مذكرات تجربة
(الحلقة التاسعة)
الشيخ/ عبد الفتاح ومزيد من الفتوحات الربانية!!
(حلقة استثنائية في طولها)
كان مجرد تحقيقنا لهذا النجاح على يد قائدنا الصغير الشيخ/ عبد الفتاحفهمي الذي لا يكاد يعرفه أحد من كبار مشايخ الساحة الإسلامية آنذاك، بمثابة دفعة نفسية قوية؛ للثبات على الطريق، حيث ازداد ارتباطنا بمجلسه، ومتابعة آخر التطورات لديه، بناءً على وجهة نظره الثاقبة، وقد اكتشف في العبد الفقير (أبي مهند) موهبة الكتابة مبكراً، فكان يستدعيني لتحرير بعض النشرات التي يعتزم توزيعها بين الحين والآخر، زاعماً أنني أمتلك قلماً مميزاً في التعبير، فكنت أكتب له رؤوس الأقلام التي يريد التعبير عنها، ثم أغلفها بعد ذلك بصياغتي الحماسية التي يفتح الله عليَّ بها، حيث كانت تروق له على ما يبدو!!
المهم أننا من كثرة ترددنا على منزله، وزيادة أعداد الشباب حولنا، صرنا نشعر وكأنه بيتنا، وليس بيته وحده!! ومن الطرائف أن أحد الإخوة أحضر لبيته ذات يومٍ بلطجياً، بزعم أنه حديث عهد بالاتزام، وكان هذا البلطجي واسمه (كمونة) يرتدي بالطو طويل، ويمسك مصحفاً مبالغ في حجمه جداً، واضعاً إياه تحت إبطه، فلما دخلوا به على الشيخ/ عبد الفتاح، أراد هذا البلطجي أن يعرف نفسه بطريقة أفلام (فريد شوقي)!! فذكر فيما ذكر أنه كان ذاهباً ذات يوم لصلاة الفجر، فاستوقفه اثنان من المخبرين، فسألاه عن وجهته، فقال لهم : أنه ذاهب لصلاة الفجر، فسألاه عن بطاقته، فخرج لهما من تحت الأرض شيخ كبير، ذو لحية طويلة، وصفع كل منهما على وجهه؛ مستنكراً سؤالهما قائلاً : (تسألونه عن بطاقته وهو في الطريق إلى بيت الله يا أولاد الكلب)!! فلاذا فالفرار حسب رواية (كمونة) ثم قال له الشيخ : (اتفضل يا عم الشيخ، امض إلى طريقك بارك الله فيك) !!!!!
لم يتمالك الشيخ/ عبد الفتاح نفسه من شدة الضحك، وسأل مباشرة الأخ/ (كمونة) بطريقته الساخرة!! كدهووووو؟! طلع لك من تحت الأرض، وضرب لك المخبرين على طول، وقال لك اتفضل يا عم الشيخ امشي؟! فأجابه (كمونة) أي نعم!!
صبر الشيخ/ عبد الفتاح ما شاء الله له أن يصبر، وهو يقاوم الضحك مراعاة لمشاعر الأخ (كمونة) حتى انصرف، ثم توجه للإخوة قائلاً : (الله يخرب بيت شيطانكم) حتى (كمونة) أحضرتموه إلى منزلي؟! فغرق الجميع في الضحك!!
وما هي إلا أيام، حتى خرجنا من صلاة العصر ذات يوم، وأكملنا حديثنا على ناصية شارع زاوية (محمد علي) كما هي عادتنا بعد كل صلاة، فإذا بالأخ (كمونة) يحمل زجاجتين من البيرة، ويدخل بهما إلى القهوة الحاج حسن كسابق عهده، فلما رآه الأخ الذي أحضره إلى منزل الشيخ/ عبد الفتاح، صاح علينا بأعلى صوته، وهو يشير إليه قائلاً : (إلحقوا يا جماعة . . كمونة فُتن)!! فما استطاع أحدٌ منَّا أن يتمالك نفسه من شدة الضحك!! حيث تبادر إلى أذهاننا سؤال مفاده : (متى التزم كمونة أصلاً حتى يفتن)؟!
