إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

موقف العُقَلاء من زلات الدعاة و العُلَماء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [منقول] موقف العُقَلاء من زلات الدعاة و العُلَماء

    تقديم

    الحمد لله و كفى و صلاةً و سلاماً على عباده الذين اصطفى ، و بعد :
    فإنّ الله تعالى أبى العصمةَ إلا لكتابه الذي ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ و لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ، و لنبيّه صلى الله عليه و سلّم في تبليغ الرسالة ، و ذلك مقتضى حفظ دينه ، و إقامة حجّته على خلقه .
    و اصطفى تعالى لحمل العلم من كلّ خلفٍ عدولَه و خصّهم بالفهم و الاستنباط السليم ، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجّة و بيان المحجّة ، و استشعروا عِظَم واجب التبليغ و التوقيع عن ربّ العالمين فقاموا به خيرَ قيامٍ ، تحمُّلاً و أداءً ، و كان حقّاً على من عرَف فضلهم ، و خبرَ سبقهم أن يتقرّب إلى الله بحبّهم و الذبّ عن أعراضهم ، كيفَ و هم أهل الذكر الذين أُمرنا بسؤالهم و طاعتهم ، كما في قوله تعالى : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [ النحل : 43 ] .
    و ما ابتُليَ عالمٌ بجاهلٍ بقدرهِ ، طاعنٍ في دينه أو علمه ، إلاّ قيّض الله له من ينافح عنه و يذبّ عن عِرضه ، و هذا واجب كفائيٌّ في أقلِّ أحواله .
    و إن فرَّطَ في القيام بواجب الذبّ عن العلماء أقوامٌ ، فقد أفرَط آخرون في هذا الباب ، فجانبوا الصواب ، و صاروا إلى الممنوع ؛ بمجاوزةِ المشروع ، حيث غلَوا في علمائهم ، و تعصبّوا لآرائهم و أقوالهم ، و نصّبوا أنفسهم للتبرير و الدفاع عن زلاّتهم ، و هذا من أشنع أنواع التعصّب ، في التقليد و التمذهُب .
    و صار أهل الحقّ – و هم أوسط الناس و أعدلهم – إلى إعمال الدليل ، و التماس العذر للعالم في زلّته ، و التأدّب في ردّ مقالته و عَدَم المبالغة في تعظيم العالِم ( المستَفتَى و غيرِه ) بأخذ كلّ ما يصدُر عنه ، أو اعتقاده إصابَتَه الحقَّ في كلّ ما يُفتي فيه أو يُخبِر به ، لأنَّه من بني البَشر ، ( و كلُّ بني آدَم خطّاء ، و خير الخطائين التوّابون ) كما أخبر صلى الله عليه وسلم [ فيما رواه الترمذي و ابن ماجة و أحمد بإسنادٍ حسن ] ، و العالِم في هذا كغيره ؛ معرَّضٌٌٌ للخطأ ، و الوَهمِ ، و النسيان .
    و لخطورة زلات العلماء عليهم و على الأتباع ، رأيت أن أضع بين يدي القارئ الكريم جملة مسائل ذات صلة بموضوعها ، مرتّبةً في مقاصد على النحو التالي :

    المقصد الأول
    في بيان المقصود بزلّة العالم

    أقْدَمُ ذكر لزلات العلماء – فيما وقفت عليه – جاء في سنن أبي داود ، حيث روى عن ‏ ‏معاوية ‏أن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏نهى عن ‏ ‏الغلوطات [ رواه أبو داود في سننه ( 3171 ) بإسناد ضعيف ] .
    قال الخطابي : الأغلوطات جمع أغلوطة : أفعولة من الغلط كالأحدوثة و الأعجوبة ... يقال : مسألة غَلوطٌ إذا كان يُغلَط فيها ، كما يقال : شاة حلوب ، و فرس رسوب ، فإذا جعلتها اسماً زدت فيها الهاء ، فقلتَ : غلوطة كما يقال حلوبة و ركوبة ... قال الأوزاعي : و هي شرار المسائل , و المعنى أنه نهى أن يعترض العلماء بصعاب المسائل التي يكثر فيها الغلط ليستزلوا بها , و يسقط رأيهم فيها . [ عون المعبود : 10 / 64 ] .
    كما ذُكِرَت زلات العلماء في معرِض التحذير منها فيما روي عن عدد من الصحابة ، منهم عمر بن الخطّاب ، و معاذ بن جبل ، رضي الله عنهما ، و سيأتي ذكرُها لاحقاً إن شاء الله .
    و أصل الزلّة و الزَّلَل في اللغة من زلَّ يزِلُّ ، إذا انحَرفَ عن مساره ، أو نَزَل عن مستواه .
    قال لبيد بن ربيعة [ كما في معجم البلدان : 4 / 108 و 224 ]:
    لو يقـومُ الفِيلُ أو فَََيَّالُـهُ *** زَلَّ عن مِثْلِ مَقَامي و زَحَلْ
    أي : لم يبلغ مكانتي بل انحطَّ عنها .
    و عليه فبإمكاننا تحديد المراد من زلّة العالم بأنّه : خطؤه و مجانبته الصواب باجتهاد في آحاد المسائل ، مع سلامة أصوله في الاستدلال و التقعيد .
    و كأنَّ المسألة التي زلَّ فيها لا تناسب مكانته في العلم و التحقيق و الوَرَع ، بل هي دونها ، أو مائلة عن السبيل التي ينتهجها عادةً .

    المقصد الثاني
    في التحذير من زلات العلماء وقوعاً فيها و متابعةً عليها

    فإذا كان الآمر كذلك فلا غرابة في أن يبالغ المحققون في التحذير من متابعة العالم في زلاّته ، وممّن أجاد في هذا الباب و أفاد الحافظ أبو عمر بن عبد البر حيث أفرد فصلاً من كتابه ( الجامع في بيان العلم و فضله ) في خطر زلة العالم ، و نقله عنه ابن القيم [ في إعلام الموقعين : 2/173-175 ] ، و الشاطبي [ في الموافقات : 4/168- 172 ] .
    قال ابن القيّم : ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه ) [ إعلام الموقعين : 2 / 173 ] .
    و قال الإمام الشاطبي عقبَ إيراد كلام ابن عبد البر في خطَر زلّة العالم : ( لابد من النظر في أمور تبنى على هذا الأصل :
    منها : أن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، و لا الأخذ بها تقليداً له ، و ذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ، و لذلك عُدَّت زلةً ، و إلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة ، و لا نُسِب إلى صاحبها الزلل فيها ، كما أنه لا ينبغي أن يُنسب صاحبها إلى التقصير ، و لا أن يُشنَّعَ عليه بها ، و لا يُنتَقَصَ من أجلها ، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتاً ، فإن هذا كله خلاف ما تقضي رتبته في الدين ...
    و منها : أنه لا يصح اعتمادها خلافاً في المسائل الشرعية ، لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد ، و لا هي من مسائل الاجتهاد ، و إن حصل من صاحبها اجتهاد فهو لم يصادف فيه محلاً ، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد , و إنما يُعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة ، كانت مما يقوى أو يضعف ، و أما إذا صدرت عن مجرد خفاء الدليل أو عدم مصادفته فلا ، فلذلك لا يصح أن يعتد بها في الخلاف ، كما لم يعتد السلف الصالح بالخلاف في مسألة ربا الفضل ، و المتعة ، و محاشي النساء ، و أشباهها من المسائل التي خفيت فيها الأدلة على من خالف فيها ) [ الموافقات ، للشاطبي : 4/170 و ما بعدها ] .
    و قد رويَ أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( لا يكن أحدكم إمعةً يقول : أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت و إن أساءوا أسأت ، و لكن وطِّنوا أنفسكم على أن تحسنوا إن أحسن الناس ، و إن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم ) [ الحديث في بعض السنن ، و فيه مقال ] .
    و رُويَ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ( ثلاث يهدمن الدين زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ) [ رواه الدارمي في سننه عن زياد بن حدير ، و أورده ابن تيميّة في الفتاوى الكبرى : 6 / 95 ، و صححه الألباني في مشكاة المصابيح بتحقيقه : 1 / 89 ، و روي نحوه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ، انظر : الموافقات ، للشاطبي : 4 / 17 ، 18 و 4 / 168 ، و قد وردت في هذا المعنى أخبار مرفوعة ليس منها شيئ يصحّ ، انظر بعضها في : مجمع الزوائد : 1 / 186 ] .
    و في مسند أبي حنيفة [ 1 / 68 ] أنَّ رجلا قال لمعاذ حين حضره الموت أوصني ، فقال : ( اتق زلة العالم ) ، و في بعض الروايات أنّ معاذاً قال ذلك للحارث بن عميرة ، و في إسناده شهر بن شوحب ، و فيه كلام [ انظر : مجمع الزوائد : 2 / 313 ] .
    و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العــالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
    و عند الدارمي عن ‏محمد بن واسع ‏ ‏قال : ‏كان ‏ ‏مسلم بن يسار ‏ ‏يقول :‏ ‏( إياكم ‏ ‏و المراء ‏ ‏فإنها ساعة جهل العالم و بها يبتغي الشيطان‏ زلته ) .
    و قال الفُضيل بن عياض رحمه الله : ( إني لأرحم ثلاثة : عزيز قوم ذلّ ، و غني قوم افتقر ، و عالماً تلعب به الدنيا ) .
    و قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( من يتتبّع رُخَص المذاهِب ، و زلاّت المجتهدين فقد رقَّ دِينه ) [ سير أعلام النبلاء : 8 / 81 ] .
    و حكى الزركشي أن القاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق الأزدي رحمه الله ، قال : ( دخلت على المعتضد ، فَدَفَع إليَّ كتاباً نظرت فيه ، و قد جمع فيه الرخص من زلل العلماء ، و ما احتج به كل منهم ، فقلت : إن مصنف هذا زنديق . فقال : ألم تصح هذه الأحاديث ؟ قلت : الأحاديث على ما رُوِيَت ، و لكن من أباح المسكر لم يبح المتعة ، و من أباح المتعة لم يبح المسكر ، و ما من عالم إلا و له زلّة ، و من جمع زلل العلماء ، ثم أخذ بها ذهـب دينه ، فأمَر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب ) [ البحر المحيط : 6 / 326 ] .
    و قد أحسن مَن قال :
    أيُّهـا العـالِم إيّـاك الـزَلَـل *** و احـذَرِ الهفـوةَ فالخَطبُ جَلَـلْ
    هفـوةُ العـالِـمِ مُـستَعظَمَـةٌ *** إن هَفَا يوماً أصبَحَ في الخَلْـقِ مَثَلْ
    إن تكُـن عنـدَكَ مُـستَحقَـرةٌ *** فـهيَ عِنـدَ اللهِ و النـاسِ جَبَـلْ
    أنتَ مِلـحُ الأرضِ ما يُصلحُـهُ *** إن بَــدا فيـهِ فَسـادٌ أو خَـلَـلْ

