مذكرات تجربة
الحلقة الثانية عشر
(أبعاد أخرى في معاينة الواقع المرير)!!
سيطرت على نفسي حالة من الشعور بأن التأريخ يعيد صفحات الفترة المكية من جديد أمام عيني، فدعاة الحق محاصرون في معسكرات أهل الباطل، وسطوة الشر وسلطانه تفرض نفسها بقسوتها وجبروتها على أجواء تلك القلعة، فلا رحمة ولا شفقة، بل تلذذ بالتعذيب والتنكيل وجميع أنواع الإهانة!!
لم تمض سوى ليلة واحدة على رفقتي للشيخ الدكتور/ عبد المجيد الفقي، وما أن طلع النهار؛ حتى ألفوا لنا من تحت عقب الباب رغيفين مسودين مقززين، مع صحن من الفول المكسو بالسوس ذو الأحجام المخيفة، حيث ترعرع بين قشوره على ما يبدو!!
تأففت نفسي عن مجرد التفكير في مد يدي لتناول مثل هذا الطعام المقزز، وما هي إلا دقائق؛ حتى وجدت الباب يفتح بقوة مع صرخة مخيفة : (غمي عينك ياللا أنت وهو) ثم دخلوا إلى الزنزانة، وسحبوني منها إلى مكان آخر مجهول، ولكني استشعرت وأنا بالطريق أنني أنزل درجات سلالم طويلة تحت الأرض بعدما سرنا لمسافات بعيدة، اكتشفت بعدها أنها الزنازين الموجودة في دهاليز تحت أرض سجن القلعة!!
انتابني مشاعر بأنني سألحق بأموات حي الإمام الشافعي القريب من تلك القلعة، هكذا أوحت إلي تلك الأجواء بهذه المشاعر!! ولكن ما أن دخلت إلى إحدى الزنازين، حتى وجدت أحد الإخوة بها واسمه (مدحت مصطفى) وكان أحدث عهداً من الدكتور/ عبد المجيد بسجن القلعة، ولكنه كان رابط الجأش محافظاً على أذكار الصباح والمساء بصفة خاصة، وعلى الذكر والاستغفار في جميع الأوقات بصفة عامة، فهدأت نفسي بجواره، واطمئنت إلى حد كبير، وعرفت فيما بعد أنه شبراوي، بل ورياضي سابق مثلي!!
بدأ يوجه لي بعض النصائح الهامة التي ينبغي علي اتباعها، وأهمها عدم اعترافي في النيابة بأي شيء؛ مهما كان اعترافي في تحقيقات المباحث، لأن القاضي لا يأخذ بتحقيقات المباحث، وإنما يأخذ فقط بتحقيقات النيابة، فأخبرته أنني بالفعل لا أعرف خلفية الشخص الذي كان يبيت عندي، فهل أذكر هذا الكلام أم لا؟! فقال لي : (لا بأس، ولكن دون أن تورطه في أي شيء، فهو أخوك في الإسلام علي كل حال) فقلت له بالتأكيد، حتى أنه طلب مني بنفسه ألا أزيد عن قولي : (أنه كان على خلاف مع أسرته من أجل ذلك كان يبيت عندي) وهذا كل ما في الأمر.
شعرت أنه كان يحمل هماً ثقيلاً بين جنباته، بل وعرفت أيضاً أنه كان يعرف (محمود السيسي) فدعوت الله من كل قلبي أن يسلمنا جميعاً من شرور هؤلاء القوم، وكان الأمل في الله كبيراً لا ينقطع، فعند كل دخول لهم على الزنزانة، كان يغمرني شعور بأن الله سيحفظنا ولن يضيعنا، فنحن هنا في سبيله، وليس لنا إلا هو، وهو على كل شيء قدير.
نماذج عجيبة رغم رهبة السجون والمعتقلات!!
كان بجوارنا مجموعة طويلة من النزازين المتقابلة، وكان يسكن بها على ما يبدو مجموعة من الشباب الفدائي إلى أبعد الحدود، حيث كانوا يقومون بأفعال غير متوقعة، توحي إليك بأنهم كانوا يستخفون بما هم فيه من محن، أو يحاولون الاستعلاء فوق جراحهم تهويناً على بقية إخوانهم!! فهذا الأخ /محمد الأسواني الذي قاوم الشرطة التي داهمت بيته، وتمكن من الهروب إلى حين، يرفع صوته بإلقاء (تجويدي) وكأنه يقرأ القرآن، قائلاً : (يا أيها الذين آمنوا إذا ذهبتمووووا إلى النيابة فانكروا)!! فيرد عليه أحد إخوانه (الله عليك يا عم الشيخ إيه الحلاوة دي)!! فيصرخ فيهم العسكري الذي يقف بين الزنازين قائلاً : (اقرأ القرآن بصوت واطي ياللا إنت وهو)!!