كانت هذه الروح الجميلة بين الجد والمزاح، هي ما يمتاز به جمعنا مع شيخنا الصغير/ عبد الفتاح، ولكننا كنا نستشعر أن بداخله مرجال يغلي؛ حرقة لنصرة هذا الدين، فلا زلت أذكر أنه بعد سنوات من انتقالي إلى مسكن آخر بعيد، دخلت المسجد ذات يومٍ، فوجدته قد قدم لزيارتي، وسرعان ما طلب مني الانفراد بالحديث بعد الصلاة مباشرة، شريطة أن نجلس في مكان بمفردنا؛ فسارعت لأخذه إلى منزلي بعد الصلاة، فسلَّم على والدتي رحمها الله التي كانت تحمل له مكانةً خاصةً؛ نظراً لمعرفتها بمحبتي الشديدة له!!
أغلقت باب الغرفة وأنا في أشد اللهفة لمعرفة ما وراءه من أخبار؟!
فنظر إلىَّ وسألني : من المؤكد أنك سمعت بالانتفاضة الفلسطينية؟! فقلت له : نعم - وكان هذا الأمر مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى - فقال : أتعلم أن هذه الانتفاضة تخرج لأول مرة من المساجد، ووسائلالإعلام الخبيثة تتعمد إخفاء هذه الحقيقة، والشيوعيون يركبون موجتها، ويوهمون الناس أنهم من يقف وراءها!!
ثم تابع قائلاً : أتدري أن مجرد صمتنا نحن كإسلاميين على مثل هذا الأمر لا يمكن وصفه بمجرد التقصير في حق إخواننا ، وإنما سيوصف بماذا؟ فسألته : بماذا؟!
فقال لي بحرقة كاد والله أن ينخلع لها قلبي : سيوصف بأنه خيانة!! نعم . .
خيانة أن تخرج الأفواج من بيوت الله مكبرةً، تنادي باسم الله وهي تواجه أعتى قوة بربرية على وجه الأرض بالحجارة فقط، ونحن نكتفي بمشاهدتهم، بل ونصمت حينما يلبس الإعلام انتفاضتهم ثوب الشيوعية أو القومية أو غيرها من الشعارات الزائفة؛ في حين حمل إخواننا على عاتقهم أن تكون انتفاضة إسلامية خالصةً!!
خيانة أن يصمت علماء مصر ودعاتها، على هذا الاستغفال ولا ينهضون لمؤازرة إخوانهم في المسجد الأقصى، ولو بإصدار بيانات تتضمن عبارات التأييد والنصرة!!
وقعت كلماته عليّ وقع الصاعقة، وانحصر تفكيري فقط فيما يمكننا فعله؟! لم يتركني لحيرتي طويلاً؛ فأتبع حديثه قائلاً : سندعو لمؤتمر شعبي عام؛ لمناصرة الركع السجود بساحات المسجد الأقصى، وسنضرب من خلاله ثلاث عصافير بحجر واحد!!
الأول : سنعلن عن إقامة المؤتمر في الأزهر؛ كمؤسسة حكومية؛ لضرب مؤسسات الدولة بعضها ببعض، ولكي يكتسب تعاطف قطاع عريض من الشعب المصري!!
الثاني : لن نستخدم في دعايتنا لهذا المؤتمر كلمة فلسطين؛ لأن السادات نجح في تبغيض الشعب فيها من خلال وصفها بقوله : (أولها فلس) & (وآخرها طين)!! وإنما سنعمل على إحياء الحس الديني والعاطفة الإسلامية لدى الناس؛ باستبدالها بعبارة :
(مؤتمر لمناصرة الركع السجود في ساحات المسجد الأقصى)!!
