مذكرات تجربة
الحلقة الثالثة عشر
(لولا رحمة الله تعالى)!!
بدأت رحلة طويلة مع معتقل استقبال طره، حيث كان الأحدث بناء بين مجموعة سجون منطقة طرة في ذلك الحين، والتي كانت تضم ليمان طره القديم، لأصحاب الأحكام الطويلة، والأشغال الشاقة المؤبدة، وسجن مزرعة طره (لكبار الشخصيات) والاستقبال الذي كان به غرفاً للتحقيق، وأماكن تعذيب حسبما أشيع!!
كانت أعداد المعتقلين تتجاوز مئات الآلاف، وكانوا يضعون بالغرفة الواحدة المصممة في الأساس لـ 5 أفراد كحد أقصى، أكثر من 20 فرداً، فكان الواحد منا ينام على جنبه الأيمن أو الأيسر فقط، حتى تستوعبنا الغرفة، وكنا نحرص على أن نرصص أنفسنا بطريقة (خلف خلاف) أي كأننا مرصصون داخل علبة سالمون!!
وإذا أردت أحدنا التبديل على الجنب الآخر، لابد عليه أن يقف أولاً، ثم يسرع بالدخول في نفس المكان على الجنب الآخر، قبلما يتمدد جاره الغارق في نومه دون أن يشعر، فيضيع عليه موضع نومه، ويقضي بقية الليل واقفاً في مكانه!!
وقد اعتدنا أنه لا يأتي علينا وقت المغرب من كل يوم؛ حتى يبدأ مسلسل الرعب والخوف، حيث كانت صرخات المعذبين في غرف التحقيق تملأ بصداها جنبات المعتقل، فكنا ننام على أصواتهم كل ليلة، وكان كل معتقل ينتظر دوره كالذبيحة التي تساق للجزار، فلا تكاد تسمع ممن حولك إلا الدعاء والاستغفار، حتى يأتي السجان ويضرب الباب الحديد بمفتاحه صارخاً : (وشك في الحيط ياللا إنت وهو)!! فنتنافس على الجدران؛ حتى يجد كل واحدٍ منا مساحة للوقوف فيها، وإلا فالعاقبة أن يظنوا فيمن لم يجد مكاناً أنه يتعمد مخالفة أوامرهم، فيجعلوا منه عبرة لمن يعتبر!! ثم ينادوا على الشخص المطلوب للتحقيق، ويسحبونه من بيننا وهو مغمى العينين، فتشفق القلوب عليه؛ خوفاً مما ينتظره من ألوان التعذيب!!
ظل الوضع على هذه الحال فترة، وكان الذي يتم سحبه من بيننا لا يرجع في بعض الأحيان، ولا ندري إلى أي مكان أخذوه؟! فنظل نلهج له بالدعاء، حتى يرجع أو يرسل لنا رسالة مع العسكري بطريقة غير مباشرة أنهم نقلوه إلى زنزانة أخرى بنفس العنبر!!
وكانوا يوزعون علينا الطعام مرتين في اليوم، مرة في العاشرة صباحاً لتوزيع (السوس المفول) والأخرى بعد صلاة العصر لتوزيع (العدس الأزرق العفن) ولكننا مع مرور الوقت، وانعدام البديل من الطعام، فضلاً عن شدة الجوع والظمأ، احترفنا على ما يبدو التفرقة بين أنواع السوس وطول المدة الزمنية لعفن العدس!!
وفي صباح يوم من الأيام، سمعت صوتاً ينادي على اسمي من أسفل العنبر مراراً وتكراراً، حيث كانت الساعة حوالي العاشرة صباحاً، وهو وقت الترحيل بين السجون، وكان بعنبر السجن أربعة طوابق، وكانت زنزانتي تقع بالدور الرابع، فقفزت على نافذة الباب مجيباً لهم على الفور برقم زنزانتي، مكرراً اسمي حسبما جرت العادة، فأشفق عليَّ الإخوة لصغر سني أن يكون ذلك أمر ترحيل مجدداً إلى سجن الفلعة!!
