تقديم
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
فإنّ الله تعالى أبى العصمةَ إلا لكتابه الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، و لنبيّه صلى الله عليه و سلّم في تبليغ الرسالة ، و ذلك مقتضى حفظ دينه ، و إقامة حجّته على خلقه .
و اصطفى تعالى لحمل العلم من كلّ خلفٍ عدولَه و خصّهم بالفهم و الاستنباط السليم ، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجّة و بيان المحجّة ، و استشعروا عِظَم واجب التبليغ و التوقيع عن ربّ العالمين فقاموا به خيرَ قيامٍ ، تحمُّلاً و أداءً ، و كان حقّاً على من عرَف فضلهم ، و خبرَ سبقهم أن يتقرّب إلى الله بحبّهم و الذبّ عن أعراضهم ، كيفَ و هم أهل الذكر الذين أُمرنا بسؤالهم و طاعتهم ، كما في قوله تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ النحل : 43 ] .
و ما ابتُليَ عالمٌ بجاهلٍ بقدرهِ ، طاعنٍ في دينه أو علمه ، إلاّ قيّض الله له من ينافح عنه و يذبّ عن عِرضه ، و هذا واجب كفائيٌّ في أقلِّ أحواله .
و إن فرَّطَ في القيام بواجب الذبّ عن العلماء أقوامٌ ، فقد أفرَط آخرون في هذا الباب ، فجانبوا الصواب ، و صاروا إلى الممنوع ؛ بمجاوزةِ المشروع ، حيث غلَوا في علمائهم ، و تعصبّوا لآرائهم و أقوالهم ، و نصّبوا أنفسهم للتبرير و الدفاع عن زلاّتهم ، و هذا من أشنع أنواع التعصّب ، في التقليد و التمذهُب .
و صار أهل الحقّ – و هم أوسط الناس و أعدلهم – إلى إعمال الدليل ، و التماس العذر للعالم في زلّته ، و التأدّب في ردّ مقالته و عَدَم المبالغة في تعظيم العالِم ( المستَفتَى و غيرِه ) بأخذ كلّ ما يصدُر عنه ، أو اعتقاده إصابَتَه الحقَّ في كلّ ما يُفتي فيه أو يُخبِر به ، لأنَّه من بني البَشر ، ( و كلُّ بني آدَم خطّاء ، و خير الخطائين التوّابون ) كما أخبر صلى الله عليه وسلم [ فيما رواه الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ حسن ] ، و العالِم في هذا كغيره ؛ معرَّضٌٌٌ للخطأ ، و الوَهمِ ، و النسيان .
و لخطورة زلات العلماء عليهم و على الأتباع ، رأيت أن أضع بين يدي القارئ الكريم جملة مسائل ذات صلة بموضوعها ، مرتّبةً في مقاصد على النحو التالي :
المقصد الأول
في بيان المقصود بزلّة العالم
أقْدَمُ ذكر لزلات العلماء – فيما وقفت عليه – جاء في سنن أبي داود ، حيث روى عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات [ رواه أبو داود في سننه ( 3171 ) بإسناد ضعيف ] .
قال الخطابي : الأغلوطات جمع أغلوطة : أفعولة من الغلط كالأحدوثة و الأعجوبة ... يقال : مسألة غَلوطٌ إذا كان يُغلَط فيها ، كما يقال : شاة حلوب ، و فرس رسوب ، فإذا جعلتها اسماً زدت فيها الهاء ، فقلتَ : غلوطة كما يقال حلوبة و ركوبة ... قال الأوزاعي : و هي شرار المسائل , و المعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها , و يسقط رأيهم فيها . [ عون المعبود : 10 / 64 ] .
كما ذُكِرَت زلات العلماء في معرِض التحذير منها فيما روي عن عدد من الصحابة ، منهم عمر بن الخطّاب ، و معاذ بن جبل ، رضي الله عنهما ، و سيأتي ذكرُها لاحقاً إن شاء الله .
و أصل الزلّة و الزَّلَل في اللغة من زلَّ يزِلُّ ، إذا انحَرفَ عن مساره ، أو نَزَل عن مستواه .
قال لبيد بن ربيعة [ كما في معجم البلدان : 4 / 108 و 224 ]:
لو يقـومُ الفِيلُ أو فَََيَّالُـهُ *** زَلَّ عن مِثْلِ مَقَامي و زَحَلْ
أي : لم يبلغ مكانتي بل انحطَّ عنها .
و عليه فبإمكاننا تحديد المراد من زلّة العالم بأنّه : خطؤه و مجانبته الصواب باجتهاد في آحاد المسائل ، مع سلامة أصوله في الاستدلال و التقعيد .
و كأنَّ المسألة التي زلَّ فيها لا تناسب مكانته في العلم و التحقيق و الوَرَع ، بل هي دونها ، أو مائلة عن السبيل التي ينتهجها عادةً .
المقصد الثاني
في التحذير من زلات العلماء وقوعاً فيها و متابعةً عليها
فإذا كان الآمر كذلك فلا غرابة في أن يبالغ المحققون في التحذير من متابعة العالم في زلاّته ، وممّن أجاد في هذا الباب و أفاد الحافظ أبو عمر بن عبد البر حيث أفرد فصلاً من كتابه ( الجامع في بيان العلم و فضله ) في خطر زلة العالم ، و نقله عنه ابن القيم [ في إعلام الموقعين : 2/173-175 ] ، و الشاطبي [ في الموافقات : 4/168- 172 ] .
قال ابن القيّم : ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه ) [ إعلام الموقعين : 2 / 173 ] .
و قال الإمام الشاطبي عقبَ إيراد كلام ابن عبد البر في خطَر زلّة العالم : ( لابد من النظر في أمور تبنى على هذا الأصل :
منها : أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، و لا الأخذ بها تقليداً له ، و ذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، و لذلك عُدَّت زلةً ، و إلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ، و لا نُسِب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير ، و لا أن يُشنَّعَ عليه بها ، و لا يُنتَقَصَ من أجلها ، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً ، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين ...
و منها : أنه لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية ، لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد ، و لا هي من مسائل الاجتهاد ، و إن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيه محلاً ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد , و إنما يُعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف ، و أما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا ، فلذلك لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل ، و المتعة ، و محاشي النساء ، و أشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها ) [ الموافقات ، للشاطبي : 4/170 و ما بعدها ] .
و قد رويَ أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا يكن أحدكم إمعةً يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت و إن أساءوا أسأت ، و لكن وطِّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس ، و إن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ) [ الحديث في بعض السنن ، و فيه مقال ] .
و رُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( ثلاث يهدمن الدين زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ) [ رواه الدارمي في سننه عن زياد بن حدير ، و أورده ابن تيميّة في الفتاوى الكبرى : 6 / 95 ، و صححه الألباني في مشكاة المصابيح بتحقيقه : 1 / 89 ، و روي نحوه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، انظر : الموافقات ، للشاطبي : 4 / 17 ، 18 و 4 / 168 ، و قد وردت في هذا المعنى أخبار مرفوعة ليس منها شيئ يصحّ ، انظر بعضها في : مجمع الزوائد : 1 / 186 ] .
و في مسند أبي حنيفة [ 1 / 68 ] أنَّ رجلا قال لمعاذ حين حضره الموت أوصني ، فقال : ( اتق زلة العالم ) ، و في بعض الروايات أنّ معاذاً قال ذلك للحارث بن عميرة ، و في إسناده شهر بن شوحب ، و فيه كلام [ انظر : مجمع الزوائد : 2 / 313 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العــالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و عند الدارمي عن محمد بن واسع قال : كان مسلم بن يسار يقول : ( إياكم و المراء فإنها ساعة جهل العالم و بها يبتغي الشيطان زلته ) .