الثالث : سنقوم بزيارة العلماء والدعاة البارزين واحدً تلو الآخر في منازلهم؛ لدعوتهم لإحياء ذلك المؤتمر؛ بقصد الإعلان عن الهوية الحقيقة لهذه الانتفاضة الإسلامية، وحضهم على إحياء دروهم الدعوي في الساحة من جديد بعد طول سكون!!
وسألني، هل ستضع يدك في يدي للقيام بهذا الأمر؟!
فكانت إجابتي تلاحق كلمات سؤاله؛ فأجبته على الفور وقبل أن يكملها : أن نعم!!
فابتسم وقال : والله الذي لا إله غيره؛ إنني على يقين من تحقيق النتائج التالية :
أولاً : سوف يحظى هذا المؤتمر بتأييد شعبيٍ كاسح!!
ثانياً : الإخوة الذين سيتم إلقاء القبض عليهم خلال هذا المؤتمر، سيتم الإفراج عنهم في اليوم التالي مباشرة؛ لأن تقرير الأمن القومي سيخرج بأن الشعب كله مؤيد لهذا المؤتمر، وبالتالي لن يستطيعوا توجيه تهمة لأي معتقل!!
ثالثاً : سوف تترنح الحكومة على إثر إقامة هذا المؤتمر، حيث ستخرج النشرة التلفزيونية الأولى تمدح فيه، والثانية (بعدما يكونوا قد استوعبوا خطره) سوف تذم فيه، ونفس الأمر سيحدث مع طبعات الصحف اليومية، الأولى ستمدح والثانية ستذم!!
رابعاً : سوف تحاصر قوات الأمن الأزهر، ولكننا سوف نباغتهم بإقامة المؤتمر في مسجد العتبة، لتخرج الأفواج بعدها من هناك، وتلتقي بأفواج المصلين الخارجين من الأزهر، فتتجمع مظاهرة حاشدة وسط البلد، ستكون بحقٍ حديث الناس!!
خامساً : سيتم إخراس أصوات كافة القوى المزيفة، التي تدعي وقوفها خلف هذه الانتفاضة، سواء كانوا من الشيوعيين أو غيرهم، لاسيما في الأوساط الجامعية!!
كانت ملكة التنظير، هي أخص ما يميز الشيخ / عبد الفتاح، وكانت مشاعري تتجاوب مع كل ما يقوله بتلقائية عجيبة، وكأني أرى ما يقوله يطبق على أرض الواقع رأي العين!!
جولة على المشايخ والعلماء
بدأت جولتنا على المشايخ بمحافظة الفيوم، حيث يسكن الشيخ / عمر عبد الرحمن حفظه الله تعالى، وفك أسره، إذ كانت تربطني به معرفة قديمة، فوجدته كما عهدته، شيخ وقور ينبض بروح فتىً جسور!! فعرضنا عليه الأمر، فلم نجد كثير جهد في إقناعه، حيث وافقنا على الفور، على الرغم من حساسية وضعيته الأمنية هو بالذات، حيث كان ينظر إليه ولا يزال بأنه مفتي تنظيم الجهاد!!
شكرنا له مبادرته وتأييده، وقبلنا رأسه ويديه، ثم غادرنا منزله، عازمين على التوجه إلى منزل الشيخ المحلاوي بالإسكندرية، ولكن ترآى للشيخ/ عبد الفتاح أثناء الطريق أن يذهب بمفرده للشيخالمحلاوي، على أن أعود على الفور إلى القاهرة؛ لمفاتحة الشباب في الأمر، والبدء في محاولة ترتيب الأمور الخاصة بالمنشورات والبوسترات وما إلى ذلك!!