وما هي إلا دقائق، حتى فتح الشاويش باب الزنزانة، وتأكد من أنني موجود بها، ثم أدخل لنا حقيبة كبيرة، وقال لي : (بسرعة قبل ما حد يعرف، اكتب أي كلمة على الورقة دي لأسرتك، واعطيني أي قطعة من ملابسك، لأن أهلك أحضروا لك هذه الزيارة من الطعام، ويريدون أن يتاكدوا أنك لا زلت على قيد الحياة)!! طار الإخوة فرحاً وقفزت معهم مسروراً بهذه البشرى الجميلة، وكذا بالطعام المدني الذي سيحرر أمعاءنا ولو لمرة من (السوس المفول) فكتبت كلمات سريعة لأسرتي؛ طمأنتهم فيها على أحوالي، وأنني بخير ولم يمسني مكروه وسلمت عليهم جميعاً، فانتزعها الشاويش من يدي على الفور، وأخذ جاكيتة البيجامة الممزقة، وأسرع خارجاً من الزنزانة، ومغلقاً الباب خلفه!!
محاولة لاستدعادة آدميتنا في الطعام!!
عرفت فيما بعد خروجي من السجن أن ابنة خالة أمي (رحمها الله) نجح في القيام باقتباس دور الشرطي السري، وأقنع الحراس بإدخال هذه الحقيبة، راصداً لمن يدخلها مبلغاً مغرياً من المال؛ شريطة أن يأتي له بما يدل على أنني لا زلت على قيد الحياة مثل (البيجامة)، وكذا رسالة اكتبها لهم بخط يدي، وهكذا أفلحت المحاولة، بعدما عملت الفلوس عمايلها مع الحراس، ووصلت لي الحقيبة بالفعل ، وكان بها مفاجأة عجيبة!!
فقد احتوت تلك الحقيبة على طعام شهي ومتنوع، والعجيب أنه كان حسب أعدادنا تماماً، فالبيض (20 بيضة) والدجاج (5دجاجات) بحيث يأخذ كل واحد من العشرين (ربع دجاجة) في عملية طرد عاجلة للسوس الذي نشب أظفاره في أمعائنا!! ومن المفارقات العجيبة أيضاً أننا وجدنا من بين المأكولات (صينية كنافة)!! في إشارة إلى (الدلع) حسب وصف الإخوة الذين لم يكونوا يأملون من الأساس في مجرد طعام آدمي بلا (سوس)!!
فإذا بهم يحصلون على (صينية كنافة بحالها) فأضحوا ينادونني منذ ذلك الحين باسمي ثم يتبعونها بقولهم : (بتاع الكنافة)!!
كان بالحقيبة أيضاً مجموعة من الملابس الجديدة، ولكنها كانت بقياسي الصغير مقارنة بغالبيتهم من ذوي الأحجام الكبيرة، فشعرت بالحرج من ارتدائها أمامهم، لأن الفارق سيكون شاسعاً بين من يرتدي ملابس جديدة، وبين الغالبية التي لم تغير ملابسها الممزقة منذ شهور طويلة!! فأوقعني هذا الأمر بالفعل في حرج بالغ، لكنهم أصروا عليَّ بارتدائها دون حرج، نظراً لاضطراري لستر عورتي بالصلاة، بعدما أرسلت لأسرتي جاكيت البيجامة !!
كانت هذه اللقطة السريعة، بما تحويه من دجاج وبيض وكنافة، كفيلة بأن تنقلنا ولو لبرهة يسيرة من الزمن، من أجواء السجن والتعذيب، إلى أجواء من الفرحة والبهجة، لاسيما بالنسبة لي في المقام الأول، حيث تأكدت من اطمئنان أسرتي عليَّ، وسعادنها بما ستقرأه من أحرف رسالتي، مقارنة بإخواني الذين لا يزال أهاليهم يجهلون أماكن اعتقالهم تماماً، ولا يعرفون شيئاً عن أحوالهم، فاعتبرت ذلك رحمة عاجلة من الله بي، فلهج اللسان مني بالحمد والثناء عليه سبحانه، ودعوت في نفس الوقت لبقية إخواني!!
أول لقاء مع الكفر بعينه!!
مرت علينا فترة طويلة بعد تلك الزيارة، انقطع عنَّا فيها الماء بشكل تام!! لدرجة أننا لم نجد ما نبلل به ريقنا!! فكانت حصة كل واحدٍ منا عبارة عن غطاء واحد من زجاجة ماء مملوءة من (ماء السيفون الأسود من طول فترة التخزين) !! وهذا فقط لكي يستطيع أحدنا أن يفرق لسانه عن حلقه الجاف من شدة العطش!! فأظهرت هذه المحنة معادن الرجال، فكنت ترى من يؤثر إخوانه بتلك الشربة من ماء الحياة، في حين كان هناك من يدعي أنه لم يشرب، حتى يحظى بشربتين مقترفاً الكذب عياذاً بالله!! وفي هذا أكبر دليل على أن حملات اعتقالهم قد شملت الصالح والطالح من الناس!!
