مِن أخطر الأمراض التي تصيب العاملين في حقل الدعوة إلى الله: "الفتور"، وعندما يُذكر الفتور يتبادر إلى الذهن عند الكثيرين الفتور عن بعض العبادات الشخصية: كالصيام، والقيام، والذكر، وقراءة القرآن، ولكن في الحقيقة الأمر أعم من ذلك، والمفهوم - مفهوم الفتور
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن مِن أخطر الأمراض التي تصيب العاملين في حقل الدعوة إلى الله: "الفتور"، وعندما يُذكر الفتور يتبادر إلى الذهن عند الكثيرين الفتور عن بعض العبادات الشخصية: كالصيام، والقيام، والذكر، وقراءة القرآن، ولكن -في الحقيقة- الأمر أعم من ذلك، والمفهوم -مفهوم الفتور- أوسع من ذلك، فيشمل: الفتور في طلب العلم، وفيما يتعلق بالسلوك والتربية، وفيما يتعلق بالدعوة إلى الله، وفي كل جوانب الدين.
تعريف الفتور:
فتر: أي سكن بعد حدة، ولان بعد شدة، فالفتور: انكسار وضعف بعد صلابة وقوة، فالفتور مرض يصيب الأقوياء، ويفت في عضد كل من يتطلع إلى الكمال في الدين، وعلى هذا فإن الأمر يزداد خطورة؛ لأنه مرض يستهدف شريعة أهل الإيمان والعاملين المنتجين والمجتهدين في العمل والدعوة الذين تنهض بهم الأمة، وقد مدح الله المؤمنين بأنهم: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران:191)، ووصفهم بأنهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) (السجدة:16).
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) (متفق عليه)، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي؛ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ هَلَكَ) (رواه أحمد والبيهقي، وصححه الألباني)، وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ) (متفق عليه).
قال القائل:
لكل إلى شأو العلا حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات
ومِن ثّمَّ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: (لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ) (متفق عليه)، وفي "صحيح مسلم" عن حنظلة الأسيدي قال: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟! قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَمَا ذَاكَ؟!) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ؛ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فنَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ؛ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) ثَلاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).
ومِن صفات الملائكة العظيمة التي ذكرها الله في سياق مدحهم أنهم: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء:20)، أي أنهم في طاعة وعبادة دائمة.
والفتور من صفات المنافقين، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء:142).
وقال الله -عز وجل-: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:42). ثبطهم: يعني أخرهم عن الخروج، وذلك بسبب فتورهم وضعف همتهم، والركون إلى الكسل بدلاً من الاجتهاد والنشاط في ساعة الشدة، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) (رواه البخاري).
الفتور يؤخر عن الوصول إلى درجة المحبوبية؛ لأن الوصول إلى ذلك لا يكون إلا بمواصلة الطاعة والجد والاجتهاد فيها، والنشاط الدائم بمواصلة الفرائض بالنوافل؛ لقول الله -تعالى- في الحديث القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي؛ لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي؛ لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) (رواه البخاري).
فيترتب على ذلك معية الله ونصرته وتأييده؛ لذلك قال الله -عز وجل- في معرض الإعداد لموسى وهارون -عليهما السلام- في مواجهة فرعون: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (طه:41)، أي: لا تفترا عن ذكر الله، ولا تضعفا عنه.
الفتور يؤخر صاحبه في الدنيا؛ فيحرم الدرجات العالية في الجنة، فالفتور قصور، ومدة العمر قصيرة، فالتقصير في مدة قصيرة خسران بعيد، قال معاذ بن جبل: "لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -تعالى- فيها".
مظاهر الفتور:
- الاستهتار بالأمانة وعدم استشعار المسئولية، وأهم الأمانات وأعظم المسئوليات: الدعوة إلى الله.
- التكاسل عن العبادات والطاعات، والإحساس بالثقل إذا أداها لا سيما الصلاة.
- ترك الشيء بعد المداومة عليه، أو عدم فعله بالكيفية المطلوبة، أو فعله مع عدم الرغبة فيه.
- ضياع الوقت، وعدم الاستفادة منه.
- التسويف والتأجيل، فما يمكن أداؤه في يوم يُفعل في أسبوع، بل في شهر.
