علـــى قــمـــــــــــم الجــــبــــــــــــــــــــــــــال
أما بعد ..
فهذه رحلة مع أقوام من الصالحين ..
الذين تنفسوا في الطاعات .. وتسابقوا إلى الخيرات ..
نعم.. مع الذين سارعوا إلى مغفرة من ربهم وجنات..
هذه أخبار أقوام .. لم يتهيبوا صعود الجبال.. بل نزعوا عن أعناقهم الأغلال .. واشتاقوا إلى الكريم المتعال ..
هم نساء ورجال .. علو إلى قمم الجبال..
ما حجبتهم عن ربهم لذة .. ولا اشتغلوا عن دينهم بشهوة ..
فأحبهم ربهم وأدناهم .. وأعلى مكانهم وأعطاهم ..
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) ..
نعم .. والله لا يستوون ..
لا يستوي من ليله قيام .. ونهاره صيام ..
مع من ليله عزف وأنغام .. ونهاره كالأنعام ..
لا يستوون .. ** أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } ..
وإذا اردت أن تقف على حال المتقين ..
فانتقل معي إن شئت إلى هناك .. انتقل إلى المدينة ..
وانظر إلى أولئك الفقراء .. انظر إلى أبي هريرة وسلمان .. وأبي ذر وبلال .. وقد أقبلوا إلى النبي عليه السلام .. يشتكون من الأغنياء ..
عجباً !! الفقراء يشتكون من الأغنياء !! نعم .. فلماذا يشتكون ..
هل لأن طعام الأغنياء ألذ من طعامهم .. أم لأن لباس الأغنياء ألين من لباسهم ..
أم لأن بيوت الأغنياء أرفع من بيوتهم .. كلا .. ما كانت هذه شكاتهم .. ولا كان في هذا تنافسهم ..
أقبلوا حتى وقفوا بين يدي النبي عليه السلام .. فقالوا يا رسول الله .. جئنا إليك نشتكي من الأغنياء ..
قال : وما ذاك ..
قالوا : يا رسول الله .. ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى .. يصلون كما نصلي .. ويصومون كما نصوم ..
ولكن لهم .. فضول أموال فيتصدقون .. ولا نجد ما نتصدق ..
فقال لهم النبي عليه السلام : ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ؟
قالوا : نعم ..
قال : تسبحون في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .. وتحمدون ثلاثاً وثلاثين .. وتكبرون ثلاثاً وثلاثين .. إنكم إذا فعلتم ذلك .. سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ..
فرح الفقراء بذلك .. فلما قضيت الصلاة فإذا لهم زجل بالتسبيح والتكبير والتحميد ..
التفت الأغنياء فإذا الفقراء يسبحون .. سألوهم عن ذلك .. فأخبروهم بما علمهم النبي عليه السلام .. فما كادت الكلمات تلامس أسماع الأغنياء .. حتى تسابقوا إليها .. نعم .. إذا أبو بكر يسبح .. وإذا ابن عوف يسبح .. وإذا الزبير يسبح ..
فرجع الفقراء إلى النبي عليه السلام .. فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء بما علمتنا .. ففعلوا مثلنا .. فعلمنا شيئاً آخر ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
والحديث رواه ابن حبان وابن خزيمة ..
نعم .. ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ..
* * * * * * * *
بل كان التنافس على الخيرات هو الذي يشغل بال الصالحين .. ويرفع درجات المتقين ..
وانظر إلى الشيخين الجليلين .. والعلمين العابدين ..
انظر إلى أبي بكر وعمر ..
كان عمر رضي الله عنه .. يقول : كنت أتمنى أن أسبق أبا بكر .. إن سبقته يوماً ..
فأمر النبي عليه السلام الناسَ بالصدقة يوماً .. وكان عند عمر مال حاضر من ذهب وفضة .. فقال في نفسه : اليوم أسبق أبا بكر ..
فأقبل على ماله فقسمه نصفين .. وأبقى نصفٍاً لعياله .. وجاء بنصف إلى النبي عليه السلام ..
فلما وضعه بين يديه .. رفع صلى الله عليه وسلم بصره إليه ثم قال : ماذا تركت لأهلك ..
قال : يا رسول الله .. تركت لهم مثله ..
ثم جلس عمر ينتظر أبا بكر ..
فإذا أبو بكر قد جاء بصرة عظيمة .. فوضعها بين يدي النبي عليه السلام .. فقال له صلى الله عليه وسلم : ماذا تركت لأهلك ..
فقال أبو بكر : تركت لهم الله ورسوله ..
فنظر إليه عمر ثم قال : والله لا سابقت أبا بكر بعد اليوم أبداً ..
* * * * * * * *
بل انظر إلى صورة أخرى من صور التنافس الحارّ .. يوم يقف النبي عليه السلام أمام جموع المسلمين في معركة أحد .. ثم يعرض سيفه صلتاً ويصيح بجموع الأبطال : من يأخذ هذا السيف بحقه ..
عندها تتسابق الأكف .. وتتطاير الأبصار .. وتشرئب النفوس .. عجباً على ماذا يتسابقون ؟!
إنه على الروح أن يبذلوها .. وعلى الدماء أن يسكبوها .. والأنفس ليقتلوها ..
فيقفز من بينهم أبو دجانة ويقول : وما حقه يا رسول الله ..
فيقول النبي عليه السلام : ألا تضرب به مسلماً .. ولا تفر به من بين يدي كافر ..
نعم .. لا تفر عن كافر مهما كان قوياً أو ضعيفاً .. شجاعاً أو جباناً ..
عندها يأخذه البطل .. ثم يخرج عصابة حمراء فيربطها على رأسه .. ويتبختر مستبشراً فرحاً .. ويضرب به هام الكفار حتى انثنى ..
* * * * * * * *
بل .. انظر إلى النبي عليه السلام .. وهو يحدث أصحابه عن يوم القيامة .. ويخبرهم ..
أن من أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ..
فيعجب الصحابة بهذا الفضل العظيم .. ويقفز عكاشة بن محصن رضي الله عنه .. سريعاً .. يبادر الموقف وينتهز الفرصة قبل أن تفوت ..
ويقول : \"يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم .. قال : ( أنت منهم ) ..
ويفوز بها عكاشة .. ثم يغلق الباب .. ويقال لمن بعده : سبقك بها عكاشة ..
نعم سبق عكاشة فدخل الجنة بغير حساب ..
وفاز أبو دجانة بسيف النبي الأواب ..
وارتفع أبو بكر على جميع الأصحاب ..
وتنافس الأغنياء والفقراء .. والصالحون والأولياء ..
همهم واحد .. كما أن ربهم واحد ..
وقلوبهم ثابتة .. كما أن عزائمهم ماضية ..
وأنت أفلا نظرت إلى نفسك .. كيف همتك إذا رأيت من سبقك إلى الدعوة إلى الله .. أو النفقة في سبيل الله ..
أفلا تلوم نفسك إذا رأيت فلاناً سبقك بحفظ القرآن .. وأنت غافل ولهان ..
ورأيت الآخر سبقك إلى الجهاد .. وأنت على الأريكة والوساد ..
والثالث يصعد في الدرجات .. وينكر المنكرات .. وأنت عاكف على أمور تافهات ..
ما حالك إذا علمت أن فلاناً صوام في النهار .. أو بكاء في الأسحار ..
فيا بائعا نفسه بيع الهوان لو استرجعت ذا البيع قبل الفوت لم تخب
وبائعا طيب عيش ما له خطر بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا ولدى * يوم التغابن تلقى غاية الحرب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا * لكل داهية تدني من العطب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت * ورسل ربك قد وافتك في الطلب
فاستفرش الخد ذياك التراب وقل * ما قاله صاحب الأشواق والحقب
منحتك الروح لا أبغى لها ثمنا * الا رضاك ووافقرى الا الثمن
* * * * * * * *
ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه .. غلام صغير من الأصحاب .. لكن همته كانت فوق السحاب ..
فكان يأتي إلى النبي عليه السلام .. وهو غلام .. فيقرب له وَضوءه وحاجته .. فأراد النبي عليه السلام أن يكافئه يوماً ..
فقال له : سلني يا ربيعة ..
فسكت ربيعة قليلاً .. ثم قال : أسألك مرافقتك في الجنة ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك ؟
قال : هو ذاك .. فقال عليه السلام : فأعني على نفسك بكثرة السجود ..رواه مسلم ..
فكان ربيعة على صغر سنه لا يرى إلا مصلياً أو ساجداً ..
لم يفوت من عمره ساعة .. ولم يفقد في صلاة جماعة ..
* * * * * * * * *
نعم .. كانوا إذا عرفوا الفضائل تسابقوا إليها .. وثبتوا عليها ..
أذاقهم الله طعم محبّته .. ونعّمهم بمناجاته .. وطهّر سرائرهم بمراقبته .. وزين رؤوسهم بتيجان مودّته ..
فذاقوا نعيم الجنة قبل أن يدخلوها ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله .. قيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : يوفقه للعمل الصالح ثم يقبضه عليه ..) ..
فمن أحبه الله .. أستعمله في طاعته .. وجعله لا يعيش لنفسه فقط .. بل يعيش لدينه .. داعياً إليه .. آمراً بالمعروف .. ناهياً عن المنكر .. مهتماً بأمر المسلمين .. ناصحاً للمؤمنين .. ففي الشيشان أخته .. وفي أفغان أمه .. وفي الصين ابنته .. وفي كشمير أحبابه .. يألم لألمهم .. ويفرح لفرحهم .. لا تراه إلا واعظاً لخلانه .. ناصحاً لإخوانه .. مؤثراً في زمانه ومكانه ..
إذا رأى المنكرات .. امتلأ قلبه حسرات .. وفاضت عينه دمعات ..
يود لو أن جسده قُرّض بالمقاريض وأن الناس لم يعصوا الله تعالى ..
يستميت في سبيل نصح الخلق .. وهدايتهم إلى الحق .. تأمل في أحوال الأنبياء .. وأخبار الأولياء ..
