إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هوامش على صفحات الذكريات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • هوامش على صفحات الذكريات

    هوامش على صفحات الذكريات


    تأملت يوما مسار حياتي ، فاشتد عجبي ، وجعلت أقلب كفيَّ من ذلك ، فلم يسعني إلا أن ألهج بالتسبيح لله والتعظيم ، فبينا أتبَّع خطوات أقدامي وآثار مروري ، قلبت اللحظ وأعدت البصر ، فبدا لي الأمر كأنني أشاهد فيلما يعرض أمامي ، من حقبة الأبيض والأسود ، وكأني لوحدي في قاعة السينما ، أما شاشتها الضخمة ....
    ها هو "علي" بعد ثوان من ولادته في البيت ، في حضن جدته ، فرحٌ جذلانٌ أن أفلته الله من قبضة الممرضات ، وأنقده من صراخهن المتعالي ، وتبريكاتهن الباردة ، فقد كان محظوظا أن تلقفته جدته ، وأسكنته حضنها الدافق الخشن ـ فقد مرت عليه مصائب جعلته يبدو خشنا هزيلا ـ وها هي العائلة كلها تتجمهر خارج الغرفة لتشنف سمعها بصراخ هذا الزائر الجديد ، ولتنقلب الدار بين صاعد ونازل ، يصطدم بعضهم ببعض في الدرج ،يتناقلون البشرى ، كما تناقلوا قبل أيام دخول شهر رمضان ..
    وها هو "علي" يتحامل على قدميه الصغيرتين ، ليحاول ألا يخيب تشجيع أمه وأبيه ، ويفرحهم بأول خطواته ، فقد نجح أن يتلمس صلابة الأرض ووطئها ، معلنا أنه من اليوم صار حملا إنضاف عليها ، فألزمها حمله ، وعلى الرغم من كونه الطفل الثاني ، فقد كان الأوفر حظا والأكثر اهتماما ، والأحب إلى قلوب الجميع ، فكم حدثتني أمي بتعبها إذ تخرجني معها ، لما ينهال عليَّ من كثرة القبلات ، ولما يشتد عليَّ من كثرة الأحضان ـ فقد كان يُتعجب من وسامتي كما سمعت ـ وأرجع إلى الدار محملا بالحلوى والهدايا ـ التي يستفيد منها أخي الأكبر ـ فكانت أمي تتحاشى أن ينالني مثل هذا السيل الجارف ، فتبقيني معظم الوقت بالمنزل ...
    ثم ها هو "علي" يدخل الروض ، لتفارق يده يد الوالدة الحبيبة ، ثم ليعود جاريا هامسا في أذنها : لما تحمل تلك المرأة العصا ؟ هل ستضربني ؟ ففهمت المعلمة الذكية توجسي من ذلك فقالت لي : هذه أضرب بها الكسالى ، أما أنت فلا ، فعادت الروح إلي واطمأننت إليها ، لترزق بعد ذلك حبي ولأرزق حبها . ولم تمر إلى أيام لا تعد شيئا ، حتى أصبحت مضرب المثل في الحفظ والفهم ، وكانت تتلقاني هذه المعلمة عن الباب كال صباح ، لتقبلني ـ ولم أكن أقبلها للأسف ـ ولتهمس همسا يقشعر منه جسدي الصغير، معترفة بحبها لي وتحملني إلى أن تضعني في مكاني ، طوال مدة ثلاث سنوات ، وما أذكر أنها صرخت في وجهي ـ على عكس الصبية الآخرين ـ ولا لامتني لتأخري صباحا ، فشكرا لها و جزاها الله خيراً ...
    اعذروني لسرد كل هذا ، فهي أيام لا تنمحي من البال ولا تزول من الخيال ، وسأحاول أن أسرِّع الفيلم الذي نشاهده الآن ، لأصل بكم إلى ما أريد ،.. هذه أيام الإعدادية ثم الثانوية ، هنا ظهر "علي" المراهق ، وبدأت حياته وجسده في التحول ، وقد أُرهقنا تخويفا من هذه الفترة ، وما كانت خطرة كما رددوا على أسماعنا ، المهم .. ظل "عليٌّ" متفوقا في دراسته ، وظل متربعا على الرتبة الأولى لا يساوم عليها .. كان "علي" متيما .. بل عاشقا .. بل كلفا .. بل مجنونا بالموسيقى ، بكل أنماطها ، فلا تسل عن الشرقي وألوانه ، ولا عن الغربي وأنواعه ، ولا عن الهندي و رومنسيته ، ولا عن التركي وعذوبته ، ولا عن الصيني وغرابته ، كان ينام على أنغامها ويصحو على إيقاعها ... أما القصائد التي كان يرددها بين أقرانه .. فخليط من كلمات نزار .. وجنون قيس.. ورزانة شوقي .. وطيش عنترة .. ومبالغة عمرو ابن كلثوم ، المهم ... كان شاعرا ـ كما كان يلقب ـ شاملا لكل الأنماط ، أما عن الحب والهيام والغرام والغزل والتشبيب.. فغض الطرف عن ذلك ولا تسل ، فقد كان يرى أنه أوسم الشباب ، تتبعه الفتيات لاهثات مترجيات راغبات في قربه وملازمته ، نعم ، هكذا كان ، أو على الأقل هكذا يذكر أنه كان ، ثم .. مع كل هذا .. لم يكن شيئا .. طالما أحس بداخله أن هذه المظاهر جوفاء ، لم يكن يبوح بهذا .. أي نعم .. ولا استطاع أن يعي ذلك ، إلا أنه كان شعورا مبهما يحس به هو .. وفقط هو ...
    حتى كان ما كان ، وانقلب الحال بل وتغير المآل ..