- ضعف المشاعر الدينية تجاه ما يحدث للمسلمين ومقدساتهم وما يفعله الكفار في بلاد المسلمين.
- الفوضوية في العمل، وكثرة النقد للأعمال الإيجابية؛ تنصلاً من العمل.
- احتقار الطاعات والقربات التي يقوم بها الآخرون.
- كثرة الاعتذار والتهرب من العمل.
- استصغار الذنوب، وعدم المبالاة بفعل المنكرات.
- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- عدم الغضب عندما تنتهك حرمات الله.
- ترك طلب العلم وترك دروس العلماء، والقناعة بتحصيل القليل من العلم.
أسباب الفتور:
1- الوهن:
وهو ما فسره رسول -صلى الله عليه وسلم-: (حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
أما حب الدنيا: فرأس كل خطيئة كما في الحكمة المشهورة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، وسبب الاستئسار للشهوات، والانغماس في الترف.
وأما كراهية الموت: فثمرة حب الدنيا والحرص على متاعها مع تخريب الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب، قال الطغرائي مبينًا حب السلامة في الانحطاط بالهمة والفتور:
حبُّ السلامة يثني عزمَ صاحبه عن المعالي ويغري المرءَ بالكسل
إن حب الدنيا وكراهية الموت صنوان لا يفترقان، وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان، فأين مَن هذا حاله ممن قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (طُوبَى لِعَبْدٍ أخَذَ بِعِنانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ الله، أشْعَثَ رَأسُهُ، مُغْبَرَّةٌ قَدَماهُ، إنْ كانَ في الحِراسَةِ؛ كانَ في الحِراسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ؛ كانَ في السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ؛ لَمْ يُؤذَنْ لَهُ، وإنْ شَفَعَ؛ لَمْ يُشفَّعْ)؟ (رواه البخاري).
2- إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات:
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) (رواه البخاري).
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
3- العجز والكسل:
وهما العائقان اللذان أكثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التعوذ منهما بالله -سبحانه وتعالى-، وقد يعذر العاجز؛ لعدم قدرته، بخلاف الكسول الذي يتثاقل ويتراخى عما ينبغي مع القدرة، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:42).
وقد ترى الرجل موهوبًا ونابغًا فيأتي الكسل فيُخذل همته، ويمحق موهبته، ويطفئ نور بصيرته، ويشل طاقته، قال الفراء -رحمه الله-: "لا أرحم أحدًا كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه، وإني لأعجب ممن وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم".
قال المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام
4- الغفلة:
وشجرة الغفلة تُسقى بماء الجهل الذي هو عدو الفضائل كلها، قال عمر -رضي الله عنه-: "الراحة للرجال غفلة"، وقال شعبة بن الحجاج: "لا تقعدوا فراغًا فإن الموت يطلبكم". وسئل ابن الجوزي: "أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟!"، فقال: "عند نفسك من الغفلة ما يكفيها".
قال الله -تعالى-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:1)، وقال الله -تعالى-: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق:22)، (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (مريم:39).
5- التسويف والتمني:
وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة الذي كلما همت نفسه بخير إما يعيقها بـ"سوف" حتى يفجأه الموت، فيقول: (رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) (المنافقون:10)، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم.
قال رجل لابن سيرين: "إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء وأطير بغير جناح! فما تفسير هذه الرؤيا؟" فقال له: "أنت رجل كثير الأماني والأحلام".
قال الناظم:
وانتبه من رقدة الغفلة فـــالــعــمـر قــــلـيـــل
واطـرح سوف وحـتى فــهــمـا داءٌ دخــــيــل
وقال آخر:
مـن كـان مـرعـى عـزمه وهـمـومـه روض الأمـانـي لـم يـزل مـهـزولاً
6- مصاحبة من تغشاه الفتور ورقدت به همته:
الذي كلما هممت بالنهوض؛ جذبك إليه، وغرَّك قائلاً: "أمامك ليل طويل فارقد"، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (رواه مسلم).
ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظن بالنفوس البشرية؟!
ولا تجلس إلى أهل الدنايا فإن خلائق السفهاء تعدي
7- العشق:
لأن صاحبه يحصر همته في حصول معشوقه فيلهيه عن حب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (الكهف:50).