وتتابعت زيارت الشيخ/ عبد الفتاح للمشايخ، والجميع بفضل الله يبدي موافقته وتأييده، وكلما ازداد التأييد؛ كلما ازداد القلب طمأنينة وثقة بأننا نسير على الطريق الصحيح، وأن هذا الأمر يتم دعمه ومؤازرته، بل التخطيط له من أعلى!! (سبحان ربي العظيم)
كان الشباب في شغف تام لمثل هذه التحركات والفعاليات التي تشعرهم بالبذل لدين الله، وكان قبولهم بفضل الله للفكرة أيسر من شربة ماء!! فبدأت عملية توزيع الأدوار بين الخواص كمرحلة أولى مبدئية؛ لضمان سرية الأمر، وعدم وصوله للجهات الأمنية قبل فترة الإعداد، وتحديد يوم الإعلان!!
فما الذي حدث مع الشباب من مفارقات عجيبة أثناء قيامهم بتنفيذ تلك المهام؟!
وما الذي واجهه المشايخ والدعاة بمجرد الإعلان عن المؤتمر، وأثناء طريقهم إليه؟!
وهل نجح المؤتمر بالفعل في توصيل الرسالة إلى الناس؟!
بل وهل تحققت النتائج الخمس التي تيقن الشيخ / عبد الفتاح تمام اليقين في تحقيقها ثقة في الله تعالى؟!
أكمل الشيخ/ عبد الفتاح جولته، وعاد لنا بالعديد من البشارات، فجميع من التقى بهم من المشايخ والدعاة والعلماء على قلب رجل واحد بفضل الله في تأييدهم لهذا التوجه، ولكن البعض منهم لن يتمكن من الحضور؛ نظراً لظروفه الصحية، ولكنهم شدُّوا على أيادي القائمين على هذا الأمر بالتأييد والمؤازرة.
خلال هذه الفترة؛ تمت عملية توزيع الأدوار والتنسيق التام بين الإخوة من القاهرة إلى أسيوط؛ للقيام بكافة المهام المتعلقة بإقامة هذا المؤتمر، وفي مقدمتها طباعة البوسترات، وإلصاقها في جميع المحافظات على مستوى مصر، بل وتم تحديد ساعة الصفر للقيام بهذا الأمر، وهي الساعة التي تسبق صلاة الفجر، بحيث يصبح الناس؛ فيجدوا جميع الجدران قد مُلئت بهذه البوسترات في طول مصر وعرضها!!
علماً بأن عملية الطباعة لم تكن من السهولة بمكان!! حيث أن جميع المطابع كان عليها تعميم من أمن الدولة بالإبلاغ عن مثل هذه المطبوعات، وكان معظم أصحاب المطابع يرفضون الطباعة، خوفاً على أنفسهم أولاً، وحتى لا يعرضونا للخطر؛ كشباب أهوج من وجهة نظرهم ثانياً!! إلا أن إخوة الصعيد استطاعوا إيجاد مطبعة متفهمة للأمر، فبطعوا كميات كبيرة من تلك البوسترات والمنشورات، وقاموا بتوزيعها على مراكز الإخوة بجميع المحافظات قبل الموعد المحدد للنشر.
أما بالنسبة لمسجدنا، فقد تم تكليفنا بمهمة توفير الرايات واليفط القماشية التي سيحملها المتظاهرون في المؤتمر، وأثناء الخروج إلى التظاهر في الشوارع، وهذا دون شك يستلزم شراء كميات كبيرة من الأخشاب وتقطيعها، فضلاً عن شراء القماش، وإيجاد الخطاط الذي يمكنه كتابة مثل هذه الشعارات النارية عليها!!
ولا أخفيكم قولاً أن ما تبقى لدينا من أموال، مما تم جمعه من الشباب؛ لاستيفاء قيمة الطباعة وغيرها، قد نفد عن بكرة أبيه، ولم يعد لدينا قرشاً واحداً للقيام بهذا الأمر!!