    المقصد الثالث
    في بيان مكمن الخطورة في زلات العلماء

    كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .
    و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
    ‏روى ابن ماجة و أبو داود و ابن حبّان و غيرهم بإسناد حسن عن أبي هريرة ‏ رضي الله عنه ، أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ قال : ( ‏من أُفتِيَ بغير علم كان إثمه على من أفتاه ‏، و من أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه ‏) .
    قال المباركفوري : ( من أُفتِيَ بغير علم ) ‏: على بناء المفعول أي من وقع في خطأ بفتوى عالم فالإثم على ذلك العالم و هذا إذا لم يكن الخطأ في محل الاجتهاد أو كان إلا أنه وقع لعدم بلوغه في الاجتهاد حقه . قاله في فتح الودود .
    ‏و قال الملا علي القاري : على صيغة المجهول , و قيل : من المعلوم يعني كل جاهل سأل عالماً عن مسألة فأفتاه العالم بجواب باطل فعمل المسائل بها و لم يعلم بطلانها فإثمه على المفتي إن قصر في اجتهاده ، ‏( يعلم ) ‏‏: المراد بالعلم ما يشمل الظن ... ‏( فقد خانه ) ‏‏: أي خان المُستشارُ المُستشيرَ إذ ورد أن المستشار مؤتمن , و من غشنا فليس منا . اهـ . [ عون المعبود : 10 / 65 ] .
    قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ، و أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه ، و الوقوف دون أقصى المبالغة في البحث عن النصوص فيها ، و هو و إن كان قَصَد و لا تعمد و صاحبه معذور و مأجور ، لكن مما ينبني عليه في الاتباع لقوله فيه خطر عظيم ، و قد قال الغزالي : إن زلة العالم بالذنب قد تصير كبيرةً وهي في نفسها صغيرةٌ ، و ذَكر منها أمثلةً ، ثم قال : فهذه ذنوب يتبع العالم عليها ، فيموت العالم ، و يبقى شرُّه مستطيراً في العالَم أياماً متطاولةً ، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه ، و هكذا الحكم مستمرٌ فى زلته فى الفتيا من باب أولى ، فإنه ربما خفي على العالِم بعض السنة أو بعضُ المقاصد العامة فى خصوص مسألته فيفضي ذلك إلى أن يصير قوله شرعاً يُتَقَلَّد ، و قولاً يُعتبر في مسائل الخلاف ، فربما رجع عنه ، و تبين له الحق فيفوته تدارُك ما سار في البلاد عنه ، و يضل عنه تلافيه فمن هنا قالوا : زلة العالم مضروب بها الطبل ) [ الموافقات : 4 / 170 ] .
    و قال - رحمه الله – في هذا المعنى أيضاً : ( تستعظم شرعاً زلة العالم و تصير صغيرته كبيرة من حيث كانت أقواله و أفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلا لأنه موضوع مناراً يُهتدى به فإن علم كون زلته زلة صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسيا به و توهموا فيها رخصة علم بها و لم يعلموها هم تحسينا للظن به و إن جهل كونها زلة فأحرى أن تحمل عنه محمل المشروع و ذلك كله راجع عليه ) [ في الموافقات : 3 / 317 ] .
    و قال ابن القيّم : ( و من المعلوم أن المَخُوفَ في زلة العالم تقليده فيها إذ لولا التقليد لم يُخَف من زلة العالم على غيره فإذا عَرَف أنها زلة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين فإنه اتباع للخطأ على عمد و من لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه و كلاهما مفرط فيما أمر به ) [ إعلام الموقعين : 2 / 192 ] .
    و قد أحسن من قال : « زلة العالم كالسفينة تغرق ، و يغرق معها خلق كثير » [ أدب الدنيا و الدين ، ص : 46 ، و انظر : الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 ] .

    المقصد الرابع
    الأسباب المفضية إلى زلل العالم :