فالعشق يمنع القرار، ويسلب المنام، ويحدث الجنون، وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه، وأتلف دينه ودنياه، والعشق بذلك يترك الملِك مملوكًا، والسلطان عبدًا، ترى الداخل فيه يتمنى الخلاص، ولات حين مناص!
8- الانحراف في فهم العقيدة:
لا سيما مسألة "القضاء والقدر"، وعدم تحقيق التوكل على الله -سبحانه وتعالى-.
9- الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم:
نظرًا لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) (رواه البخاري).
وقد عدَّ "القرآن الكريم" الأهل والأولاد أعداء للمؤمن إذا حالا بينه وبين طاعة الله -عز وجل-، روى ابن جرير عن عطاء بن يسار في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14)، قال: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو؛ بكوا إليه ورققوه، فقالوا: "إلى من تدعُنا" فيرق ويقيم، فنزلت هذه الآية.
10- المناهج التربوية والتعليمية الهدامة:
التي تثبط الهمم، وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات، وتخرب العقول، وتنشئ الخنوع، وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات والشعور بالدونية، مثل: المناهج الصوفية التي تُعرِض عن علوم القرآن والسنة، وتُرهِّب مريديهم من طلب العلم الشرعي حتى سقط من كم أحدهم يومًا قلم كان يخفيه؛ خشية أن يفتضح بينهم بطلب العلم! فقال له شيخه: "استر عورتك!".
وكذلك المناهج التعليمية والتربوية التي ارتضت العالمانية دينًا، فراحت تسمم آبار المعرفة التي يستقي منها شباب المسلمين؛ لتخرج أجيالاً مقطوعة الصلة بالله، تبتغي العزة في التمسح على أعتاب الغرب، وتأنف من الانتساب إلى الإسلام!
11- توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام:
مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء وسنن الله في خلقه، كما ينتج عنه: استطالة الطريق؛ فيضعف السير إلى الله -عز وجل-، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعزي أصحابه المضطهدين في "مكة" بتبشيرهم بأن المستقبل للإسلام، وبأن العاقبة للمتقين، كما في حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه- أنه قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
فأطـلـق لـروحك إشراقـها تـرى الفـجـر يرمقنا من بعيد
12- الغلو والتشدد وتحميل النفس ما لا تطيق:
فيخالف بذلك الهدي النبوي، ثم يفتر ويمل، دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ؛ فَقَالَ: (مَا هذَا الْحَبْلُ؟!) قَالُوا: هذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ؛ تَعَلَّقَت. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لاَ، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) (متفق عليه).
وكذلك حديث الثلاثة الذي تقالوا عبادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا -وَاللهِ- إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه).
13- الذنوب والمعاصي:
قال الله -تعالى-: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين:14)، قال أنس: "هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب". وقيل لعبد الله بن مسعود: "لا نستطيع قيام الليل". فقال: "أبعدتكم الذنوب والمعاصي".وقال أحد السلف: "حرمتُ قيام الليل أربعين ليلة بذنب أصبته".
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ) (رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح لغيره).
علاج الفتور:
1- العلم والبصيرة:
فالعلم يصعد بالهمة، ويورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فيتقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبد: كفضول الأكل، والنوم، والكلام، ويراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات؛ امتثالاً لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)، ويبصره بحيل إبليس وتلبيسه عليه؛ كي يحول بينه وبين ما هو أعظم ثوابًا.
2- إرادة الآخرة، وجعل الهموم همًّا واحدًا:
قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء:19)، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
3- كثرة ذكر الموت:
لأنه يدفع إلى العمل للآخرة، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة، وإيقاظ العزم على الاستقامة، والتجافي عن دار الغرور.
4- الدعاء:
لأنه سنة الأنبياء، وجالب كل خير، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني)، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- عقب الصلاة: (اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ) (متفق عليه).
5- الاجتهاد في شغل النفس بالحق والطاعة والخير:
قال الحسن: "نفسك إن لم تشغلها بالحق؛ شغلتك بالباطل".
6- التحول عن البيئة المثبطة الداعية إلى الفتور:
فإن للبيئة المحيطة بالإنسان أثرًا جسيمًا لا يخفى، فإذا كانت بيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون؛ فإنه على المرء أن يهجرها إلى حي تعلو همته؛ كي يتحرر من سلطان تأثيرها، وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية.