وأصبحنا في حرج بالغ، سواء من شبابنا في المسجد، والذين هم في غالبيتهم من طلاب المدارس والجامعات، وليست لديهم القدرة المالية الكافية؛ لبذل المزيد من المال، لاسيما بعدما دفع معظمهم مصروفه الشهري كاملاً؛ للإسهام في إنجاح هذا المؤتمر، وكذا أمام بقية الإخوة بالمساجد الأخرى، الذين قاموا بمهامهم على الوجه الأكمل في توفير بقية مستلزمات إقامة هذا المؤتمر!!
أشد اللحظات حسماً . . وذكراها لا تُنسى!!
سألني أحد الأخوة عمَّا سنفعله، ولم يتبق على موعد المؤتمر سوى يومين فقط، وليس أمامنا في الأفق أي بارقة أمل في الحصول على المزيدٍ من الأموال؟!
كنت أهيم في حالة نادرة من النشوة العجيبة التي ملؤها الثقة في الله عز وجل، وأنه سبحانه سوف يقضي لنا ذلك الأمر حتماً؛ فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أقول له : هيّا بنا إلى تاجر الأخشاب!! فقال لي متعجباً : يا أخي الحبيب ليس معنا قرشاً واحداً!! فكيف يمكننا شراء هذه الكمية؟! فقلت له : امض معي وسترى!!
كنت أشعر في سيري وكأنني لا أكاد ألامس الأرض من شدة لهفتي في رؤية نتيجة هذه الثقة التامة في الله!! حيث كانت تنتابني حالة غريبة وعجيبة من الروحانية المطلقة، لدرجة أنني اعتبرت أن الأموال قد توفرت بالفعل؛ حتى أنني قابلت في الطريق أحد أولياء أمور الطلاب الذين كنَّا ندرِّسهم القرآن في المسجد، فطلبت منه شراء كمية من القماش الأبيض، وسوف أدفع له قيمتها بمجرد عودتي من مشواري هذا بإذن الله فوافق، وأخبرني أنه سوف يذهب في الحال!!
كل هذا يحدث، والأخ المرافق لي تتخبط ركبتاه في بعضهما من شدة مخاوفه فيما يترقبنا من عاقبة!! حيث أنه يعرف جيداً أن تاجر الأخشاب الذي سنذهب إليه، ونأمره بتقطيع عروق الخشب؛ حسب القياسات التي نريدها؛ يمكنه تقطيعنا أيضاً بنفس المنشار؛ لو أننا لم ندفع له الأموال في الحال!!
وبالفعل وصلنا إلى المنجرة، وأخبرت التاجر بالكميات المطلوبة، وأعطيته القياس المحدد لتقطيعها، فقام بوضع كمية الأخشاب على الميزان، وأخبرني بقيمتها، فقلت له توكل على الله وابدأ التقطيع!! كل هذا، والأخ ينظر إليَّ متعجباً، وعينه قد بدأت بالفعل في النظر في جميع الاتجاهات؛ لاختيار الجهة التي سوف يطلق نحوها ساقيه على ما يبدو إذا ما جد الجد، ووجد نفسه في مواجهة مأساوية مع تاجر الأخشاب!!
ووالله الذي لا إله غيره، ما أن وضع الرجل كمية الأخشاب على الأرض؛ تمهيداً لتقطيعها؛ إلا وقد سمعت منادياً ينادي عليَّ باسمي، فإذا بأحد معارفي من المحامين الذين يظهر عليهم سمت الدين، ولم تكن تربطني به علاقة وثيقة!! إلا أنه أوقف سيارته جانباً ونزل منها، فهرولت نحوه مسرعاً تاركاً أخانا بالمنجرة، فسلمت عليه وحييته، فسألني عن سبب تواجدي في تلك المنجرة!! وكان هذا الأمر غير اعتيادي بالمرة!! حيث أن ما يربطني بالرجل علاقة سطحية للغاية، ولم أتوقع منه أبداً هذا الاهتمام والترحيب!! فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أحكي له تفاصيل الأمر كله، وكأن الله قد ألقى في روعي أنه قد أرسله لي في مثل هذه اللحظة الحرجة؛ كمكافأة لي على حسن ظني، وثقتي المطلقة به سبحانه، فإذا بالرجل يخرج من جيبه على الفور مبلغ (مائة جنيه) وهي في وقتنا الحالي تعادل حوالي (ألف جنيه) إلم تزد!!