أما الأخ/نبيل نعيم، فهذا الذي جعل العسكري المسمى بـ (المر) يرى (المر) بالفعل!! حيث أدخلوا عليه في زنزانته أحد الإخوة الذين تم القبض عليهم حديثاً، وكان هذا الأخ مرتبكاً للغاية؛ بسبب أنهم لم يكتشفوا الراديو الصغير الذي كان يحمله داخل ملابسه، فكان يخشى أن يضربونه لو وجدوه في الزنزانة فيما بعد؛ لأنه من الممتوعات.
فقال له الأخ/ نبيل ولا يهمك، إنت فقط أعطيني إياه وأنا سأتصرف!! فلما أخذه منه خبأه في ملابسه الخاصة، ثم ذهب إلى التحقيق ليلاً كعادته (من كثرة التهم الموجهة إليه) وبعد انتهاء التحقيق قال للضابط : (يا بيه في مشكلة عاوز اشتكي لك منها)!! فسأله الضابط : وما هي؟! فقال : (العسكري اللي اسمه (المر) نصب عليَّ، بعدما أعطيته 100 جنيه علشان يشتري لي راديو (سوني) ولكنه اشترى لي راديو تعبان بعشرين جنيه، وسرق الباقي)!!
انتفض الضابط من مكانه ضارباً المكتب بيديه متسائلاً : (نعم يا خويا؟! يعني أنت عندك راديو الآن في الزنزانة؟!) فقال : (أيوه ولو مش مصدقني تعال شوفه) صرخ الضابط بسرعة على العسكري الواقف خارج الباب، وقال له : (خذ الجدع ده وروح هاتلي الراديو اللي بيقول عليه من الزنزانة بتاعته بسرعة) ثم قال : (وقعتك معايا سودا يا مر الكلب)!! ذهب الأخ/ نبيل وأحضر لهم الراديو، وما هي إلا دقائق، حتى كانت أصوات (المر) تجلجل في السجن بأسره، وهو معلق من قدميه كالذبيحة!!
ولأول مرة لا ينام الأخوة على صرخات تعذيب إخوانهم، وإنما على صرخات ذلك الذي كان يتوعدهم بأن يريهم (المر) فإذا به يعاين (المر) في عقر موطنه!! ومن الطريف أنه كان ينادي وهو يصرخ على الشيخ/ نبيل قائلاً : ( الله يخليك يا شيخ نبيل قول الحقيقة وأنا حارجع لك بقية المائة جنيه بس قول الحقيقة ده أنا عندي عيال)!! يعني اعترف المسكين من التعذيب بأنه أخذ المائة جنيه، ولكنه كان يستعطفه بأن لديه عيال، وكأن الذي كان يتوعدهم بالمر، ليس عندهم عيال، أو ليسوا أولاد ناس من الأساس!! فالله المستعان.
كانت هذه الواقعة كفيلة بأن يعمل بقية العساكر بعدها للإخوة ألف حساب، لأن ما حدث مع (المر) كفيل بألا يحاول أحدهم أن يثير سخط الإخوة عليه، وإلا وجد نفسه متورطاً في أي مصيبة دون سابق إنذار!! فالمر كانت مصيبته في (راديو) ولكن من يدري في المرة لقادمة، فربما تكون قنبلة أو قذيفة دبابات!!
جاء وقت رحيلنا من سجن القلعة إلى سجن آخر لم أعرف وجهته، فجمعني الكلبش بأحد الإخوة من ذوي القامات الطويلة والبدانة الواضحة، فلما رآني كطفل صغير بجانبه، بدت عليه علامات الشفقة، وسألني إيه اللي جابك هنا يا بني؟! قلت له أبداً، أحد الإخوة الذين يبيتون عندي كان مطلوباً للأمن!! فقال : (لاحول ولا قوة إلا بالله، اصبر يا بني واحتسب، ربنا سيفرجها قريباً إن شاء الله) فقلت له : بإذن الله يا عم لا تحمل هماً، فكله يهون في سبيل الله، أعجبته على ما يبدو إجابتي، فأخذ يحاول تهيأتي لما نحن قادمون عليه؛ حتى لا أفاجأ، حيث عرف على ما يبدو أننا ذاهبون إلى سجن استقبال طره، فقال لي : (إحنا رايحين الآن على سجن استقبال طره، وهما عادة بيربطوا أي نزيل جديد على العروسة ويجلدوه، ويطلبوا منه إنه يقرأ سورة الفاتحة بالمقلوب، ويسمي نفسه اسم (امرأة) فهون على نفسك يا ولدي، شدة وتعدي)!!
لم يزعجني شيء أشد من تصوري لأن أقرأ سورة الفاتحة بالمقلوب!! واعتبرت ذلك أمراً يمس العقيدة، وقلت في نفسي لن أفعلها أبداً بإذن الله مهما فعلوا بي، ولن أسمي نفسي باسم امرأة مهما حصل، وطالما أنهم سيضريوني على كل حال، فليواصلوا ضربهم لي كما يشاؤون؛ ولكني لن أفعل هذين الأمرين ما حييت!!