انظر إلى إبراهيم وهود .. وسليمان وداود .. وتأمل في حال شعيب وموسى .. وأيوب وعيسى ..
كيف كانوا يخدمون الدين .. ويحققون اليقين ..
واستمع إلى نوح عليه السلام .. يشكو حاله فيقول :
( رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ) ..
فهل استسلم لما أعرضوا ؟ كلا :
( ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا ) ..
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار .. العلن والإسرار ..
كل ذلك سخر للدعوة إلى الله ..
وقضى في ذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً .. تموت أجيال وتحيا أجيال .. وهو ثابت ثبات الجبال ..
* * * * * * * * * *
ووالله ما أقلت الغبراء .. ولا أظلت الخضراء .. أكرم خلقاً .. ولا أزكى نفساً .. ولا أحرص على هداية الناس من محمد صلى الله عليه وسلم
نعم ..
كان حريصاً على هداية الناس .. مسلمهم وكافرهم .. حرهم وعبدهم .. كبيرهم وصغيرهم ..
بذل نفسه وروحه ووقته .. حتى قال له ربه : ** فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ..
لقد دعا إلى الله في كل مكان .. وحال وزمان ..
في المسجد .. والسوق .. وفي الطريق .. بل وحتى على شفير القبر .. كان يستغل جميع المواقف ليعظ الناس ويذكرهم بربهم ..
لا يرى عاصياً إلا نصحه .. ولا مقصراً إلا وجّهه ..
ولم تكن نظرته في هداية الناس قاصرة .. بل كان عالي الهمة في ذلك .. يفكر في هداية الناس وهم في أصلاب آبائهم ..
في الصحيحين ..
أن عائشة رضي الله عنها تأملت يوماً .. في مصاب النبي عليه السلام يوم أحد .. يوم قتل بين يديه أصحابه .. وفر خلانه وأحبابه ..
وتمكن الكفار من الأبرار .. وارتفعت راية الفجار .. وعظم المصاب .. واشتد الكرب .. وأصيب النبي عليه السلام ..
قالت عائشة : يا رسول الله .. هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟
فقال صلى الله عليه وسلم وهو يستعيد ذكريات بلائه .. : لقد لقيت من قومك ما لقيت .. وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة .. إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل .. فلم يجبني إلى ما أردت ..
فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ( وهو ميقات أهل نجد قرب الطائف ) ..
فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني .. فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني .. فقال :
إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم .. فناداني ملك الجبال فسلم علي .. ثم قال :
يا محمد فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين..وهما جبلان عظيمان حول مكة ..
فقلت : لا .. بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ..
* * * * * * * * * *
وكان عليه السلام ينتهز جميع الفرص للوعظ والتذكير .. فهو بعد الصلاة يدعو الناس .. ويحببهم إلى ربهم ..
وفي السوق يرغبهم فيما عند خالقهم ..
وفي الطريق يذكرهم بمعبودهم ..
انظر إليه .. يردف وراءه يوماً عبد الله بن عباس .. فيلتفت إليه في وسط الطريق .. وينتهز الفرصة أن تفوت .. فيقول :
يا غلام .. إني أعلمك كلمات .. احفظ الله يحفظك .. احفظ الله تجده تجاهك .. إذا سألت فاسأل الله .. وإذا استعنت فاستعن بالله ..
وفي يوم آخر .. يردف معاذ بن جبل .. وراءه .. فيلتفت إليه وسط الطريق .. ويقول : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله .. حق الله على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً .. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ..
بل حتى عند القبر .. كان عليه السلام .. يستغل اجتماع الناس لهدايتهم ..
روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال :
بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة .. فقال :
علام اجتمع عليه هؤلاء ؟
قيل : على قبر يحفرونه ..
ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً .. حتى انتهى إلى القبر .. فجثا عليه .. قال البراء : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع .. فبكى حتى بل الثرى من دموعه .. ثم أقبل علينا .. فقال :
أي إخواني لمثل اليوم فاعدوا ..
* * * * * * * * * *
بل .. لم يكن اهتمام النبي عليه السلام .. مقتصراً على كبار الأنام .. بل اعتنى بالصغار والكبار .. والعبيد والأحرار ..
عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم .. يسمع بغلام يهودي مريض .. فيقول لأنس هلم بنا نزوره ..
فيخرج إليه يزوره .. فلما دخل صلى الله عليه وسلم عليه .. فإذا الغلام طريح الفراش .. وأبوه قاعد عند رأسه ..
فقال له النبي عليه السلام : يا فلان .. قل : لا إله إلا الله ..
فنظر الغلام إلى أبيه .. فسكت أبوه ..
فأعاد عليه النبي عليه السلام .. فنظر الغلام إلى أبيه .. فقال أبوه : أطع أبا القاسم ..
فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فتهلل وجه النبي عليه السلام .. ثم قام فخرج وهو يقول : الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ..
لنتأمل قليلاً .. غلام خادم .. لا مال له ولا عشيرة ..
بل هو في سياق الموت .. ومع ذلك يفرح النبي عليه السلام بإسلامه .. لأنه نجى من النار ..
* * * * * * * * * *
بل انظر إليه عليه السلام .. لما خرج طريداً شريداً من مكة .. وقريش تجعل الجوائز لمن قتله ..
فيخرج متخفياً عن الكافرين .. ويختبأ في غار مليء بالعقارب والثعابين .. خوفاً من بطش المشركين ..
وما يكاد يخرج منه .. ويمضي إلى المدينة .. عليه وعثاء السفر .. وكربة الضر ..
حتى لقيه في الطريق بريدة بن الحصيب .. أعرابي في الصحراء .. فلما رآه النبي عليه السلام .. نسي تعبه ونصبه .. وأقبل عليه يدعوه إلى الإسلام .. ونبذ عبادة الصنام ..
ويستميت في سبيل ذلك .. فيسلم بريدة .. ويرجع إلى قومه فيدعوهم .. فيسلم منهم ثلاثون ..
فيأتي بهم في الظلام .. إلى النبي عليه السلام .. فيصلون معه العشاء .. كما عند ابن سعد في الطبقات ..
ما منعه خوفه ولا رعبه .. ولا جوعه ولا نصبه من هداية الناس إلى ربهم ..
* * * * * * * * * *
بل كان صلى الله عليه وسلم يتنازل عن حقوق نفسه .. وحاجات جسده في سبيل هداية الناس ..
في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال :
أنهم غزو مع النبي عليه السلام .. غزاة قبل نجد .. فنزلوا أثناء الطريق ..
ونزل النبي عليه السلام تحت شجرة .. فعلق سيفه بغصن من أغصانها .. وفرش رداءه ونام تحتها ..
وتفرق الصحابة تحت الشجر .. يستظلون بظلها ..
فبنما هم كذلك .. إذ أقبل رجل إلى النبي عليه السلام .. يمشي رويداً رويداً .. حتى وقف على النبي عليه السلام ..
وهو نائم .. فتناول السيف .. ثم استله من غمده .. ورفعه فوق رأس النبي عليه السلام .. ثم صاح بأعلى صوته وقال :
يا محمد !! من يمنعك مني ؟ ففتح النبي عليه السلام عينيه .. فإذا الرجل تلتمع عيناه شرراً .. والسيف في يده يلمع منه الموت ..
والرجل يصيح .. من يمنعك مني .. من يمنعك مني ..
فقال صلى الله عليه وسلم : الله ..
فانتفض الرجل .. وسقط السيف من يده .. وسقط الرجل على الأرض ..
فقام عليه السلام وأخذ السيف .. ثم رفعه وقال : من يمنعك مني ؟!!
فقال الرجل : لا أحد .. ( ماذا يقول !! اللات والعزى ) .. قال : لا أحد .. كن خير آخذ ..
فقال صلى الله عليه وسلم : تسلم .. قال : لا .. ولكن لك علي أن لا أقاتلك أبداً .. ولا أكون مع قوم يقاتلونك ..
فعفا عنه النبي عليه السلام .. ولم يعرض له بأذى ..
وكان الرجل ملك قومه .. فمضى إلى قومه .. وهو يقول : جئتكم من عند أحسن الناس .. وعاد بهم مسلمين ..
* * * * * * * * * *
بل كان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على سلوك هذا السبيل ..
فكان يصيح بهم قائلاً .. ( بلغوا عني ولو آية .. بلغوا عني ولو آية ) .. فما عذر أحداً في ترك الدعوة إلى الله ..
وفي الحديث الذي رواه مسلم .. قال صلى الله عليه وسلم لعلي ( فوالله .. لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) ..
وحث كل أحد على نشر العلم والنصيحة .. فقال عليه السلام فيما رواه الترمذي : ( إن الله .. وملائكته .. وأهل السماوات .. والأرضين .. حتى النملة في جحرها .. وحتى الحوت .. ليصلون على معلم الناس الخير ) ..
وعلى هذا الطريق المنير سار أصحابه .. فكان نشر الدين .. هو القضية الوحيدة التي لأجلها يحيون .. وعليها يموتون ..
فأبو بكر أسلم على يده أكثرُ من ثلاثين صحابياً .. ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة ..
وكذلك عمر وعثمان .. وعلي وسلمان .. كم بذلوا وقدموا .. وجاهدوا وعملوا .. حتى انتشر الإسلام ..
واهتدى أكثر الأنام .. ونسيت عبادة الأصنام .. رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ..
لله درهم .. كانوا أئمة عامة ..
يتصدون لإرشاد الناس .. وحمايتهم من المنكرات ..
نعم .. ** وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ..
* * * * * * * * * *
نعم .. كان الصحابة رضي الله عنهم يضاعفون الجهود .. ليوحد الرب المعبود ..
لكن الكفار - أيضاً – كانوا في عصرهم يبذلون .. كما هم في عصرنا يبذلون .. ليصدوا عن سبيل الله ..
ينفقون الأموال .. ويقدمون الرجال .. ويستنفرون الأبطال .. لِـيُكفَر بالكبير المتعال ..
انظر إلى قبائل العرب قبل تمكن الإسلام .. وقد جاءت وفودها للحج في مكة ..