    إذا استقرأنا جملة من المسائل المعدودة من قبيل زلاّت العلماء سنقف و لا بدّ على أنّ السبب المفضي إلى وقوع العالم فيها غالباً ما يكون أحَدَ أمرين ، هما :
    أولاً : مغالطة المستفتين للعلماء ، و استدراجهم إلى ما يريد المستفتي الوصول إليه ، بالتلبيس تارةً و التدليس عليهم تارةً أخرى ، حيث ترى المستفتي يضمِّن سؤاله الفتوى التي يريد الوصول إليها ، و لا يفتأ يراوغ حتى ينتزعَها من العالم انتزاعاً ، ثم يطير بها فرِحاً يبثُّها هنا و هناك .
    و قد رزئت هذه الأمة منذ القدم بأمثال هؤلاء المستَفْتين ، و الموفّق من العلماء مع عصمه الله من الوقوع في حبائلهم ، و وفَّقَه للإعراض عن ضلالاتهم ، و لعدم الركون إليهم .
    ألا ترى أن من عظيم منن الله تعالى على خاتم أنبيائه و رسله أن ثبّته في وجه من أرادوا ليزلقوه بألسنتهم ، قال تعالى : ( و لَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [ الإسراء : 74 ] .
    يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله : ( يحرم عليه ـ أي على المفتي ـ إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب ، أو تحليل محرم ، أو مكر ، أو خداع ، أن يعين المستفتي فيها ، و يرشده إلى مطلوبه ، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس و خداعهم و أحوالهم ، و لا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس و أمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، و إن لم يكن كذلك زاغ و أزاع ، و كم من مسألة ظاهرها جميل ، و باطنها مكر و خداع و ظلم ! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها ، و يقضي بجوازه ، و ذو البصيرة ينفُذُ إلى مقصدها و باطنها . فالأول يَرُوج عليه زَغَلُ المسائل كما ، يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم ، و الثاني يُخرِج زيفَها كما يخرج الناقد زيف النقود ، و كم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه و تنميقه و إبرازه في صورة حق ! و كم من حق يخرجه بتهجينه و سوء تعبيره في صورة باطل ! و من له أدنى فطنة و خبرة لا يخفى عليه ذلك ) [ إعلام الموقعين : 4/ 229 ] .
    و من منطلق الخبرة بأحوال الناس ، و الوقوف على مكرهم و تحايلهم على الشرع و حَمَلَتِه ، كان الأئمة الأثبات و لا يزالون يحتاطون في الفتيا ، و يردون مسائل المغالطين .
    قال إمام دار الهجرة رحمه الله : ( قال رجل للشعبي : إني خبأت لك مسائل فقال : خبئها لإبليس حتى تلقاه فتسأله عنها ) [ الآداب الشرعية : 2 / 56 ] .
    ثانياً : مسايرة العلماء لمن يستفتيهم ، و هذا من أعظم البلاء الذي حلّ بالأمّة في العصر الحاضر ، إذ نبَغَت فيها نابغة من الملفّقة الذين لا يألون جهداً في تطويع الشريعة لظروف العصر ، بدلاً من تحكيم الشريعة في أمور العباد الدينيّة و الدنيويّة ، و كوّنت هذه الدعوة أرضاً خصبة للعصرانيين ، و دعاة التلفيق ، و الترخيص .
    و يتذرّع هؤلاء بمراعاة مصالح العباد ، و تيسير أمور معاشهم ، تحت وطأة الضغوط الاجتماعيّة ، و خاصّةً تلك التي يقبع تحتها ـ اضطراراً أو اختياراً ـ أبناء الجاليات الإسلاميّة المقيمة في الغرب .
    و إذ يراعي هؤلاء بعض مقاصد الشريعة في فتاواهم ، يضربون صفحاً عن أحد أهم تلك المقاصد ، و هو تحقيق العبوديّة الحقّة من العباد لبارئهم .
    يقول الشاطبي رحمه الله : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [ الموافقات : 2 / 128 ] .
    و من زلَلِ بعض العلماء المعاصرين اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى ، إلى حدٍّ انتهى بأصحابه إلى تحليل بعض المحرمات ، و إضعاف الوازع في نفوس المسلمين ، حتى أشربت قلوب الكثيرين منهم الفتن ، و قصرت هممهم عن القيام بما افتُرضَ عليهم ، و حُلَّت كثيرٌ من عرى الإسلام استناداً إلى فتاوى ميسِّرة ( أو مسايِرة ) للواقع .
    و من أشنع صور المسايرة في العصر الحديث ممالأة الحكام و التغاضي عن مخالفاتهم ، و تبرير تعطيلهم لأحكام الشريعة الربّانيّة ، و استبدالها بزبالات الأذهان ، و شرائع الوضّاعين ، بدعوى الالتقاء مع المخالفين ( من المبتدعة و العصرانيين و الملاحدة ) على أرضيّة ( وطنيّة أو قوميّة ) جامعة ، تذيب الفوارق و الخلافات العقديّة ( و الطائفية ) ، و تقرّب بين الفِرَق و الأديان ، تحت مسمى التعايش تارةً ، و التقريب بين المذاهب ، و حوار الحضارات تارات أُخَر .
    و لا ريب في أنّ من دعا إلى شيء من ذلك فهو من أئمّة الضلال ، و ينبغي أن لا يغترّ بظهوره في لبوس العلماء ، في زمنٍ تكاثر ( و ظَهرَ في بعض البلدان ) فيه علماء السوء ، و استطار شرّهم .
    و من المغالطة اعتبار هذه الدعوات من قبيل زلات العلماء ، بل هي عين الباطل و الضلال ، و إن كان دعاتها يتذرّعون إلى الوصول إليها و ترويجها بمقولات بعض العلماء ، فهي في أصلها زلّة ، و لكنها ضلالٌ مبين بالنظر إلى ما آلت إليه ، و بالله العصمة .

    المقصد الخامس
    في بيان الواجب على الأتباع تجاه العالم إذا بدت زلّته

    لخطورة وقوع العالم في الزلاّت ابتداءً ، و متابعته فيها ، و تلقّف الشواذّ من أقواله انتهاءً ، حذَّر أهل العِلم منها ، و أنكروا من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النصيحة .
    روى مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة ) ، قلنا : لمن ؟ قال : ( لله عزَّ و جل ، و لكتابه ، و لرسوله  ، و لأئمة المؤمنين ، و عامتهم ) .
    و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها ) [ جامع العلوم و الحكم ، ص : 98 ] .
    و رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العــالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : ( يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله صلى الله عليه وسلم فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ) [ الموافقات ، للشاطبي : 3 / 318 و الفتاوى الكبرى ، لابن تيميّة : 6 / 96 ] .
    و في رواية عنه رضي الله عنه ، أنّه قال : ( ويل للعالم من الأتباع ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] ، أي لما يتابعونه فيه من الزلات .
    فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، و ورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
    الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله ) [ الفتاوى الكبرى : 6 / 92] .
    و قال أيضاً : ( ليس لأحد أن يتبع زلات العلماء كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم و الإيمان إلا بما هم له أهل ) [ الفتاوى الكبرى : 2 / 23 ، و مجموع الفتوى : 32 / 239 ] .
    و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة ) [ سير أعلام النبلاء : 40/14 ] .
    الثاني : الإعراض عن المسائل المعدودة من قبيل زلات العلماء ، و عدم ذكرها أو العمل بها ، أو الانتصار لها ، أو الدعوة إليها ، كي لا يغترّ أحدٌ بها لصدورها من عالم موثوق في علمه ، و عدالته ، و رجاحة رأيه ، فيصير الناس إلى تقليده فيها مع ظهور الخطأ عنده ، و جلاء الحق عند غيره ، أو إلى الطعن فيه ، و غمز قناته ممّن دأبوا على تتبّع السقطات ، و الطعن في العلماء و الدعاة .
    قال ابن الجوزي في كتابه السر المكتوم : ( هذه الفصول هي أصول الأصول و هي ظاهره البرهان ، لا يهولنك مخالفتها لقول معظم في النفس ، و قد قال رجل لعلي عليه السلام أتظن أنا نظن أن طلحة و الزبير على الخطأ و أنت على الصواب ؟ فقال : إنه ملبوس عليك ، اِعرِف الحق تعرف أهله . و قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن ابن المبارك قال كذا فقال إن ابن المبارك لم ينزل من السماء [ الفروع في الفقه الحنبلي : 6 / 381 ] .
    و قال الإمام القرطبي [ في تفسيره : 10 / 131 ] و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لاحجة في قول أحد مع السنة ) .
    و قال شيخ الإسلام : ( إن الله سبحانه كما غفر للمجتهد إذا أخطأ ، غفر للجاهل إذا أخطأ و لم يمكنه التعلم ، بل المفسدة التى تحصل بفعل واحد من العامة محرماً لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، أقل بكثير من المفسدة التى تنشأ من إحلال بعض الأئمة لما قد حرمه الشارع ، و هو لم يعلم تحريمه و لم يمكنه معرفة تحريمه ، و لهذا قيل : احذروا زلة العالم فإنه إذا زل زل بزلته عالَمٌ ) [ مجموع الفتاوى : 20 / 274 ] .
    فالديانة ـ إذن ـ في متابعة الحق و أخذه من لسان و مقال من قال به كائناً من كان ، و الإعراض عن الخطأ ، و ردّه على من قال به كائناً من كان ، و حذار حذار من غلوٍ في متبوع يصد عن اتباع المشروع .
    يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : ( ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر) .
    و ما أبلغ و أحكم قول معاذ بن جبل رضي الله عنه فيما رواه عنه أبو داود بإسنادٍ صحيح : ( و أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، قال الراوي : قلت لمعاذ : ما يدريني – رحمك الله – أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، و أن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : بلى ، اجتنب من كلام الحكيم المشبهات التي يقال لها : ما هذه ، و لا يثنينك ذلك عنه فإنه لعله أن يراجع ، و تلقّ الحق إذا سمعته فإن على الحق نوراً ) .
    فإذا تقرر هذا و بان الحق فيه ، ظهر لنا أن من زلات العلماء التي ينبغي الإعراض عنها ، مع إحسان الظن فيمن وقع فيها مجتهداً ـ تقديم بعض العلماء أقوال أئمة المذاهب على سواها ، و إن ظهر لهم في خلافه الحقُّ بدليله من الكتاب أو السنّة الثابتة ـ و من أمثلة ذلك ما قاله بعض المالكيّة : ( لما قال مالك في رواية ابن القاسم في المدونة أكره القبض في الفريضة تركته ، و لو كان في الموطأ و الصحيحين الاقتصار على حديث الأمر به و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب ) .اهـ . [ فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ] .
    و مثل هذا القول في النكارة ما ينسب إلى الإمام السبكي الشافعي ، من قول : ( الحكم بخلاف الصحيح في المذهب مندرج في الحكم بخلاف ما أنزل الله تعالى ) .
    و نحو هذا كثير في كلام متعصّبة المذاهب .
    و هو ما لا نقرّه ، و لا نقول به ، بل يتعين علينا و نحن ننشد الحق ، و لا نتعصّب لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبرأ من كلّ ما خالف الشرع و نردّه على قائله ، و ننظر في حال من قال به ، و نرى قوله : ( إما زلة عالم و وهلة فاضل عاقل ; أو افتراء كاذب فاسق ) بحسب حاله ، كما قال الإمام ابن حزم الظاهري في معرض ردّه بعض الأقوال الفاسدة [ انظر : المحلى : 3 / 219 ] .

