الحمد لله المتفضِّل بالنِّعم ،وكاشف الضرَّاء والنِّقم ،
والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وأصحابه أنصار الدين
،،
حيـاكم الله إخوتى وبياكم
وسدَّد بِحَوله وطَوله على طريق الحق خُطانا وخُطاكم
وجعل بفضله ومَنِّه الجنة مثوانا ومثواكم
اللهم آميــــــــن
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ
وبــعد ،
"التوبة"
أكثر المسلمون - إلا من رحم ربي - لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها ،
فضلاً عن القيام بها علماً وعملاً. وإذا عرفوا قدرها فهم لا يعرفون الطريق إليها،
وإذا عرفوا الطريق فهم لا يعرفون كيف يبدءون؟
فالحمد لله الذي وسعتْ رحمتُه كلَّ شيء، وفتَحَ باب التوبة للمذنبين؛ للرجوع والإنابة إليه،
ووعد بالمغفرة عبادَه التائبين، فهو القائل سبحانه - :
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " [التحريم: 8]
"التوبة"
تلكـ الرحمة التي امتنَّ الله بها على عبادِه المذنبين، فلا يقنَط المذنب ولا ييأس من رحمة الله التي عمَّتِ السمواتِ والأرض،
فقد فَتح باب َالتوبة أمامَ كلِّ عاصٍ ومذنب؛ فقال - سبحانه وتعالى -:
" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " [الزمر: 53].
كلنا مذنبون... كلنا مخطئون.. نقبل على الله تارة وندبر أخرى،
نراقب الله مرة، وتسيطر علينا الغفلة أخرى، لا نخلو من المعصية،
ولا بد أن يقع منا الخطأ،
فإنَّه لا يَسْلم من الوقوع في الأخطاء، ولا يُعصم من المخالفات مسلم
، فالمعصوم هو نبيُّنا محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فهو القائل:
( كلُّ بَني آدمَ خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوَّابون).
[رواه الترمذي وحسنه الألباني].
والسهو والتقصير من طبع الإنسان، ومن رحمة الله بهذا الإنسان الضعيف
أن يفتح له باب التوبة، وأمره بالإنابة إليه، والإقبال عليه،
كلما غلبته الذنوب ولوثته المعاصي..
ولولا ذلكـ لوقع الإنسان في حرج شديد، وقصرت همته عن طلب التقرب من ربه،
وانقطع رجاؤه من عفوه ومغفرته.
هذه الرحمة الربَّانيَّة من ربِّ البرية بعباده تتجلَّى في توبته على العاصي بعد عصيانه،
والمذنب بعد اقتراف ذنوبه، فرحمتُه وسعتِ البَرَّ والفاجر، بل وسعتِ السمواتِ والأرض؛
فقد قال - سبحانه - :
" وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ "
[الأعراف: 156].
ومن رحمته - سبحانه وتعالى - فَتَحَ بابَ الأمل أمامَ العاصين والمذنبين؛ للتوبة والرجوع إليه - سبحانه - فلم يكن الذنب مدعاةً للتمادي في الذنوب، ولم يكن لاقترافِ ذنب أن يُغلَق بابُ الرحمة والغفران.
يقول المصطفي - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((( إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يَبسُط يدَه باللَّيل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويَبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ اللَّيل،
حتَّى تطلع الشمس من مغربها)))؛ أخرجه مسلم (4954).
ومن هنا ندركت كرمَ الله، ومَنَّه على عباده بالتوبة عليهم في هذا التوقيت الخاص،
بل هو - سبحانه - يتوب عليهم كلَّ ليلةٍ أو يوم.
ما التوبة ؟
التوبة أخي المسلم هي :
الرجوع عما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه الله ظاهراً وباطناً..
وهي اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان..
هي الهداية الواقية من اليأس والقنوط ،
هي الينبوع الفياض لكل خير وسعادة في الدنيا والآخرة...
هي ملاك الأمر، ومبعث الحياة، ومناط الفلاح...
هي أول المنازل وأوسطها وآخرها...
هي ترك الذنب مخافة الله، واستشعار قبحه، والندم على فعله، والعزيمة على عدم العودة إليه إذا قدر عليه...
هي شعور بالندم على ما وقع، وتوجه إلى الله فيما بقي، وكف عن الذنب.
ولماذا نتوب؟
تُب أخي المسلم لأن التوبة :
1- طاعة لأمر ربكـ سبحانه وتعالى، فهو الذي أمركـ بها فقال:
" يا أيها الذين ءامنوا توبوا الى الله توبة نصوحاً [التحريم:8].
وأمر الله ينبغي أن يقابل بالامتثال والطاعة.
2- سبب لفلاحكـ في الدنيا و الآخرة، قال تعالى :
" وتوبوا الى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحون [النور:31].
فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يتلذذ، ولا يسر ولا يطمئن ؛
ولا يطيب ؛ إلا بعبادة ربه والإنابة إليه والتوبة إليه.
3- سبب لمحبة الله تعالى لكـ ، قال تعالى : "
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [البقرة:222].