فصح في مسند أحمد .. أنه عليه السلام .. كان يقبل على القبيلة منهم .. فيقول لهم : يا غطفان .. هل لكم في عز الدهر .. قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا .. هذه رسالة ربي .. فمن يؤويني لأبلغ رسالة ربي ..
فما يكاد ينتهي من كلامه .. حتى يقبل عليهم أبو جهل مسرعاً .. فيصيح بهم : لا تصدقوه .. هذا ساحر .. هذا كاهن .. هذا مجنون .. أنا عمه وأدرى الناس به ..
فيتركهم النبي عليه السلام .. ويمضي حزيناً مهموماً .. حتى يختفي عن أبي جهل .. ثم يقف عند آخرين فيقول .. يا بني سلمة .. قولوا لا إله إلا الله تفلحوا .. فإذا بأبي جهل يقبل عليهم .. ويقول لهم هذا مجنون ..
انظر كيف يبذل أبو جهل ليصد عن سبيل الله ..
بل انظر كم بذل أبو سفيان قبل إسلامه .. وكيف قاد الجيوش لقتل المسلمين في أحد والخندق ..
وكم بذل أبو لهب .. وأمية بن خلف ..
كانوا يبذلون كل شيء للصد عن سبيل الله ..
* * * * * * * * * *
بل لما اشتد عذاب الكفار .. على الصحابة الأبرار .. أمرهم النبي عليه السلام بالخروج من الجزيرة العربية كلها .. والهجرة إلى الحبشة ..
فخرج المؤمنون الموحدون .. تركوا أموالهم وأشجارهم وثمارهم .. تعبث بها قريش كما تشاء .. وركبوا عباب البحر .. واستقروا في الحبشة .. في أرض الغرباء البعداء .. في أرض لم يعرفوها .. وبلاد لم يألفوها .. ولغة لم يفهموها ..
استقروا هناك ..
فهل تركهم الكفار ؟!! كلا .. ما هان على الكافرين .. أن يوحَّد رب العالمين ..
جمعت قريش أموالها .. وانتدبت عقلاءها .. ليذهبوا إلى ملك الحبشة .. فيغروا بالهدايا والأموال .. لـيُرجع المؤمنين إلى مكة حيث العذاب والنكال ..
عجباً .. وماذا يضر قريش أن يعبد الله في أرض بعيدة .. إنه الصد عن سبيل الله ..
* * * * * * * * * *
وإن تعجب .. فاعجب .. من رجل يصد عن سبيل الله وهو على فراش الموت ..
إنه أبو طالب .. عم النبي عليه السلام .. كان مصدقاً في داخله بالإسلام ..
أليس هو الذي كان يقول :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
لكنه يظل على دين قومه ..
حتى كبر سنه .. ورق عظمه .. واقتربت منيته ..
فمرض يوماً .. واشتدت عليه السكرات ..
فيسرع النبي عليه السلام إليه .. فإذا عمه على فراش الموت ..
قد علاه النزع والعرق .. واشتد به الخوف والفرق ..
وهو يودع الدنيا بأنفاس أخيرة .. وإذا عنده أبو جهل وكفار قريش ..
فيقبل النبي عليه السلام عليه .. وينطرح بين يديه .. ويقول وهو يدافع عبراته .. يا عم قل لا إله إلا الله ..
فينظر إليه أبو طالب .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه ..
فلما كاد أبو طال أن يقول لا إله إلا الله .. صاح به أبو جهل وقال : يا أبا طالب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
عجباً .. وما دخلك أنت يا أبا جهل .. الرجل على فراش الموت يسلم أو لا يسلم .. وما يضرك أنت أو ينفعك ..
إنه الصد عن سبيل الله ..
ورسول الله عليه السلام .. يصيح بعمه .. ويتدارك أنفاسه .. ويكرر :
يا عم .. قل لا إله إلا الله .. كلمة أحاج لك بها عند الله ..
وأبو جهل يدافعه .. أترغب عن ملة عبد المطلب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
حتى مات .. وهو على عبادة الأصنام .. والشرك بالملك العلام ..
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إن عمك كان يحوطك وينصرك فهل أغنيت عنه شيئاً ؟
فقال : نعم .. وجدته في غمرات من النار .. فأخرجته إلى ضحضاح من نار .. تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه ..
بل كان الكفار يتواصون بالثبات على الباطل .. قال تعالى عن كفار قريش :
( وانطلق الملأ منهم أن امشوا - أي استمروا على دينكم - واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ) ..
وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا ..
( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً ) ..
* * * * * * * * * *
نعم كان الكفار يبذلون في عهد النبي عليه السلام .. للصد عن الإسلام ..
ولكن بذل المؤمنين كان أكثر .. وجهدَهم كان أكبر ..
يستميت أحدهم للإصلاح ويناضل .. حتى ظهر الحق وزهق الباطل ..
واليوم .. خذ جولة سريعة .. وقارن بين الفريقين ..
انظر - إن شئت - إلى عمل اليهود وتكاتفهم .. لإقامة دولة إسرائيل ..
وانظر إلى تفاني الهندوس والبوذيين في خدمة دينهم .. حتى استغرق ذلك أوقاتهم واستنفذ جهودهم .. فأشغلهم عن اللذات والشهوات ..
وانظر إلى نشاط المنصرين .. وحرصهم على دعوتهم .. وبذلهم أموالهم .. وأوقاتهم .. وجهودهم ..
وهم على باطل ..
يقول أحد الدعاة ..
كانت تقدم إليَّ الدعوات دائماً لزيارة اللاجئين المسلمين في أفريقيا .. فتوجهت إلى هناك بعد تردد طويل .. وقررت أن أمكث أسبوعين .. وفوجئت بخطورة الطريق .. والحر الشديد .. وكثرة الحشرات .. والبعوض الحامل للأمراض ..
فلما وصلت فرح بي هؤلاء الضعفاء .. وأسكنوني في أحسن الخيام .. وأحضروا لي أنظف الفرش .. فبقيت تلك الليلة معجباً بنفسي .. وتضحيتي .. ثم نمت في عناء شديد .. وأنا أحمل هم هذين الأسبوعين ..
وفي الصباح جاءني أحدهم وطلب مني أن أتجول في المخيم .. فطلبت منه تأجيل ذلك حتى تخف حرارة الشمس .. فأصرَّ عليَّ فخرجت معه .. وذهبنا إلى البئر الوحيد الذي يزدحم عليه الناس .. ولفت نظري من بين هؤلاء الأفارقة .. شابة شعرها أصفر .. لم يتجاوز عمرها الثلاثين .. فسألته بعجب : من هذه ؟
فقال : هذه منصرة نرويجية .. تقيم هنا منذ ستة أشهر .. تأكل من طعامنا .. وتشرب من شرابنا .. وتعلمت لغتنا .. وقد تنصر على يدها المئات ..
نعم .. ** إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } ..
ويقول آخر ..
كنت في ألمانيا .. فطُرق علي الباب .. وإذا صوت امرأة شابة ينادي من ورائه ..
فقلت لها : ما تريدين ..؟
قالت : افتح الباب .. قلت : أنا رجل مسلم .. وليس عندي أحد .. ولا يجوز أن تدخلي عليَّ ..
فأصرت عليَّ .. فأبيت أن أفتح الباب ..
فقالت : أنا من جماعة شهود يهوه الدينية .. افتح الباب .. وخذ هذه الكتب والنشرات .. قلت : لا أريد شيئاً ..
فأخذت تترجى .. فوليت الباب ظهري .. ومضيت إلى غرفتي ..
فما كان منها إلا أن وضعت فمها على ثقب في الباب ..
ثم أخذت تتكلم عن دينها .. وتشرح مبادئ عقيدتها لمدة عشر دقائق ..
فلما انتهت .. توجهت إلى الباب وسألتها : لم تتعبين نفسك هكذا ..
فقالت : أنا أشعر الآن بالراحة .. لأني بذلت ما أستطيع في سبيل خدمة ديني ..
** إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } ..
* * * * * * * * * *
وجهود أعداء الدين .. من الكفرة والمنصرين .. أشهر من أن تذكر ..
وتأمل فيما يبذلونه لتنصير المسلمين .. من خلال قنوات فضائية .. وأشرطة سمعية ..
وكتب مقروءة .. ونشرات موبوءة ..
تأمل ذلك كله ثم قارنه بما يبذله المسلمون ..
أو قارنه إن شئت بهذين الموقفين ..
يقف أحد الشباب عند محطة وقود .. ويطلب من العامل أن يعبأ له ببضع ريالات ..
وخلال ذلك يسأل العامل : مسلم أنت ..
فيقول العامل : لا .. لست مسلماً ..
فيسأله صاحبنا : لماذا لا تسلم .. فيقول العامل : لا أعرف ما الإسلام ..
فيقول صاحبنا : أنا أحضر لك كتباً عن الإسلام ..
عندها صاح به العامل وقال : أنت كذاب ..
قال : كذاب !! لماذا ..
فقال العامل : أنا أعمل في هذا المحطة منذ خمس سنوات .. وكل واحد يمر بي يقول :
سأحضر لك كتباً عن الإسلام .. وإلى الآن لم يحضر إليَّ أحد شيئاً ..
وحدثني أحد العاملين في مركز لدعوة غير المسلمين في أحد المطارات ..
أنه كان يوزع مظاريف تحتوي على بعض الكتب الدينية على الخادمات المغادرات إلى إندونيسيا ..
قال : فمرت بي امرأة مع خادمتها .. تودعها إلى بلدها .. فناديتها .. قلت : يا أختي .. تفضلي هذه هدية للخادمة ..وأعطيتها مظروفاً مغلقاً ..
فقالت : ما هذا ؟ قلت : هو للخادمة ..
ففتحت المرأة المظروف .. فلما رأت الكتب قالت بغير مبالاة .. كتب إسلامية .. لا نريد كتباً إسلامية .. ثم رمت الكتب على الطاولة .. ومضت بخادمتها ..