ما كدت أصدق عيناي من شدة المفاجأة، فبالغت له في الشكر، ودعوت الله له أن يجعلها في موازين أعماله، فتركها في يدي، وسرعان ما عاد إلى سيارته وفارق ناظري!! كل هذا وقلبي يكاد يطير فرحاً من شدة الغبطة والسرور، فلهج لساني بالحمد والثناء على الله من أعماق قلبي؛ ورجعت على الفور لأخي الذي بلغ به الاضطراب مبلغه، فأظهرت له المائة جنيه مباشرة؛ حتى أهدئ من روعه، وقلت له متسائلاً : ألم أقل لك سوف ترى، كيف سيقضيها الله عز وجل من فضله؟!
أخذ أخونا يحلق في وجهي مذهولاً!! وأنا أحاول كتمان الضحك الذي كان مبعثه واسع كرم الله من جهة، وذهول نظرات الأخ الحبيب من جهة أخرى!!
حملنا الأخشاب على سيارة نصف نقل وتحركنا عائدين، بعدما سددنا قيمتها كاملة لصاحب المنجرة ولله الحمد والمنة، فلما وصلت إلى المسجد؛ وجدت ولي أمر الطالب بانتظاري؛ كي يسلمني كمية الأقمشة التي اشتراها؛ فحمدت الله أنه قد تبقى لدي من المائة جنيه ما يكفي لإعطائه قيمتها أيضاً، إلا أنه صعقني بإصراره على عدم قبوله أخذ الأموال، وقال لي بصوت منخفض : (شكلكم عازمين على عمل شيء لله، وأنا أريد أن أسهم معكم في الأجر، فلا تحرمني تلك المثوبة)!!
ابتسمت وقلت له : هذا صحيح، ربنا يبارك فيك، ويجزيك كل خير!! وحفظت بقية المبلغ تحسباً لأجرة الخطاط الذي سوف يكتب لنا الشعارات على اللوحات القماشية.
جدير بالذكر أن هذا الرجل قد صار من كبار الإخوة بالمسجد فيما بعد ولله الحمد، ومن الطرائف أن ولده الصغير كان سبباً في هدايته، حين عاد ذات يوم من حلقة القرآن، ودخل بيته ثم أغلق التلفاز على الفور، ودون أدنى استئذان من والديه، فسألوه عن سبب قيامه بذلك؟! فقال الشيخ بالمسجد يقول : التلفزيون حرام!!
اصطحب ولده في صلاة المغرب إلى المسجد، والتقى بنا، وقال : (يا جماعة الخير، شوية شوية على الأولاد الصغار، الولد أغلق علينا التلفاز، ومستميت على موقفه، ولو فتحناه يبكي بالدموع ويقول: الشيخ قال : التلفزيون حرام)!! ابتسمنا له، وأخذنا نوضح له الموقف بلين ورفق، فما لبث يسيراً؛ حتى ألقى الله محبة أجواء مسجدنا في قلبه، وصار علماً من أعلام المسجد فيما بعد، ولله الحمد والمنة!!
ورجوعاً لأحداث المؤتمر الذي خطط له الشيخ/ عبد الفتاح، وقع الاختيار على أحد الإخوة لأخذ القماش والأخشاب عنده، حيث كانت لديه شقة فارغة في آخر دور من منزله، فقام بتجهيزها، ليقوم الخطاط بكتابة اللوحات فيها، ولم يجد في نهاية المطاف سوى خطاط غير ملتزم؛ لكتابة هذه اللوحات، غير أن معرفته به كانت قديمة قبل الالتزام!! قاموا بالسهر عليها طوال الليل؛ حتى أنتهوا منها جميعاً!! ومن عجيب ما يُذكر من ردة فعل هذا الخطاط - وهو من عوام الناس – أنه قال : (والله يا جماعة الكلام ده جميل جداً، وجعل الحماس يشتعل في نفسي، ربنا يكرمكم وينصركم يارب)!!