7- صحبة أولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم:
فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي، وعن أنس ـ رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ مِنَ النّاسِ ناسًا مَفاتِيح لِلْخَيْرِ مَغالِيق لِلشّرِّ، وإنّ مِنَ النّاسِ ناسًا مَفاتِيح لِلشَّرِّ مَغالِيقَ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
وقالت العرب: "لولا الوئام؛ لهلك الأنام"، وقال أحد السلف: "إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه".
قال الناظم:
أنت في الناس تقاس بالذي اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو وتـنـل ذكـرًا جـميلاً
8- نصيحة المخلص:
فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم، وأحمد واللفظ له).
9- المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف:
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)، وقال الله -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) (الحج:78)، وقال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
فكبير الهمة لا يستسلم للأمر الواقع، بل يبادر ويبادئ في أقسى الظروف حماية لهمته من أن همد ووقاية لها من الفتور.
10- تعاهد الإيمان ومراقبة القلب دائمًا:
كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنّ الإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني).
ونسأل الله أن يجدد الإيمان في قلوبنا، وأن يحفظنا بحفظه، ويعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن مِن أخطر الأمراض التي تصيب العاملين في حقل الدعوة إلى الله: "الفتور"، وعندما يُذكر الفتور يتبادر إلى الذهن عند الكثيرين الفتور عن بعض العبادات الشخصية: كالصيام، والقيام، والذكر، وقراءة القرآن، ولكن -في الحقيقة- الأمر أعم من ذلك، والمفهوم -مفهوم الفتور- أوسع من ذلك، فيشمل: الفتور في طلب العلم، وفيما يتعلق بالسلوك والتربية، وفيما يتعلق بالدعوة إلى الله، وفي كل جوانب الدين.
تعريف الفتور:
فتر: أي سكن بعد حدة، ولان بعد شدة، فالفتور: انكسار وضعف بعد صلابة وقوة، فالفتور مرض يصيب الأقوياء، ويفت في عضد كل من يتطلع إلى الكمال في الدين، وعلى هذا فإن الأمر يزداد خطورة؛ لأنه مرض يستهدف شريعة أهل الإيمان والعاملين المنتجين والمجتهدين في العمل والدعوة الذين تنهض بهم الأمة، وقد مدح الله المؤمنين بأنهم: (يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ) (آل عمران:191)، ووصفهم بأنهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) (السجدة:16).
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ) (متفق عليه)، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي؛ فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ؛ فَقَدْ هَلَكَ) (رواه أحمد والبيهقي، وصححه الألباني)، وعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوا مِنْ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ) (متفق عليه).
قال القائل:
لكل إلى شأو العلا حركات ولكن عزيز في الرجال ثبات
ومِن ثّمَّ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: (لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ) (متفق عليه)، وفي "صحيح مسلم" عن حنظلة الأسيدي قال: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! مَا تَقُولُ؟! قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَمَا ذَاكَ؟!) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ؛ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فنَسِينَا كَثِيرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ؛ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً) ثَلاثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم).
ومِن صفات الملائكة العظيمة التي ذكرها الله في سياق مدحهم أنهم: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الأنبياء:20)، أي أنهم في طاعة وعبادة دائمة.
والفتور من صفات المنافقين، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء:142).
وقال الله -عز وجل-: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:42). ثبطهم: يعني أخرهم عن الخروج، وذلك بسبب فتورهم وضعف همتهم، والركون إلى الكسل بدلاً من الاجتهاد والنشاط في ساعة الشدة، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أَثْقَلُ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ: الْعِشَاءُ وَالْفَجْرُ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا) (رواه البخاري).
الفتور يؤخر عن الوصول إلى درجة المحبوبية؛ لأن الوصول إلى ذلك لا يكون إلا بمواصلة الطاعة والجد والاجتهاد فيها، والنشاط الدائم بمواصلة الفرائض بالنوافل؛ لقول الله -تعالى- في الحديث القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ؛ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي؛ لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي؛ لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ) (رواه البخاري).
فيترتب على ذلك معية الله ونصرته وتأييده؛ لذلك قال الله -عز وجل- في معرض الإعداد لموسى وهارون -عليهما السلام- في مواجهة فرعون: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) (طه:41)، أي: لا تفترا عن ذكر الله، ولا تضعفا عنه.