    تدرون أنني بلغت السابعة عشر من عمري الآن ، ولا أصلي بعد ، آه سريعا ما تمر الأيام ، كان ذلك سنة 2006 ، سنة التحول ونقطة الانعطاف ، كلما تذكرت تلك الأيام شهقت شهقة يسمع لها صدى داخل أعماقي ، لم أكن عاقلا أو بالأحرى لم أكن حيا ، وإلا فكيف استطعت أن أمضي هذه السنين بلا ماء ولا هواء ، أي بلا صلاة ؟ كيف تجرأت على قطع الصلة بالله ، عجيب أمري .. ألم أفكر يوما أن لي بداية ونهاية ؟ فما بالي لا أعِـدُّ للنهاية ؟ ألم أتأمل يوما نهاية قصتي ؟ أولم أنتبه إلى تخطف الناس من حولي ؟ ألم تحركني البلايا والمحن لأرفع بصري إلى السماء بعد رفع يدي ؟ أين كنت ؟؟ والحقيقة أنني لم أكن أصلا ، بل كنت ذلك الجسد الذي يمشي بلا روح ...
    بالرغم من أنني ترعرعت في عائلة محافظة ، أو قل متدينة إن شئت ، إلا أنني لم أصلِّ يوما ، ولم تفلح معي لا مواعظ أمي ولا تهديدات أبي ، لا لأني كنت أجحد الصلاة ، حاشا وكلا ، بل هو مجرد استهتار أو هو ضرب من ضروب الإهمال ، هكذا كنت .. ولا تعجب .. إن قلت لك أنني كنت مقرا بأني على خطأ ، بل وكنت أتمنى دائما أن أصبح صالحا ، لا لا بل عالما ، ولكن كلما مرت الأيام ترائى لي هذا الحلم حلما لا يتحقق ، كيف ذلك وحالي كما وصفت ..؟؟
    ثم جاءت تلك الليلة المشهودة .. لم أنم .. ولا أدري لما لم أفعل ، أصابني الأرق فجأة ، فتذكرت وتفكرت وتأملت ، ثم فجأة .. خفت .. فبكيت .. ثم ابتسمت .. ثم قمت .. ثم دعوت .. ودعوت .. ودعوت .. كان دعاءا مشهودة ، في جوف الليل ، حين كان الجميع نائما ، وكانت أنسام الليل الطاهرة تمسح الآلام ، رفعت يدي .. وبالغت في رفعها ، كأني أتلمس حبلا يصلني بالسماء ، لأنني غارق و أكاد أهلك ، جعلت أعلوا وأعلو ، أئن من التعب ، لكني أحاول وأطاول ، .. حتى وجدت بغيتي ، فناديته ، ثم تذكرت أنه قريب ، فناجيته ، ثم استحييت لما تذكرت سيرتي ، ثم تفاءلت لما تذكرت عفوه ، يا الله .. كم يعسر الوصف عليَّ ...كانت ليلة قصيرة جدا .. سرعان ما أطل الفجر بعد انصرامها ... بعدها نمت .. على وسادتي المبللة ..
    لم يدر في خلدي أن الصباح سيكون يوما جديدا ، وغير معهود ، سيكون بداية جديدة ، سأبدأ من خلاله رحلة أخرى ، جميلة نعم ، ورائعة ، نعم .. لكنها شاقة أيضا ، ومضنية أيضا ، وعسيرة كذلك ، ولكن حسبي أنها طريق العظماء ، وحسبي أنها طريق العزة والشموخ والفخر ...
    قام "علي" حوالي الساعة الحادية عشر صباحا ، دخل الحمام ، غسل وجهه ، ثم خرج يروم مائدة الفطور .. ثم .. وهو يمسح وجهه ، تذكر الليلة الماضية ، تذكر الوعد الذي قطعه ، تذكر تلك الليلة الفارقة ، فرجع إلى الحمام .. ليتوضأ .. أي والله ، ليتوضأ .. ولأول مرة ، كانت تلك اللحظات في الذهن كالسنة أو أطول ، أكاد أعد قطرات الماء التي جرت على أطرافي ، كأنها تغسل خطايا السنين ، بل كأنها تقشر جلدي لينبت جلد آخر ، وكنت أتمنى وقتها لو كان هذا الماء من دمع العين ، فهو أبلغ في التطهير ، وأجود للنقاء ...
    صليت ، تصدقون ؟ وأخيرا صليت بطهارة كاملة .. أحسست بأمي تراقبني من طرف خفي ، كأنها كانت تظنها إحدى حيلي ، أو أنها حمى الإيمان ، التي تهجم على الطلبة أيام الامتحانات ، لكنَّ شيئا أخبرها لما نظرت إلى عيني أنني صادق هذه المرة ، ربما لأنني تحاشيت نظراتها ، على غير عادة وجهي الصفيق ، المهم .. لم تهمس ببنت شفة ..
    لا تحاول أن ترغمني على وصف شعوري ، هذا محال ، فماذا أقول : أحسست بالإيمان ؟ أم أقول أنني طرت فرحا ؟ أم ماذا ..؟ سأختصر لك الموضوع : وأصدقك الوصف .. أصبحت حيا .. نعم حيا .. أدركت الآن ما معنى أن تكون حيا .. تقول كل الناس أحياء ؟؟ لا لا ..هيهات .. آالحياة البهيمية تقصد ؟ فأنا لا أعني أن ينبض القب وتتنفس الرئة .. بل .. أعني أن تكون حيا ، فكيف أشرحها ..؟ والله إني لا أبالغ ، بل هذا أقل ما استطعت التعبير به ، ولأبرهن لك على صدقي أقول : أتصدق أنني طوال هذه السنوات لم أكن أسمع الآذان ؟ لا أذكر أنني سمعته يوما ، صدقني ، ولا تقل ربما أنت بعيد عن المساجد ، بل تكتنفني الصوامع من كل الجوانب ، أفلم أكن بالله عليك ميتا ؟ أترك لك الجواب ...
    ثم تتالت الأيام وتوالت الأعوام ، وصرت أفهم يوما بعد يوم سبب الذي حصل لي ، وبدأت أدرك حقيقة لم تكن بالبال مطلقا ، وسأحدثكم عنها .... ( يتبع )