    المقصد السادس
    في بيان الواجب على العالم إذا بان خطؤه

    البشر هم البشر ، لا عصمة لأحدٍ منهم بعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل كلّهم خطاء ، و خير الخطّائين التوابون .
    و قد نُدبنا إلى الرجوع عن الخطأ ، و التوبة من المعصية ، و لا فَرق في ذلك بين عامي و عالم ، أو أمير و مأمور ، أو كبير و صغير .
    و مِن جملة الأخطاء التي يجب الرجوع عنها ما يقع فيه العالم من زلات في الفتيا و التأليف أو غير ذلك ، و حريٌّ به إن بان له الحق أن يرجع إليه ، و يعضَّ عليه بالنواجذ ، لينجو بنفسه ، و ينجو بنجاته الأتباع من بعده .
    و له في ذلك أسوة حسنةٌ في نبيِّ الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي ما ترك خيراً إلا و أرشدنا إليه ، و لا شراً إلا أخذ بحُجَزِنا فصرفنا عنه ، و حذَّرَنا منه ، و قد كان مدرسةً في اتباع الحقّ و الرجوع عمّا يخالفه .
    فقد قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبو بكر يبكيان بعد أن تبيّن لهما الحق في مسألة أسارى بدر ، خلافاً لما ذهبا إليه .
    أخرج مسلم في صحيحه عن عمَر بن الخطّاب رضي الله عنه في قصّة أسارى بدر ـ و كانوا سبعين رجلاً من المشركين ـ أنّهم : ( لما أسروا الأسارى ، قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ،‏ ‏و عمر ‏: ( ‏ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال ‏أبو بكر :‏ ‏يا نبي الله هم بنو العم و العشيرة أرى أن تأخذ منهم ‏ ‏فديةً ،‏ ‏فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ : ( ‏ما ‏‏ترى يا‏ ‏ابن الخطاب ؟‏ ‏) قلت : لا و الله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى ‏ أبو بكر ، ‏و لكني أرى أن تُمكنا فنضرب أعناقهم ... ‏فهَوِيَ رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ما قال ‏أبو بكر ، ‏و لم يهوَ ما قلتُ ، فلما كان من الغد جئتُ ، فإذا رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم و أبو بكر ‏قاعِدَين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي ، أنت و صاحبك فإن وجدت بكاءً بكيتُ ، و إن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما . فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم‏ : ( أبكي للذي عَرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبي الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ، ‏و أنزل الله عز و جل : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ و اللهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 67 ] .
    فما أروعه من مثَل ، و يالِحُسنِها من تربية !
    نبيّ الرحمة ، و صدّيق هذه الأمّة ، يبكيان ، و يعلّمان الدعاة و العلماء ، أدباً رفيعاً من آداب الدعاة ، في الرجوع إلى الحق ، و التمسك به .
    و هكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم من بعده ، يتلمسون سبل الهدى ، و ينصاعون إلى الحق ، و يعرضون عمّا يخالفه ، و لا يجد الواحد منهم غضاضةً في الرجوع عن رأيه ، و قبول الحقّ ممّن جاء به ، كائناً من كان .
    كيف ، و هم المتواصون بالحقّ ، المتواصون بالصبر !!
    و ما أجمل قول فاروق هذه الأمة رضي الله عنه في كتابه لمعاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : ( و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) .
    قال السرخسي رحمه الله معقباً على كلام الفاروق هذا : ( و ليس هذا في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ و المفتي و القاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك ، فزلة العالم سبب لفتنة الناس ... و قوله : الحق قديم ؛ يعنى هو الأصل المطلوب ، و لأنه لا تنكتم زلة من زل ، بل تظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً ، ثم العقلاء ، من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل ) [ المبسوط : 16 / 62 ] .
    قلت : و ما إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه ، و وضوح المحجّة بين يديه ، إلا ضرب من ضروب المكابرة ، لا يصير إليها إلا مخذول أخذته العزّة بالاثم ، فآثر العاجل على الآجل ، و هذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً و حديثاً ، و لهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير و التحذير .
    روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، و لا يستنون بسنتي ، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) .
    و روى أحمد و غيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لكعب : إني أسألك عن أمر فلا تكتمني قال : و الله لا أكتمك شيئاً أعلمه . قال : ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أئمة مضلون . قال عمر : صدقت ، قد أسر ذلك إليَّ و أعلمنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    و قال عبد الله بن المبارك رحِمَه الله :
    و هل أفسد الدين إلا الملوك *** و أحبار سـوء و رهبانـها
    و مثل أحبار ( علماء ) السوء كما روي عن المسيح عليه السلام : كمثل صخرة وقعت في فم النهر ، لا هي تشرب و لا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ، أو كمثل قناة الحُش ظاهرها جص و باطنها نتن ، و مثل القبور ظاهرها عامر و باطنها عظام . [ انظر : إحياء علوم الدين: 1/74 ] .
    و ردعاً لهؤلاء ( ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتيين ، فمن صلح للفتيا أقره ، و من لا يصلح منعه ، و نهاه أن يعود ، و تواعده بالعقوبة إن عاد ، و طريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى ، أن يسأل علماء وقته ، و يعتمد أخبار الموثوقين فيهم ) قاله الخطيب البغدادي [ كما في آداب الفتوى ، للنووي ، ص : 17 ، 18 ] .
    قال ابن القيم رحمه الله : ( من أفتى الناس ، و ليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ ، و من أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً ) .
    ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قوله : ( و يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية ، و هؤلاء بمنـزلة من يدل الركب و ليس له علم بالطريق ، و بمنـزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، و بمنـزلة من لا معرفة له بالطب ، و هو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، و إذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب و السنة و لم يتفقه في الدين ! ) [ إعلام الموقّعين : 4 / 17 ] .