الفتور يؤخر صاحبه في الدنيا؛ فيحرم الدرجات العالية في الجنة، فالفتور قصور، ومدة العمر قصيرة، فالتقصير في مدة قصيرة خسران بعيد، قال معاذ بن جبل: "لا يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله -تعالى- فيها".
مظاهر الفتور:
- الاستهتار بالأمانة وعدم استشعار المسئولية، وأهم الأمانات وأعظم المسئوليات: الدعوة إلى الله.
- التكاسل عن العبادات والطاعات، والإحساس بالثقل إذا أداها لا سيما الصلاة.
- ترك الشيء بعد المداومة عليه، أو عدم فعله بالكيفية المطلوبة، أو فعله مع عدم الرغبة فيه.
- ضياع الوقت، وعدم الاستفادة منه.
- التسويف والتأجيل، فما يمكن أداؤه في يوم يُفعل في أسبوع، بل في شهر.
- ضعف المشاعر الدينية تجاه ما يحدث للمسلمين ومقدساتهم وما يفعله الكفار في بلاد المسلمين.
- الفوضوية في العمل، وكثرة النقد للأعمال الإيجابية؛ تنصلاً من العمل.
- احتقار الطاعات والقربات التي يقوم بها الآخرون.
- كثرة الاعتذار والتهرب من العمل.
- استصغار الذنوب، وعدم المبالاة بفعل المنكرات.
- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
- عدم الغضب عندما تنتهك حرمات الله.
- ترك طلب العلم وترك دروس العلماء، والقناعة بتحصيل القليل من العلم.
أسباب الفتور:
1- الوهن:
وهو ما فسره رسول -صلى الله عليه وسلم-: (حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
أما حب الدنيا: فرأس كل خطيئة كما في الحكمة المشهورة، وهو أصل التثاقل إلى الأرض، وسبب الاستئسار للشهوات، والانغماس في الترف.
وأما كراهية الموت: فثمرة حب الدنيا والحرص على متاعها مع تخريب الآخرة، فيكره أن ينتقل من العمران إلى الخراب، قال الطغرائي مبينًا حب السلامة في الانحطاط بالهمة والفتور:
حبُّ السلامة يثني عزمَ صاحبه عن المعالي ويغري المرءَ بالكسل
إن حب الدنيا وكراهية الموت صنوان لا يفترقان، وإن الهمة العالية لا تسكن القلب الجبان، فأين مَن هذا حاله ممن قال فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (طُوبَى لِعَبْدٍ أخَذَ بِعِنانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ الله، أشْعَثَ رَأسُهُ، مُغْبَرَّةٌ قَدَماهُ، إنْ كانَ في الحِراسَةِ؛ كانَ في الحِراسَةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ؛ كانَ في السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ؛ لَمْ يُؤذَنْ لَهُ، وإنْ شَفَعَ؛ لَمْ يُشفَّعْ)؟ (رواه البخاري).
2- إهدار الوقت الثمين في الزيارات والسمر وفضول المباحات:
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم-: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) (رواه البخاري).
والوقت أنفس ما عُنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
3- العجز والكسل:
وهما العائقان اللذان أكثر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التعوذ منهما بالله -سبحانه وتعالى-، وقد يعذر العاجز؛ لعدم قدرته، بخلاف الكسول الذي يتثاقل ويتراخى عما ينبغي مع القدرة، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (التوبة:42).
وقد ترى الرجل موهوبًا ونابغًا فيأتي الكسل فيُخذل همته، ويمحق موهبته، ويطفئ نور بصيرته، ويشل طاقته، قال الفراء -رحمه الله-: "لا أرحم أحدًا كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم ولا فهم له، ورجل يفهم ولا يطلبه، وإني لأعجب ممن وسعه أن يطلب العلم ولا يتعلم".
قال المتنبي:
ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام
4- الغفلة:
وشجرة الغفلة تُسقى بماء الجهل الذي هو عدو الفضائل كلها، قال عمر -رضي الله عنه-: "الراحة للرجال غفلة"، وقال شعبة بن الحجاج: "لا تقعدوا فراغًا فإن الموت يطلبكم". وسئل ابن الجوزي: "أيجوز أن أفسح لنفسي في مباح الملاهي؟!"، فقال: "عند نفسك من الغفلة ما يكفيها".
