القول على الله بغير علم
القول على الله بغير علم هو عين الكذب عليه تعالى، و لم يبح الله عز و جل لأحد أن يتقول عليه، و لا أن يرفع إليه ما لم يقله، حتى قال عن صفيه و خليله محمد صلى الله عليه و سلم و قد عصمه:
"و لو تقول علينا بعض الأقاويل(44) لأخذنا منه باليمين(45) ثم لقطعنا منه الوتين(46)فما منكم من أحد عنه بحاجزين" الحاقة [44_47]
و المعنى في هذا :بل هو بار صادق راشد،لأن الله تعالى مقرر له يبلغه عنه و مؤيد له بالمعجزات الباهرات و الدلالات القاطعات (تفسير القرآن العظيم لإبن كثير 410/4 )
و قال الزمخشري: المعنى: لو ادعى علينا شيئا لم نقله لقتلناه صبرا،كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم، معاجلة بالسخط و الإنتقام، فصور قتل الصبر بصورته ليكون أهول، و هو أن يؤخذ بيده، و تضرب رقبته، و خص اليمين عن اليسار، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، و إذا أراد أن يوقعه في جيده و أن يكفحه بالسيف، و هو أشد على المصبور لنظره إلى السيف، أخذ بيمينه.
و قال تعالى:
"و من أظلم ممن إفترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق و كنتم عن آياته تستكبرون"
الأنعام 93
قال القرطبي رحمه الله: " و من هذا النمط من أعرض عن الفقه و السنن و ما كان عليه السلف من السنن فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا، فيحكمون بما يقع في قلوبهم و يغلب عليهم من خواطرهم، و يزعمون أن ذلك لصفائها من الأكدار و خلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية و الحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكليات و يعلمون أحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، و يقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة، إنما يحكم بها على الأغبياء و العامة، و أما الأولياء و أهل الخصوص، فلا يحتاجون لتلك النصوص " الجامع لأحكام القرآن (41/8)
و قال السعدي رحمه الله:" يقول تعالى: لا أحد أعظم ظلما و لا أكبر حرما ممن كذب على الله بأن نسب إليه قولا أو حكما و هو تعالى بريء منه، و إنما كان هذا أظلم الخلق، لأن فيه من الكذب و تغيير الأديان أصولها و فروعها و نسبة ذلك إلى الله تعالى ما هو من أكبر المفاسد " تيسير الكريم الرحمان 226
و قال تعالى:
" و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون(116)متاع قليل ثم و لهم عذاب أليم " النحل 116_117
قال إبن كثير رحمه الله: نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا و حرموا بمجرد ما وصفوه و اصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم.
و يدخل في هذا كل من إبتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه أو تشهيه، ثم توعد على ذلك فقال:" إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون" أي في الدنيا و الآخرة.
و يدخل في الكذب على الله تعالى و القول عليه بلا علم: الكذب على رسوله صلى الله عليه و سلم لأن النبي صلى الله عليه و سلم لا ينطق عن الهوى، و إنما هو مبلغ عن ربه سبحانه، فمن كذب على النبي صلى الله عليه و سلم فكأنما كذب على الله تعالى.
و قد حذر النبي صلى الله عليه و سلم من الكذب عليه، و بين أن الكذب عليه صلى الله عليه و سلم ليس كالكذب على غيره، لأن الكذب عليه صلى الله عليه و سلم يجعل دينا ما ليس بدين و ينفي عن الدين ما هو منه، و يحل الحرام و يحرم الحلال و كفى بذلك إثما مبينا و إفكا عظيما.
قال صلى الله عليه و سلم فيما يرويه عنه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه:
" إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار "
متفق عليه
و قد إغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب و الترهيب و قالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، و ما دروا أن تقويله صلى الله عليه و سلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أم في الندب، و كذا مقابلهما و هو الحرام و المكروه.
قال تعالى:
" قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون " الأعراف (33)
فرتب المحرمات أربع مراتب، و بدأ بأسهلها و هي الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريما منه و هو الإثم و الظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريما منهما و هو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريما من ذلك كله و هو القول على الله بلا علم و هذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه و صفاته و أفعاله و في دينه و شرعه.
قال إبن القيم رحمه الله: " القول على الله بلا علم هو أشد هذه المحرمات تحريما، و أعظمها إثما، و لهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي إتفقت عليها الشرائع و الأديان و لا تباح بحال، بل لا تكون إلا محرمة، و ليست كالميتة و الدم و لحم الخنزير، الذي يباح في حال دون حال.
فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه، و لا أشد إثما و هو أصل الشرك و الكفر و عليه أسست البدع و الضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم.
