عشت ـ ولله الحمد والمنة ـ في بيئة سلفية تجل العلم وتوقر أهله، وفيها كثير من علماء الأمة ومؤسساتها العلمية الكبيرة، فاستقر في ذهني عن جماعة التبليغ ما يذكره عنها بعض العارفين بحالها من ملحوظات، كهشاشة العلم والرغبة عنه، وضعف العناية بمنهج السلف في التلقي والاستدلال، وتجنُّب إنكار المنكر اكتفاء بالأمر بالمعروف، والاعتماد في بعض البلدان على مصنفات تحوي بعض الشركيات وكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ولزوم كثير من زعماء الجماعة وأتباعها في بعض الأماكن طرق التصوف المنحرفة الغارقة في أوحال البدعة.
فَحَدَثَتْ بسبب ذلك من جهتي نفرةٌ داخلية تجاه الجماعة دون أن يكون لي خلطة بها أو معرفة تفصيلية بحالها إلى أن حللت في إحدى المدن، فزارنا في مسجدنا المجاور فئة كريمة من جماعة التبليغ تجلت عليهم كثير من تلك السمات السابقة، ومع ذلك فقد كان نجاحهم ملحوظاً في تذكير رواد المسجد ورفع حجاب الغفلة عن كثير من سكان الحي من خلال ما قدموه من تعريف بالله ـ عز وجل ـ وعظم حقه ـ تعالى ـ ومن مواعظ كثيرة تذكِّر بالانتقال عن هذه الدنيا وبالجنة والنار، وتدعو إلى جميل الفعال، وما اتسموا به من تذلل وكرم نفس ولين جانب، وما قدموه من نماذج متميزة في التعبد والعناية بإصلاح النية والتبكير إلى الصلاة والخشوع فيها، والحفاظ على السنن وقيام الليل والإكثار من التلاوة والذكر والدعاء، والتقلُّل من متع الدنيا وملذاتها، إضافة إلى جهدهم الدؤوب وحركتهم الفاعلة في مخالطة الناس وزيارتهم وولوج منازلهم والعمل على تفعيلهم في الدعوة إلى الله عز وجل.
فتعلمت من ذلك أموراً عدة أحببت أن أشرك قارئي الكريم معي في بعضها، من خلال النقاط التالية:
• أن الرفق واللين والصبر، والتواضع وخفض الجناح والبِشْر وبسط الوجه، وطيب الكلمة ونكران الذات، وطيب المعشر وحسن الإقبال، وقلة النفور وكثرة التودد، والتعامل الراقي والخُلُق الرفيع هو الطريق السوي الذي تولج به القلوب وتكسب النفوس وتنال الثقة والمودة دون أدنى مقاومة من كل المخالفين، كما قال الماوردي: «فإذا حسنت أخلاق الإنسان كثر مصافوه، وقَلَّ معادوه فتسهلت عليه الأمور الصعاب ولانت له القلوب الغضاب» .
ونجد مصداق ذلك في قوله ـ تعالى ـ: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران: 159]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « مـن أُعطـي حـظـه مـن الـرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير» ، كما نجده في السيرة العملية له - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ يقـول خادمـه أنـس ـ رضـي الله عنه ـ: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقاً» ، ويقول أيضاً ـ رضي الله عنه ـ: «خـدمت النـبي - صلى الله عليه وسلم - عشر سنـين؛ فـمـا قـال لي أفٍّ قَطُّ، وما قال لشيء صنعته لِـمَ صنعته، ولا لشيء تركته لِـمَ تركته، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقاً» ، وتقول زوجه عائـشة ـ رضي الله عنها ـ حـين سئلت: «كيف كان خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهله؟ فقالت: كان أحسن الناس خلقاً، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا صخاباً بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح» .
• أن الجـود وكرم النفـس والتضحية والبذل مع البساطة والزهد في الدنيا وعدم تعليق القلب بها من ركائز نجاح الداعية في التأثير والمربي في البناء؛ إذ ما ملك القلوبَ وقاد الناسَ بقابلية واختيار بخيلٌ، والنصوص والسيرة النبوية مليـئة بالشـواهد على ذلك؛ فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ: «أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - غَنَماً بين جبلين فأعطاه إياها، فأتى قومه، فقال: أيْ قوم أسلموا؛ فوالله إن محمداً ليعطي عطاءً ما يخاف الفقر. فقال أنس: إن كان الرجل ليُسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها» .
وعـن صفوان بن أمية ـ رضي الله عنه ـ حين أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب غزاة حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة قال: «والله لقد أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ؛ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ» .
وفي المقابل طالِعْ وصف عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ له: «أمَّا هو فكان أزهد الناس في الدنيا» ، ومقولة بلال بن رباح ـ رضي الله عنه ـ حين سُئل: كيف كانت نفقة نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي أَلِي ذاكَ منه منذُ بعثه الله ـ تعالى ـ إلى أَن تَوفَّاه، وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فيراه عارياً، يأمرني فأنطَلِقُ فأستَقرِضُ، فأشتـري له البُـرْدَة، فأَكسـوه وأُطعِـمُه...» ، وقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ: «ما شبع آل محمد - صلى الله عليه وسلم - منذ قدم المدينة من طعام بُرٍّ ثلاث ليال تباعاً حتى قُبِضَ» .