قال الله -تعالى-: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:1)، وقال الله -تعالى-: (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق:22)، (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (مريم:39).
5- التسويف والتمني:
وهما صفة بليد الحس، عديم المبالاة الذي كلما همت نفسه بخير إما يعيقها بـ"سوف" حتى يفجأه الموت، فيقول: (رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) (المنافقون:10)، وإما يركب بها بحر التمني، وهو بحر لا ساحل له، يدمن ركوبه مفاليس العالم.
قال رجل لابن سيرين: "إني رأيت في منامي أني أسبح في غير ماء وأطير بغير جناح! فما تفسير هذه الرؤيا؟" فقال له: "أنت رجل كثير الأماني والأحلام".
قال الناظم:
وانتبه من رقدة الغفلة فـــالــعــمـر قــــلـيـــل
واطـرح سوف وحـتى فــهــمـا داءٌ دخــــيــل
وقال آخر:
مـن كـان مـرعـى عـزمه وهـمـومـه روض الأمـانـي لـم يـزل مـهـزولاً
6- مصاحبة من تغشاه الفتور ورقدت به همته:
الذي كلما هممت بالنهوض؛ جذبك إليه، وغرَّك قائلاً: "أمامك ليل طويل فارقد"، عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً) (رواه مسلم).
ومن المشاهد أن الماء والهواء يفسدان بمجاورة الجيفة، فما الظن بالنفوس البشرية؟!
ولا تجلس إلى أهل الدنايا فإن خلائق السفهاء تعدي
7- العشق:
لأن صاحبه يحصر همته في حصول معشوقه فيلهيه عن حب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (الكهف:50).
فالعشق يمنع القرار، ويسلب المنام، ويحدث الجنون، وكم من عاشق أتلف في معشوقه ماله وعرضه ونفسه، وأتلف دينه ودنياه، والعشق بذلك يترك الملِك مملوكًا، والسلطان عبدًا، ترى الداخل فيه يتمنى الخلاص، ولات حين مناص!
8- الانحراف في فهم العقيدة:
لا سيما مسألة "القضاء والقدر"، وعدم تحقيق التوكل على الله -سبحانه وتعالى-.
9- الفناء في ملاحظة حقوق الأهل والأولاد واستغراق الجهد في التوسع في تحقيق مطالبهم:
نظرًا لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ) (رواه البخاري).
وقد عدَّ "القرآن الكريم" الأهل والأولاد أعداء للمؤمن إذا حالا بينه وبين طاعة الله -عز وجل-، روى ابن جرير عن عطاء بن يسار في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14)، قال: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو؛ بكوا إليه ورققوه، فقالوا: "إلى من تدعُنا" فيرق ويقيم، فنزلت هذه الآية.
10- المناهج التربوية والتعليمية الهدامة:
التي تثبط الهمم، وتخنق المواهب، وتكبت الطاقات، وتخرب العقول، وتنشئ الخنوع، وتزرع في الأجيال ازدراء النفس، وتعمق فيها احتقار الذات والشعور بالدونية، مثل: المناهج الصوفية التي تُعرِض عن علوم القرآن والسنة، وتُرهِّب مريديهم من طلب العلم الشرعي حتى سقط من كم أحدهم يومًا قلم كان يخفيه؛ خشية أن يفتضح بينهم بطلب العلم! فقال له شيخه: "استر عورتك!".
وكذلك المناهج التعليمية والتربوية التي ارتضت العالمانية دينًا، فراحت تسمم آبار المعرفة التي يستقي منها شباب المسلمين؛ لتخرج أجيالاً مقطوعة الصلة بالله، تبتغي العزة في التمسح على أعتاب الغرب، وتأنف من الانتساب إلى الإسلام!
11- توالي الضربات، وازدياد اضطهاد العاملين للإسلام:
مما ينتج الشعور بالإحباط في نفوس الذين لا يفقهون حقيقة البلاء وسنن الله في خلقه، كما ينتج عنه: استطالة الطريق؛ فيضعف السير إلى الله -عز وجل-، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعزي أصحابه المضطهدين في "مكة" بتبشيرهم بأن المستقبل للإسلام، وبأن العاقبة للمتقين، كما في حديث خباب بن الأرت -رضي الله عنه- أنه قال: "شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) (رواه البخاري).