و قال الفُضيل بن عياض رحمه الله : ( إني لأرحم ثلاثة : عزيز قوم ذلّ ، و غني قوم افتقر ، و عالماً تلعب به الدنيا ) .
و قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( من يتتبّع رُخَص المذاهِب ، و زلاّت المجتهدين فقد رقَّ دِينه ) [ سير أعلام النبلاء : 8 / 81 ] .
و حكى الزركشي أن القاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق الأزدي رحمه الله ، قال : ( دخلت على المعتضد ، فَدَفَع إليَّ كتاباً نظرت فيه ، و قد جمع فيه الرخص من زلل العلماء ، و ما احتج به كل منهم ، فقلت : إن مصنف هذا زنديق . فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رُوِيَت ، و لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، و من أباح المتعة لم يبح المسكر ، و ما من عالم إلا و له زلّة ، و من جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهـب دينه ، فأمَر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ) [ البحر المحيط : 6 / 326 ] .
و قد أحسن مَن قال :
أيُّهـا العـالِم إيّـاك الـزَلَـل *** و احـذَرِ الهفـوةَ فالخَطبُ جَلَـلْ
هفـوةُ العـالِـمِ مُـستَعظَمَـةٌ *** إن هَفَا يوماً أصبَحَ في الخَلْـقِ مَثَلْ
إن تكُـن عنـدَكَ مُـستَحقَـرةٌ *** فـهيَ عِنـدَ اللهِ و النـاسِ جَبَـلْ
أنتَ مِلـحُ الأرضِ ما يُصلحُـهُ *** إن بَــدا فيـهِ فَسـادٌ أو خَـلَـلْ
المقصد الثالث
في بيان مكمن الخطورة في زلات العلماء
كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .
و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
روى ابن ماجة و أبو داود و ابن حبّان و غيرهم بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أُفتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه ، و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) .
قال المباركفوري : ( من أُفتِيَ بغير علم ) : على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم و هذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه . قاله في فتح الودود .
و قال الملا علي القاري : على صيغة المجهول , و قيل : من المعلوم يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل المسائل بها و لم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده ، ( يعلم ) : المراد بالعلم ما يشمل الظن ... ( فقد خانه ) : أي خان المُستشارُ المُستشيرَ إذ ورد أن المستشار مؤتمن , و من غشنا فليس منا . اهـ . [ عون المعبود : 10 / 65 ] .
قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، و أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، و الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، و هو و إن كان قَصَد و لا تعمد و صاحبه معذور و مأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم ، و قد قال الغزالي : إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرةً وهي في نفسها صغيرةٌ ، و ذَكر منها أمثلةً ، ثم قال : فهذه ذنوب يتبع العالم عليها ، فيموت العالم ، و يبقى شرُّه مستطيراً في العالَم أياماً متطاولةً ، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ، و هكذا الحكم مستمرٌ فى زلته فى الفتيا من باب أولى ، فإنه ربما خفي على العالِم بعض السنة أو بعضُ المقاصد العامة فى خصوص مسألته فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتَقَلَّد ، و قولاً يُعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه ، و تبين له الحق فيفوته تدارُك ما سار في البلاد عنه ، و يضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا : زلة العالم مضروب بها الطبل ) [ الموافقات : 4 / 170 ] .
و قال - رحمه الله – في هذا المعنى أيضاً : ( تستعظم شرعاً زلة العالم و تصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله و أفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلا لأنه موضوع مناراً يُهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به و توهموا فيها رخصة علم بها و لم يعلموها هم تحسينا للظن به و إن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع و ذلك كله راجع عليه ) [ في الموافقات : 3 / 317 ] .
و قال ابن القيّم : ( و من المعلوم أن المَخُوفَ في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره فإذا عَرَف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد و من لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه و كلاهما مفرط فيما أمر به ) [ إعلام الموقعين : 2 / 192 ] .
و قد أحسن من قال : « زلة العالم كالسفينة تغرق ، و يغرق معها خلق كثير » [ أدب الدنيا و الدين ، ص : 46 ، و انظر : الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 ] .
المقصد الرابع
الأسباب المفضية إلى زلل العالم :
إذا استقرأنا جملة من المسائل المعدودة من قبيل زلاّت العلماء سنقف و لا بدّ على أنّ السبب المفضي إلى وقوع العالم فيها غالباً ما يكون أحَدَ أمرين ، هما :
أولاً : مغالطة المستفتين للعلماء ، و استدراجهم إلى ما يريد المستفتي الوصول إليه ، بالتلبيس تارةً و التدليس عليهم تارةً أخرى ، حيث ترى المستفتي يضمِّن سؤاله الفتوى التي يريد الوصول إليها ، و لا يفتأ يراوغ حتى ينتزعَها من العالم انتزاعاً ، ثم يطير بها فرِحاً يبثُّها هنا و هناك .
و قد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثال هؤلاء المستَفْتين ، و الموفّق من العلماء مع عصمه الله من الوقوع في حبائلهم ، و وفَّقَه للإعراض عن ضلالاتهم ، و لعدم الركون إليهم .
ألا ترى أن من عظيم منن الله تعالى على خاتم أنبيائه و رسله أن ثبّته في وجه من أرادوا ليزلقوه بألسنتهم ، قال تعالى : ( و لَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [ الإسراء : 74 ] .
يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله : ( يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب ، أو تحليل محرم ، أو مكر ، أو خداع ، أن يعين المستفتي فيها ، و يرشده إلى مطلوبه ، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس و خداعهم و أحوالهم ، و لا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس و أمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، و إن لم يكن كذلك زاغ و أزاع ، و كم من مسألة ظاهرها جميل ، و باطنها مكر و خداع و ظلم ! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها ، و يقضي بجوازه ، و ذو البصيرة ينفُذُ إلى مقصدها و باطنها . فالأول يَرُوج عليه زَغَلُ المسائل كما ، يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم ، و الثاني يُخرِج زيفَها كما يخرج الناقد زيف النقود ، و كم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه و تنميقه و إبرازه في صورة حق ! و كم من حق يخرجه بتهجينه و سوء تعبيره في صورة باطل ! و من له أدنى فطنة و خبرة لا يخفى عليه ذلك ) [ إعلام الموقعين : 4/ 229 ] .
و من منطلق الخبرة بأحوال الناس ، و الوقوف على مكرهم و تحايلهم على الشرع و حَمَلَتِه ، كان الأئمة الأثبات و لا يزالون يحتاطون في الفتيا ، و يردون مسائل المغالطين .
قال إمام دار الهجرة رحمه الله : ( قال رجل للشعبي : إني خبأت لك مسائل فقال : خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها ) [ الآداب الشرعية : 2 / 56 ] .
ثانياً : مسايرة العلماء لمن يستفتيهم ، و هذا من أعظم البلاء الذي حلّ بالأمّة في العصر الحاضر ، إذ نبَغَت فيها نابغة من الملفّقة الذين لا يألون جهداً في تطويع الشريعة لظروف العصر ، بدلاً من تحكيم الشريعة في أمور العباد الدينيّة و الدنيويّة ، و كوّنت هذه الدعوة أرضاً خصبة للعصرانيين ، و دعاة التلفيق ، و الترخيص .