وقف الشيخ/ محمود الخطيب إمام مسجد بولاق الدكرور على نافذة باب زنزانته، يدعو الله ويستسقيه طلياً للماء، بعدما رأى إخوانه على وشك الهلاك، وكان الوقوف على باب الزنزانة من المحظورات الشديدة حيينها، فطلب منه أحد رجال الأمن أن ينزل، وقام بسبه بأبشع الألفاظ، ثم أتبع ذلك بقوله : (يابن الكل... لو ربنا كان قادر يسقيك، ما كانش سجنك)!! وهي عبارة تحمل في طياتها تشكيكاً واضحاً في قدرة الله تعالى!!
ثم نادى على السجان ففتح له باب الزنزانة، وأمر رجاله أن يحضروا له الشيخ/ محمود من داخل الزنزانة، ثم قام جميع العساكر ورجال الأمن بضربه ضرباً مبرحاً على مرآى من الناس ومسمع، حتى أشفقنا عليه من شدة ما لاقاه من الضرب والتنكيل على أيدي هؤلاء البغاة المجرمين الذين لا يعرفون معنى الرحمة!!
بدأت حركة التنقلات بين الزنازين على إثر الانتهاء من أعمال البناء بالعنبر الجديد من السجن (ب) فقلت أعدادنا من 20 إلى 10 نزلاء فقط في كل زنزانة!! وشعرنا على إثر ذلك أننا صرنا ملوكاً، حيث صار بإمكان كل واحدٍ منا أن يتقلب في نومه كما شاء!! كما فتح الباب شيئاً فشيئاً للزيارات الأكلية بشكل رسمي، وليس تهريباً على نحو حقيبة الكنافة!!
واختفت أصوات الصراخ ليلاً؛ بعدما اكتملت تحقيقات المباحث مع غالبية المعتقلين، وصار ذهابنا إلى النيابة الواحد تلو الآخر، هو ديدن البرنامج اليومي للسجن، فذهبت وأدليت بما لدي من معلومات عامة، تفيد بجهلي عن خلفية الأخ الذي طلب المبيت عندي، وقد حاول وكيل النيابة تخويفي بأنني لو لم أعترف بالحقيقة، فسوف يرجعني على الفور لسجن القلعة؛ لكي أعترف عن كل شيء بالتفصيل، فأبديت له الإصرار على كلامي، فحرر المحضر ووقعت عليه ثم رجعت إلى المعتقل، علماً بأن قيام النيابة بعملية تهديد المتهمين تعتبر غير قانونية وغريبة بكل المقاييس، ولكن عرض الإسلاميين كان حيينها مستباحاً، فلم يكن مستبعداً قيامهم تجاهنا بأي شيء مما هو غريب ومستنكر!!
خلال تلك الفترة، كانت المحاكمات العسكرية للإخوة الـ 25 المتهمين بقتل الرئيس السادات قد اكتملت ومنهم الشيخ خالد الإسلامبولي، وعطا طايل حميدة رحيل، وعبد الحميد عبد السلام، ومحمد عبد السلام، وحسين عباس، والشيخ/ عمر عبد الرحمن، وطارق وعبود الزمر، فحكم على الخمسة الأوائل سريعاً بالإعدام، ولكن كانت لهم مع العزة والكرامة مواقف مشرفة، سوف أرويها لكم بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة.
خلاصة ما جاء في هذه الحلقة من العبر والدروس!!
· الشدائد تظهر معادن الرجال، وروح الأخوة تزداد أواصرها عند مواجهتها!!
وإلى لقاءٍ قريب بإذن الله مع الحلقة الرابعة عشر من مذكرات تجربة· جنود الطغاة المجرمون يتوهمون القوة والغلية في سلطة أسيادهم، فيدفعهم ذلك إلى التعدي حتى على الذات الإلهية عياذاً بالله، فيبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم من فرط جهلهم وتعاستهم!!
· هناك كنز وسط الشدائد، من يوفقه الله إليه، فقد نال الخير كله والطمأنينة كلها!! وهذا الكنز هو (السكينة بذكر الله تعالى)!!
تعليق