أخي ستبيد جيوش الظلام ويشرق في الكون فجر جديد
فأطـلـق لـروحك إشراقـها تـرى الفـجـر يرمقنا من بعيد
12- الغلو والتشدد وتحميل النفس ما لا تطيق:
فيخالف بذلك الهدي النبوي، ثم يفتر ويمل، دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَسْجِدَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ؛ فَقَالَ: (مَا هذَا الْحَبْلُ؟!) قَالُوا: هذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ، فَإِذَا فَتَرَتْ؛ تَعَلَّقَت. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لاَ، حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ) (متفق عليه).
وكذلك حديث الثلاثة الذي تقالوا عبادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ. وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: (أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا -وَاللهِ- إِنِّي لأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي؛ فَلَيْسَ مِنِّي) (متفق عليه).
13- الذنوب والمعاصي:
قال الله -تعالى-: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (المطففين:14)، قال أنس: "هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب". وقيل لعبد الله بن مسعود: "لا نستطيع قيام الليل". فقال: "أبعدتكم الذنوب والمعاصي".وقال أحد السلف: "حرمتُ قيام الليل أربعين ليلة بذنب أصبته".
وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ) (رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح لغيره).
علاج الفتور:
1- العلم والبصيرة:
فالعلم يصعد بالهمة، ويورث صاحبه الفقه بمراتب الأعمال، فيتقي فضول المباحات التي تشغله عن التعبد: كفضول الأكل، والنوم، والكلام، ويراعي التوازن والوسطية بين الحقوق والواجبات؛ امتثالاً لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)، ويبصره بحيل إبليس وتلبيسه عليه؛ كي يحول بينه وبين ما هو أعظم ثوابًا.
2- إرادة الآخرة، وجعل الهموم همًّا واحدًا:
قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء:19)، وقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهَ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
3- كثرة ذكر الموت:
لأنه يدفع إلى العمل للآخرة، ومحاسبة النفس، وتجديد التوبة، وإيقاظ العزم على الاستقامة، والتجافي عن دار الغرور.
4- الدعاء:
لأنه سنة الأنبياء، وجالب كل خير، وقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ الدُّعَاءِ) (رواه البيهقي، وصححه الألباني)، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم- عقب الصلاة: (اللهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ) (متفق عليه).
5- الاجتهاد في شغل النفس بالحق والطاعة والخير:
قال الحسن: "نفسك إن لم تشغلها بالحق؛ شغلتك بالباطل".
6- التحول عن البيئة المثبطة الداعية إلى الفتور:
فإن للبيئة المحيطة بالإنسان أثرًا جسيمًا لا يخفى، فإذا كانت بيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون؛ فإنه على المرء أن يهجرها إلى حي تعلو همته؛ كي يتحرر من سلطان تأثيرها، وينعم بفرصة الترقي إلى المطالب العالية.
7- صحبة أولي الهمم العالية ومطالعة أخبارهم:
فالطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي، وعن أنس ـ رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ مِنَ النّاسِ ناسًا مَفاتِيح لِلْخَيْرِ مَغالِيق لِلشّرِّ، وإنّ مِنَ النّاسِ ناسًا مَفاتِيح لِلشَّرِّ مَغالِيقَ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).
وقالت العرب: "لولا الوئام؛ لهلك الأنام"، وقال أحد السلف: "إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه".
قال الناظم:
أنت في الناس تقاس بالذي اخترت خليلاً
فاصحب الأخيار تعلو وتـنـل ذكـرًا جـميلاً
8- نصيحة المخلص:
فقد قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ، إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ) (رواه مسلم، وأحمد واللفظ له).
9- المبادرة والمداومة والمثابرة في كل الظروف:
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200)، وقال الله -تعالى-: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ) (الحج:78)، وقال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
فكبير الهمة لا يستسلم للأمر الواقع، بل يبادر ويبادئ في أقسى الظروف حماية لهمته من أن همد ووقاية لها من الفتور.
10- تعاهد الإيمان ومراقبة القلب دائمًا:
كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنّ الإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ) (رواه الطبراني والحاكم، وصححه الألباني).
ونسأل الله أن يجدد الإيمان في قلوبنا، وأن يحفظنا بحفظه، ويعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
تعليق