وهل هناك سعادة يمكن أن يشعر بها إنسان بعد معرفته أن خالقه ومولاه يحبه إذا تاب إليه؟!
4- سبب لدخولكـ الجنة ونجاتكـ من النار، قال تعالى : "
" فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً،
إلا من تاب وءامن وعمل صالحاً فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً "[مريم:59،60].
وهل هناك مطلب للإنسان يسعى من أجله إلا الجنة؟!
5- سبب لنزول البركات من السماء وزيادة القوة والإمداد بالأموال والبنين،
قال تعالى :
" ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة الى قوتكم
ولا تتولوا مجرمين " [هود:25]،
وقال:
" فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً " [نوح:10-12].
6- سبب لتكفير سيئاتكـ وتبدلها الى حسنات، قال تعالى :
" يا أيها الذين ءامنوا توبوا الى الله توبة نصوحا ً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم
ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار [التحريم:8]،
وقال سبحانه :
" إلا من تاب وءامن وعمِل عملاً صالحاً فأولئكـ يبدل الله سيئاتهم حسنات
وكان الله غفوراً رحيماً [الفرقان:70].
أخي المسلم :
ألا تستحق تلكـ الفضائل – وغيرها كثير – أن تتوب من أجلها ؟
لماذا تبخل على نفسك بما فيه سعادتكـ ؟.. لماذا تظلم نفسكـ بمعصية الله وتحرمها من الفوز برضاه؟...جدير بك أن تبادر الى ما هذا فضله وتلكـ ثمرته. قدّم لنفسك توبة مرجوة *** قبل الممات وقبل حبس الألسن
بادر بها غُلق النفوس فإنها *** ذخر وغنم للمنيب المحسن
كيف أتوب؟
إن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً يسر له الأسباب التي تأخذ بيده إليه وتعينه عليه،
و لكـ بعض الأمور التي تعينكـ على التوبة :
1- أصدق النية وأخلص التوبة:
فإن العبد إذا أخلص لربه وصدق في طلب التوبة أعانه الله وأمده بالقوة، وصرف عنه الآفات التي تعترض طريقه وتصده عن التوبة.. ومن لم يكن مخلصاً لله استولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، ولهذا قال تعالى عن يوسف عليه الصلاة السلام:
" كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين " [يوسف:24].
2- حاسب نفسكـ :
فإن محاسبة النفس تدفع إلى المبادرة إلى الخير، وتعين على البعد عن الشر، وتساعد على تدارك ما فات، وهي منزلة تجعل العبد يميز بين ما له وما عليه، وتعين العبد على التوبة، وتحافظ عليها بعد وقوعها.
3- ذكّر نفسك وعظها وعاتبها وخوّفها:
قل لها: يا نفس توبي قبل أن تموتي ؛ فإن الموت يأتي بغتة، وذكّرها بموت فلان وفلان..
أما تعلمين أن الموت موعدكـ؟! والقبر بيتكـ ؟ والتراب فراشكـ؟ والدود أنيسكـ؟...
أما تخافين أن يأتيكـ ملكـ الموت وأنت على المعصية قائمة؟ هل ينفعكـ ساعتها الندم؟
وهل يُقبل منكـ البكاء والحزن؟ ويحكـ يا نفس تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليكـ ،
وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنكـ..
وهكذا تظل توبخ نفسك وتعاتبها وتذكرها حتى تخاف من الله فتئوب إليه وتتوب.
4- اعزل نفسكـ عن مواطن المعصية:
فتركـ المكان الذي كنت تعصي الله فيه مما يعينكـ على التوبة، فإن الرجل الذي قتل تسعة وتسعون نفساً قال له العالم:
{ إن قومك قوم سوء، وإن في أرض الله كذا وكذا قوماً يعبدون الله، فاذهب فاعبد الله معهم }.
5- ابتعد عن رفقة السوء:
فإن طبعك يسرق منهم، واعلم أنهم لن يتركوك وخصوصاً أن من ورائهم الشياطين تؤزهم الى المعاصي أزاً، وتدفعهم دفعاً، وتسوقهم سوقاً.. فغيّر رقم هاتفك،
وغيّر عنوان منزلكـ إن استطعت، وغيّر الطريق الذي كنت تمر منه...
ولهذا قال عليه صلى الله عليه وسلم :
{ الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل }
[رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني].
6- تدبّر عواقب الذنوب:
فإن العبد إذا علم أن المعاصي قبيحة العواقب سيئة المنتهى، وأن الجزاء بالمرصاد دعاه ذلكـ إلى تركـ الذنوب بداية، والتوبة إلى الله إن كان اقترف شيئاً منها.
7- أَرِها الجنة والنار:
ذكّرها بعظمة الجنة، وما أعد الله فيها لمن أطاعه واتقاه، وخوّفها بالنار وما أعد الله فيها لمن عصاه.
8- أشغلها بما ينفع وجنّبها الوحدة والفراغ :
فإن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتكـ بالباطل، والفراغ يؤدي إلى الانحراف والشذوذ والإدمان، ويقود إلى رفقة السوء.