    خاتمة

    و بعد فقد علَّق الإمام البخاري في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قوله : ( ثلاث من جمعن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، و بذل السلام للعالم ، و الإنفاق من الإقتار ) .
    قال الحافظ في الفتح : ( قال أبو الزناد بن سراج و غيره : إنما كان من جمع الثلاث مستكملاً للإيمان لأن مداره عليها ; لأن العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقاً واجباً عليه إلا أداه , و لم يترك شيئاً مما نهاه عنه إلا اجتنبه , و هذا يجمع أركان الإيمان ) [ فتح الباري : 1 / 83 ] .
    قلتُ : و بقَدر ما يبتعد المرء عن الإنصاف ، يكون الصواب عنه بعيداً ، و من رامَ الحقَّ ، أنصفَ الخَلقَ و رَحِمَهم .
    و طلباً للإنصاف ، و إحقاقاً للحق ، لا غيرَ كان عَملي في هذا البحث ، تربيةً لنفسي ، و تذكيراً لإخواني طلبة العلم بما ينبغي أن يكون عليه الحال تجاه أهل العلم و الفضل .
    و خشية الإفراط في إجلال العلماء ، و تقديسهم عن الأخطاء ، كان لزاماً علينا التذكير بأنّهم بشَرٌ يصيبون و يخطئون ، و إن كانوا في معظم الأحوال موافقين للحقّ فيما يقولون و يفعلون ، و أنّهم عنه لا يعدلون ، إلا أن تقَع منهم زلّة ، في حال التباسٍ أو غَفلة .
    فإن وقَعَت منهم الزلّة ( أو وَقعوا فيها ) رأيتَ الناس بسبَبِها فِسطاطين ، مُفرِطٌ و مُفَرِّط .
    مُفرِطٌ في تتبّع الزلاّت سواء كان قَصدُه الأخذ بها في العَمَل تَرخُّصاً ، أو الطَعن بسببها فيمن صدَرَت عنه تطاولاً و تنقصاً .
    و مُفرّطٌ فيما أوجبه الله عليه ، من عدَم التقديم بينَ يديه ، و عَدَم الغلوّ في أحَدٍ من خلقه بالردّ – قبل الكتاب و السنّة - إليه .
    و كلا الفريقين مجانبٌ للصواب ، صائرٌ إلى تباب ، ما لم يمتنَّ الله عليه بالتوبة قبل الحساب .
    و قد بيّنت في رسالتي هذه ما يقتضي المقام تبيانه في هذا الباب ، باذلاً في طلب الحق و تقريبه للخلق وسعي ، فإن أصبت فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، و إن أخطأتُ فمِن نفسي و من الشيطان ، و اللهَ تعالى أسألُ أن يغفر زلّتي ، و يقيل عثرتي .

    و أفوّض أمري إلى الله ، إنّ الله بصير بالعباد
    و الحمد لله ربّ العالمين
    و صلّى الله و سلّم على نبيّنا محمّد ، و آله ، و صحبه أجمعين

    و كتب
    أحمد بن عبد الكريم نجيب
    التعديل الأخير تم بواسطة ابواسية; الساعة 22-07-2013, 06:44 PM.

