للفاعل، و تواضع طالب كل حظ لمن يرجوا نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع، و الله سبحانه يحب التواضع و يبغض الضعة و المهانة.
و في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم:" و أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، و لا يبغي أحد على أحد " رواه مسلم
والتواضع المحمود على نوعين:
النوع الأول: تواضع العبد عند أمر الله إمتثالا و عند نهيه اجتنابا، فإنّ النفس لطلب الراحة تتلكأ في أمره، فيبدوا منها إباء و شراد هربا من العبودية، و تثبت عند نهيه طلبا للظفربما منع منه، فإذا تواضع العبد نفسه لأمر الله و نهيه فقد تواضع للعبودية.
والنوع الثاني: تواضعه لعظمة الرب و جلاله، و خضوعه لعزته و كبريائه، فكلما شمخت نفسه ذكر عظمة الرب و تفرده بذلك و غضبه الشديد على من نازعه ذلك، فتواضعت إليه نفسه و انكسر لعظمة الله قلبه، و اطمأن لهيبته، و أخبت لسلطانه، فهذا غاية التواضع، و هو يستلزم الأول من غير عكس، و المتواضع حقيقة من رزق الأمرين. ’الروح’ لابن القيم(ص313)
و ليس أدل على عزة العلم و نفور العلماء من إذلاله من محنة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-.
فإن المسلمين ما زالوا على قانون السلف من أن القرآن كلام الله تعالى و وحيه و تنزيله غير مخلوق، حتى نبغت الجهمية و المعتزلة، فقالوا في صفات الله سبحانه ما قالوا، و قيل بخلق القرآن، و لكن مقالة تحت ستر ما دامت دولة الرشيد.
و قد كان الرشيد رحمه الله عندما بلغه أن بشر بن غياث يقول: القرآن مخلوق، قال: لله علي لإن أظفرني به لأقتلنه، فكان بشر متواريا أيام الرشيد، فلما مات ظهر بشر و دعا إلى الضلالة.
قال الذهبي:" ثم إن المأمون نظر في الكلام، و باحث المعتزلة، و بقي يقدم رجلا و يؤخر أخرى في دعاء الناس إلى القول بخلق القرآن، إلى أن قوي عزمه على ذلك في السنة التي مات فيها.
قال صالح بن أحمد بن حنبل: حمل أبي و محمد بن نوح مقيدين، فسرنا معهما إلى الأنبار، فسأل أبو بكر الأحول أبي، فقال: يا أبا عبد الله، إن عرضت على السيف تجيب؟قال: لا. ثم سيرا، فسمعت أبي يقول: صرنا إلى الرحبة و رحلنا منها، و ذلك في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟فقيل له: هذا.فقال للجمال: على رسلك. ثم قال: يا هذا، ما عليك أم تقتل هاهنا و تدخل الجنة. ثم قال: أستودعك الله. و مضى.
و مكث أحمد في السجن نحوا من ثلاثين شهرا، ثم دعي بين يدي المعتصم، قال صالح بن أحمد: فجعل أحمد بن أبي دواد ينظر إلى أبي كالمغضب، قال أبي: و كان هذا يتكلم فأرد عليه، و يتكلم هذا فأرد عليه، فإذا انقطع ابن أبي دواد فيقول: يا أمير المؤمنين، هو و الله ضال مبتدع . فيقول: كلموه، ناظروه. فيكلمني هذا فأرد عليه، و يكلمني هذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقول لي المعتصم: ويحك يا أحمد، ما تقول؟فأقول: يا أمير المؤمنين، أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله حتى أقول به.
و أمر المعتصم بضرب الإمام،فجلد حتى فقد وعيه رحمه الله
لقد ثبت أحمد حتى استحق الإمامة فأصبحت علما عليه، فإذا ذكر الإمام انصرف اللفظ إليه، و ما كان أحمد إماما بإذلاله لعلمه أمام جبروت السلطة الغاشمة، و إنما بإعزاز علمه و إعزاز المحل الذي أحله الله فيه، فرحمة الله على الإمام أحمد.
ومن صيانة أهل العلم له ما رواه الخطيب رحمه الله تعالى بسنده عن حمدان بن الأصبهاني قال:" كنت عند شريك، فأتاه بعض ولد المهدي، فاستند إلى الحائط، و سأله عن حديث، فلم يلتفت إليه، فأعاد عليه، فلم يلتفت إليه، فقال: كأنك تستخف بأولاد الخلافة. قال: لا، و لكن العلم أزين عند أهله من أن يضيعوه. قال: فجثا على ركبتيه، ثم سأله، فقال شريك: هكذا يطلب العلم "
و أخرج الخطيب أيضا عن إبراهيم بن إسحاق الحربي قال:" كان عطاء بن أبي رباح عبدا أسودا لإمرأة من مكة، و كان أنفه كأنه باقلاه.