سبحان الله .. بعض المسلمين .. لا دفع ولا نفع .. كما قال :
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا * * حياتك لا نفع وموتك فاجع
تأمل في غفلة كثير منا عن دعوة من هم بين أظهرنا ..
يسكن الكافر بين أظهرنا سنين .. ثم يرجع وهو على حاله : يعبد بوذا .. ويقدس البقرة .. ويقول الله ثالث ثلاثة ..
* * * * * * * * * *
بل دعك من الكافرين ..
كم نرى من المسلمين المقصرين في صلاة الجماعة .. والمتساهلين بالغناء وسماعه ..
وكم نرى من العاقين .. والمرابين .. والمتلاعبين بأعراض المسلمين ..
بل كم نرى من السُّكارى .. والشباب والفتيات الحيارى ..
فماذا بذلنا لهم ..
وبصراحة ..
بعض الناس إذا تكلمنا عن الدعوة إلى الله .. ظن أن الدعوة مقصورة .. على من أعفى لحيته وقصّر ثوبه ..
ثم جعل حلقه للحيته .. وإسباله لثوبه .. أو تدخينه .. أو سماعه للغناء ..
حائلاً بينه وبين خدمة الدين .. أو نصح المقصرين ..
بل قد يقعد الشيطان العاصي عن الدعوة .. ويقول له ..
أنت تنصح الناس !!! ألا تذكر خطاياك ؟ أمثلك يعمل للدين ؟
فيفوت الشيطان بذلك على الإسلام .. جندياً من جنود الرحمن ..
نعم .. لا أنكر أن الأصل في الداعية أن يكون مستقيماً على الطاعات ..
ولكن وجود السيئات .. لا يمنع من فعل حسنات ..
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
بل قد يجالس الداعية بعض الناس .. ولا يعلم أنهم يأكلون الربا والحرام .. أو يقعون في الفواحش والآثام ..
أو يتركون الصلوات .. ويعاقرون المسكرات ..
فلا يلام الداعية إذا سكت عنهم .. لأنهم يتظاهرون أمامه بالخير ..
ولكن هم يلامون .. فيجب على بعضهم أن ينصح بعضاً ..
وأنت وإن كنت عاصياً .. فلم تنقلب يهودياً ولا نصرانياً ..
فالعاصي المؤمن معدود من المؤمنين .. وقد قال الله ..
** وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ..
وكم من الناس اليوم ممن وقعوا في شهوات .. أو وقعت بينهم وبين بعض الصالحين خصومات ..
تسلط عليهم الشيطان .. فشعروا أنهم أعداء للدين وأهله ..
مع أن العبد قد يقع في المعصية .. لكنه يبقى من حزب الرحمن ..
وانظر إلى ذلك الرجل .. الذي أغواه الشيطان فشرب خمراً .. فعوقب .. ثم شرب فعوقب .. ثم شرب ..
فأتي به إلى النبي عليه السلام .. فلما عوقب .. قال بعض الصحابة :
لعنه الله .. ما أكثر ما يؤتى به !!
وقال : ( لا تلعنوه .. فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله )..
فهو وإن شرب خمراً لم ينقلب عدواً للدين ..
وتلك المرأة الزانية التائبة ..
أقاموا عليها الحد .. فلما ماتت سبها بعض الأصحاب ..
فقال عليه السلام : ( لقد تابت لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم )..
ولما زنى ماعز رضي الله عنه فرجم .. قال النبي عليه السلام : ( لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم .. والله إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها ) ..
وأنا بكلامي هذا لا أسوّغ الوقوع في المعاصي .. أو أعتذر لأصحابها .. ولكن .. ذكّر إن نفعت الذكرى ..
ولا ينبغي أن تحول المعصية بين صاحبها وبين خدمة هذا الدين ..
* * * * * * * * * *
أبو محجن الثقفي رجل من المسلمين كان قد ابتلي في الجاهلية بشرب الخمر ..
وقد تعلقت بها نفسه .. وهام بها قلبه .. حتى كان يوصي ولده ويقول :
إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة *** تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فــإنني *** أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
وتروى بخمر الحص لحدي فإنني أسيرٌ لها من بعد ما قد أسوقها
فلما أسلم .. بقيت نفسه تغلبه عليها .. فيعاقب عليها ويعود .. ثم يعاقب ويعود ..
فلما تداعى المسلمون للخروج لقتال الفرس في معركة القادسية .. خرج معهم أبو محجن .. وحمل زاده ومتاعه ..
فلما وصلوا القادسية .. طلب رستم مقابلة سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين ..
وبدأت المراسلات بين الجيشين .. عندها وسوس الشيطان لأبي محجن رضي الله عنه فاختبأ في مكان بعيد وشرب خمراً ..
فلما علم به سعد رضي الله عنه غضب عليه .. وقيد يديه ورجليه .. وحبسه في خيمة ..
وبدء القتال .. وتنازل الأبطال .. وقعقعت السيوف .. وتتابعت الـحُتوف ..
ورميت الرماح .. وارتفع الصياح ..
وغبرت خيل الرحمن .. وعلت أصوات الفرسان .. وفتحت أبواب الجنان ..
وطارت أرواح الشهداء .. واشتاق الأولياء ..
وأبو محجن يئن بقيد ** فلمَ القيدُ أيّهذا الأسير؟؟
أيها الفارس العنيد ترجّل** فخيولي حبيسة لا تغير!!
يا أبا محجن كفاك قعوداً ** أنت بالحرب والسلاح خبير
فاعصب الرأس عزة تتلظى ** هُتك العرضُ والجناح كسير
أَزِفت ساعة القصاص وإلا ** فاجرع الموتَ ثم بئس المصير
أخذ أبو محجن .. يتململ في قيوده .. وتتحرك أشواقه إلى الشهادة .. فيثب ليبذل الروح .. فإذا القيد في رجله :
فأخذ يتحسّر على حاله ويقول :
كفى حزناً أن تدحم الخيل بالقنى *** وأتـرك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت *** مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنـت ذا مال كثيرو إخوة *** وقـد تركوني مفرداً لا أخاليا
فللــه عهد لا أحيف بعهده *** لإن فُـرّجت ألا أزور الحوانيا
ثم أخذ ينادي ويصيح بأعلى صوته ..
فأجابته امرأة سعد : ما تريد ؟
فقال : فكي القيد من رجلي وأعطيني البلقاء فرس سعد .. فأقاتل فإن رزقني الله الشهادة فهو ما أريد .. وإن بقيت فلك عليّ عهد الله وميثاقه أن أرجع حتى تضعي القيد في قدمي ..
وأخذ يرجوها ويناشدها .. حتى فكت قيده وأعطته البلقاء .. فلبس درعه .. وغطى وجهه بالمغفر .. ثم قفز كالأسد على ظهر الفرس .. وألقى نفسه بين الكفار يدافع عن هذا الدين ويحامي ..
علق نفسه بالآخرة ولم يفلح إبليس في تثبيطه عن خدمة هذا الدين ..
حمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه .. وكان يقصف الناس قصفاً ..
وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ..
فقال بعضهم : لعله مدد من عمر ..
وقال بعضهم : لعله ملك من الملائكة ..
ومضى أبو محجن يضرب ويقاتل .. ويبذل روحه ويناضل ..
فـأقـدم فـإما مُنْية أو مَـنيَّـة *** تريحك من عيش به لست راضيا
فما ثَـمَّ إلا الوصلُ أو كلفٌ بهم *** وحسبك فوزاً ذاك إن كنت واعيا
مضى أبو محجن ..
أما سعد بن أبي وقاص فقد كانت به قروح في فخذيه فلم ينزل ساحة القتال .. لكنه كان يرقب القتال من بعيد ..
فلما رأى أبا محجن عجب من قوة قتاله .. وأخذ يتبعه بصره ويقول :
الضرب ضرب أبي محجن .. والكر .. كر البلقاء .. وأبو محجن في القيد .. والبلقاء في الحبس ..
فلما انتهى القتال عاد أبو محجن إلى سجنه .. ووضع رجله في القيد ..
ونزل سعد فوجد فرسه يعرق .. فعلم أنها شهدت القتال ..
فدخل على أبي محجن .. فإذا جراحه تسل دماً .. وعيناه تفيض دمعاً ..
وهو يقول .. يا سعد .. والله لا شربت الخمر أبداً ..
فلله درّ أبي محجن .. نعم وقع في معصية .. ولكنه يفعل طاعات تغوص معصيته في بحرها ..
ومن ذا الذي ترجى سجاياه كلها * كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
* * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
نحن اليوم في زمن تكاثرت فيه الفتن .. وتنوعت المحن ..
وقل الأصدقاء .. وتلون الأعداء ..
فمنهم عدو كاشح في عدائه * * ومنهم عدو في ثياب الأصادق
ومنهم قريب أعظم الخطب قربه * * له فيكم فعل العدو المفارق
فأكثر المسلمين اليوم حائرون في الملذات .. غرقى في الشهوات ..
يبحثون عن حياض النجاة .. عن خشبة يتعلقون بها .. أو سفينة يأوون إليها ..
فمن كان عنده فضل مال فليجد به على من لا مال له ..
ومن كان عنده فضل طعام فليجد به على من لا طعام له ..
ومن كان عنده فضل علم فليجد به على من لا علم له ..
ومن كان عنده خوف ووجل .. من العظيم الأجلّ .. فليجد به على الغافلين .. المعرضين اللاهين ..
وأنت لا تدري .. ما هو الباب الذي تدخل منه إلى الجنة .. فابذل ولا يخذلك الشيطان ..
* * * * * * * * * *
أما بعد ..
فهذه رحلة مع أقوام من الصالحين ..
الذين تنفسوا في الطاعات .. وتسابقوا إلى الخيرات ..
نعم.. مع الذين سارعوا إلى مغفرة من ربهم وجنات..
هذه أخبار أقوام .. لم يتهيبوا صعود الجبال.. بل نزعوا عن أعناقهم الأغلال .. واشتاقوا إلى الكريم المتعال ..
هم نساء ورجال .. علو إلى قمم الجبال..
ما حجبتهم عن ربهم لذة .. ولا اشتغلوا عن دينهم بشهوة ..