9- خالف هواكـ :
فليس أخطر على العبد من هواه، ولهذا قال الله تعالى:
" أرءيت من اتخذ إلهه هواه " [الفرقان:43].
فلا بد لمن أراد توبة نصوحاً أن يحطم في نفسه كل ما يربطه بالماضي الأثيم، ولا ينساق وراء هواه.
10- وهناك أسباب أخرى تعينكـ أخي الحبيب على التوبة غير ما ذُكر منها:
الدعاء الى الله أن يرزقكـ توبة نصوحاً، وذكر الله واستغفاره،
وقصر الأمل وتذكر الآخرة، وتدبر القرآن، والصبر خاصة في البداية،
إلى غير ذلكـ من الأمور التي تعينكـ على التوبة.
شروط التوبة الصادقة:
وفي شروط التوبة يقول الإمام النوويُّ – رحمه الله تعالى -:
"قال العلماء: التوبة واجبةٌ من كلِّ ذنب؛ فإن كانت المعصيةُ بين العبد وبين الله - تعالى - لا تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ، فلها ثلاثةُ شروط:
( أحدها): أن يُقلعَ عن المعصية.
( والثاني): أن يَندمَ على فِعْلها.
( والثالث): أن يَعزمَ على ألاَّ يعودَ إليها أبدًا.
فإن فُقِد أحدُ الثلاثة لم تصحَّ توبته.
{ وإن كانت المعصية تتعلَّق بآدمي فشروطها أربعة: }
هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حقِّ صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه ردَّه إليه،
وإن كانت حدَّ قذفٍ ونحوه مكَّنه منه أو طلب عفوه،
وإن كانت غِيبةً استحلَّه منها، ويجب أن يتوب من جميع الذنوب،
فإن تاب مِن بعضها صحَّت توبتُه - عند أهل الحقِّ - من ذلكـ الذنب، وبقي عليه الباقي،
وقد تظاهرت دلائل الكِتاب والسُّنة، وإجماع الأمَّة على وجوب التوبة". اهـ.
علامات قبول التوبة
- أن يكون العبد بعد التوبة خيراً مما كان قبلها مقبلاً على الله، عالي الهمة قوي العزيمة
- ألا يزال الخوف من العودة إلى الذنب مصاحباً له: فإن العاقل لا يأمن مكر الله طرفة عين
- أن يستعظم الجناية التي تصدر منه وإن كان قد تاب منها: يقول ابن مسعود رضي الله عنه: { إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرّ على أنفه، فقال له هكذا }.
وقال بعض السلف: (لا تنظر الى صغر المعصية ولكن انظر الى من عصيت).
- أن تحدث التوبة للعبد انكساراً في قلبه وذلاً وتواضعاً بين يدي ربه:
- أن يحذر من أمر جوارحه:
فليحذر من أمر لسانه فيحفظه من الكذب والغيبة والنميمة وفضول الكلام، ويشغله بذكر الله تعالى وتلاوة كتابه. ويحذر من أمر بطنه، فلا يأكل إلا حلالاً. ويحذر من أمر بصره، فلا ينظر الى الحرام، ويحذر من أمر سمعه، فلا يستمع الى غناء أو كذب أو غيبة، ويحذر من أمر يديه، فلا يمدهما في الحرام، ويحذر من أمر رجليه فلا يمشي بهما الى مواطن المعصية، ويحذر من أمر قلبه، فيطهره من البغض والحسد والكره، ويحذر من أمر طاعته، فيجعلها خالصة لوجه الله، ويبتعد عن الرياء والسمعة.
احذر التسويف
واحذر التسويف فإنه ذنب آخر يحتاج الى توبة، والتوبة واجبة على الفور،
فتب قبل أن يحضر أجلكـ وينقطع أملكـ، فتندم ولات ساعة مندم
فالأمَّة المحمديَّة أمَّةٌ مرحومة، بفضل الله وكرمه، الذي أنعم عليها برسولها
- صلَّى الله عليه وسلَّم - سيِّد المستغفرين، الذي كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثرَ من مائة مرَّة،
فهو إمامُ التائبين، الذي فضَّله الله وكرَّمه على الخَلق أجمعين، والأنبياء والمرسلين.
فتُبْ إلى الله - أخي المؤمن - واستغفرْه من كلِّ ذنب؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.
اللهم ارزقنا توبة نصوحا تُرضيكـ عنــا
وتقبلنا بها
آميــــــن يا رب العالميــ،ــن
هذا جهد المقــل ،
فإن وُفقت وأَصـبت فمن الله وحــده لا شريكـ له ،
فله الحمد والمنــة
وإن أخفقت وأخطــأت فمن نفسـي وعجــزي
والله ورســوله منه بــراء
الله أســأل الثبـات على طـاعته حتى نلقــاه
والإخلاص والسداد والقبــول
ربِ لا تخزني يوم يبعثون
يوم لا ينفع مالٌ ولا بَنون
إلا من أتى الله بقلب سليم
وصلى اللهم وســلم على حبيبنا محمد وعلى آله وصحـبه وســلم
منقول
تعليق