في مقال سابق كتبت عن الإعلام التغريبي والاغتيال الثقافي.. وألمحت إلى أن غرض الإعلام التغريبي (الغربي القادم من الغرب أصلا، أو الإعلام العربي الداخلي الذي يحمل نفس الهدف) غرضهما هو الترويج للنموذج الغربي والعمل على تعميقه في فكر الدول والشعوب المستهدفة
وأن عملية القصف الإعلامي هي عملية اغتيال ثقافي تنتهي بهدم مقومات بلادنا وهدم مبادئنا وإحلال مبادئ أخرى مكانها لا تناسب ديننا أو فكرنا أو ثقافتنا، عاقبتها انهيار قوانا وانقطاع الطريق بنا، فلا نحن أدركنا الغرب؛ لأن طريقته لا تناسبنا، ولا نحن بقينا على أخلاقنا وديننا.. خسرنا الدنيا والآخرة.
الشباب أول المستهدفين:
وعملية الاغتيال الثقافي والهدم القيمي أول من يصطلي بجحيمها ويكتوي بنارها هم شباب أمتنا؛ لأنهم، أولا: أكثر وأسرع الباحثين عن الجديد والغريب.. وثانيا: لأنهم أهم الفئات المستهدفة من هذا القصف.. وبتأثرهم ستتأثر بلادهم؛ إذ هم قوة اليوم، وأمل الغد، وقادة المستقبل.
والحق الواضح بلا مواربة أن أبناءنا قد وقعوا فعلا تحت القصف، وأسفرت كثرة الطـَرْقِ على الأبواب عن فتح كثير منها، وتخطي كثير من الحدود أو لم تعد هناك حدود أصلا.
وقد ركز الإعلام التغريبي ضد الشباب على محاور خطيرة ومؤثرة ومضمونة الثمرة ، سارت جميعها متوازية ومتزامنة تخدم فكرة معينة وتسعى لتحقيق هدف واضح معلوم وهو تحطيم الشباب المسلم ونزع هويته وتغيير ثقافته..
وقد كان من أهم هذه المحاور:
نزع الهوية:
وذلك بقطع الصلة بين الشباب وبين تاريخه الإسلامي العظيم، وقطع العلاقة بينه وبين قدواته الحقيقية، ونقل الانتماءات والولاءات من أن تكون على العقيدة والدين لتكون على الحضارات القديمة والنزعات القومية والعرقية والحزبية الضيقة..
فالإعلام لا يتوقف عن الطعن في تاريخ الأمة الإسلامية وبضراوة شديدة، والطعن صراحة أو خفاء ـ حسب الحال ـ في الدين وثوابته، ومحاولة النيل من الخلافة الإسلامية على مدار التاريخ.. في الوقت الذي يحاول أن يحيي النعرات القديمة الفرعونية والآشورية والبابلية والسبأية.. أو إثارة النعرات القومية العربية والفارسية والكردية والتركية.. أو حتى ما هو أضيق فيكون الولاء والمحبة على الأرض والوطن دون العقيدة والدين.
وإعلامنا لا يقدم لنا رموزا إلا المطعون في دينها، أو الفارغة التي لا قيمة لها ولا وزن، ولا أثر لها ولا دور.. وحتى الأعمال الدرامية فلا مجال فيها للإسلامي إلا النادر المشوه تمام التشويه.
والنتيجة شباب يعرف أسماء الممثلين والممثلات واللاعبين واللاهين أكثر مما يعرف من أسماء الصحابة والتابعين، أو حتى أمهات المؤمنين.. فضلا عن أن يعرف تاريخ بطولات وأمجاد أمته وغزوات رسوله، وحروب ومآثر قادته العظام.
التسطيح الفكري للشباب:
فكان اختيار المادة الإعلامية بعناية شديدة بحيث تعتمد على مبدأ شد الانتباه من خلال البريق والإبهار لخطف الأبصار والسرعة والإتقان مما يستأثر بنظر المشاهد ويأسره، ولكنها في ذات الوقت خالية عن أي مضمون هادف أو قيمة حقيقية، وإنما رسائل سطحية في ذاتها ومسطحة لفكر المشاهد؛ ولذلك كانت صناعة الترفيه هي أهم ما تقدمه هذه المواد، الأفلام، المسلسلات، الرياضة وأخبار الممثلين والرياضيين وأهل الفن، وأكثر المادة المقدمة تعتمد على الخرافات أو الغثاثة والركاكة، ومخاطبة العواطف أكثر من مخاطبة العقول، واستغلال الانفعالات البشرية.. مع التركيز على الأمور الثانوية في المعروض وإهمال المهمات والأولويات.. وما يشبه هذا..
فإذا أدمن الشاب مشاهدة مثل هذه البرامج وتلك المشاهد يعزف ـ شيئا فشيئا ـ عن متابعة كل جاد وهادف، وتخمد في نفسه كل دعوة لعلو همة أو جليل عمل.
تأجيج الشهوات وإذكاء الانحراف السلوكي لدى الشباب المسلم:
والبرامج التلفزيونية الغربية المستوردة مليئة بهذا الفحش، وعرض المشاهد الفاضحة والعلاقات الجنسية ونشر الإباحية مع البحث عن مبررات لها حتى لا يشعر المقترف للخطأ بذنبه. وبلغ الإفراط في عرض مثل هذا أن ضج بعض الغربيين أنفسهم خوفا على صغار أولادهم، ولو في بعض مراحل عمرهم.