و يتذرّع هؤلاء بمراعاة مصالح العباد ، و تيسير أمور معاشهم ، تحت وطأة الضغوط الاجتماعيّة ، و خاصّةً تلك التي يقبع تحتها ـ اضطراراً أو اختياراً ـ أبناء الجاليات الإسلاميّة المقيمة في الغرب .
و إذ يراعي هؤلاء بعض مقاصد الشريعة في فتاواهم ، يضربون صفحاً عن أحد أهم تلك المقاصد ، و هو تحقيق العبوديّة الحقّة من العباد لبارئهم .
يقول الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
و من زلَلِ بعض العلماء المعاصرين اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى ، إلى حدٍّ انتهى بأصحابه إلى تحليل بعض المحرمات ، و إضعاف الوازع في نفوس المسلمين ، حتى أشربت قلوب الكثيرين منهم الفتن ، و قصرت هممهم عن القيام بما افتُرضَ عليهم ، و حُلَّت كثيرٌ من عرى الإسلام استناداً إلى فتاوى ميسِّرة ( أو مسايِرة ) للواقع .
و من أشنع صور المسايرة في العصر الحديث ممالأة الحكام و التغاضي عن مخالفاتهم ، و تبرير تعطيلهم لأحكام الشريعة الربّانيّة ، و استبدالها بزبالات الأذهان ، و شرائع الوضّاعين ، بدعوى الالتقاء مع المخالفين ( من المبتدعة و العصرانيين و الملاحدة ) على أرضيّة ( وطنيّة أو قوميّة ) جامعة ، تذيب الفوارق و الخلافات العقديّة ( و الطائفية ) ، و تقرّب بين الفِرَق و الأديان ، تحت مسمى التعايش تارةً ، و التقريب بين المذاهب ، و حوار الحضارات تارات أُخَر .
و لا ريب في أنّ من دعا إلى شيء من ذلك فهو من أئمّة الضلال ، و ينبغي أن لا يغترّ بظهوره في لبوس العلماء ، في زمنٍ تكاثر ( و ظَهرَ في بعض البلدان ) فيه علماء السوء ، و استطار شرّهم .
و من المغالطة اعتبار هذه الدعوات من قبيل زلات العلماء ، بل هي عين الباطل و الضلال ، و إن كان دعاتها يتذرّعون إلى الوصول إليها و ترويجها بمقولات بعض العلماء ، فهي في أصلها زلّة ، و لكنها ضلالٌ مبين بالنظر إلى ما آلت إليه ، و بالله العصمة .
المقصد الخامس
في بيان الواجب على الأتباع تجاه العالم إذا بدت زلّته
لخطورة وقوع العالم في الزلاّت ابتداءً ، و متابعته فيها ، و تلقّف الشواذّ من أقواله انتهاءً ، حذَّر أهل العِلم منها ، و أنكروا من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النصيحة .
روى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ) ، قلنا : لمن ؟ قال : ( لله عزَّ و جل ، و لكتابه ، و لرسوله ، و لأئمة المؤمنين ، و عامتهم ) .
و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها ) [ جامع العلوم و الحكم ، ص : 98 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العــالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و في رواية عنه رضي الله عنه ، أنّه قال : ( ويل للعالم من الأتباع ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] ، أي لما يتابعونه فيه من الزلات .
فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، و ورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله ) [ الفتاوى الكبرى : 6 / 92] .
و قال أيضاً : ( ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم و الإيمان إلا بما هم له أهل ) [ الفتاوى الكبرى : 2 / 23 ، و مجموع الفتوى : 32 / 239 ] .
و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) [ سير أعلام النبلاء : 40/14 ] .
الثاني : الإعراض عن المسائل المعدودة من قبيل زلات العلماء ، و عدم ذكرها أو العمل بها ، أو الانتصار لها ، أو الدعوة إليها ، كي لا يغترّ أحدٌ بها لصدورها من عالم موثوق في علمه ، و عدالته ، و رجاحة رأيه ، فيصير الناس إلى تقليده فيها مع ظهور الخطأ عنده ، و جلاء الحق عند غيره ، أو إلى الطعن فيه ، و غمز قناته ممّن دأبوا على تتبّع السقطات ، و الطعن في العلماء و الدعاة .
قال ابن الجوزي في كتابه السر المكتوم : ( هذه الفصول هي أصول الأصول و هي ظاهره البرهان ، لا يهولنك مخالفتها لقول معظم في النفس ، و قد قال رجل لعلي عليه السلام أتظن أنا نظن أن طلحة و الزبير على الخطأ و أنت على الصواب ؟ فقال : إنه ملبوس عليك ، اِعرِف الحق تعرف أهله . و قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن ابن المبارك قال كذا فقال إن ابن المبارك لم ينزل من السماء [ الفروع في الفقه الحنبلي : 6 / 381 ] .
و قال الإمام القرطبي [ في تفسيره : 10 / 131 ] و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لاحجة في قول أحد مع السنة ) .
و قال شيخ الإسلام : ( إن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ ، غفر للجاهل إذا أخطأ و لم يمكنه التعلم ، بل المفسدة التى تحصل بفعل واحد من العامة محرماً لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، أقل بكثير من المفسدة التى تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع ، و هو لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، و لهذا قيل : احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالَمٌ ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] .
فالديانة ـ إذن ـ في متابعة الحق و أخذه من لسان و مقال من قال به كائناً من كان ، و الإعراض عن الخطأ ، و ردّه على من قال به كائناً من كان ، و حذار حذار من غلوٍ في متبوع يصد عن اتباع المشروع .
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر) .
و ما أبلغ و أحكم قول معاذ بن جبل رضي الله عنه فيما رواه عنه أبو داود بإسنادٍ صحيح : ( و أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، قال الراوي : قلت لمعاذ : ما يدريني – رحمك الله – أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، و أن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ، اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال لها : ما هذه ، و لا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع ، و تلقّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً ) .
فإذا تقرر هذا و بان الحق فيه ، ظهر لنا أن من زلات العلماء التي ينبغي الإعراض عنها ، مع إحسان الظن فيمن وقع فيها مجتهداً ـ تقديم بعض العلماء أقوال أئمة المذاهب على سواها ، و إن ظهر لهم في خلافه الحقُّ بدليله من الكتاب أو السنّة الثابتة ـ و من أمثلة ذلك ما قاله بعض المالكيّة : ( لما قال مالك في رواية ابن القاسم في المدونة أكره القبض في الفريضة تركته ، و لو كان في الموطأ و الصحيحين الاقتصار على حديث الأمر به و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) .اهـ . [ فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ] .
و مثل هذا القول في النكارة ما ينسب إلى الإمام السبكي الشافعي ، من قول : ( الحكم بخلاف الصحيح في المذهب مندرج في الحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى ) .
و نحو هذا كثير في كلام متعصّبة المذاهب .
و هو ما لا نقرّه ، و لا نقول به ، بل يتعين علينا و نحن ننشد الحق ، و لا نتعصّب لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبرأ من كلّ ما خالف الشرع و نردّه على قائله ، و ننظر في حال من قال به ، و نرى قوله : ( إما زلة عالم و وهلة فاضل عاقل ; أو افتراء كاذب فاسق ) بحسب حاله ، كما قال الإمام ابن حزم الظاهري في معرض ردّه بعض الأقوال الفاسدة [ انظر : المحلى : 3 / 219 ] .
