إن هذا العنوان قد يثير أعصاب الكثير من الشباب ؛ لأنهم يغمضون أعينهم عن المستقبل الذي ينتظرهم مؤكدين لأنفسهم أنهم سيظلون في طور الشباب إلى الأبد، وبأن الشيخوخة لن تعرف إلى كيانهم سبيلاً، ذلك أن الإنسان هو الكائن الذي يستطيع أن يقنع نفسه بحقيقة وواقع ما يرغب فيه.
بيد أن الشباب يجب أن يكون واقعياً و يخفف من غلوائه، وأن يجعل الغد قبل اليوم نصب عينيه لكي لا يرتمي في اليأس كما يفعل القانطون.
وإنني أرمي هنا إلى واقعية يستعين بها الشباب كخطة للحياة كي يجد في شيخوخته ابتسامة حلوة كتلك التي ترتسم اليوم على وجهه في شبابه اليافع.
وهناك في الواقع العديد من الجوانب المهمة في الحياة يتوجب على الشباب الاهتمام بها، ومن أهمها: الجانب المادي، والجانب الصحي، والجانب العقلي، الجانب الثقافي، والجانب النفسي، والجانب الاجتماعي، والجانب الأسري.
أما بخصوص الجانب المادي فلن أطيل، واكتفي بقول" إن من لا يعمل لغده ولا يعيش إلا ليومه لا يمكن درجه في قائمة المتحضرين".
فلا بد من النظر إلى الأمام والحرص على توفير مستقبل أكثر ضماناً من الحاضر، وألا يقنع الشخص بما يوفره له الحاضر من إمكانات، بل لا بد له من استثمار إمكانات الحاضر المالية، لكي تتفتق عن ثمار سهلة في المستقبل، على أن الجانب المادي لا يعتبر من أهم الجوانب في الواقع في قضية الادخار للمستقبل، أو لعل الجانب الصحي للشخص أهم مما قد يتوافر له من مال في الشيخوخة.
ولو سئلت هل الصحة تدخر كالمال؟ سأجيب بنعم..فيجيب على الشباب:
عمل الموازنة بين الحاجات الجسمية والرغبات الجسمية وذلك بترجيح كفة الحاجات على الرغبات، فالأكل رغبة جسمية يحتاج إليها الجسم، ولو زادت هذه الرغبة على الحد الطبيعي، وأصبح الشخص يأكل بنهم ودون سيطرة على رغبته أو أداء نشاط يوازن تلك الرغبة الزائدة على حاجته الجسمية، لأجهد سائر أعضاء الجهاز الهضمي والجهاز الدوري التنفسي، وأدى في المستقبل إلى أمراض عديدة كالسكر وارتفاع ضغط الدم..إلخ.
وإلى جانب الادخار المادي والصحي هناك جهة ثالثة هي الادخار العقلي..
وهذا النوع من الادخار يتمثل في مجموعة من الأفكار الأساسية وطريقة التفكير التي يمرن عليها الشخص في طفولته ومراهقته وشبابه، فالنشاط الذهني يتشكل من مضمون وطريقة..
أما المضمون فهو مجموعة المفاهيم التي يدخرها الذهن، والطريقة هي القوالب العقلية التي يستعين بها الشخص في ترتيب أفكاره.
والشباب الذي يعد نفسه بمجموعة من الخبرات العقلية المهضومة وبطريقة يسوس بها تلك الخبرات ويصونها ويرتبها إنما يكون قد أعد عدته لقضاء شيخوخة مثمرة من الناحية العقلية.
أما الادخار النفسي فإنه يتمثل في مجموعة من العادات الوجدانية التي يمرن عليها الشخص في شبابه بحيث تصير جزءاً من سلوكه ومن صلب كيانه النفسي، والعادات التي يتمرس بها الشخص تنقسم إلى عدة أقسام يمكن تلخيصها في: العادات الحركية، العادات العقلية، والعادات الاجتماعية، العادات اللغوية، وأخيراً العادات الوجدانية، فالشخص يمكن أن يتمرس بعادة التشاؤم أو التفاؤل، أو عادة حب الآخرين أو كرههم، أو بالغيرة من الآخرين والحقد عليهم، والشاب الذي يمرن نفسه على العادات الوجدانية الراقية والطيبة إنما يكون قد أدخر لنفسه استثماراً نفسياً طيباً للشيخوخة.
أما بالنسبة للادخار الاجتماعي فيتمثل في محصلة العلاقات الاجتماعية التي يوفرها الشخص لنفسه بحيث يترك لنفسه في نفوس معارفه وأصدقائه صورة معينة، ذلك أن لكل منا انطباعا عاماً أو محصلة خبرية يتركها في نفوس معارفه وأقربائه، وطبيعي أن تلك المحصلة لا تتوافر للشخص فجأة وإنما تتأثر شيئاً فشيئاً، وهي تتوقف على نوعية العلاقات الاجتماعية وطرائق تعامله مع الآخرين.
وعلى أي حال نستطيع القول بأن هناك نوعين من الادخار الاجتماعي يختزنه الشخص في قلوب الأفراد الذين يتعامل معهم وهو الادخار الذي يحصده الشخص في شيخوخته.
ومن الطبيعي أن يكون هناك ادخار أسري يتمثل في العلاقات الأسرية التي وفرها الشخص لنفسه في شبابه، وخصوصاً فيما يتعلق بالزوجة والأبناء والبنات الذين أنجبهم، ففي الشيخوخة يرى ثمار زرعه الذي غرسه في شبابه، ويجد أن حصيلة العلاقات الأسرية التي ظل يرويها بالحب قد أثمرت حباً في قلوب كل فرد من أفراد أسرته، فيجد كل واحد منهم حريصاً على راحته ومسرعاً إلى تلبية احتياجاته.
ولست أبالغ إذا قلت إن ما يقوم الشباب بزرعه وغرسه من علاقات أسرية في صدر الشباب يحصدونه في شيخوختهم.
تعليق