فلما جاء الأخ ليعطيه أجرته، طلب منه أن يؤجلها إلى ما بعد، فلمَّا أصر عليه، قال إذاً نتلقي غداً مساءً بإذن الله وحدد له الموعد والمكان، فلمَّا التقاه في اليوم التالي؛ جاء صديق لهما، وبدون أن يعرف الموضوع، وجد الأخ يُلِح على الخطاط أن يأخذ أجرته، فخاطب هذا الثالث صديقه الخطاط قائلاً: هل عملت شغل للشيخ فلان؟! وكان صديقاً حميماً له قبل الالتزام أيضاً، فقال له: نعم؛ فأقسم بالله ألا يدفع أحد الأجرة غيره!! كل هذا وبقية المائة جنيه كما هي، لم يُصرف منها سوى قيمة الأخشاب لا غير وهي (16 جنيهاً فقط)!!
أصبح كل شيء بفضل الله جاهز تماماً، وبانتظار ساعة الصفر للانطلاق، وفي اليوم المحدد، أصبحت مصر على رؤية جدرانٍ شبه مصبوغة ببوستر الإعلان عن مؤتمر في الأزهر بعنوان : (مناصرة الركع السجود في ساحات الأقصى)!!
ومن طريف ما وقع أثناء وضع تلك البوسترات؛ أن أحد المخبرين قد ضبط اثنين من إخواننا طلاب المرحلة الإعدادية، وهما يقومان بلصق تلك البوسترات، فأخرج مسدساً من جيبه في الحال، ووجهه نحوهما طالباً منهما الثبات في مكانهما!!
فما كان منهما إلا أن انقضا عليه كالصقرين، وطرحاه أرضاً في لحظة مباغتة، فوقع منه المسدس على الأرض، فأزاحه أحدهما بقدمه بعيداً عنه؛ حتى لا يتناوله مكرراً ويطلق عليهما النار، ثم أطلقا ساقيهما للريح، واختفيا عنه في غمضة عين!! ومن العجيب أن هذا التصرف، لم يكن باتفاق مسبق بينهما، كما عرفنت فيما بعد!!غير أنها عناية الله وحفظه!!
ضغط أمن الدولة على المشايخ . . وملاحقتهم!!
بمجرد الإعلان عن المؤتمر، وأسماء المشايخ والعلماء الذين سيحاضرون فيه؛ بدأت حملات أمن الدولة على منازل هؤلاء الشيوخ والدعاة!! فاتصل مدير أمن الفيوم بالشيخ / عمر عبد الرحمن هاتفياً، وسأله أين ستصلي الجمعة غداً يا مولانا؟! فرد عليه الشيخ بمنتهى اللامبالاة قائلاً : في الأزهر إن شاء الله يا بني!!
فقال له مدير الأمن: لا تتعب نفسك يا شيخ، الطرق كلها ستكون محاصرة، ولن تستطيع السفر إلى القاهرة بحال!! فرد عليه الشيخ مغضباً: أفهم من ذلك أنك تهددني؟! فقال له المدير: لا أهددك، ولكن هذا فقط لمعلوماتك يا فضيلة الشيخ، والأفضل لك أن تصلي بالمسجد المجاور، ولا ترهق حالك!! فقال له الشيخ : يفعل الله ما يريد!!