  • #2
    رد: موقف العُقَلاء من زلات الدعاة و العُلَماء

    موقف العقلاء من النظريات الفلكية الحديثة :
    إن ما يسميه الغزالي (مقررات ) يرى غيره من عقلاء المسلمين وغيرهم ، أن كثيرا منه نظريات لا مقررات وحقائق .
    لقد وجه إلى الأستاذ المودودي - رحمه الله - سؤال غير مؤدب ، وهو: (من دعوى القرآن : أن الشمس جارية متحركة، ولكن دعوى العلوم الطبيعية أنها ثابتة ساكنة .. . ؟)
    فأجاب المودودي : (إنني في أثناء بحوثي وتحقيقاتي العلمية الطويلة خلال خمس وعشرين سنة، ما وقعت على مثال واحد من أن يكون الإنسان قد اكتشف بالطريقة العلمية حقيقة جاء القرآن يعارضها، أو هي تعارض القرآن ، بيد أن النظريات التي وضعها علماء الطبيعة أو الفلاسفة بطريق القياس في هذا الزمان منها - ولا شك - نظريات تعارض بيانات القرآن . ولكن مما يشهد به تاريخ النظريات القياسية : أن النظريات التي آمن بها هؤلاء العلماء والفلاسفة في زمن كحقائق ثابتة، رفضوها في زمن آخر، واعتقدوا الحقيقة في غيرها!
    فلم نسمح لنفوسنا اليوم أن نبالغ في تقدير هذه النظريات وإكبارها، لدرجة أن نترك القرآن ونؤمن بها إيمانا في أول تصادم لها مع آيات القرآن ؟
    ثم تناول نظريات دارون بالنقد، ثم قال للسائل : (وبجامعتك عدد لا يستهان به من المشتغلين بعلم الفلك كذلك ، فاسألهم : هل الشمس ثابتة ساكنة في واقع الأمر؟ فإن قال بذلك واحد منهم ، فالواجب عليك أن تعمل على اطلاع الدنيا العلمية باسمه العظيم .
    وكل ما في الأمر أنك لا تزال حتى اليوم تعيش في القرن التاسع عشر وتعتقد أن علومه الطبيعية هي علوم طبيعية حين لم تكن الشمس فيه جارية متحركة، أما شمس العلوم الطبيعية في القرن الحاضر - أي القرن العشرين ـ فهى جارية بسرعة جيدة)(1)
    ويقول سيد قطب - رحمه الله - في شأن هذه النظريات : (نحن في دراسة القرآن لا نلجا إلى التقديرات على أنها حقائق نهائية، فهي ليست في أصلها كذلك ، وإن هي إلا نظريات قابلة للتعديل ، فنحن لا نحمل القرآن عليها)(2)
    وأزيد الأمر إيضاحا فأقول : ما جاء عن فلاسفة الغرب من اكتشافات فلكية فلا نتسرع ونطلق عليه أنه كله مقررات وحقائق ، بل نتأنى ونتثبت وندرس ، فلابد أن ينجلى الأمر عن واحد من ثلاثة :
    أولها: أن يوافق ما جاء به القرآن والسنة، فهذا يجب التسليم به ، لأنه جاء به الإسلام ، ولأن إنكاره إنكار لشيء من الإسلام ، وهو خطير جدا.
    وثانيها: أن يأتى مناقضا لما قرره القرآن والسنة، فهذا يرد، مثل القول : بأن الشمس ثابتة لا تتحرك ولا تجري كما أخبر القرآن ، ولأن قبوله كفر به وتكذيب للقرآن .
    ثالثها: أن تحتمله بعض النصوص احتمالا، ويحتمل بعضها رده ، وليس فيه نصوص صريحة ولا ظاهرة في قبوله أو رده ، كالقول : بأن الأرض تدور فهذا يفسح فيه المجال للقبول والرد، لكل فهمه وقناعته ، ولا يجوز فيه استخدام ((الإرهاب الفكري )) بالطعن والتحقير لمن يقبل أو يرد.
    (2) ويقول الغزالي :
    (وأؤكد أولاً وآخرا: أنني مع القافلة الكبرن للإسلام ، هذه القافلة التي يحدوها الخلفاء الراشدون ، والأئمة المتبعون ، والعلماء الموثقون ، خلفا بعد سلف ، ولاحقا يدعو لسابق(3)
    أقول : كلا ثم كلا، إن هذه دعوى عريضة تقوم على غير أساس وتصادمها كتاباتك ، ومواقفك تشهد بأن القافلة الكبرى في واد وأنت في واد آخر .
    وهل يجتمع حب الخلفاء الراشدين وحب الروافض في قلب ؟ وهل وهل ؟
    3- قال الغزالي :
    (وقد توفر للسنة المحمدية علماء أولو غيره وتقوى بلغوا بها المدى، وكانت غربلتهم للأسانيد مثار الثناء والإعجاب ، ثم انضم إليهم الفقهاء في ملاحظة المتون واستبعاد الشاذ والمعلول .
    وذلك أن الحكم بسلامة المتن يتطلب علماً بالقرآن الكريم ، وإحاطة بدلالاته القريبة والبعيدة، وعلماً آخر بشتى المرويات المنقولة، لإمكان الموازنة والترجيح بين بعضها والبعض الآخر.
    والواقع أن عمل الفقهاء متمم لعمل المحدثين ، وحارس للسنة من أي خلل يتسلل إليها عن ذهول أو نسيان )(4) هـ
    أقول : إن على هذا الكلام ملاحظات من وجوه :
    أولا : أن فيه هضماً لعلماء الحديث ، فهم أولو غيره وتقوى، مجردين من الفقه وإدراك العلل والشذوذ الكامنة في المتون ، ولا يدركون إلا ما في الأسانيد من الأمور السطحية في نظره ، مثل : فلان ضعيف وفلان كذاب . وهم في أشد الحاجة في ميدان اختصاصهم إلى الاستنجاد بالفقهاء لملاحظة المتون واستبعاد الشاذ والمعلول .
    ثانيا : أن الغزالي لا يعرف أن الفقهاء والأصولين لا يشترطون نفي الشذوذ والعلة، وأن هذا من ميزات المحدثين ، ولذا تجد كتب الفقه قد اكتظت بالأحاديث الواضحة الضعف ، وبالأحاديث الشاذة والمعللة، بل والموضوعات أحياناً، مما حدى بأهل المعرفة بالحديث إلى أن يقوموا بغربلة كتب الفقه بما أسدوه إلى الإسلام والمسلمين من كتب التخريج.
    ثالثا : يصدق على كلام الغزالي المثل : (شنشنة أعرفها من أخزم )، فالقول أن المحدثين لا يدركون علل المتون ، وأنهم سطحيون شكليون ، جهودهم قاصرة على معرفة الأسانيد. هي شنشنة المستشرقين ومقلديهم من المنتسبين إلى الإسلام ، مثل أحمد أمين ومحمد حسين هيكل وأبي رية وأمثالهم ، ممن استخفوا بالسنة النبوية وأساؤا إلى المحدثين ، فرموهم بالغباء وقصور الفهم فلا يتجاوز إدراكهم الأسانيد إلى معرفة ما في المتون من كذب وعلل . فالغزالي يركض في هذا المضمار.
    ولا أدري هل اطلع على ردود أهل الحديث في هذا العصر على المستشرقين ومقلديهم ودحضهم لافتراءاتهم بالحجج والبراهين أو هو لا يدري ؟
    فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
    وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
    رابعا : نسأل الغزالي : أي الفريقين ألف كتب العلل ، وهي تشتمل على نقد الأسانيد والمتون ؟ وكذلك من ألف كتب الموضوعات ؟ وأخيراً من ألف الصحاح ، وهي عملية اختيار وانتقاء مضن تدل على نضج وصبر، أهم الفقهاء أم المحدثون ؟
    أتظن أن الزهري وسفيان بن عيينة والأوزاعي وسفيان الثورى وحماد بن زيد وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى القطان ويحيى بن معين والبخارى ومسلما وأبا داود والترمذي والنسائى وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني وأمثالهم من عباقرة الحديث والعلم حمال أسفار من غير فقه ولا فهم ؟
    إنهم ليسوا فقهاء فحسب ، بل أئمة الفقه والحديث ، شأنهم شأن مالك والشافعي وأحمد بن حنبل رضوان الله عليهم أجمعين .
    أتظن يا غزالي أن الاهتمام بالسنة ودراستها يعمي البصائر ويفسد العقول فتصاب بالبلادة والغباءة ؟
    إن العبقرية والذكاء لا يتوفران في طائفة من الطوائف كما يتوفران في طائفة أهل الحديث ، واقرأ تراجمهم التى دونها الثقات الأمناء، واقرأ علومهم التي خلدوها، لترى المسافة الهائلة بينهم وبين من قتلهم الجمود والتعصب الأعمى.
    وإذا كان المهتمون بالحديث من المتأخرين قمما في الفقه والأصول واللغة والتفسير وغيرها من العلوم : كابن الصلاح والنووي وأبي شامة وابن دقيق العيد وابن تيمية وابن القيم وابن كثير وابن رجب والزركشي والعراقي وابن حجر والسيوطي والدهلوي والشوكانى وابن عبد الوهاب وأضرابهم ، فما بالك بأئمة الحديث المتقدمين الذين يفوقون هؤلاء ذكاء وعلماً وحفظا واستنباطا واجتهادا.
    واستمع إلى قول الفقيه المحدث ابن الصلاح : (هذا وإن علم الحديث أنفع العلوم الفاضلة، يحبه ذكور الرجال وفحولتهم ويعنى به محققوا العلماء وكملتهم ، ولا يكرهه من الناس إلا رذالتهم وسفلتهم )(5)
    فاعرف أقدار أهل الفضل ، كما يعرفها أهل العلم والفضل والعقل .
    خامساً : من حال بين المحدثين وبين العلم بالقرآن ودلالاته القريبة والبعيدة ؟ فهل بين السنة والقرآن خصومة تؤدي إلى الزهد في التفقه في القرآن ومعرفة دلالاته القريبة والبعيدة ؟ أو تؤدي إلى النفاق والعياذ بالله وإقفال القلوب ، كما قال الله تعالى : {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}(6),
    وكما قال تعالى في شأن المشركين : {وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب }(7)
    عجبا والله أن يهتم الفقهاء واللغويون والأدباء والشعراء - بما فيهم أهل البدع - بدراسة القرآن من نواح شتى ، ليستفيدوا من فقهه وآدابه وبلاغته ووعده ووعيده والارتواء من نميره إلا أهل الحديث ، فإن قلوبهم تصاب بعاهة الإعراض والملل ، وعقولهم تصاب بالشلل ،
    اللهم إن العقلاء ليذوبون خجلا من مثل هذا الكلام ،
    سادسا : قال الغزالي في كتابه ((دستور الوحدة الثقافية ))(8): (يقول الأستاذ الإمام حسن البنا: القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ، ويفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلف ولا تعسف ، ويرجع في فهم السنة إلى رجال الحديث الثقات ).
    فهذا البنا قد عرف لرجال الحديث فضلهم ومكانتهم ، ويرى أنهم المرجع في فهم السنة ويريد بالفهم هنا: الفهم الشامل لمعرفة الأسانيد وفقه النصوص ، وقد نقل الغزالي هذا الكلام معتدا به ، فما باله يخالف إمامه ويريد أن يجردهم من حق عرفه لهم كل ذي عقل منصف ؟!
    4- قال الغزالى :
    (وقد يصح الحديث سندا ويضعف متنا بعد اكتشاف الفقهاء لعلة كامنة فيه)(9),
    أقول : قد تهون المصيبة إذا كان يقصد بالفقهاء الأئمة الأربعة وأمثالهم ، وحتى هؤلاء و الله يحتجون بأحاديث ضعيفة ولاسيما أبا حنيفة وأصحابه رحمهم الله حتى يكشف ضعفها وعللها أهل الحديث ، وهذا الإمام الشافعي مع جلالته وعلمه بالحديث كما قال الحافظ ابن حجر يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه يقول : ( وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث )(10).
