العبد منذ أن يولد فهو سائر إلى أجله، فكل يوم يمر يهدم من عمره بعدد ساعات ذلك اليوم، ومن كانت مطيته الليل والنهار سير به وإن لم يسر. ومنذ أن يبلغ العبد سن التكليف والرشد فهو سائر إلى الله عز وجل في رحلة سفر تحتاج ـ كما يحتاج كل سفر ـ إلى زاد يبلغ المرء إلى غايته..
قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "إن لكل سفرٍ زادًا لا محالة، فتزودوا من الدنيا للآخرة، وكونوا كمن عاين ما أعد الله – تعالى- من ثوابه وعقابه، ترغبون وترهبون، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فإنه – والله- ما بسط أمل من لا يدري، لعله لا يصبح بعد مسائه، ولا يمسي بعد صباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا، فكم رأينا ورأيتم من كان بالدنيا مغترا، وإنما تَقَرُّ عين من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح من أمِنَ من أهوال القيامة".
وقال ابن الجوزي رحمه الله: "عجبا لراحل مات وما تزود للرحلة، ولمسافر ماج وما جمع للسفر رحلة، ولمنتقل إلى قبره لم يتأهب للنقْلَة، ولمفرّط في أمره لم يستشر عقله.. إخواني، مرّ الأقران على مدرجة، وخيول الرحيل للباقين مسرجة، سار القوم إلى القبور هملجة، وباتت أرواح من الأشباح مستخْرَجَة، إلى كم هذا التسويف والمجمجة، بضائعكم كلها بهرجة، وطريقكم صعبة عوسجة، وستعرفون الخبر وقت الحشرجة".
وإذا كان لكل سفر زاد، فلا شك أن زاد الآخرة يختلف عن زاد سفر الدنيا.. ومن أعظم زادك للآخرة:
أولا: التوحيد والإيمان:
فإن حلاوة الإيمان أعظم زاد في هذه الرحلة، ولا يتذوق حلاوة السير ولذة هذا العيش إلا من كان له نصيب بمعرفة الله وتوحيده وعاش حقائق الإيمان، وجرّب هذه اللذة..
"فإن اللذة والفرحة والسرور وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه؛ إنما هو في معرفة الله – سبحانه وتعالى- وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية، والمعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حالة أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب، وقال آخر: إنه لتمُرُّ على القلب أوقات يرقص فيها طربا""مجموع الفتاوى 28/31"، ويقول الآخر مع فقره: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.. فاللهم لا تحرمنا لذة الإيمان وطعم الإيمان وحلاوة الإيمان ... آمين.
ثانيا: اليقين:
فتزود ـ بعد الإيمان والتوحيد ـ لهذا السفر بِعُدَّة اليقين.. يقول بن القيم- عليه رحمة الله-: "وفي الطريق أودية وشعوب، وعقبات ووهود، وشوك وعوسج، وعُلِيق وشبْرق، ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين ـ ولاسيما أهل الليل المدلجين ـ فإذا لم يكن معهم عُدَدُ الإيمان، ومصابيح اليقين تتقد بزيت الإخبات؛ وإلا تعلقت بهم تلك الموانع. وتشبثت بهم تلك القواطع؛ وحالت بينهم وبين السير""مدارج السالكين 2/8"
فلا بُد من يقين يُنير لك الطريق.. فاليقين نور.. هذه هي العدة الثانية من الزاد.. اليقين في الله-تعالى-، واليقين في رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلا، واليقين في المنهج موصّلا.
"ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا، وانتفى عنه كل ريب وسخط، وهمّ وغم، فامتلأ محبة لله، وخوفا منه، ورضا به، وشكرا له، وتوكلا عليه، وإنابة إليه، فهو مادة جميع المقامات والحامل لها"."تهدذيب مدارج السالكين 2/727"
ثالثا: التقوى:
وتزود – أيها السائر- أيضا بتقوى الله في السر والعلانية؛ فإنها السبيل الأوحد للإخلاص.. وهي: طاعة الله؛ بلزوم الأمر والنهي.. قال سبحانه: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى .
تزودوا – أيها السائرون- كل ساعة؛ فإن الدنيا ـ كما قال عمر بن عبدالعزيزـ: "ليست بدار قرار، دارٌ كتبَ الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظَعَن، فكم عامر موثق عما قليل يخرب، وكم مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا-رحمكم الله- منها الرحلة، بأحسنُ ما يحضر بكم من النِقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما الدنيا كَفيءْ ظلال قَلُص فذهب، بينما ابن آدم في الدنيا منافس.. إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلا، وتجر حزنا طويلا"..
إخوتاه، هنيئا لمن تزود من الدنيا إلى الآخرة، ومن المحطة العاجلة إلى المحطة الآجلة، ومن ضيق المعاش إلى سعة المعاد، ومن دار الرحيل إلى دار البقاء.
رابعا: الإخلاص:
أما الإخلاص؛ فنبأه عجيب وخطره عظيم.. وهو زادك الرابع الذي لا يصلح هذا الطريق إلا به وهو أساس التزود ومنتهاه.. وحُصِر الوصول في المخلصين؛ قال سبحانه وتعالى: (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين)(ص:82، 83).. فالإخلاص زاد خطر.. فتزود أيها السائر.
خامسا: الخبيئة:
ومن الزاد الخبيئة.. خبيئةُ من عمل صالح لم يطلع عليه بشر، يصلح للتوسل به في محطات الطريق ومطباته، كما توسل الذين أووا إلى الغار – فانطبقت عليهم الصخرة- بخبايا أعمالهم الخالصة.
سادسا: الصبر:
وآخر الزاد الصبر.. الصبر في الطريق.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب".. فإذا كان سفر الدنيا يسببّ المشقة والتعب؛ فكيف بسفر الآخرة الذي فيه اللأواء والنصب!! قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ )(البلد:4)
قال الإمام الرازي: في الكبد وجوه: "... وأما الثاني: وهو الكبد في الدين، قال الحسن: يكابد الشكر على السراء، والصبر على الضراء، ويكابد المحن في أداء العبادات.
فاعلم –أيها الحبيب- أن الله يختبر عبيده بالصبر؛ حتى تظهر جواهرهم، كما حصل للأنبياء ... "وهذا نوح عليه السلام يُضرب حتى يُغشى عليه، ثم بعد قليل ينجو في السفينة ويهلك أعداؤه، وهذا الخليل يُلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة، وهذا الذبيح يضّجع مُستسلما ثم يَسْلم ويبقى المدح، وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول، وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يُرقَى إلى التكليم".
والصبر دواء.. وقد قال العلماء في تعريفه: "حبس القلب عن التسخط، وحبس اللسان عن الشكوى".
فالطريق طويلة والمآسي على الطريق كثيرة والعلاج الصبر؛ فإن المُنْبَتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.. وما تباينتْ منازل أصحاب الهمم إلا بتباينهم بطول الصبر حتى نهاية الطريق. فتزود أيها السائر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير من "أصول الوصول للشيخ محمد يعقوب"
تعليق