الدعوى في العلم
العلم منحة من الله عز و جل لأصحاب القلوب النقية الذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا.
و هو محنة للذين يبتغون بأعمالهم غير وجه الله تعالى و يريدون بسعيهم غير مقصده، لذلك تكثر منهم الدعاوي و يتأتى منهم الفخر، و لو فطنوا لعادوا إلى أنفسهم فعلموا أن الأمر كله لله، و أن الله أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، ثم هو علمهم بما جعل لهم من أدوات العلم، و بما رزقهم من منحة الفهم، و بما منَ عليهم بعد ذلك من تذليل للعوائق القائمة في سبيل الطلب، و من صرف للموانع الشاغلة عن التحصيل.
ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي يدركون به و الأبصار التي بها يحسون المرئيات، و الأفئدة و هي العقول و هذه القوى، و الحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زيد في سمعه و بصره و عقله حتى يبلغ أشده.
و إنما جعل الله تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى، فيستعين بكل جارحة و عضو و قوة على طاعة مولاه (تفسير القرآن العظيم)
فينبغي للمسلم أن يزداد قربا من ربه كلما ازداد علما، و هذا من باب أدب العالم، و حقيق به أن يكون كذلك، إذ العلم داعية إلى الخضوع لله، و ترك الدعوى،و عدم ذوق طعم النفس.
قال تعالى:
"و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون" النحل 78
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: من أدب العالم ترك الدعوى لما لا يحسنه، و ترك الفخر بما يحسنه، إلا أن يضطر إلى ذلك، كما إضطر يوسف عليه السلام حين قال:" إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " يوسف 55
روى مسلم عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة و كلت إليها، و إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها " رواه البخاري 6248
و قد أدب الله تعالى نبيه و كليمه منه إليه، موسى عليه السلام بالأدب العالي الشريف، و عتب عليه أنه لم يرد العلم إليه فكان من شأنه و شأن الخضر ما قصه الله تعالى في كتابه، و بينه النبي صلى الله عليه و سلم ببيانه.
و قد كان علمائنا السابقون رحمهم الله أبر الناس قلوبا و أوسعهم حلما، و أغزرهم علما، و ما كان أحدهم يستحي أن يقول لما لا يعلمه: لا أعلمه، و لا لما لا يدريه: لا أدريه، كيف و الملائكة لم تستح أن تقول لما لم تعلم:"سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" البقرة 32
أخرج إبن عبد البر رحمه الله بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال:" كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله، جئتك من مسيرة ستة أشهر، حملني أهل بلدي مسألة أسألك عنها، قال:سل، فسأله الرجل عن المسألة فقال: لا أحسنها، قال: فبهت الرجل كأنه قد جاء إلى من يعلم كل شيء، فقال: أي شيء أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟ قال: تقول لهم: قال مالك : لا أحسن.
و قال إبن وهب: سمعت مالكا و ذكر قول القاسم بن محمد: لأن يعيش الرجل جاهلا خير من أن يقول على الله ما لا يعلم، ثم قال: هذا أبو بكر الصديق، و قد خصه الله بما خصه من الفضل، يقول: لا أدري.
و قال إبن وهب: حدثني مالك قال: و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إمام المسلمين،و سيد العالمين، يسأل عن الشيء فلا يجيب حتة يأتيه الوحي.
و عن عبد الرزاق قال: قال مالك: كان إبن عباس يقول: إذا أخطأ العالم:"لا أدري" أصيبت مقاتلته جامع بيان العلم (53/2)
فهذا شأن العلماء من سلف الأمة، في ترك الدعوى لما لا يحسنونه، و في هضم النفس، و بذل النصح، حتى إن الشافعي رحمه الله يقول: ما ناظرت أحدا فأحببت أن يخطىء، و ما في قلبي من علم، إلا وددت أنه عند كل أحد، و لا ينسب إلي.
و عن الربيع قال: سمعت الشافعي، و دخلت عليه و هو مريض، فذكر ما وضع من كتبه، فقال: لوددت أن الخلق تعلمه و لم ينسب إلي منه شيء أبدا.
و عن حرملة إبن يحي قال: سمعت الشافعي يقول: " وددت أن كل علم أعلمه، تعلمه الناس، أوجر عليه و لا يحمدونني " آداب الشافعي و مناقبه(ص91)
و قد توعد النبي صلى الله عليه و سلم أهل الدعوى في العلم و القرآن بالنار، و بئس القرار، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحار، و حتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرؤون القرآن، يقولون: من أقرأ منا؟ من أعلم منا؟ من أفقه منا؟ " ثم قال لأصحابه: " هل في أولئك من خير؟ ". قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: " أولئك منكم من هذه الأمة، و أولئك هم وقود النار " حسنه الألباني في صحيح الترغيب و الترهيب(58/1)
قال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي:
متى يصل العطاش إلى إرتواء.....................إذا إستقت البحار من الركايا
و من يثني الأصاغر عن مراد.........................إذا جلس الكابر في الزوايا
و إن ترفُع الوضعاء يوما......................على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا إستوت الأسافل و الأعالي.....................فقد طابت منادمة المنايا
و قال أبو الحسن الفالي:
لما تبدلت المجالس أوجها...................غير الذي عهدته من علمائها
و رأيتها محفوفة بسوى الألى....................كانوا و لاة صدورها و فنائها
أنشدت بيتا سائرا متقدما.....................و العين قد شرقت بجاري مائها
و قال الفالي أيضا:
تصدر للتدريس كل مهوس................بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا....................ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزلها.................كلاها و حتى سامها كل مفلس
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم الثبات على دينه و الإخلاص في القصد و العمل و نعوذ به من الدعوى و الرياء و القول عليه بغير علم
و الحمد لله رب العالمين
تعليق