فأحبهم ربهم وأدناهم .. وأعلى مكانهم وأعطاهم ..
(فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) ..
نعم .. والله لا يستوون ..
لا يستوي من ليله قيام .. ونهاره صيام ..
مع من ليله عزف وأنغام .. ونهاره كالأنعام ..
لا يستوون .. ** أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ } ..
وإذا اردت أن تقف على حال المتقين ..
فانتقل معي إن شئت إلى هناك .. انتقل إلى المدينة ..
وانظر إلى أولئك الفقراء .. انظر إلى أبي هريرة وسلمان .. وأبي ذر وبلال .. وقد أقبلوا إلى النبي عليه السلام .. يشتكون من الأغنياء ..
عجباً !! الفقراء يشتكون من الأغنياء !! نعم .. فلماذا يشتكون ..
هل لأن طعام الأغنياء ألذ من طعامهم .. أم لأن لباس الأغنياء ألين من لباسهم ..
أم لأن بيوت الأغنياء أرفع من بيوتهم .. كلا .. ما كانت هذه شكاتهم .. ولا كان في هذا تنافسهم ..
أقبلوا حتى وقفوا بين يدي النبي عليه السلام .. فقالوا يا رسول الله .. جئنا إليك نشتكي من الأغنياء ..
قال : وما ذاك ..
قالوا : يا رسول الله .. ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى .. يصلون كما نصلي .. ويصومون كما نصوم ..
ولكن لهم .. فضول أموال فيتصدقون .. ولا نجد ما نتصدق ..
فقال لهم النبي عليه السلام : ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ؟
قالوا : نعم ..
قال : تسبحون في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين .. وتحمدون ثلاثاً وثلاثين .. وتكبرون ثلاثاً وثلاثين .. إنكم إذا فعلتم ذلك .. سبقتم من قبلكم ولم يدركم أحد ممن يجيء بعدكم ..
فرح الفقراء بذلك .. فلما قضيت الصلاة فإذا لهم زجل بالتسبيح والتكبير والتحميد ..
التفت الأغنياء فإذا الفقراء يسبحون .. سألوهم عن ذلك .. فأخبروهم بما علمهم النبي عليه السلام .. فما كادت الكلمات تلامس أسماع الأغنياء .. حتى تسابقوا إليها .. نعم .. إذا أبو بكر يسبح .. وإذا ابن عوف يسبح .. وإذا الزبير يسبح ..
فرجع الفقراء إلى النبي عليه السلام .. فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء بما علمتنا .. ففعلوا مثلنا .. فعلمنا شيئاً آخر ..
فقال صلى الله عليه وسلم : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ..
والحديث رواه ابن حبان وابن خزيمة ..
نعم .. ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) ..
* * * * * * * *
بل كان التنافس على الخيرات هو الذي يشغل بال الصالحين .. ويرفع درجات المتقين ..
وانظر إلى الشيخين الجليلين .. والعلمين العابدين ..
انظر إلى أبي بكر وعمر ..
كان عمر رضي الله عنه .. يقول : كنت أتمنى أن أسبق أبا بكر .. إن سبقته يوماً ..
فأمر النبي عليه السلام الناسَ بالصدقة يوماً .. وكان عند عمر مال حاضر من ذهب وفضة .. فقال في نفسه : اليوم أسبق أبا بكر ..
فأقبل على ماله فقسمه نصفين .. وأبقى نصفٍاً لعياله .. وجاء بنصف إلى النبي عليه السلام ..
فلما وضعه بين يديه .. رفع صلى الله عليه وسلم بصره إليه ثم قال : ماذا تركت لأهلك ..
قال : يا رسول الله .. تركت لهم مثله ..
ثم جلس عمر ينتظر أبا بكر ..
فإذا أبو بكر قد جاء بصرة عظيمة .. فوضعها بين يدي النبي عليه السلام .. فقال له صلى الله عليه وسلم : ماذا تركت لأهلك ..
فقال أبو بكر : تركت لهم الله ورسوله ..
فنظر إليه عمر ثم قال : والله لا سابقت أبا بكر بعد اليوم أبداً ..
* * * * * * * *
بل انظر إلى صورة أخرى من صور التنافس الحارّ .. يوم يقف النبي عليه السلام أمام جموع المسلمين في معركة أحد .. ثم يعرض سيفه صلتاً ويصيح بجموع الأبطال : من يأخذ هذا السيف بحقه ..
عندها تتسابق الأكف .. وتتطاير الأبصار .. وتشرئب النفوس .. عجباً على ماذا يتسابقون ؟!
إنه على الروح أن يبذلوها .. وعلى الدماء أن يسكبوها .. والأنفس ليقتلوها ..
فيقفز من بينهم أبو دجانة ويقول : وما حقه يا رسول الله ..
فيقول النبي عليه السلام : ألا تضرب به مسلماً .. ولا تفر به من بين يدي كافر ..
نعم .. لا تفر عن كافر مهما كان قوياً أو ضعيفاً .. شجاعاً أو جباناً ..
عندها يأخذه البطل .. ثم يخرج عصابة حمراء فيربطها على رأسه .. ويتبختر مستبشراً فرحاً .. ويضرب به هام الكفار حتى انثنى ..
* * * * * * * *
بل .. انظر إلى النبي عليه السلام .. وهو يحدث أصحابه عن يوم القيامة .. ويخبرهم ..
أن من أمته سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ..
فيعجب الصحابة بهذا الفضل العظيم .. ويقفز عكاشة بن محصن رضي الله عنه .. سريعاً .. يبادر الموقف وينتهز الفرصة قبل أن تفوت ..
ويقول : \"يا رسول الله أدعُ الله أن يجعلني منهم .. قال : ( أنت منهم ) ..
ويفوز بها عكاشة .. ثم يغلق الباب .. ويقال لمن بعده : سبقك بها عكاشة ..
نعم سبق عكاشة فدخل الجنة بغير حساب ..
وفاز أبو دجانة بسيف النبي الأواب ..
وارتفع أبو بكر على جميع الأصحاب ..
وتنافس الأغنياء والفقراء .. والصالحون والأولياء ..
همهم واحد .. كما أن ربهم واحد ..
وقلوبهم ثابتة .. كما أن عزائمهم ماضية ..
وأنت أفلا نظرت إلى نفسك .. كيف همتك إذا رأيت من سبقك إلى الدعوة إلى الله .. أو النفقة في سبيل الله ..
أفلا تلوم نفسك إذا رأيت فلاناً سبقك بحفظ القرآن .. وأنت غافل ولهان ..
ورأيت الآخر سبقك إلى الجهاد .. وأنت على الأريكة والوساد ..
والثالث يصعد في الدرجات .. وينكر المنكرات .. وأنت عاكف على أمور تافهات ..
ما حالك إذا علمت أن فلاناً صوام في النهار .. أو بكاء في الأسحار ..
فيا بائعا نفسه بيع الهوان لو استرجعت ذا البيع قبل الفوت لم تخب
وبائعا طيب عيش ما له خطر بطيف عيش من الآلام منتهب
غبنت والله غبنا فاحشا ولدى * يوم التغابن تلقى غاية الحرب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا * لكل داهية تدني من العطب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت * ورسل ربك قد وافتك في الطلب
فاستفرش الخد ذياك التراب وقل * ما قاله صاحب الأشواق والحقب
منحتك الروح لا أبغى لها ثمنا * الا رضاك ووافقرى الا الثمن
* * * * * * * *
ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه .. غلام صغير من الأصحاب .. لكن همته كانت فوق السحاب ..
فكان يأتي إلى النبي عليه السلام .. وهو غلام .. فيقرب له وَضوءه وحاجته .. فأراد النبي عليه السلام أن يكافئه يوماً ..
فقال له : سلني يا ربيعة ..
فسكت ربيعة قليلاً .. ثم قال : أسألك مرافقتك في الجنة ..
فقال صلى الله عليه وسلم : أو غير ذلك ؟
قال : هو ذاك .. فقال عليه السلام : فأعني على نفسك بكثرة السجود ..رواه مسلم ..
فكان ربيعة على صغر سنه لا يرى إلا مصلياً أو ساجداً ..
لم يفوت من عمره ساعة .. ولم يفقد في صلاة جماعة ..
* * * * * * * * *
نعم .. كانوا إذا عرفوا الفضائل تسابقوا إليها .. وثبتوا عليها ..
أذاقهم الله طعم محبّته .. ونعّمهم بمناجاته .. وطهّر سرائرهم بمراقبته .. وزين رؤوسهم بتيجان مودّته ..
فذاقوا نعيم الجنة قبل أن يدخلوها ..
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله إذا أراد بعبد خيراً استعمله .. قيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : يوفقه للعمل الصالح ثم يقبضه عليه ..) ..
فمن أحبه الله .. أستعمله في طاعته .. وجعله لا يعيش لنفسه فقط .. بل يعيش لدينه .. داعياً إليه .. آمراً بالمعروف .. ناهياً عن المنكر .. مهتماً بأمر المسلمين .. ناصحاً للمؤمنين .. ففي الشيشان أخته .. وفي أفغان أمه .. وفي الصين ابنته .. وفي كشمير أحبابه .. يألم لألمهم .. ويفرح لفرحهم .. لا تراه إلا واعظاً لخلانه .. ناصحاً لإخوانه .. مؤثراً في زمانه ومكانه ..
إذا رأى المنكرات .. امتلأ قلبه حسرات .. وفاضت عينه دمعات ..
يود لو أن جسده قُرّض بالمقاريض وأن الناس لم يعصوا الله تعالى ..
يستميت في سبيل نصح الخلق .. وهدايتهم إلى الحق .. تأمل في أحوال الأنبياء .. وأخبار الأولياء ..
انظر إلى إبراهيم وهود .. وسليمان وداود .. وتأمل في حال شعيب وموسى .. وأيوب وعيسى ..
كيف كانوا يخدمون الدين .. ويحققون اليقين ..
واستمع إلى نوح عليه السلام .. يشكو حاله فيقول :
( رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائي إلا فرارا * وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا ) ..