المقصد السادس
في بيان الواجب على العالم إذا بان خطؤه
البشر هم البشر ، لا عصمة لأحدٍ منهم بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كلّهم خطاء ، و خير الخطّائين التوابون .
و قد نُدبنا إلى الرجوع عن الخطأ ، و التوبة من المعصية ، و لا فَرق في ذلك بين عامي و عالم ، أو أمير و مأمور ، أو كبير و صغير .
و مِن جملة الأخطاء التي يجب الرجوع عنها ما يقع فيه العالم من زلات في الفتيا و التأليف أو غير ذلك ، و حريٌّ به إن بان له الحق أن يرجع إليه ، و يعضَّ عليه بالنواجذ ، لينجو بنفسه ، و ينجو بنجاته الأتباع من بعده .
و له في ذلك أسوة حسنةٌ في نبيِّ الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيراً إلا و أرشدنا إليه ، و لا شراً إلا أخذ بحُجَزِنا فصرفنا عنه ، و حذَّرَنا منه ، و قد كان مدرسةً في اتباع الحقّ و الرجوع عمّا يخالفه .
فقد قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر يبكيان بعد أن تبيّن لهما الحق في مسألة أسارى بدر ، خلافاً لما ذهبا إليه .
أخرج مسلم في صحيحه عن عمَر بن الخطّاب رضي الله عنه في قصّة أسارى بدر ـ و كانوا سبعين رجلاً من المشركين ـ أنّهم : ( لما أسروا الأسارى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ، و عمر : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم و العشيرة أرى أن تأخذ منهم فديةً ، فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قلت : لا و الله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، و لكني أرى أن تُمكنا فنضرب أعناقهم ... فهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، و لم يهوَ ما قلتُ ، فلما كان من الغد جئتُ ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر قاعِدَين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي ، أنت و صاحبك فإن وجدت بكاءً بكيتُ ، و إن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبكي للذي عَرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، و أنزل الله عز و جل : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ و اللهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 67 ] .
فما أروعه من مثَل ، و يالِحُسنِها من تربية !
نبيّ الرحمة ، و صدّيق هذه الأمّة ، يبكيان ، و يعلّمان الدعاة و العلماء ، أدباً رفيعاً من آداب الدعاة ، في الرجوع إلى الحق ، و التمسك به .
و هكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم من بعده ، يتلمسون سبل الهدى ، و ينصاعون إلى الحق ، و يعرضون عمّا يخالفه ، و لا يجد الواحد منهم غضاضةً في الرجوع عن رأيه ، و قبول الحقّ ممّن جاء به ، كائناً من كان .
كيف ، و هم المتواصون بالحقّ ، المتواصون بالصبر !!
و ما أجمل قول فاروق هذه الأمة رضي الله عنه في كتابه لمعاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : ( و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) .
قال السرخسي رحمه الله معقباً على كلام الفاروق هذا : ( و ليس هذا في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ و المفتي و القاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك ، فزلة العالم سبب لفتنة الناس ... و قوله : الحق قديم ؛ يعنى هو الأصل المطلوب ، و لأنه لا تنكتم زلة من زل ، بل تظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً ، ثم العقلاء ، من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل ) [ المبسوط : 16 / 62 ] .
قلت : و ما إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه ، و وضوح المحجّة بين يديه ، إلا ضرب من ضروب المكابرة ، لا يصير إليها إلا مخذول أخذته العزّة بالاثم ، فآثر العاجل على الآجل ، و هذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً و حديثاً ، و لهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير و التحذير .
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، و لا يستنون بسنتي ، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) .
و روى أحمد و غيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لكعب : إني أسألك عن أمر فلا تكتمني قال : و الله لا أكتمك شيئاً أعلمه . قال : ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أئمة مضلون . قال عمر : صدقت ، قد أسر ذلك إليَّ و أعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
و قال عبد الله بن المبارك رحِمَه الله :
و هل أفسد الدين إلا الملوك *** و أحبار سـوء و رهبانـها
و مثل أحبار ( علماء ) السوء كما روي عن المسيح عليه السلام : كمثل صخرة وقعت في فم النهر ، لا هي تشرب و لا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ، أو كمثل قناة الحُش ظاهرها جص و باطنها نتن ، و مثل القبور ظاهرها عامر و باطنها عظام . [ انظر : إحياء علوم الدين: 1/74 ] .
و ردعاً لهؤلاء ( ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتيين ، فمن صلح للفتيا أقره ، و من لا يصلح منعه ، و نهاه أن يعود ، و تواعده بالعقوبة إن عاد ، و طريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى ، أن يسأل علماء وقته ، و يعتمد أخبار الموثوقين فيهم ) قاله الخطيب البغدادي [ كما في آداب الفتوى ، للنووي ، ص : 17 ، 18 ] .
قال ابن القيم رحمه الله : ( من أفتى الناس ، و ليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ ، و من أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً ) .
ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قوله : ( و يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية ، و هؤلاء بمنـزلة من يدل الركب و ليس له علم بالطريق ، و بمنـزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، و بمنـزلة من لا معرفة له بالطب ، و هو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، و إذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب و السنة و لم يتفقه في الدين ! ) [ إعلام الموقّعين : 4 / 17 ] .
خاتمة
و بعد فقد علَّق الإمام البخاري في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قوله : ( ثلاث من جمعن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، و بذل السلام للعالم ، و الإنفاق من الإقتار ) .
قال الحافظ في الفتح : ( قال أبو الزناد بن سراج و غيره : إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها ; لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه , و لم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه , و هذا يجمع أركان الإيمان ) [ فتح الباري : 1 / 83 ] .
قلتُ : و بقَدر ما يبتعد المرء عن الإنصاف ، يكون الصواب عنه بعيداً ، و من رامَ الحقَّ ، أنصفَ الخَلقَ و رَحِمَهم .
و طلباً للإنصاف ، و إحقاقاً للحق ، لا غيرَ كان عَملي في هذا البحث ، تربيةً لنفسي ، و تذكيراً لإخواني طلبة العلم بما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه أهل العلم و الفضل .
و خشية الإفراط في إجلال العلماء ، و تقديسهم عن الأخطاء ، كان لزاماً علينا التذكير بأنّهم بشَرٌ يصيبون و يخطئون ، و إن كانوا في معظم الأحوال موافقين للحقّ فيما يقولون و يفعلون ، و أنّهم عنه لا يعدلون ، إلا أن تقَع منهم زلّة ، في حال التباسٍ أو غَفلة .
فإن وقَعَت منهم الزلّة ( أو وَقعوا فيها ) رأيتَ الناس بسبَبِها فِسطاطين ، مُفرِطٌ و مُفَرِّط .
مُفرِطٌ في تتبّع الزلاّت سواء كان قَصدُه الأخذ بها في العَمَل تَرخُّصاً ، أو الطَعن بسببها فيمن صدَرَت عنه تطاولاً و تنقصاً .
و مُفرّطٌ فيما أوجبه الله عليه ، من عدَم التقديم بينَ يديه ، و عَدَم الغلوّ في أحَدٍ من خلقه بالردّ – قبل الكتاب و السنّة - إليه .
و كلا الفريقين مجانبٌ للصواب ، صائرٌ إلى تباب ، ما لم يمتنَّ الله عليه بالتوبة قبل الحساب .
و قد بيّنت في رسالتي هذه ما يقتضي المقام تبيانه في هذا الباب ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .
و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
فإنّ الله تعالى أبى العصمةَ إلا لكتابه الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، و لنبيّه صلى الله عليه و سلّم في تبليغ الرسالة ، و ذلك مقتضى حفظ دينه ، و إقامة حجّته على خلقه .
و اصطفى تعالى لحمل العلم من كلّ خلفٍ عدولَه و خصّهم بالفهم و الاستنباط السليم ، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجّة و بيان المحجّة ، و استشعروا عِظَم واجب التبليغ و التوقيع عن ربّ العالمين فقاموا به خيرَ قيامٍ ، تحمُّلاً و أداءً ، و كان حقّاً على من عرَف فضلهم ، و خبرَ سبقهم أن يتقرّب إلى الله بحبّهم و الذبّ عن أعراضهم ، كيفَ و هم أهل الذكر الذين أُمرنا بسؤالهم و طاعتهم ، كما في قوله تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ النحل : 43 ] .
و ما ابتُليَ عالمٌ بجاهلٍ بقدرهِ ، طاعنٍ في دينه أو علمه ، إلاّ قيّض الله له من ينافح عنه و يذبّ عن عِرضه ، و هذا واجب كفائيٌّ في أقلِّ أحواله .
و إن فرَّطَ في القيام بواجب الذبّ عن العلماء أقوامٌ ، فقد أفرَط آخرون في هذا الباب ، فجانبوا الصواب ، و صاروا إلى الممنوع ؛ بمجاوزةِ المشروع ، حيث غلَوا في علمائهم ، و تعصبّوا لآرائهم و أقوالهم ، و نصّبوا أنفسهم للتبرير و الدفاع عن زلاّتهم ، و هذا من أشنع أنواع التعصّب ، في التقليد و التمذهُب .
و صار أهل الحقّ – و هم أوسط الناس و أعدلهم – إلى إعمال الدليل ، و التماس العذر للعالم في زلّته ، و التأدّب في ردّ مقالته و عَدَم المبالغة في تعظيم العالِم ( المستَفتَى و غيرِه ) بأخذ كلّ ما يصدُر عنه ، أو اعتقاده إصابَتَه الحقَّ في كلّ ما يُفتي فيه أو يُخبِر به ، لأنَّه من بني البَشر ، ( و كلُّ بني آدَم خطّاء ، و خير الخطائين التوّابون ) كما أخبر صلى الله عليه وسلم [ فيما رواه الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ حسن ] ، و العالِم في هذا كغيره ؛ معرَّضٌٌٌ للخطأ ، و الوَهمِ ، و النسيان .
و لخطورة زلات العلماء عليهم و على الأتباع ، رأيت أن أضع بين يدي القارئ الكريم جملة مسائل ذات صلة بموضوعها ، مرتّبةً في مقاصد على النحو التالي :
المقصد الأول
في بيان المقصود بزلّة العالم
أقْدَمُ ذكر لزلات العلماء – فيما وقفت عليه – جاء في سنن أبي داود ، حيث روى عن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغلوطات [ رواه أبو داود في سننه ( 3171 ) بإسناد ضعيف ] .
قال الخطابي : الأغلوطات جمع أغلوطة : أفعولة من الغلط كالأحدوثة و الأعجوبة ... يقال : مسألة غَلوطٌ إذا كان يُغلَط فيها ، كما يقال : شاة حلوب ، و فرس رسوب ، فإذا جعلتها اسماً زدت فيها الهاء ، فقلتَ : غلوطة كما يقال حلوبة و ركوبة ... قال الأوزاعي : و هي شرار المسائل , و المعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها , و يسقط رأيهم فيها . [ عون المعبود : 10 / 64 ] .
كما ذُكِرَت زلات العلماء في معرِض التحذير منها فيما روي عن عدد من الصحابة ، منهم عمر بن الخطّاب ، و معاذ بن جبل ، رضي الله عنهما ، و سيأتي ذكرُها لاحقاً إن شاء الله .
و أصل الزلّة و الزَّلَل في اللغة من زلَّ يزِلُّ ، إذا انحَرفَ عن مساره ، أو نَزَل عن مستواه .
قال لبيد بن ربيعة [ كما في معجم البلدان : 4 / 108 و 224 ]:
لو يقـومُ الفِيلُ أو فَََيَّالُـهُ *** زَلَّ عن مِثْلِ مَقَامي و زَحَلْ
أي : لم يبلغ مكانتي بل انحطَّ عنها .
و عليه فبإمكاننا تحديد المراد من زلّة العالم بأنّه : خطؤه و مجانبته الصواب باجتهاد في آحاد المسائل ، مع سلامة أصوله في الاستدلال و التقعيد .
و كأنَّ المسألة التي زلَّ فيها لا تناسب مكانته في العلم و التحقيق و الوَرَع ، بل هي دونها ، أو مائلة عن السبيل التي ينتهجها عادةً .
المقصد الثاني
في التحذير من زلات العلماء وقوعاً فيها و متابعةً عليها
فإذا كان الآمر كذلك فلا غرابة في أن يبالغ المحققون في التحذير من متابعة العالم في زلاّته ، وممّن أجاد في هذا الباب و أفاد الحافظ أبو عمر بن عبد البر حيث أفرد فصلاً من كتابه ( الجامع في بيان العلم و فضله ) في خطر زلة العالم ، و نقله عنه ابن القيم [ في إعلام الموقعين : 2/173-175 ] ، و الشاطبي [ في الموافقات : 4/168- 172 ] .
قال ابن القيّم : ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه ) [ إعلام الموقعين : 2 / 173 ] .
و قال الإمام الشاطبي عقبَ إيراد كلام ابن عبد البر في خطَر زلّة العالم : ( لابد من النظر في أمور تبنى على هذا الأصل :
منها : أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، و لا الأخذ بها تقليداً له ، و ذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، و لذلك عُدَّت زلةً ، و إلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ، و لا نُسِب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير ، و لا أن يُشنَّعَ عليه بها ، و لا يُنتَقَصَ من أجلها ، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً ، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين ...
و منها : أنه لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية ، لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد ، و لا هي من مسائل الاجتهاد ، و إن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيه محلاً ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد , و إنما يُعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف ، و أما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا ، فلذلك لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل ، و المتعة ، و محاشي النساء ، و أشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها ) [ الموافقات ، للشاطبي : 4/170 و ما بعدها ] .
و قد رويَ أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا يكن أحدكم إمعةً يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت و إن أساءوا أسأت ، و لكن وطِّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس ، و إن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ) [ الحديث في بعض السنن ، و فيه مقال ] .
و رُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( ثلاث يهدمن الدين زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ) [ رواه الدارمي في سننه عن زياد بن حدير ، و أورده ابن تيميّة في الفتاوى الكبرى : 6 / 95 ، و صححه الألباني في مشكاة المصابيح بتحقيقه : 1 / 89 ، و روي نحوه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، انظر : الموافقات ، للشاطبي : 4 / 17 ، 18 و 4 / 168 ، و قد وردت في هذا المعنى أخبار مرفوعة ليس منها شيئ يصحّ ، انظر بعضها في : مجمع الزوائد : 1 / 186 ] .
و في مسند أبي حنيفة [ 1 / 68 ] أنَّ رجلا قال لمعاذ حين حضره الموت أوصني ، فقال : ( اتق زلة العالم ) ، و في بعض الروايات أنّ معاذاً قال ذلك للحارث بن عميرة ، و في إسناده شهر بن شوحب ، و فيه كلام [ انظر : مجمع الزوائد : 2 / 313 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العــالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و عند الدارمي عن محمد بن واسع قال : كان مسلم بن يسار يقول : ( إياكم و المراء فإنها ساعة جهل العالم و بها يبتغي الشيطان زلته ) .