و لهذا إشتد نكير السلف و الأئمة لها و صاحوا بأهلها من أقطار الأرض، و حذروا فتنتهم أشد التحذير، و بالغوا في ذلك ما لم يبالغوا مثله في إنكار الفواحش و الظلم و العدوان، إذ مضرة البدع و منافاتها له أشد.
قال بعض السلف: " ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا و حرم الله كذا، فيقول الله: كذبت، لم أحل هذا، و لم أحرم هذا.
يعني التحليل و التحريم بالرأي المجرد، بلا برهان من الله و رسوله و أصل الشرك و الكفر: هو القول على الله بلا علم، فإن المشرك يزعم أن من إتخذه معبودا من دون الله يقربه إلى الله و يشفع عنده، و يقضي حاجته بواسطته، كما تكون الوسائط عند الملوك، فكل مشرك قائل على الله بلا علم دون العكس، إذ القول على الله بلا علم قد يتضمن التعطيل و الإبتداع في دين الله، فهو أعم من الشرك، و الشرك فرد من أفراده.
فذنوب أهل البدع كلها داخلة تحت هذا الجنس، فلا تتحقق التوبة منه إلا بالتوبة من البدع، و أنى بالتوبة منها لمن لم يعلم أنها بدعة، أو يظنها سنة، فهو يدعوا إليها، و يحض عليها؟ فلا تنكشف لهذا ذنوبه التي تجب عليه التوبة منها إلا بتضلعه من السنة، و كثرة إطلاعه عليها، و دوام البحث عنها و التفتيش عليها، و لا ترى صاحب بدعة كذلك أبدا " مدارج السالكين لإبن القيم(376/1)
قال سبحانه:
" و لا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال و هذا حرام لتفتروا على الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون(116)متاع قليل و لهم عذاب أليم " النحل [116-117]
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه و قولهم لما لم يحرمه: هذا حرام، و لما لم يحله: هذا حلال، و هذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال و هذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله و حرمه.
و قد نهى النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح أميره بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم الله، و قال: " فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا، و لكن أنزلهم على حكمك و حكم أصحابك " رواه مسلم(1731)
فتأمل كيف فرق بين حكم الله و حكم الأمير المجتهد، و قد نهى أن يسمى حكم المجتهدين حكم الله.
و من هذا لما كتب الكاتب بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حكما حكم به، فقال: هذا ما أرى الله عمر أمير المؤمنين.فقال: لا تقل هكذا، و لكن قل: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
و قال إبن وهب:سمعت مالكا يقول: لم يكن من أمر الناس و لا من مضى من سلفنا و لا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال و هذا حرام،و ما كانوا يجترؤون على ذلك. و إنما كانوا يقولون: نكره هذا، و نرى هذا حسنا، فينبغي هذا.
قال سبحانه:
" قل أرءيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل ءاالله أذن لكم أم على الله تفترون " يونس59
و قال الشيخ حامد الفقي رحمه الله في هذا المعنى نفسه: " إن أول خطوة إلى الشرك: هي القول على الله بلا علم، و ذلك بزعم أن الله سبحانه، قد سد باب الفقه في كلامه و رسالة رسله على العامة، و فتحه لطائفة خاصة أو لقلة من الناس، زعموهم رجال الدين المحتكرين له صناعة، و أن فرضا على العامة تقليد هؤلاء بلا علم و لا بصيرة في الدين، فلما زين الشيطان لهم هذا، و قبلوه، أثمر إتخاذ أحبارهم و رهباهم أربابا من دون الله، فشرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله و سووهم برب العالمين في حق التشريع لما يصلح الناس و يهديهم في معاشهم و معادهم التي هي أقوم.
و ما زالوا يقولون في الله و على الله بلا علم حتى إعتقدوا لبعض البشر القداسة الذاتية، و أن فيهم شيئا من خواص الرب و صفاته سبحانه، سماه الشيطان لهم نورا.
فأثمر ذلك إتخاذ موتاهم أولياء من دون الله، يقيمون على قبورهم و آثارهم القباب و الأصنام و الأوثان، يعبدونهم من دون الله بجميع أنواع العبادات التي شرعها لهم أربابهم من الأحبار و الرهبان، فهما متلازمان.
و الطريق تبدأ من التقليد الأعمى للآباء و الشيوخ، و إستحسان الرأي و الهوى و تمشي حتى تروج البدع، ثم القول في الله و على الله بغير علم، ثم إتخاذ الموتى آلهة من دونه، و أبناءه لأنهم نور إنبثق منه، فتعطيهم من القلوب و الأعمال ما لا يليق إلا بالقوي العزيز". مدارج السالكين ص373
نسأل الله أن يبصرنا بديننا الحق و أن يجعل لنا نورا نمشي به في الأرض إلى يوم نلقاه إنه سميع قريب مجيب
تعليق