فهل استسلم لما أعرضوا ؟ كلا :
( ثم إني دعوتهم جهارا * ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا ) ..
ماذا بقي من حياة نبي الله نوح؟
الليل والنهار .. العلن والإسرار ..
كل ذلك سخر للدعوة إلى الله ..
وقضى في ذلك ألف سنة إلا خمسين عاماً .. تموت أجيال وتحيا أجيال .. وهو ثابت ثبات الجبال ..
* * * * * * * * * *
ووالله ما أقلت الغبراء .. ولا أظلت الخضراء .. أكرم خلقاً .. ولا أزكى نفساً .. ولا أحرص على هداية الناس من محمد صلى الله عليه وسلم
نعم ..
كان حريصاً على هداية الناس .. مسلمهم وكافرهم .. حرهم وعبدهم .. كبيرهم وصغيرهم ..
بذل نفسه وروحه ووقته .. حتى قال له ربه : ** فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ..
لقد دعا إلى الله في كل مكان .. وحال وزمان ..
في المسجد .. والسوق .. وفي الطريق .. بل وحتى على شفير القبر .. كان يستغل جميع المواقف ليعظ الناس ويذكرهم بربهم ..
لا يرى عاصياً إلا نصحه .. ولا مقصراً إلا وجّهه ..
ولم تكن نظرته في هداية الناس قاصرة .. بل كان عالي الهمة في ذلك .. يفكر في هداية الناس وهم في أصلاب آبائهم ..
في الصحيحين ..
أن عائشة رضي الله عنها تأملت يوماً .. في مصاب النبي عليه السلام يوم أحد .. يوم قتل بين يديه أصحابه .. وفر خلانه وأحبابه ..
وتمكن الكفار من الأبرار .. وارتفعت راية الفجار .. وعظم المصاب .. واشتد الكرب .. وأصيب النبي عليه السلام ..
قالت عائشة : يا رسول الله .. هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟
فقال صلى الله عليه وسلم وهو يستعيد ذكريات بلائه .. : لقد لقيت من قومك ما لقيت .. وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة .. إذ عرضت نفسي على بن عبد يا ليل .. فلم يجبني إلى ما أردت ..
فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ( وهو ميقات أهل نجد قرب الطائف ) ..
فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني .. فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني .. فقال :
إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم .. فناداني ملك الجبال فسلم علي .. ثم قال :
يا محمد فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين..وهما جبلان عظيمان حول مكة ..
فقلت : لا .. بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ..
* * * * * * * * * *
وكان عليه السلام ينتهز جميع الفرص للوعظ والتذكير .. فهو بعد الصلاة يدعو الناس .. ويحببهم إلى ربهم ..
وفي السوق يرغبهم فيما عند خالقهم ..
وفي الطريق يذكرهم بمعبودهم ..
انظر إليه .. يردف وراءه يوماً عبد الله بن عباس .. فيلتفت إليه في وسط الطريق .. وينتهز الفرصة أن تفوت .. فيقول :
يا غلام .. إني أعلمك كلمات .. احفظ الله يحفظك .. احفظ الله تجده تجاهك .. إذا سألت فاسأل الله .. وإذا استعنت فاستعن بالله ..
وفي يوم آخر .. يردف معاذ بن جبل .. وراءه .. فيلتفت إليه وسط الطريق .. ويقول : يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله .. حق الله على العباد أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً .. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ..
بل حتى عند القبر .. كان عليه السلام .. يستغل اجتماع الناس لهدايتهم ..
روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال :
بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة .. فقال :
علام اجتمع عليه هؤلاء ؟
قيل : على قبر يحفرونه ..
ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً .. حتى انتهى إلى القبر .. فجثا عليه .. قال البراء : فاستقبلته من بين يديه لأنظر ما يصنع .. فبكى حتى بل الثرى من دموعه .. ثم أقبل علينا .. فقال :
أي إخواني لمثل اليوم فاعدوا ..
* * * * * * * * * *
بل .. لم يكن اهتمام النبي عليه السلام .. مقتصراً على كبار الأنام .. بل اعتنى بالصغار والكبار .. والعبيد والأحرار ..
عند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم .. يسمع بغلام يهودي مريض .. فيقول لأنس هلم بنا نزوره ..
فيخرج إليه يزوره .. فلما دخل صلى الله عليه وسلم عليه .. فإذا الغلام طريح الفراش .. وأبوه قاعد عند رأسه ..
فقال له النبي عليه السلام : يا فلان .. قل : لا إله إلا الله ..
فنظر الغلام إلى أبيه .. فسكت أبوه ..
فأعاد عليه النبي عليه السلام .. فنظر الغلام إلى أبيه .. فقال أبوه : أطع أبا القاسم ..
فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأنك رسول الله ..
فتهلل وجه النبي عليه السلام .. ثم قام فخرج وهو يقول : الحمد لله الذي أخرجه بي من النار ..
لنتأمل قليلاً .. غلام خادم .. لا مال له ولا عشيرة ..
بل هو في سياق الموت .. ومع ذلك يفرح النبي عليه السلام بإسلامه .. لأنه نجى من النار ..
* * * * * * * * * *
بل انظر إليه عليه السلام .. لما خرج طريداً شريداً من مكة .. وقريش تجعل الجوائز لمن قتله ..
فيخرج متخفياً عن الكافرين .. ويختبأ في غار مليء بالعقارب والثعابين .. خوفاً من بطش المشركين ..
وما يكاد يخرج منه .. ويمضي إلى المدينة .. عليه وعثاء السفر .. وكربة الضر ..
حتى لقيه في الطريق بريدة بن الحصيب .. أعرابي في الصحراء .. فلما رآه النبي عليه السلام .. نسي تعبه ونصبه .. وأقبل عليه يدعوه إلى الإسلام .. ونبذ عبادة الصنام ..
ويستميت في سبيل ذلك .. فيسلم بريدة .. ويرجع إلى قومه فيدعوهم .. فيسلم منهم ثلاثون ..
فيأتي بهم في الظلام .. إلى النبي عليه السلام .. فيصلون معه العشاء .. كما عند ابن سعد في الطبقات ..
ما منعه خوفه ولا رعبه .. ولا جوعه ولا نصبه من هداية الناس إلى ربهم ..
* * * * * * * * * *
بل كان صلى الله عليه وسلم يتنازل عن حقوق نفسه .. وحاجات جسده في سبيل هداية الناس ..
في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال :
أنهم غزو مع النبي عليه السلام .. غزاة قبل نجد .. فنزلوا أثناء الطريق ..
ونزل النبي عليه السلام تحت شجرة .. فعلق سيفه بغصن من أغصانها .. وفرش رداءه ونام تحتها ..
وتفرق الصحابة تحت الشجر .. يستظلون بظلها ..
فبنما هم كذلك .. إذ أقبل رجل إلى النبي عليه السلام .. يمشي رويداً رويداً .. حتى وقف على النبي عليه السلام ..
وهو نائم .. فتناول السيف .. ثم استله من غمده .. ورفعه فوق رأس النبي عليه السلام .. ثم صاح بأعلى صوته وقال :
يا محمد !! من يمنعك مني ؟ ففتح النبي عليه السلام عينيه .. فإذا الرجل تلتمع عيناه شرراً .. والسيف في يده يلمع منه الموت ..
والرجل يصيح .. من يمنعك مني .. من يمنعك مني ..
فقال صلى الله عليه وسلم : الله ..
فانتفض الرجل .. وسقط السيف من يده .. وسقط الرجل على الأرض ..
فقام عليه السلام وأخذ السيف .. ثم رفعه وقال : من يمنعك مني ؟!!
فقال الرجل : لا أحد .. ( ماذا يقول !! اللات والعزى ) .. قال : لا أحد .. كن خير آخذ ..
فقال صلى الله عليه وسلم : تسلم .. قال : لا .. ولكن لك علي أن لا أقاتلك أبداً .. ولا أكون مع قوم يقاتلونك ..
فعفا عنه النبي عليه السلام .. ولم يعرض له بأذى ..
وكان الرجل ملك قومه .. فمضى إلى قومه .. وهو يقول : جئتكم من عند أحسن الناس .. وعاد بهم مسلمين ..
* * * * * * * * * *
بل كان صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على سلوك هذا السبيل ..
فكان يصيح بهم قائلاً .. ( بلغوا عني ولو آية .. بلغوا عني ولو آية ) .. فما عذر أحداً في ترك الدعوة إلى الله ..
وفي الحديث الذي رواه مسلم .. قال صلى الله عليه وسلم لعلي ( فوالله .. لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم ) ..
وحث كل أحد على نشر العلم والنصيحة .. فقال عليه السلام فيما رواه الترمذي : ( إن الله .. وملائكته .. وأهل السماوات .. والأرضين .. حتى النملة في جحرها .. وحتى الحوت .. ليصلون على معلم الناس الخير ) ..
وعلى هذا الطريق المنير سار أصحابه .. فكان نشر الدين .. هو القضية الوحيدة التي لأجلها يحيون .. وعليها يموتون ..
فأبو بكر أسلم على يده أكثرُ من ثلاثين صحابياً .. ستة منهم من العشرة المبشرين بالجنة ..
وكذلك عمر وعثمان .. وعلي وسلمان .. كم بذلوا وقدموا .. وجاهدوا وعملوا .. حتى انتشر الإسلام ..
واهتدى أكثر الأنام .. ونسيت عبادة الأصنام .. رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ..
لله درهم .. كانوا أئمة عامة ..
يتصدون لإرشاد الناس .. وحمايتهم من المنكرات ..
نعم .. ** وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ..
* * * * * * * * * *
نعم .. كان الصحابة رضي الله عنهم يضاعفون الجهود .. ليوحد الرب المعبود ..
لكن الكفار - أيضاً – كانوا في عصرهم يبذلون .. كما هم في عصرنا يبذلون .. ليصدوا عن سبيل الله ..
ينفقون الأموال .. ويقدمون الرجال .. ويستنفرون الأبطال .. لِـيُكفَر بالكبير المتعال ..