و قال الفُضيل بن عياض رحمه الله : ( إني لأرحم ثلاثة : عزيز قوم ذلّ ، و غني قوم افتقر ، و عالماً تلعب به الدنيا ) .
و قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( من يتتبّع رُخَص المذاهِب ، و زلاّت المجتهدين فقد رقَّ دِينه ) [ سير أعلام النبلاء : 8 / 81 ] .
و حكى الزركشي أن القاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق الأزدي رحمه الله ، قال : ( دخلت على المعتضد ، فَدَفَع إليَّ كتاباً نظرت فيه ، و قد جمع فيه الرخص من زلل العلماء ، و ما احتج به كل منهم ، فقلت : إن مصنف هذا زنديق . فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رُوِيَت ، و لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، و من أباح المتعة لم يبح المسكر ، و ما من عالم إلا و له زلّة ، و من جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهـب دينه ، فأمَر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ) [ البحر المحيط : 6 / 326 ] .
و قد أحسن مَن قال :
أيُّهـا العـالِم إيّـاك الـزَلَـل *** و احـذَرِ الهفـوةَ فالخَطبُ جَلَـلْ
هفـوةُ العـالِـمِ مُـستَعظَمَـةٌ *** إن هَفَا يوماً أصبَحَ في الخَلْـقِ مَثَلْ
إن تكُـن عنـدَكَ مُـستَحقَـرةٌ *** فـهيَ عِنـدَ اللهِ و النـاسِ جَبَـلْ
أنتَ مِلـحُ الأرضِ ما يُصلحُـهُ *** إن بَــدا فيـهِ فَسـادٌ أو خَـلَـلْ
المقصد الثالث
في بيان مكمن الخطورة في زلات العلماء
كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .
و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
روى ابن ماجة و أبو داود و ابن حبّان و غيرهم بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أُفتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه ، و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ) .
قال المباركفوري : ( من أُفتِيَ بغير علم ) : على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم و هذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه . قاله في فتح الودود .
و قال الملا علي القاري : على صيغة المجهول , و قيل : من المعلوم يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل المسائل بها و لم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده ، ( يعلم ) : المراد بالعلم ما يشمل الظن ... ( فقد خانه ) : أي خان المُستشارُ المُستشيرَ إذ ورد أن المستشار مؤتمن , و من غشنا فليس منا . اهـ . [ عون المعبود : 10 / 65 ] .
قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، و أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، و الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، و هو و إن كان قَصَد و لا تعمد و صاحبه معذور و مأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم ، و قد قال الغزالي : إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرةً وهي في نفسها صغيرةٌ ، و ذَكر منها أمثلةً ، ثم قال : فهذه ذنوب يتبع العالم عليها ، فيموت العالم ، و يبقى شرُّه مستطيراً في العالَم أياماً متطاولةً ، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ، و هكذا الحكم مستمرٌ فى زلته فى الفتيا من باب أولى ، فإنه ربما خفي على العالِم بعض السنة أو بعضُ المقاصد العامة فى خصوص مسألته فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتَقَلَّد ، و قولاً يُعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه ، و تبين له الحق فيفوته تدارُك ما سار في البلاد عنه ، و يضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا : زلة العالم مضروب بها الطبل ) [ الموافقات : 4 / 170 ] .
و قال - رحمه الله – في هذا المعنى أيضاً : ( تستعظم شرعاً زلة العالم و تصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله و أفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلا لأنه موضوع مناراً يُهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به و توهموا فيها رخصة علم بها و لم يعلموها هم تحسينا للظن به و إن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع و ذلك كله راجع عليه ) [ في الموافقات : 3 / 317 ] .
و قال ابن القيّم : ( و من المعلوم أن المَخُوفَ في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره فإذا عَرَف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد و من لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه و كلاهما مفرط فيما أمر به ) [ إعلام الموقعين : 2 / 192 ] .
و قد أحسن من قال : « زلة العالم كالسفينة تغرق ، و يغرق معها خلق كثير » [ أدب الدنيا و الدين ، ص : 46 ، و انظر : الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 ] .
المقصد الرابع
الأسباب المفضية إلى زلل العالم :
إذا استقرأنا جملة من المسائل المعدودة من قبيل زلاّت العلماء سنقف و لا بدّ على أنّ السبب المفضي إلى وقوع العالم فيها غالباً ما يكون أحَدَ أمرين ، هما :
أولاً : مغالطة المستفتين للعلماء ، و استدراجهم إلى ما يريد المستفتي الوصول إليه ، بالتلبيس تارةً و التدليس عليهم تارةً أخرى ، حيث ترى المستفتي يضمِّن سؤاله الفتوى التي يريد الوصول إليها ، و لا يفتأ يراوغ حتى ينتزعَها من العالم انتزاعاً ، ثم يطير بها فرِحاً يبثُّها هنا و هناك .
و قد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثال هؤلاء المستَفْتين ، و الموفّق من العلماء مع عصمه الله من الوقوع في حبائلهم ، و وفَّقَه للإعراض عن ضلالاتهم ، و لعدم الركون إليهم .
ألا ترى أن من عظيم منن الله تعالى على خاتم أنبيائه و رسله أن ثبّته في وجه من أرادوا ليزلقوه بألسنتهم ، قال تعالى : ( و لَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [ الإسراء : 74 ] .
يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله : ( يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب ، أو تحليل محرم ، أو مكر ، أو خداع ، أن يعين المستفتي فيها ، و يرشده إلى مطلوبه ، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس و خداعهم و أحوالهم ، و لا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس و أمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، و إن لم يكن كذلك زاغ و أزاع ، و كم من مسألة ظاهرها جميل ، و باطنها مكر و خداع و ظلم ! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها ، و يقضي بجوازه ، و ذو البصيرة ينفُذُ إلى مقصدها و باطنها . فالأول يَرُوج عليه زَغَلُ المسائل كما ، يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم ، و الثاني يُخرِج زيفَها كما يخرج الناقد زيف النقود ، و كم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه و تنميقه و إبرازه في صورة حق ! و كم من حق يخرجه بتهجينه و سوء تعبيره في صورة باطل ! و من له أدنى فطنة و خبرة لا يخفى عليه ذلك ) [ إعلام الموقعين : 4/ 229 ] .
و من منطلق الخبرة بأحوال الناس ، و الوقوف على مكرهم و تحايلهم على الشرع و حَمَلَتِه ، كان الأئمة الأثبات و لا يزالون يحتاطون في الفتيا ، و يردون مسائل المغالطين .
قال إمام دار الهجرة رحمه الله : ( قال رجل للشعبي : إني خبأت لك مسائل فقال : خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها ) [ الآداب الشرعية : 2 / 56 ] .
ثانياً : مسايرة العلماء لمن يستفتيهم ، و هذا من أعظم البلاء الذي حلّ بالأمّة في العصر الحاضر ، إذ نبَغَت فيها نابغة من الملفّقة الذين لا يألون جهداً في تطويع الشريعة لظروف العصر ، بدلاً من تحكيم الشريعة في أمور العباد الدينيّة و الدنيويّة ، و كوّنت هذه الدعوة أرضاً خصبة للعصرانيين ، و دعاة التلفيق ، و الترخيص .