• أن العـنايـة بمـعرفـة الله ـ عـز وجل ـ وتعظـيم كـلامه ـ سبحانه ـ وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم - والجدية في العمل وعلو الهمة في قيام الليل وصلاة الضحى والتبكير إلى الصلاة عنـد سماع الـنداء، والعـناية بتكـميلها والخشـوع فـيها وإتيان أذكارها ونوافلها، والإكثار من التلاوة والذكر والدعاء والمناجاة والتضرع كما هي جُنَّة للعبد عن الوقوع في الآثام والولوج في أوحال الغفلة فهي الباعث الأعظم والمحفز الأكبر على المبادرة إلى حـمل هـم هذا الدين والشعور العالي بالمسؤولية تجاهه، ومن النصـوص الدالة على هذا المعنى قوله ـ تعالى ـ: { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]، وقوله ـ سبحانه ـ: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إلاَّ عَلَى الْـخَاشِعِينَ } [البقرة: 45].
أمـا سيـرة الرسـول الأكـرم والمربي الأعـظم «فالأمر فيهـا أجـلى مـن أن يـذكـر، ومـن ذلك ما ورد عـن عـائـشة ـ رضي الله عنها ـ «أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه» ، وعنها ـ رضي الله عنها ـ قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصـوم؛ فمـا رأيـت رسـول الله - صلى الله عليه وسلم - اسـتكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان» ، وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: «إن كنا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة: رب اغفر لي وتب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم» .
ولذا فإن أي دعوة مهما سلمت تصوراتها وكثر علمها واتسع نشاطها وتفننت أساليب دعوتها ما لم تُعْنَ بهذا الأساس وتعتبره روحها ورأس مالها فإنها متجهة إلى ضعف وفتور بمقدار توانيها في هذا الجانب، بل قد يصل بها الحال في وقت، إن استمر بها الانحدار، إلى أن تفقد مشروعها الدعوي بل حتى صبغتها الإسلامية التي تمحورت من أجلها.
• خطورة العلم وجلالته، وأنه قبل القول والعمل، وأن على ورثة الأنبياء الحذر من إهماله والرغبة عنه، وتصدير غير أهله في بيان الدين وتبليغه، مهما حسنت المقاصد وجملت الدوافع حتى لا يكون ذلك سبباً في نكوص المدعوين على الأعقاب، وحـتى لا تدعى الأمة إلى ضلال، ولا يفتى الناس بجهل، ولا يقال على الله ـ تعالى ـ ما لا يُعلم، وأن على الجميع أن يدركوا أن خطوة بعلم خير من رحلة بلا علم، وأن من وظائف المصلحين الأساسي التعليم، كما قال ـ عز وجل ـ: { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّـمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } [الجمعة: 2]، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - بأن الله ـ تعالى ـ إنما بعثه «معلماً ميسِّراً» ، ولذا فلو اعتنى أهل التبليغ بالأخذ من العلماء وسعى أهل العلم كسعي أهل التبليغ لكان في ذلك خير عميم.
ولذا صار المتأمل يرى أن من أنكى ما تعاني منه الدعوة اليوم في كثـير من الجماعات والمواقع ضحالة العلم وندرة العلماء، وما يرافق ذلك من تعالُم الجهلاء بغفلة أو ضعف ورع.
إن الابتداع في الدين شر وضلال بكل حال، كما علمنا ذلك النبي الرحيم - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة» ، وإن البدع كما تحبط العمل وتردي في الإثم فإنها تكون سبباً في صدود المدعوين واستمرار تساقطهم عن دروب الخير.
ولذا؛ فلا يكفي مريدَ النجاة نبلُ الهدف وإخلاص النية من دون موافقة العمل للشرع والارتكاز في المنطلقات والوسـائل على دلـيل شرعـي معتبـر؛ إذ ضـعف الإخلاص أو هشاشة الاتِّباع من أشد العقبات الداخلية وأنكاها، والتي تحُول دون النجاح في تعميم الخير وإشاعة المعروف.
• أن العامي ورجل الشارع يمكن أن يتحرك لهذا الدين بجدية وبشعور عال بالمسؤولية الدعوية، وأن بمقدوره أن يقود ويؤثر بل ويصنع آخرين، وإن العلماء الربانيين والدعاة المصلحين مسؤولون عن فتح المجالات المناسبة أمامه، وتدعيم ثقته بنفسه، وتهيئة أسباب النجاح له، بدلاً من دعوته إلى العزوف عن الأنشطة مخافة زللـه والاقتصار على توجيه النقد والتذكير بالضوابط؛ إذ الناس ترى ضعف الأمة ومسيس حاجتها وتريد المساهمة والعمل.
• أن الوقت المبذول والجهود الكثيرة الموجهة للنخب من كثير من الشخصيات العلمية والمؤسسات الدعوية يجب أن يوازيها جهود ضخمة تستهدف العامة، تجمع في خطابها بين تلبية احتياجات العقل والعاطفة، وتتجاوز مجرد الوعظ والإرشاد في المساجد إلى الخلطة والمعاشرة وطروق المنتديات وأماكن جلوس الناس بغرض التعليم والتربية وتعميق الأخوة وصناعة القدوة بدلاً من ترك هذه الأعداد الكبيرة من جماهير الأمة في غالب الوقت حبيسة سرادقات الغفلة، وفي أسر طروحات الجهلة وأهل الأهواء في كثير من مؤسسات التوجيه ووسائل الإعلام والاتصال المختلفة.
وفي الختام فجماعة التبليغ بحاجة إلى من يقوِّمها برفق وتـؤدة ويشـجعـها بمحـبة ونصح على طرق مجالات الخير؛ إذ دين الرحمن عظيم، يحتاج نشره والتمكين له كل جهـد مخـلـص مهما دق، ولن يسـتـوعـبـه بحـال فـئـة مـن الـنـاس أو أسلوب بشري مهما جلَّ، فلا بد من تفعيل الطاقات وتشجيع الجهود في إطارٍ معمِّقٍ للإخلاص، وزارعٍ للاتِّباع.
نسأل أن يرزقنا حسن القصد وصلاح العمل، وصلى الله على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــ
فيصل بن علي البعداني(البيان 241)
تعليق