انظر إلى قبائل العرب قبل تمكن الإسلام .. وقد جاءت وفودها للحج في مكة ..
فصح في مسند أحمد .. أنه عليه السلام .. كان يقبل على القبيلة منهم .. فيقول لهم : يا غطفان .. هل لكم في عز الدهر .. قولوا : لا إله إلا الله تفلحوا .. هذه رسالة ربي .. فمن يؤويني لأبلغ رسالة ربي ..
فما يكاد ينتهي من كلامه .. حتى يقبل عليهم أبو جهل مسرعاً .. فيصيح بهم : لا تصدقوه .. هذا ساحر .. هذا كاهن .. هذا مجنون .. أنا عمه وأدرى الناس به ..
فيتركهم النبي عليه السلام .. ويمضي حزيناً مهموماً .. حتى يختفي عن أبي جهل .. ثم يقف عند آخرين فيقول .. يا بني سلمة .. قولوا لا إله إلا الله تفلحوا .. فإذا بأبي جهل يقبل عليهم .. ويقول لهم هذا مجنون ..
انظر كيف يبذل أبو جهل ليصد عن سبيل الله ..
بل انظر كم بذل أبو سفيان قبل إسلامه .. وكيف قاد الجيوش لقتل المسلمين في أحد والخندق ..
وكم بذل أبو لهب .. وأمية بن خلف ..
كانوا يبذلون كل شيء للصد عن سبيل الله ..
* * * * * * * * * *
بل لما اشتد عذاب الكفار .. على الصحابة الأبرار .. أمرهم النبي عليه السلام بالخروج من الجزيرة العربية كلها .. والهجرة إلى الحبشة ..
فخرج المؤمنون الموحدون .. تركوا أموالهم وأشجارهم وثمارهم .. تعبث بها قريش كما تشاء .. وركبوا عباب البحر .. واستقروا في الحبشة .. في أرض الغرباء البعداء .. في أرض لم يعرفوها .. وبلاد لم يألفوها .. ولغة لم يفهموها ..
استقروا هناك ..
فهل تركهم الكفار ؟!! كلا .. ما هان على الكافرين .. أن يوحَّد رب العالمين ..
جمعت قريش أموالها .. وانتدبت عقلاءها .. ليذهبوا إلى ملك الحبشة .. فيغروا بالهدايا والأموال .. لـيُرجع المؤمنين إلى مكة حيث العذاب والنكال ..
عجباً .. وماذا يضر قريش أن يعبد الله في أرض بعيدة .. إنه الصد عن سبيل الله ..
* * * * * * * * * *
وإن تعجب .. فاعجب .. من رجل يصد عن سبيل الله وهو على فراش الموت ..
إنه أبو طالب .. عم النبي عليه السلام .. كان مصدقاً في داخله بالإسلام ..
أليس هو الذي كان يقول :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
لكنه يظل على دين قومه ..
حتى كبر سنه .. ورق عظمه .. واقتربت منيته ..
فمرض يوماً .. واشتدت عليه السكرات ..
فيسرع النبي عليه السلام إليه .. فإذا عمه على فراش الموت ..
قد علاه النزع والعرق .. واشتد به الخوف والفرق ..
وهو يودع الدنيا بأنفاس أخيرة .. وإذا عنده أبو جهل وكفار قريش ..
فيقبل النبي عليه السلام عليه .. وينطرح بين يديه .. ويقول وهو يدافع عبراته .. يا عم قل لا إله إلا الله ..
فينظر إليه أبو طالب .. ورسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه ..
فلما كاد أبو طال أن يقول لا إله إلا الله .. صاح به أبو جهل وقال : يا أبا طالب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
عجباً .. وما دخلك أنت يا أبا جهل .. الرجل على فراش الموت يسلم أو لا يسلم .. وما يضرك أنت أو ينفعك ..
إنه الصد عن سبيل الله ..
ورسول الله عليه السلام .. يصيح بعمه .. ويتدارك أنفاسه .. ويكرر :
يا عم .. قل لا إله إلا الله .. كلمة أحاج لك بها عند الله ..
وأبو جهل يدافعه .. أترغب عن ملة عبد المطلب .. أترغب عن ملة عبد المطلب ..
حتى مات .. وهو على عبادة الأصنام .. والشرك بالملك العلام ..
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له : يا رسول الله إن عمك كان يحوطك وينصرك فهل أغنيت عنه شيئاً ؟
فقال : نعم .. وجدته في غمرات من النار .. فأخرجته إلى ضحضاح من نار .. تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه ..
بل كان الكفار يتواصون بالثبات على الباطل .. قال تعالى عن كفار قريش :
( وانطلق الملأ منهم أن امشوا - أي استمروا على دينكم - واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ) ..
وفي الآية الأخرى يقول جل وعلا ..
( وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلاً ) ..
* * * * * * * * * *
نعم كان الكفار يبذلون في عهد النبي عليه السلام .. للصد عن الإسلام ..
ولكن بذل المؤمنين كان أكثر .. وجهدَهم كان أكبر ..
يستميت أحدهم للإصلاح ويناضل .. حتى ظهر الحق وزهق الباطل ..
واليوم .. خذ جولة سريعة .. وقارن بين الفريقين ..
انظر - إن شئت - إلى عمل اليهود وتكاتفهم .. لإقامة دولة إسرائيل ..
وانظر إلى تفاني الهندوس والبوذيين في خدمة دينهم .. حتى استغرق ذلك أوقاتهم واستنفذ جهودهم .. فأشغلهم عن اللذات والشهوات ..
وانظر إلى نشاط المنصرين .. وحرصهم على دعوتهم .. وبذلهم أموالهم .. وأوقاتهم .. وجهودهم ..
وهم على باطل ..
يقول أحد الدعاة ..
كانت تقدم إليَّ الدعوات دائماً لزيارة اللاجئين المسلمين في أفريقيا .. فتوجهت إلى هناك بعد تردد طويل .. وقررت أن أمكث أسبوعين .. وفوجئت بخطورة الطريق .. والحر الشديد .. وكثرة الحشرات .. والبعوض الحامل للأمراض ..
فلما وصلت فرح بي هؤلاء الضعفاء .. وأسكنوني في أحسن الخيام .. وأحضروا لي أنظف الفرش .. فبقيت تلك الليلة معجباً بنفسي .. وتضحيتي .. ثم نمت في عناء شديد .. وأنا أحمل هم هذين الأسبوعين ..
وفي الصباح جاءني أحدهم وطلب مني أن أتجول في المخيم .. فطلبت منه تأجيل ذلك حتى تخف حرارة الشمس .. فأصرَّ عليَّ فخرجت معه .. وذهبنا إلى البئر الوحيد الذي يزدحم عليه الناس .. ولفت نظري من بين هؤلاء الأفارقة .. شابة شعرها أصفر .. لم يتجاوز عمرها الثلاثين .. فسألته بعجب : من هذه ؟
فقال : هذه منصرة نرويجية .. تقيم هنا منذ ستة أشهر .. تأكل من طعامنا .. وتشرب من شرابنا .. وتعلمت لغتنا .. وقد تنصر على يدها المئات ..
نعم .. ** إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } ..
ويقول آخر ..
كنت في ألمانيا .. فطُرق علي الباب .. وإذا صوت امرأة شابة ينادي من ورائه ..
فقلت لها : ما تريدين ..؟
قالت : افتح الباب .. قلت : أنا رجل مسلم .. وليس عندي أحد .. ولا يجوز أن تدخلي عليَّ ..
فأصرت عليَّ .. فأبيت أن أفتح الباب ..
فقالت : أنا من جماعة شهود يهوه الدينية .. افتح الباب .. وخذ هذه الكتب والنشرات .. قلت : لا أريد شيئاً ..
فأخذت تترجى .. فوليت الباب ظهري .. ومضيت إلى غرفتي ..
فما كان منها إلا أن وضعت فمها على ثقب في الباب ..
ثم أخذت تتكلم عن دينها .. وتشرح مبادئ عقيدتها لمدة عشر دقائق ..
فلما انتهت .. توجهت إلى الباب وسألتها : لم تتعبين نفسك هكذا ..
فقالت : أنا أشعر الآن بالراحة .. لأني بذلت ما أستطيع في سبيل خدمة ديني ..
** إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } ..
* * * * * * * * * *
وجهود أعداء الدين .. من الكفرة والمنصرين .. أشهر من أن تذكر ..
وتأمل فيما يبذلونه لتنصير المسلمين .. من خلال قنوات فضائية .. وأشرطة سمعية ..
وكتب مقروءة .. ونشرات موبوءة ..
تأمل ذلك كله ثم قارنه بما يبذله المسلمون ..
أو قارنه إن شئت بهذين الموقفين ..
يقف أحد الشباب عند محطة وقود .. ويطلب من العامل أن يعبأ له ببضع ريالات ..
وخلال ذلك يسأل العامل : مسلم أنت ..
فيقول العامل : لا .. لست مسلماً ..
فيسأله صاحبنا : لماذا لا تسلم .. فيقول العامل : لا أعرف ما الإسلام ..
فيقول صاحبنا : أنا أحضر لك كتباً عن الإسلام ..
عندها صاح به العامل وقال : أنت كذاب ..
قال : كذاب !! لماذا ..
فقال العامل : أنا أعمل في هذا المحطة منذ خمس سنوات .. وكل واحد يمر بي يقول :
سأحضر لك كتباً عن الإسلام .. وإلى الآن لم يحضر إليَّ أحد شيئاً ..
وحدثني أحد العاملين في مركز لدعوة غير المسلمين في أحد المطارات ..
أنه كان يوزع مظاريف تحتوي على بعض الكتب الدينية على الخادمات المغادرات إلى إندونيسيا ..
قال : فمرت بي امرأة مع خادمتها .. تودعها إلى بلدها .. فناديتها .. قلت : يا أختي .. تفضلي هذه هدية للخادمة ..وأعطيتها مظروفاً مغلقاً ..
فقالت : ما هذا ؟ قلت : هو للخادمة ..