و يتذرّع هؤلاء بمراعاة مصالح العباد ، و تيسير أمور معاشهم ، تحت وطأة الضغوط الاجتماعيّة ، و خاصّةً تلك التي يقبع تحتها ـ اضطراراً أو اختياراً ـ أبناء الجاليات الإسلاميّة المقيمة في الغرب .
و إذ يراعي هؤلاء بعض مقاصد الشريعة في فتاواهم ، يضربون صفحاً عن أحد أهم تلك المقاصد ، و هو تحقيق العبوديّة الحقّة من العباد لبارئهم .
يقول الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
و من زلَلِ بعض العلماء المعاصرين اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى ، إلى حدٍّ انتهى بأصحابه إلى تحليل بعض المحرمات ، و إضعاف الوازع في نفوس المسلمين ، حتى أشربت قلوب الكثيرين منهم الفتن ، و قصرت هممهم عن القيام بما افتُرضَ عليهم ، و حُلَّت كثيرٌ من عرى الإسلام استناداً إلى فتاوى ميسِّرة ( أو مسايِرة ) للواقع .
و من أشنع صور المسايرة في العصر الحديث ممالأة الحكام و التغاضي عن مخالفاتهم ، و تبرير تعطيلهم لأحكام الشريعة الربّانيّة ، و استبدالها بزبالات الأذهان ، و شرائع الوضّاعين ، بدعوى الالتقاء مع المخالفين ( من المبتدعة و العصرانيين و الملاحدة ) على أرضيّة ( وطنيّة أو قوميّة ) جامعة ، تذيب الفوارق و الخلافات العقديّة ( و الطائفية ) ، و تقرّب بين الفِرَق و الأديان ، تحت مسمى التعايش تارةً ، و التقريب بين المذاهب ، و حوار الحضارات تارات أُخَر .
و لا ريب في أنّ من دعا إلى شيء من ذلك فهو من أئمّة الضلال ، و ينبغي أن لا يغترّ بظهوره في لبوس العلماء ، في زمنٍ تكاثر ( و ظَهرَ في بعض البلدان ) فيه علماء السوء ، و استطار شرّهم .
و من المغالطة اعتبار هذه الدعوات من قبيل زلات العلماء ، بل هي عين الباطل و الضلال ، و إن كان دعاتها يتذرّعون إلى الوصول إليها و ترويجها بمقولات بعض العلماء ، فهي في أصلها زلّة ، و لكنها ضلالٌ مبين بالنظر إلى ما آلت إليه ، و بالله العصمة .
المقصد الخامس
في بيان الواجب على الأتباع تجاه العالم إذا بدت زلّته
لخطورة وقوع العالم في الزلاّت ابتداءً ، و متابعته فيها ، و تلقّف الشواذّ من أقواله انتهاءً ، حذَّر أهل العِلم منها ، و أنكروا من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النصيحة .
روى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ) ، قلنا : لمن ؟ قال : ( لله عزَّ و جل ، و لكتابه ، و لرسوله ، و لأئمة المؤمنين ، و عامتهم ) .
و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها ) [ جامع العلوم و الحكم ، ص : 98 ] .
و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العــالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
و في رواية عنه رضي الله عنه ، أنّه قال : ( ويل للعالم من الأتباع ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] ، أي لما يتابعونه فيه من الزلات .
فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، و ورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله ) [ الفتاوى الكبرى : 6 / 92] .
و قال أيضاً : ( ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم و الإيمان إلا بما هم له أهل ) [ الفتاوى الكبرى : 2 / 23 ، و مجموع الفتوى : 32 / 239 ] .
و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) [ سير أعلام النبلاء : 40/14 ] .
الثاني : الإعراض عن المسائل المعدودة من قبيل زلات العلماء ، و عدم ذكرها أو العمل بها ، أو الانتصار لها ، أو الدعوة إليها ، كي لا يغترّ أحدٌ بها لصدورها من عالم موثوق في علمه ، و عدالته ، و رجاحة رأيه ، فيصير الناس إلى تقليده فيها مع ظهور الخطأ عنده ، و جلاء الحق عند غيره ، أو إلى الطعن فيه ، و غمز قناته ممّن دأبوا على تتبّع السقطات ، و الطعن في العلماء و الدعاة .
قال ابن الجوزي في كتابه السر المكتوم : ( هذه الفصول هي أصول الأصول و هي ظاهره البرهان ، لا يهولنك مخالفتها لقول معظم في النفس ، و قد قال رجل لعلي عليه السلام أتظن أنا نظن أن طلحة و الزبير على الخطأ و أنت على الصواب ؟ فقال : إنه ملبوس عليك ، اِعرِف الحق تعرف أهله . و قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن ابن المبارك قال كذا فقال إن ابن المبارك لم ينزل من السماء [ الفروع في الفقه الحنبلي : 6 / 381 ] .
و قال الإمام القرطبي [ في تفسيره : 10 / 131 ] و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لاحجة في قول أحد مع السنة ) .
و قال شيخ الإسلام : ( إن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ ، غفر للجاهل إذا أخطأ و لم يمكنه التعلم ، بل المفسدة التى تحصل بفعل واحد من العامة محرماً لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، أقل بكثير من المفسدة التى تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع ، و هو لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، و لهذا قيل : احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالَمٌ ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] .
فالديانة ـ إذن ـ في متابعة الحق و أخذه من لسان و مقال من قال به كائناً من كان ، و الإعراض عن الخطأ ، و ردّه على من قال به كائناً من كان ، و حذار حذار من غلوٍ في متبوع يصد عن اتباع المشروع .
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر) .
و ما أبلغ و أحكم قول معاذ بن جبل رضي الله عنه فيما رواه عنه أبو داود بإسنادٍ صحيح : ( و أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، قال الراوي : قلت لمعاذ : ما يدريني – رحمك الله – أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، و أن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ، اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال لها : ما هذه ، و لا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع ، و تلقّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً ) .
فإذا تقرر هذا و بان الحق فيه ، ظهر لنا أن من زلات العلماء التي ينبغي الإعراض عنها ، مع إحسان الظن فيمن وقع فيها مجتهداً ـ تقديم بعض العلماء أقوال أئمة المذاهب على سواها ، و إن ظهر لهم في خلافه الحقُّ بدليله من الكتاب أو السنّة الثابتة ـ و من أمثلة ذلك ما قاله بعض المالكيّة : ( لما قال مالك في رواية ابن القاسم في المدونة أكره القبض في الفريضة تركته ، و لو كان في الموطأ و الصحيحين الاقتصار على حديث الأمر به و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) .اهـ . [ فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ] .
و مثل هذا القول في النكارة ما ينسب إلى الإمام السبكي الشافعي ، من قول : ( الحكم بخلاف الصحيح في المذهب مندرج في الحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى ) .
و نحو هذا كثير في كلام متعصّبة المذاهب .
و هو ما لا نقرّه ، و لا نقول به ، بل يتعين علينا و نحن ننشد الحق ، و لا نتعصّب لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبرأ من كلّ ما خالف الشرع و نردّه على قائله ، و ننظر في حال من قال به ، و نرى قوله : ( إما زلة عالم و وهلة فاضل عاقل ; أو افتراء كاذب فاسق ) بحسب حاله ، كما قال الإمام ابن حزم الظاهري في معرض ردّه بعض الأقوال الفاسدة [ انظر : المحلى : 3 / 219 ] .