    ويقول - رضي الله عنه - عارفا الفضل لأهله : (أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا، فأعلموني : كوفياً كان أو بصريا أو شاميا، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا)(11)
    وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: (فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف ، وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكا، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهما غائصا، واطلاعا حاويا وإدراكا لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة، ولهذا لم يتكلم فيه إلا الأفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم وإليهم المرجع(12) في ذلك ، لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك ، والاطلاع على غوامضه ، دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك ، وهذا الإمام الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : (وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث)(13)
    وقال الحافظ العلائي : (فأما إذا كان رجال الإسنادين متكافئين في الحفظ أو العدد، أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شىء من ذلك ، مع أن كلهم ثقات ، محتج بهم ، فها هنا مجال النظر، واختلاف أئمة الحديث والفقهاء ، فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث ، بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقا، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشيء من وجوه الترجيح حكموا لها، وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك ، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص ، وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي اكثر من الطرق والروايات ، ، ، ).
    قال : (وأما أئمة الفقه والأصول ، فإنهم جعلوا إسناد الحديث ورفعه كالزيادة في متنه ، ويلزم من ذلك قبول الشاذ)(14)
    وقال الحافظ العلائي - أيضا -: (وهذا إنما يقوم به - أي التفتيش عليه - الحافظ الكبير الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه : كالإمام أحمد وعلي بن المدينى ويحيى بن معين ، ومن بعدهم : كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة، ومن دونهم كالنسائي والدارقطني لأن المأخذ الذي يحكم به غالباً على الحديث بأنه موضوع الملكة النفسانية الناشئة عن جع الطرق والاطلاع على غالب المروي في البلدان المتنائية، بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة مما ليس من حديثهم ، وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة، فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع ، هذا ما يأباه تصرفهم والله أعلم )(15)
    فانظر إلى هذين الإمامين ، وهما من أئمة الحديث والفقه والأصول ، كيف يضعان الأمور في نصابها، ويعرفان لأهل الفضل فضلهم ، فيبرزان مكانة أهل الحديث وأئمتهم ، وأن غيرهم لا يستطيع مزاحمتهم في إدراك علل الحديث وضعفه أو الحكم عليه بالوضع ، وأن منهجهم أحكم وأحوط وأسلم ، وأنه يلزم على قواعد الفقهاء والأصولين قبول الحديث الشاذ عكس ما يقوله الغزالي وهذا أمر مسلم به لأهل كل اختصاص لا يجادل فيه إلا من لا يدري ما يقول ، ومن هنا يدرك من له أدنى مسكة من عقل أن كلام الغزالي السابق الذي يتضمن أن أهل الحديث لا يعرفون العلل ، وأن الفقهاء هم المختصون بمعرفتها خلط وخبط وحط من أهل الحديث يعلم الله دوافعه ، وعند الله تجتمع الخصوم ،
    5- وقال الغزالي :
    (وفي عصرنا ظهر فتيان سوء يتطاولون على أئمة الفقه باسم الدفاع عن الحديث النبوي ، مع أن الفقهاء ما حادوا عن السنة ولا استهانوا بحديث صحت نسبته وسلم متنه ، وكل ما فعلوه : أنهم اكتشفوا عللا في بعض المرويات فردوها وفق المنهج العلمي المدروس ، وأرشدوا الأمة إلى ما هو أصدق قيلا وأهدى سبيلا.
    وهم بهذا المنهج يتأسون بالصحابة والتابعين ، انظر موقف عائشة - رضي الله عنها - عندما سمعت الحديث : ((إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه)) ، لقد أنكرته وحلفت أن الرسول ما قاله ، وقالت - بياناً لرفضها إياه - ((أين منكم قول الله سبحانه {ولا تزر وازرة وزر أخرى}(16) إنها ترد ما يخالف القرآن بجرأة وثقة ،
    ومع ذلك ، فإن هذا الحديث المرفوض من عائشة ما يزال مثبتا في الصحاح ، بل إن ابن سعد في ((طبقاته)) كرره في بضعة أسانيد)(17) ا. هـ
    أقول : على هذا الكلام ملاحظات من وجوه :
    أولا : فيه سب لشباب مسلم لعلهم من خيرة شباب العصر، وشباب الأمة، وأرفع شباب الأمة إدراكا لما تحتاجه الأمة من العودة إلى الكتاب والسنة.
    ولو فرضنا أن فيهم من شتم الغزالي لما كان له - وهو في هذا السن ـ إلا أن يتعامل معه بما أدبنا به ربنا في قوله : {وإذا مروا باللغو مروا كراما}(18) وقوله : {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم}(19), والآيات والأحاديث التي تحث على الآداب العالية والأخلاق الرفيعة كثيرة جدا فكيف يرضى الغزالي تناسي هذا المنهج العظيم ؟
    ثانيا : أتهامهم بأنهم يتطاولون على الأئمة باسم الدفاع عن الحديث النبوي ، هذا أمر بعيد جداً ولعل المهتمين بدراسة السنة النبوية وعلومها وهم يحتكون بالشباب المتجهين لدراسة الحديث أكثر من الغزالي لا يعرفون أحدا منهم يتطاول على الأئمة، كيف وهم يعلمون ويعتقدون أن مالكاً والشافعي وأحمد بن حنبل أئمة الحديث ورواد مدارسه العظيمة ؟؟
    بل والحق يقال : إن الطعن في الأئمة لا يصدر إلا من غلاة التعصب المذهبي في السابق واللاحق ، ولاسيما الكوثري وتلاميذه في هذا العصر وطعونهم مدونة في مؤلفات خاصة ومبثوثة هنا وهناك ،
    وإذا كان لابد من التشهير بالمتطاولين على الكبار، وإذا كانت هناك غيرة عند الغزالي فعلا على الأئمة، فالأولى بهذا التشهير من يلعن الصحابة ويكفرهم ، بل ويلعن الأمة ويكفرها ولا يستثنون الأئمة الأربعة ولا غيرهم فالخوض في هذا الميدان أولى وأولى بملايين المرات من ذاك ، بل الخوض فيه واجب إسلامي ، فلماذا يتحايده الغزالي طول عمره ويتهرب منه ؟!
    ثالثا : كلام الغزالي واضح في التفريق بين منهج الفقهاء الأربعة وبين منهج المحدثين ، والذي يعرفه الفقهاء والمحدثون أن أصول المحدثين هي عينها أصول الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد - رضوان الله عليهم - وأما أبو حنيفة رضي الله عنه فتختلف أصول مذهبه شيئا ما مع أصول الأئمة لكن المتعصبين من الأحناف هم الذين وسعوا الشقة ووضعوا أصولا لرد الأحاديث التي تخالف مذهبهم ،
    وعلى كل فإن أئمة الفقه بما فيهم أبو حنيفة لم يضعوا قواعد ولا مناهج لرد الأحاديث الصحيحة، بل هم وأئمة الحديث والتفسير متفقون على أنه يجب رد أقوالهم إذا خالفت الحديث الثابت ،
    وأما اكتشاف العلل فأهل الحديث أحق به وأهله ، وليس هناك أحاديث خفيت عللها على أهل الحديث حتى اكتشفها الفقهاء بهذا المنهج المزعوم ، وحاشا الصحابة والتابعين أن يضعوا منهجا لرد الأحاديث الصحيحة ،
    وعائشة لم تضع منهجا لرد الأحاديث الصحيحة، بل هو تصرف فردي اتضح خطؤه ، ولهذا لم يتابعها الفقهاء ولا المحدثون في رد هذا الحديث كما سيأتي بيان ذلك ،
    رابعا : في كلام الغزالي تعبيرات يرددها تتنافى مع جلال السنة وتقشعر لها جلود من يشعرون بجلالها وعظمتها، مثل قوله : ((وهذا الحديث المرفوض )) وقالت - بيانا لرفضها إياه - مع أن الحديث - أكرمه الله وأعلا شأنه - لم يرفضه أحد من أئمة الحديث والفقه بل هو موضع الإجلال والتكريم وعلى الرؤوس والهام ،
    خامسا : يتحسر الغزالي ويتألم من بقاء هذا الحديث في كتب الصحاح إلى الآن ، وينحى باللائمة على من دونه في الصحاح من أئمة الحديث ، ويظهر لي أن في هذا غمزا لهم وطعنا فيهم ولا يستغرب هذا منه ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ،
    (6) وقال الغزالى : - بعد أن ساق حديث ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) (وماذا نقول ؟ إن الخطأ غير مستبعد على راوٍ ولو كان في جلالة عمر، وعندي أن ذلك المسلك الذي سلكته أم المؤمنين أساس لمحاكمة الصحاح إلى نصوص الكتاب الكريم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ومن أجل ذلك كان أئمة الفقه يقررون الأحكام وفق اجتهاد رحب يعتمد على القرآن أولاً، فإذا وجدوا في ركام المرويات ما يتسق معه قبلوه ، وإلا فالقرآن أولى بالاتباع )(20)
    أقول : إن في هذا الكلام نظرا من وجوه :
    أولاً : وإن كنا لا نستبعد الخطأ من بعض الرواة، لكن هذا الحديث لم يخطىء فيه عمر رضي الله عنه ، لاسيما وقد شاركه في سماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عدد من الصحابة يستبعد الحكم عليهم جميعا بالوهم والخطأ، بل يستحيل .
    الثاني : أن الأحاديث الصحيحة التى تلقتها الأمة بالقبول ، فقهاؤها ومحدثوها، وعلى رأسهم أئمة النقد من أهل الحديث ، وتداولوها جيلا عن جيل إلى يومنا هذا، لا يجوز للأمة الإسلامية أن تفسح المجال لأمثال الغزالي في القرن الخامس عشر أن ينشؤوا الأسس والقواعد لرفض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة، في ظلال المزاعم والأؤهام بأنها تخالف نصوص القرآن ، متذرعين إلى ذلك بموقف عائشة - رضي الله عنها - الذي تبين للفقهاء والمحدثين : أن الصواب إنما هو في جانب عمر وابنه ، ومن وافقهما من الصحابة في رواية الحديث المذكور .