قال: و جاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو و ابناه فجلسوا إليه و هو يصلي، فلما صلى انفتل إليهم، فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج، و قد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان لإبنيه: قوما. فقاما. و قال: يا ابنيَ، لا تنيا في طلب العلم، فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود " الفقيه و المتفقه للخطيب البغدادي(1/31)
و من أجود ما جادت به قرائح أهل العلم و الأدب في بيان صيانة أهل العلم للعلم و رعايتهم جانبه، و ركونهم إلى صرح عزه: قصيدة القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني رحمه الله، و هي قصيدة عصماء في وصف العالم الأبي،و الإعتزاز بالعلم،و سمو الهمة:
يقولون لي فيك انقباض و إنما............رأوا رجلا عن موطن الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم.............و من أكرمته عزة النفس أكرما
و لم أقض حق العلم إن كان كلما..............بدا مطمع صيرته لي سلما
و ما زلت منحازا بعرضي جانبا..............عن الذل أعتد الصيانة مغنما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى..............و لكن نفس الحر تحتمل الظما
أنزهها عن بعض ما لا يشينها...............مخافة أقوال العدا: فيم أو لما؟
فأصبح عن عيب اللئيم مسلما..............و قد رحت في نفس الكريم معظما
و إني إذا فاتني الأمر لم أبت...............أقلب كفي إثره متندما
و لكنه إن جاء عفوا قبلته.................و إن مال لم أتبعه: هلا وليتما
و أقبض خطوي عن حظوظ كثيرة...............إذا لم أنلها وافر العرض مكرما
و أكرم نفسي أن أضاحك عابسا................و أن أتلقى بالمديح مذمما
و كم طالب رقي بنعماه لم يصل.................إليه و إن كان الرئيس المعظما
و كم نعمة كانت على الحر نقمة...............و كم مغنم يعتده الحر مغرما
و لم أبتذل في خدمة العلم مهجتي...............لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا و أجنيه ذلة...............إذن فاتباع الجهل كان أحزما
و إني لراض عن فتى متعفف...............يروح و يغدوا ليس يملك درهما
يبيت يراعي النجم من سوء حاله...............و يصبح طلقا ضاحكا متبسما
و لا يسأل المثرين ما بأكفهم...................و لو مات جوعا عفة و تكرما
فإن قلت:زند العلم كاب، فإنما...............كبا حين لم تحرس حماه و أظلما
و لو أن أهل العلم صانوه صانهم...............و لو عظموه في النفوس لعظَما
و لكن أهانوه فهانوا و دنسوا...............محياه بالأطماع حتى تجهما
و ما كل برق لاح لي يستفزني...............و لا كل من لاقيت أرضاه منعما
و لكن إذا ما اضطرني الضر لم أبت...............أقلب فكري منجدا ثم متهما
إلى أن أرى ما لا أغص بذكره...............إذا قلت: قد أسدى إلي و أنعما
و في مقابل هذه الصور المشرقة، صور مظلمة حالكة السواد، لقوم من أهل العلم حملتهم خسة مكاسب الدنيا على نسيان أمثال نصيحة أبي حنيفة فأهلكوا أنفسهم و ما كانوا يشعرون.
قال أبو حنيفة رحمه الله:" كن من السلطان كما أنت من النار، تنتفع منها و تتباعد عنها،و لا تدن منها فإنها تحرقك ".
من أمثلة ذلك ما فعله غياث بن إبراهيم حين دخل على الخليفة المهدي و هو يلعب بالحمام فساق في الحال إسنادا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال:" لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر ". و زاد فيه:" أو جناح ". فعرف المهدي أنه كذب لأجله، فأمر بذبح الحمام.
و أما أولو العزم من أهل العلم فإنهم لا تذل رقابهم و لا قلوبهم إلا لله تعالى وحده، يعز بهم العلم، و به يعزون، و يصان بهم و به يصانون.
يقول الشافعي رحمه الله ناصحا و مرشدا و أرفق به من ناصح مرشد، فعليك بها، فإنها نفيسة غالية:
إرحل بنفسك عن أرض تضام بها..............و لا تكن من فراق الأهل في حرق
و الكحل نوع من الأحجار تنظره.............في أرضه و هو مرمي على الطرق
لما تغرب حاز الفضل أجمعه...............فصار يحمل بين الجفن و الحدق
اللهم إنا نسألك العلم النافع و العمل الصالح و الغنيمة من كل بر و السلامة من كل إثم إنك سميع قريب مجيب
تعليق