ففتحت المرأة المظروف .. فلما رأت الكتب قالت بغير مبالاة .. كتب إسلامية .. لا نريد كتباً إسلامية .. ثم رمت الكتب على الطاولة .. ومضت بخادمتها ..
سبحان الله .. بعض المسلمين .. لا دفع ولا نفع .. كما قال :
وأنت امرؤ منا خلقت لغيرنا * * حياتك لا نفع وموتك فاجع
تأمل في غفلة كثير منا عن دعوة من هم بين أظهرنا ..
يسكن الكافر بين أظهرنا سنين .. ثم يرجع وهو على حاله : يعبد بوذا .. ويقدس البقرة .. ويقول الله ثالث ثلاثة ..
* * * * * * * * * *
بل دعك من الكافرين ..
كم نرى من المسلمين المقصرين في صلاة الجماعة .. والمتساهلين بالغناء وسماعه ..
وكم نرى من العاقين .. والمرابين .. والمتلاعبين بأعراض المسلمين ..
بل كم نرى من السُّكارى .. والشباب والفتيات الحيارى ..
فماذا بذلنا لهم ..
وبصراحة ..
بعض الناس إذا تكلمنا عن الدعوة إلى الله .. ظن أن الدعوة مقصورة .. على من أعفى لحيته وقصّر ثوبه ..
ثم جعل حلقه للحيته .. وإسباله لثوبه .. أو تدخينه .. أو سماعه للغناء ..
حائلاً بينه وبين خدمة الدين .. أو نصح المقصرين ..
بل قد يقعد الشيطان العاصي عن الدعوة .. ويقول له ..
أنت تنصح الناس !!! ألا تذكر خطاياك ؟ أمثلك يعمل للدين ؟
فيفوت الشيطان بذلك على الإسلام .. جندياً من جنود الرحمن ..
نعم .. لا أنكر أن الأصل في الداعية أن يكون مستقيماً على الطاعات ..
ولكن وجود السيئات .. لا يمنع من فعل حسنات ..
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد
بل قد يجالس الداعية بعض الناس .. ولا يعلم أنهم يأكلون الربا والحرام .. أو يقعون في الفواحش والآثام ..
أو يتركون الصلوات .. ويعاقرون المسكرات ..
فلا يلام الداعية إذا سكت عنهم .. لأنهم يتظاهرون أمامه بالخير ..
ولكن هم يلامون .. فيجب على بعضهم أن ينصح بعضاً ..
وأنت وإن كنت عاصياً .. فلم تنقلب يهودياً ولا نصرانياً ..
فالعاصي المؤمن معدود من المؤمنين .. وقد قال الله ..
** وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } ..
وكم من الناس اليوم ممن وقعوا في شهوات .. أو وقعت بينهم وبين بعض الصالحين خصومات ..
تسلط عليهم الشيطان .. فشعروا أنهم أعداء للدين وأهله ..
مع أن العبد قد يقع في المعصية .. لكنه يبقى من حزب الرحمن ..
وانظر إلى ذلك الرجل .. الذي أغواه الشيطان فشرب خمراً .. فعوقب .. ثم شرب فعوقب .. ثم شرب ..
فأتي به إلى النبي عليه السلام .. فلما عوقب .. قال بعض الصحابة :
لعنه الله .. ما أكثر ما يؤتى به !!
وقال : ( لا تلعنوه .. فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله )..
فهو وإن شرب خمراً لم ينقلب عدواً للدين ..
وتلك المرأة الزانية التائبة ..
أقاموا عليها الحد .. فلما ماتت سبها بعض الأصحاب ..
فقال عليه السلام : ( لقد تابت لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم )..
ولما زنى ماعز رضي الله عنه فرجم .. قال النبي عليه السلام : ( لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لوسعتهم .. والله إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها ) ..
وأنا بكلامي هذا لا أسوّغ الوقوع في المعاصي .. أو أعتذر لأصحابها .. ولكن .. ذكّر إن نفعت الذكرى ..
ولا ينبغي أن تحول المعصية بين صاحبها وبين خدمة هذا الدين ..
* * * * * * * * * *
أبو محجن الثقفي رجل من المسلمين كان قد ابتلي في الجاهلية بشرب الخمر ..
وقد تعلقت بها نفسه .. وهام بها قلبه .. حتى كان يوصي ولده ويقول :
إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمة *** تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فــإنني *** أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها
وتروى بخمر الحص لحدي فإنني أسيرٌ لها من بعد ما قد أسوقها
فلما أسلم .. بقيت نفسه تغلبه عليها .. فيعاقب عليها ويعود .. ثم يعاقب ويعود ..
فلما تداعى المسلمون للخروج لقتال الفرس في معركة القادسية .. خرج معهم أبو محجن .. وحمل زاده ومتاعه ..
فلما وصلوا القادسية .. طلب رستم مقابلة سعد بن أبي وقاص قائد المسلمين ..
وبدأت المراسلات بين الجيشين .. عندها وسوس الشيطان لأبي محجن رضي الله عنه فاختبأ في مكان بعيد وشرب خمراً ..
فلما علم به سعد رضي الله عنه غضب عليه .. وقيد يديه ورجليه .. وحبسه في خيمة ..
وبدء القتال .. وتنازل الأبطال .. وقعقعت السيوف .. وتتابعت الـحُتوف ..
ورميت الرماح .. وارتفع الصياح ..
وغبرت خيل الرحمن .. وعلت أصوات الفرسان .. وفتحت أبواب الجنان ..
وطارت أرواح الشهداء .. واشتاق الأولياء ..
وأبو محجن يئن بقيد ** فلمَ القيدُ أيّهذا الأسير؟؟
أيها الفارس العنيد ترجّل** فخيولي حبيسة لا تغير!!
يا أبا محجن كفاك قعوداً ** أنت بالحرب والسلاح خبير
فاعصب الرأس عزة تتلظى ** هُتك العرضُ والجناح كسير
أَزِفت ساعة القصاص وإلا ** فاجرع الموتَ ثم بئس المصير
أخذ أبو محجن .. يتململ في قيوده .. وتتحرك أشواقه إلى الشهادة .. فيثب ليبذل الروح .. فإذا القيد في رجله :
فأخذ يتحسّر على حاله ويقول :
كفى حزناً أن تدحم الخيل بالقنى *** وأتـرك مشدوداً علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقت *** مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنـت ذا مال كثيرو إخوة *** وقـد تركوني مفرداً لا أخاليا
فللــه عهد لا أحيف بعهده *** لإن فُـرّجت ألا أزور الحوانيا
ثم أخذ ينادي ويصيح بأعلى صوته ..
فأجابته امرأة سعد : ما تريد ؟
فقال : فكي القيد من رجلي وأعطيني البلقاء فرس سعد .. فأقاتل فإن رزقني الله الشهادة فهو ما أريد .. وإن بقيت فلك عليّ عهد الله وميثاقه أن أرجع حتى تضعي القيد في قدمي ..
وأخذ يرجوها ويناشدها .. حتى فكت قيده وأعطته البلقاء .. فلبس درعه .. وغطى وجهه بالمغفر .. ثم قفز كالأسد على ظهر الفرس .. وألقى نفسه بين الكفار يدافع عن هذا الدين ويحامي ..
علق نفسه بالآخرة ولم يفلح إبليس في تثبيطه عن خدمة هذا الدين ..
حمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه .. وكان يقصف الناس قصفاً ..
وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ..
فقال بعضهم : لعله مدد من عمر ..
وقال بعضهم : لعله ملك من الملائكة ..
ومضى أبو محجن يضرب ويقاتل .. ويبذل روحه ويناضل ..
فـأقـدم فـإما مُنْية أو مَـنيَّـة *** تريحك من عيش به لست راضيا
فما ثَـمَّ إلا الوصلُ أو كلفٌ بهم *** وحسبك فوزاً ذاك إن كنت واعيا
مضى أبو محجن ..
أما سعد بن أبي وقاص فقد كانت به قروح في فخذيه فلم ينزل ساحة القتال .. لكنه كان يرقب القتال من بعيد ..
فلما رأى أبا محجن عجب من قوة قتاله .. وأخذ يتبعه بصره ويقول :
الضرب ضرب أبي محجن .. والكر .. كر البلقاء .. وأبو محجن في القيد .. والبلقاء في الحبس ..
فلما انتهى القتال عاد أبو محجن إلى سجنه .. ووضع رجله في القيد ..
ونزل سعد فوجد فرسه يعرق .. فعلم أنها شهدت القتال ..
فدخل على أبي محجن .. فإذا جراحه تسل دماً .. وعيناه تفيض دمعاً ..
وهو يقول .. يا سعد .. والله لا شربت الخمر أبداً ..
فلله درّ أبي محجن .. نعم وقع في معصية .. ولكنه يفعل طاعات تغوص معصيته في بحرها ..
ومن ذا الذي ترجى سجاياه كلها * كفى المرء نبلا أن تعد معايبه
* * * * * * * *
أيها الأخوة والأخوات ..
نحن اليوم في زمن تكاثرت فيه الفتن .. وتنوعت المحن ..
وقل الأصدقاء .. وتلون الأعداء ..
فمنهم عدو كاشح في عدائه * * ومنهم عدو في ثياب الأصادق
ومنهم قريب أعظم الخطب قربه * * له فيكم فعل العدو المفارق
فأكثر المسلمين اليوم حائرون في الملذات .. غرقى في الشهوات ..
يبحثون عن حياض النجاة .. عن خشبة يتعلقون بها .. أو سفينة يأوون إليها ..
فمن كان عنده فضل مال فليجد به على من لا مال له ..
ومن كان عنده فضل طعام فليجد به على من لا طعام له ..
ومن كان عنده فضل علم فليجد به على من لا علم له ..
ومن كان عنده خوف ووجل .. من العظيم الأجلّ .. فليجد به على الغافلين .. المعرضين اللاهين ..
وأنت لا تدري .. ما هو الباب الذي تدخل منه إلى الجنة .. فابذل ولا يخذلك الشيطان ..
* * * * * * * * * *
تعليق