المقصد السادس
في بيان الواجب على العالم إذا بان خطؤه
البشر هم البشر ، لا عصمة لأحدٍ منهم بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كلّهم خطاء ، و خير الخطّائين التوابون .
و قد نُدبنا إلى الرجوع عن الخطأ ، و التوبة من المعصية ، و لا فَرق في ذلك بين عامي و عالم ، أو أمير و مأمور ، أو كبير و صغير .
و مِن جملة الأخطاء التي يجب الرجوع عنها ما يقع فيه العالم من زلات في الفتيا و التأليف أو غير ذلك ، و حريٌّ به إن بان له الحق أن يرجع إليه ، و يعضَّ عليه بالنواجذ ، لينجو بنفسه ، و ينجو بنجاته الأتباع من بعده .
و له في ذلك أسوة حسنةٌ في نبيِّ الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيراً إلا و أرشدنا إليه ، و لا شراً إلا أخذ بحُجَزِنا فصرفنا عنه ، و حذَّرَنا منه ، و قد كان مدرسةً في اتباع الحقّ و الرجوع عمّا يخالفه .
فقد قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر يبكيان بعد أن تبيّن لهما الحق في مسألة أسارى بدر ، خلافاً لما ذهبا إليه .
أخرج مسلم في صحيحه عن عمَر بن الخطّاب رضي الله عنه في قصّة أسارى بدر ـ و كانوا سبعين رجلاً من المشركين ـ أنّهم : ( لما أسروا الأسارى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ، و عمر : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم و العشيرة أرى أن تأخذ منهم فديةً ، فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قلت : لا و الله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، و لكني أرى أن تُمكنا فنضرب أعناقهم ... فهَوِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، و لم يهوَ ما قلتُ ، فلما كان من الغد جئتُ ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر قاعِدَين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي ، أنت و صاحبك فإن وجدت بكاءً بكيتُ ، و إن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أبكي للذي عَرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم ، و أنزل الله عز و جل : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ و اللهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 67 ] .
فما أروعه من مثَل ، و يالِحُسنِها من تربية !
نبيّ الرحمة ، و صدّيق هذه الأمّة ، يبكيان ، و يعلّمان الدعاة و العلماء ، أدباً رفيعاً من آداب الدعاة ، في الرجوع إلى الحق ، و التمسك به .
و هكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم من بعده ، يتلمسون سبل الهدى ، و ينصاعون إلى الحق ، و يعرضون عمّا يخالفه ، و لا يجد الواحد منهم غضاضةً في الرجوع عن رأيه ، و قبول الحقّ ممّن جاء به ، كائناً من كان .
كيف ، و هم المتواصون بالحقّ ، المتواصون بالصبر !!
و ما أجمل قول فاروق هذه الأمة رضي الله عنه في كتابه لمعاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : ( و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) .
قال السرخسي رحمه الله معقباً على كلام الفاروق هذا : ( و ليس هذا في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ و المفتي و القاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك ، فزلة العالم سبب لفتنة الناس ... و قوله : الحق قديم ؛ يعنى هو الأصل المطلوب ، و لأنه لا تنكتم زلة من زل ، بل تظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً ، ثم العقلاء ، من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل ) [ المبسوط : 16 / 62 ] .
قلت : و ما إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه ، و وضوح المحجّة بين يديه ، إلا ضرب من ضروب المكابرة ، لا يصير إليها إلا مخذول أخذته العزّة بالاثم ، فآثر العاجل على الآجل ، و هذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً و حديثاً ، و لهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير و التحذير .
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، و لا يستنون بسنتي ، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) .
و روى أحمد و غيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لكعب : إني أسألك عن أمر فلا تكتمني قال : و الله لا أكتمك شيئاً أعلمه . قال : ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أئمة مضلون . قال عمر : صدقت ، قد أسر ذلك إليَّ و أعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
و قال عبد الله بن المبارك رحِمَه الله :
و هل أفسد الدين إلا الملوك *** و أحبار سـوء و رهبانـها
و مثل أحبار ( علماء ) السوء كما روي عن المسيح عليه السلام : كمثل صخرة وقعت في فم النهر ، لا هي تشرب و لا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ، أو كمثل قناة الحُش ظاهرها جص و باطنها نتن ، و مثل القبور ظاهرها عامر و باطنها عظام . [ انظر : إحياء علوم الدين: 1/74 ] .
و ردعاً لهؤلاء ( ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتيين ، فمن صلح للفتيا أقره ، و من لا يصلح منعه ، و نهاه أن يعود ، و تواعده بالعقوبة إن عاد ، و طريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى ، أن يسأل علماء وقته ، و يعتمد أخبار الموثوقين فيهم ) قاله الخطيب البغدادي [ كما في آداب الفتوى ، للنووي ، ص : 17 ، 18 ] .
قال ابن القيم رحمه الله : ( من أفتى الناس ، و ليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ ، و من أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً ) .
ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قوله : ( و يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية ، و هؤلاء بمنـزلة من يدل الركب و ليس له علم بالطريق ، و بمنـزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، و بمنـزلة من لا معرفة له بالطب ، و هو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، و إذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب و السنة و لم يتفقه في الدين ! ) [ إعلام الموقّعين : 4 / 17 ] .
خاتمة
و بعد فقد علَّق الإمام البخاري في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قوله : ( ثلاث من جمعن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، و بذل السلام للعالم ، و الإنفاق من الإقتار ) .
قال الحافظ في الفتح : ( قال أبو الزناد بن سراج و غيره : إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها ; لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه , و لم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه , و هذا يجمع أركان الإيمان ) [ فتح الباري : 1 / 83 ] .
قلتُ : و بقَدر ما يبتعد المرء عن الإنصاف ، يكون الصواب عنه بعيداً ، و من رامَ الحقَّ ، أنصفَ الخَلقَ و رَحِمَهم .
و طلباً للإنصاف ، و إحقاقاً للحق ، لا غيرَ كان عَملي في هذا البحث ، تربيةً لنفسي ، و تذكيراً لإخواني طلبة العلم بما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه أهل العلم و الفضل .
و خشية الإفراط في إجلال العلماء ، و تقديسهم عن الأخطاء ، كان لزاماً علينا التذكير بأنّهم بشَرٌ يصيبون و يخطئون ، و إن كانوا في معظم الأحوال موافقين للحقّ فيما يقولون و يفعلون ، و أنّهم عنه لا يعدلون ، إلا أن تقَع منهم زلّة ، في حال التباسٍ أو غَفلة .
فإن وقَعَت منهم الزلّة ( أو وَقعوا فيها ) رأيتَ الناس بسبَبِها فِسطاطين ، مُفرِطٌ و مُفَرِّط .
مُفرِطٌ في تتبّع الزلاّت سواء كان قَصدُه الأخذ بها في العَمَل تَرخُّصاً ، أو الطَعن بسببها فيمن صدَرَت عنه تطاولاً و تنقصاً .
و مُفرّطٌ فيما أوجبه الله عليه ، من عدَم التقديم بينَ يديه ، و عَدَم الغلوّ في أحَدٍ من خلقه بالردّ – قبل الكتاب و السنّة - إليه .
و كلا الفريقين مجانبٌ للصواب ، صائرٌ إلى تباب ، ما لم يمتنَّ الله عليه بالتوبة قبل الحساب .
و قد بيّنت في رسالتي هذه ما يقتضي المقام تبيانه في هذا الباب ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .
و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
و الحمد لله ربّ العالمين
و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين
و كتب
أحمد بن عبد الكريم نجيب
تعليق