    الثالث : فيما يتعلق بأئمة الفقه : التعبير الصحيح اللائق بمكانتهم ، ومكانة السنة النبوية أن يقال : كان أئمة الفقه يقررون الأحكام وفق اجتهاد رحب ، يعتمد على القرآن الكريم والسنة المطهرة .
    وذلك أن أئمة الفقه والحديث والتفسير يعتقدون أن السنن الثابتة لا تخالف القرآن(21) ويعلمون سلفا أن أركان الإسلام مثلا: من صلاة وصيام وزكاة وحج ، جاءت في أوامر مجملة، لا يمكن معرفة مراد الله منها، فيذهبون رأسا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة أحكام هذه الأسس وتقريرها، بعد تأكدهم من استحالة معرفتها وتقريرها من القرآن الكريم ،
    قال عمران بن حصين - رضي الله عنه - لرجل : (إنك أحمق ، أتجد في كتاب الله الظهر أربعاً لا تجهر فيها بالقراءة، ثم عدد الصلاة والزكاة ونحو هذا) ثم قال : (أتجد هذا في كتاب الله مفسرا، إن كتاب الله أبهم هذا وإن السنة تفسر ذلك )(22)
    وقال رجل لمطرف بن عبدالله بن الشخير: لا تحدثونا إلا بالقرآن فقال له مطرف : (و الله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا)(23) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
    وعن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل : إن الله عز وجل قال في كتابه كذا وكذا، فقال : (لا أراك تعارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب الله عز وجل ، رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله عز وجل )(24)
    قال الإمام أبو بكر الآجري(25): (باب في التحذير من طوائف تعارض سنن النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله عز وجل وشدة الإنكار عليهم)
    ثم قال : (ينبغى لأهل العلم والعقل إذا سمعوا قائلا يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء قد ثبت عند العلماء، فعارض إنسان جاهل ، فقال : لا أقبل إلا ما في كتاب الله ، قيل له : يا جاهل إن الله عز وجل أنزل فرائضه جملة، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين للناس ما أنزل الله ، قال الله عز وجل : {وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون}(26)فأقام الله عز وجل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم مقام البيان عنه ، وأمر الخلق بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، وأمر بالانتهاء عما نهاهم عنه ، وقال عز وجل : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(27), ثم حذرهم أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل : {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }(28), وقال تبارك وتعالى : {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}(29) ثم فرض على الخلق طاعته صلى الله عليه وسلم ، في نيف وثلاثين موضعا في كتابه عز وجل.
    وقيل لهذا المعارض لسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جاهل قال الله عز وجل : {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، أين تجد في كتاب الله عز وجل أن الفجر ركعتان ، وأن الظهر أربع ، وأن العصر أربع ، وأن المغرب ثلاث ، وأن العشاء أربع؟ وأين تجد أحكام الصلاة ومواقيتها وما يصلحها(30) وما يبطلها إلا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم
    ومثلها الزكاة : أين تجد في كتاب الله عز وجل من مائتي درهم خمسة دراهم ، ومن عشرين دينارا نصف دينار، ومن أربعين شاة شاة، وفي خمس من الإبل شاة، ومن جميع أحكام الزكاة أين تجدها في كتاب الله عز وجل ؟.
    وكذلك جميع فرائض الله عز وجل التي فرضها الله جل وعلا لا يعلم الحكم فيها إلا بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
    هذا قول علماء المسلمين من قال غير هذا خرج عن ملة الإسلام ، ودخل في ملة الملحدين ، نعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته - رضي الله عنهم -مثلما بينت لك ، ثم روى باسناده إلى أبى رافع - رضي الله عنه - قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم :((لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يبلغه عني الأمر فيقول : لم أجد هذا في كتاب الله عز وجل ))(31)
    ثم ساق له شاهدين من حديث أبي هريرة والمقدام بن معد يكرب ، ثم ذكر قول عمران بن حصين وسعيد بن جبير اللذين أسلفناهما، ثم روى بإسناده إلى أبي بكر بن عياش عن عبد الرحمن بن يزيد ((أنه رأى محرما عليه ثيابه ، فنهر المحرم ، فقال : ائتني بآية من كتاب الله عز رجل بنزع ثيابي ، فقرأ عليه : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(32) وساق آثارا عن الصحابة والتابعين وأئمة السلف تؤكد مكانة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشيد بها.
    وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في خلال رده على من يرد النصوص المحكمة الواضحة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفهمونه خطأ من القرآن في المثال الثامن عشر: (والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه :
    أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه ، فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها.
    الثانى : أن تكون بيانا لما أريد بالقرآن وتفسيرا له ،
    الثالث : أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه ، أو محرمة لما سكت عن تحريمه ، ولا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة فلا تعارض القرآن بوجه ما)(33)
    الرابع : قول الغزالي (فإذا وجدوا في ركام المرويات ما يتسق معه قبلوه ) - لا أدري كيف يسهل عليه مثل هذا التعبير؟ إنه لا يليق التفوه بمثل هذا الكلام في تقييم كلام إنسان عادي فكيف يوصف به كلام سيد الأنبياء وأصفى الأصفياء صلوات الله وسلامه عليه ؟؟
    ويزداد الاستغراب والدهشة، إذا علمنا أنه يقصد بالركام : الأحاديث الصحيحة التي يعتبر الغزالي أن مسلك عائشة أسس لمحاكمتها.
    لنفرض أن الغزالي صادق في دفاعه عن الأئمة الأربعة، وأن أناسا سفهاء - كما يصفهم الغزالي - تطاولوا على الأئمة، فهل يرضى الأئمة هذا الاندفاع هنا وهناك في الإساءة إلى السنة والإزراء بها ؟؟
    كلا، إن الأئمة مثل المحدثين في إجلال السنة وتعظيمها واحترامها، بل يحترمون كثيرا من الأحاديث الضعيفة ويقدمونها على آرائهم واجتهاداتهم ، بل يحترمون أقوال الصحابة وفتاواهم ويقدمونها على آرائهم ،
    وإنها لكارثة عظيمة أن يتصدى لقيادة شباب الأمة من يحمل مثل هذا الفكر والروح والأدب ، فإلى أي متاهة يقودهم ؟ وإلى أي هاوية يجرهم ؟ رحماك اللهم رحماك ،
    _____________________
    ([1]) الإسلام في مواجهة التحديات : (ص ه 7 2-77 2)
    ([2]) في ظلال القرآن (24 /114).
    ([3]) السنة النبوية : (ص 11-12).
    ([4]) السنة النبوية : ص 15
    ([5]) مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح : (ص 2-3).
    ([6]) سورة محمد الآية 24 ،
    ([7]) سورة فصلت الآية 5
    ([8]) ص 32
    ([9]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص (15) ،
    ([10]) النكت لابن جر على ابن الصلاح : (2 /711) وانظر الأم للإمام الشافعي: (1/13)
    ([11]) ابن أبي حاتم آداب الشافعى : (ص 94-ه 9)، والحلية :(9/175)، والانتقاء لابن عبد البر:(ص75)، ومراجع أخرى انظرها في حاشية الآداب ،
    ([12]) يعني أئمة الحديث ،
    ([13]) النكت لابن حجر على ابن الصلاح : (2 /711) وانظر الأم للإمام الشافعي: (1/13)
    ([14]) نكت ابن حجر على ابن الصلاح : (2/712).
    ([15]) النكت لابن حجر على ابن الصلاح : (2 /47 8).
    ([16]) سورة الأنعام الآية 164 ، سورة الإسراء الآية15 ، وسورة فاطر الآية 18 ، وسورة الزمر الآية 7
    ([17]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : (ص 15-16)
    ([18]) سورة الفرقان الآية 72 ،
    ([19]) سورة فصلت الآية 34
    ([20]) السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث : (ص 17-18).
    ([21]) وقد صرح الإمام الشافعى أن السنة لا تخالف القرآن أبدا. انظر الرسالة : ص 146 ، وألف الإمام أحمد رسالة في بيان أن السنة لا تخالف القرآن ،
    ([22]) جامع بيان العلم لابن عبد البر: (2 /234)، والشريعة للآجرى : (ص 51).
    ([23]) جامع بيان العلم : (2 /234).
    ([24]) الشريعة للآجري : (ص 51).
    ([25]) الشريعة (ص 46 ، 54).
    ([26]) سورة النحل الآية 44 ،
    ([27]) سورة الحشر الآية 7 ،
    ([28]) سورة النور الآية 63 ،
    ([29]) سورة النساء الآية65 ،
    ([30]) كذا ولعله وما يصححها ،
    ([31]) انظر حديث المقدام وأبي رافع سنن ابن ماجه (المقدمة)، باب تعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث 12 ، 13 ،
    ([32]) سورة الحشر الآية 7 ،
    ([33]) اعلام الموقعين : (2 /228).
    التعديل الأخير تم بواسطة ابواسية; الساعة 22-07-2013, 07:00 PM.

    تعليق


    • #3
      رد: موقف العُقَلاء من زلات الدعاة و العُلَماء


      اللهمّ صلّ على محمد
      عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون
      اللهم اغفر لي ولأبي ولأمي ولجميع المسلمين والمسلمات


      تعليق

      يعمل...
      X