    أبو الوليد ( علي )
    الأربعاء 11 رجب 1434 الموافق 22 ماي 2013
    هل صـــح قول الحاكي فنقبله {(())} أم كـــل ذاك أباطيل وأسمــــار؟
    أما العقـول فـآلت أنه كــذب {(())} والعقل غـرس له بالصدق إثمــار

  • #2
    رد: هوامش على صفحات الذكريات

    جزاك الله خيرا

    تعليق


    • #3
      رد: هوامش على صفحات الذكريات

      عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      جزاكم الله خيرًا ورفع قدركم
      اللهمّ صلّ على محمد
      عدد ما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون
      اللهم اغفر لي ولأبي ولأمي ولجميع المسلمين والمسلمات


      تعليق


      • #4
        رد: هوامش على صفحات الذكريات

        المشاركة الأصلية بواسطة عبدالسلام بيومى مشاهدة المشاركة
        جزاك الله خيرا
        وجزاكم بمثله بل واوفر منه
        هل صـــح قول الحاكي فنقبله {(())} أم كـــل ذاك أباطيل وأسمــــار؟
        أما العقـول فـآلت أنه كــذب {(())} والعقل غـرس له بالصدق إثمــار

        تعليق


        • #5
          رد: هوامش على صفحات الذكريات

          المشاركة الأصلية بواسطة abouassiah مشاهدة المشاركة
          عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
          جزاكم الله خيرًا ورفع قدركم
          بارك الله فيكم وحفظكم من كل سوء
          هل صـــح قول الحاكي فنقبله {(())} أم كـــل ذاك أباطيل وأسمــــار؟
          أما العقـول فـآلت أنه كــذب {(())} والعقل غـرس له بالصدق إثمــار

          تعليق

          يعمل...
          X