وفي اعتقادي أن هذا الأخ لم يكن موفقاً فيما فعل، على الرغم من نيته الطيبة في محاولة التمهيد لي؛ حتى لا يكون الأمر صادماً لنفسيتي، إلا أنه جعل المخاوف تسيطر علي طوال الطريق، وهذا في حد ذاته قد يزلزل الأقدام عند البعض، لأنه بمثابة الهزيمة النفسية التي تسبق الهزيمة العملية في الميدان!! المهم أنه ما أن وصلنا إلى سجن الاستقبال؛ حتى دخلنا مباشرة دون حدوث أي شيء من هذا كله!! فلا عروسة ولا قراءة فاتحة بالمقلوب ولا اسم امرأة، وحسبما قيل لنا فيما بعد أن هذا النوع من الاستقبال المهين، قد توقف قبل بيومين فقط من وصولنا، وهذا من رحمة الله تعالى بنا!!
فكل ما كان في الأمر أن العسكري أو الضابط الذي كان في استقبالنا ونحن مغمضي الأعين، سألني دون غيري، مالك يابني عمال تدعي علينا ولا إيه؟! وذلك لأنه لاحظ على ما يبدو حركة لساني بالذكر والدعاء، فقلت له : لا أنا فقط أذكر الله، فقال لي : طيب تعرف تكمل الآية دي؟! (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ . . أكمل) فقلت له : (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) فقال : أيوه كدا لاحسن تحسب نفسك إنت بس اللي تعرف القرآن!!
وقع في نفسي من خلال اختياره لهذه الآية بالتحديد؛ أنه يحاول أن يرسل لي رسالة تثبيت بطريقة غير مباشرة!! لأن تلك الأية كانت بالفعل خير تذكير في مثل ذلك الموطن، فرحت في نفسي كثيراً، وقلت لعله أحد الإخوة المختفين الذين يعملون في هذا الجهاز دون أن يعلم به أحد، أو أنه رجل فيه خير ويعرف الحقيقة، ولكن لا يمكنه البوح بحقيقة أمره، المهم أنها كانت رسالة رائعة للثبات على الطريق، وتلقيتها على النحو الذي أراده ولله الحمد والمنة.
طالت فترة مكوثي في هذا السجن، ومرت بي فيه الكثير من المواقف والعبر، والتي سيكون بعضها مثار حديثي في الحلقة القادمة بإذن الله، حيث سأذكر لكم أبرز ما كان فيها من أحداث، غير أن الإحساس الذي كان يهيمن دائماً على مشاعرنا، هو أن الله تعالى كان دوماً قريباً منَّا، ولم يخذلنا، حتى وإن كانت الغلبة في الظاهر لهؤلاء الظالمين!!
خلاصة ما جاء في هذه الحلقة من العبر والدروس!!
· يواجه المؤمن نوعين من الصراع، أحدهما معنوي، يحاول الشيطان من خلاله أن يلقي في روعه الخوف والهلع بتهويل بطش الظالمين، والآخر مادي، بالمواجهة الجسدية، سواء بالسجن أو التعذيب، والنجاة من ذلك كله، إنما يكون في تعلق قلب المؤمن بالله تعالى وحده، لأنه سبحانه يهون عليه الأمر كله!!
· على قدر صدق المؤمن في بيع دنياه بآخرته، على قدر تثبيت الله له، وتهوين المصاعب عليه، وإعزازه له في الدنيا والآخرة!!
· حين ترجع بنا الذاكرة، ونتفكر في كيفية تجاوزنا لمثل تلك المواقف الصعبة، لا نجد أي تفسير لذلك، سوى أنها محض (رحمة الله تعالى)!!
· كلما كانت الآمال في قلب العبد أخروية، كلما تدنت منزلة الدنيا فيه، وهانت عليه، وتطلعت أشواقه إلى ما عند الله من النعيم المقيم.
· على قدر صدق المؤمن في بيع دنياه بآخرته، على قدر تثبيت الله له، وتهوين المصاعب عليه، وإعزازه له في الدنيا والآخرة!!
· حين ترجع بنا الذاكرة، ونتفكر في كيفية تجاوزنا لمثل تلك المواقف الصعبة، لا نجد أي تفسير لذلك، سوى أنها محض (رحمة الله تعالى)!!
· كلما كانت الآمال في قلب العبد أخروية، كلما تدنت منزلة الدنيا فيه، وهانت عليه، وتطلعت أشواقه إلى ما عند الله من النعيم المقيم.
وإلى لقاءٍ قريب بإذن الله مع الحلقة الثالثة عشر من مذكرات تجربة
تعليق