والعجيب أن يتلقف إعلامنا هذه البرامج ويستنسخها لنا ويعرضها بصورة أكثر ابتذالا أحيانا، دون النظر لاختلاف الثقافات، وتفاوت الأخلاق، وتباين الأديان.
ومما لا يشك فيه ذو عقل أن عرض هذه المثيرات وتلك المناظر أمام الشباب والمراهقين يترك الشباب الذي فيه خير في اضطراب داخلي وصراع شديد بين ما تربى عليه من مبادئه وبين ما يراه وتدعوه إليه غريزته، كما أنه يمثل دافعا كبيرا عند البعض للانحراف والانزلاق في مهاوي الفساد وأوحال الضلال والدخول في تيه الجريمة والإدمان..
وهذا هو المطلوب.. شباب لا يعرف إلا الشهوة، ولا يفكر إلا في النزوات والبحث عنها وكيفية الوصول إليها.. فماذا نريد من مثل هذا؟ وبماذا يمكن أن ينفع دينه ووطنه وأمته؟!
الإغراق في الفكر المادي:
وسلخ الجيل عن الروحانيات، فالإعلام يصب في خانة واحدة هي الدنيا، بالتركيز على الإعلانات التجارية عن أحدث المنتجات، وأحدث الموضات، وأفضل المتنزهات، وأجمل الشاليهات.. وأخبار عن الأثرياء ورجال الأعمال وأغلى المقتنيات.. كل هذا يعرض بطريقة تدعو المشاهد وتغري الفرد على اقتنائها، والسعي في تحصيلها وتدفعه حثيثا للبحث عن الدرهم والدينار بأي شكل وبأي طريق، في تنافس لكنه ليس بشريف، وإنما انتزاع ما يمكن انتزاعه، وامتلاك أكثر مما يمتلكه غيره، ليعيش مثل هؤلاء، وليحيى حياة البشر كما يقولون.
وفي ذات الوقت يبث هذا الإعلام فينا رسالة بأننا أمة مستهلكة وغير منتجة، فنوجه إلى الاستهلاك دون الإنتاج مما يحقق لهم الربح على حسابنا.
ولا نكاد نرى في هذا الإعلام أحدا يتحدث عن الآخرة وما أعد الله لأهل الإيمان في الجنة، ولا ما بعد الموت من حساب وعقاب، ونعيم وعذاب، وضبط الحياة بضوابط الشرع والدين.. فإن وجد برنامج ديني فوقته في الوقت الميت(dead time) حيث لا مشاهدة.. ثم طريقة عرض عدمها أولى منها، فهي تنفر ولا تبشر، وتبغض ولا تحبب، وتعسر ولا تيسر، وتثير الشفقة على الدين وأصحابه أكثر مما تثير المحبة له ولأهله.. والسبب أنها تقدم بطريقة مغرضة في أكثر أحوالها كما هو مشاهد ومعلوم.
وهكذا يربي الإعلام في المسلم نزعة اللهاث وراء بريق الدنيا، ويلهيه عن ذكر الله والدار الآخرة وتزكية النفس والروح مما يؤدي في النهاية إلى فقدان المجتمع لمقوم أساسي من مقومات قيامه وتقدمه وهو الشباب الزكي الطاهر الذي يصلح الدنيا بالدين، ويملك الدنيا ليشتري بها الآخرة.
والعلاج:
ـ البحث عن الطرق التي يمكن من خلالها توعية الشباب والجيل كله إلى أهمية التمسك بهويته، وإلى إحياء الحس الديني والارتباط بين الشباب وتاريخه الإسلامي المجيد، والحديث عن أمجاد الإسلام وبطولاته.
ـ ربط الشباب برجالات الإسلام العظام أصحاب الهمم العالية والآثار الطيبة في العلم والدعوة والجهاد والعبادة..
ـ شغل أوقات الشباب في أعمال الخير وخطفهم من أمام الشاشات بالبرامج العملية، وتكليفهم بمهام تتوافق مع قدراتهم؛ فإنهم إن لم ينشغلوا بالحق فسيشغلهم الشيطان بالباطل.
ـ ومن المهم جدا البحث عن الإعلام البديل، وتطوير صناعة الإعلام الإسلامي لمجابهة هذا الضغط الرهيب، وليجد الشباب فيها ما يوافق قيمه ويحقق رغباته.
إن صناعة الإعلام الإسلامي متأخرة جدا إذا لم تكن متخلفة؛ ولهذا فهي وإن كانت تحمل نبل الهدف لكنها لا تملك جمال البضاعة وأسلوب العرض الجذاب الذي يجعل أفئدة المشاهدين تهوي إليهم.. وهذا يدعونا إلى وقفة طويلة لإيجاد حلول لهذه المعضلة والخروج برسالة إعلامية تتناسب مع عظمة المسؤولية التي نحملها. ومقدار الخطر الذي يتهدد شبابنا ويتهدد أمتنا إذا فقدنا هذا الشباب.
ونحن هنا ننادي كل رجال المال والأعمال والغيورين على الإسلام إلى الاستثمار في هذا الباب، لأنه من أعظم أبواب الاستثمار وهو من الجهاد بالقلم والبنان واللسان.. لعلنا في يوم من الأيام نتمكن من تصدير إعلام هادف إلى أبناءنا والغرب بدلا من استيراد هذا الإعلام الهابط والهدام.
تعليق