ومع صلاة الفجر، نزل الشيخ للصلاة؛ فإذا بالطريق من المنزل إلى المسجد مكدس بقوات الشرطة والمخبرين!! فما كان من هذا الشيخ العجيب والخطير بكل المقاييس؛ إلا أن نصب شراك خداع لم يخطر على بال القوات الأمنية، حيث دخل إلى المسجد لصلاة الفجر، وبعد الصلاة؛ تزاحم عليه أتباعه في المحراب، فخلع زي الأزهر والنظارة السوداء، ليرتديهما أحد الإخوة الذين يشبهون الشيخ، ثم خرج الإخوة بهذا الشيخ المزيف من المسجد، وهم يلتفون حوله وكأنه الشيخ عمر عبد الرحمن، فأركبوه السيارة وانطلقوا به مسرعين؛ وعلى الفور؛ انطلقت سيارات الشرطة والأمن تلاحقهم بأقصى سرعة، وسيارة الإخوة تسرع؛ والشرطة تسرع وراءها!!
كل هذا والشيخ عمر لا يزال مختبئ في المسجد، حيث خرج بعد فترة زمنية بزي مختلف؛ عساه أن يفلح في اللحاق بالمؤتمر بسيارة أخرى، ومن طرق مختلفة!! ولكنه اختبئ بعض الوقت في مكان معين؛ ريثما تهدأ الأوضاع!! أما الشيخ المزيف، فقد تم الإمساك به بعد مطاردة طويلة عند أول نقطة تفتيش على طريق القاهرة الفيوم، وبصراحة الله يعينه على (العلقة الساخنة التي أكلها)!!!! حيث أقاموا له حفلة ترحيب على أعلى المستويات!! حيث جربوا فيه على ما أظن كل أنواع الضرب والتلطيش!! وهم من غيظهم؛ يعيدون ويكررون عليه السؤال (أنت الشيخ عمر يا ابن الـ ....)!!!
أيقن ضباط أمن الدولة بعدها أن الشيخ / عمر قد أفلت من أيديهم، وحتماً سيحاول السفر إلى القاهرة!! فزادوا من نقاط التفتيش على الطرق الفرعية؛ ليحكموا قبضتهم عليها؛ في محاولةٍ للإمساك به، فوصلت تلك الأخبار إليه في المكان الذي كان يختبئ فيه، فقرر الإخوة الانتظار فترة أطول؛ حتى قبيل صلاة الجمعة؛ لعلهم ييأسون من طول الانتظار، أو يظنون أنه قد أفلح بالفعل من الإفلات، والمرور في إحدى السيارات!!
طالت فترة الانتظار ونقاط التفتيش كما هي، وأصبح على الإخوة المكلفين بنقله إلى القاهرة أن يفاضلوا بين المخاطرة بالسفر، وما فيه من احتمالية تعرض الشيخ للاعتقال، لاسيما بعدما ألقمهم خدعة الشيخ المزيف!! أو إلغاء السفر بالكلية، نظراً لضيق الوقت، وارتفاع نسبة المخاطرة، فقرروا أخيراً إبلاغ الإخوة في القاهرة بمحاصرة الشيخ، وعدم تمكنه من السفر!!
تبين لنا فيما بعد؛ أن مجرد إعلان أسماء المشايخ والدعاة على البوسترات، قد أدى الغرض المطلوب منه تماماَ، حيث احتشدت جماهير غفيرة في الجامع الأزهر، واضطر خطيب الجمعة إلى التحدث عن وجوب نصرة فلسطين مجبراً؛ بسبب شدة الهتافات المزلزلة من جموع المصلين، وبما أنه قد تم حصار المسجد بقوات الأمن، وسيطرت إدارة الجامع على المنبر؛ حتى لا يتمكن أحد من غير المرخص لهم من الصعود عليه، فإن حضور المشايخ لن يغير في الأمر كثيراً، لاسيما بعدما تبين لي من تخطيط الأخ عبد الفتاح، أن دعوته للمؤتمر، لم تكن سوى للفت الأنظار إلى القضية، وإنه بهذا التخطيط، قد جعل من الإعلان عن المؤتمر مظلة لخروج المظاهرات الحاشدة التي اجتاحت وسط البلد!! حيث خرجت جموع المصلين من مسجد العتبة، متوجهة ناحية الجامع الأزهر، لتلتقي بجموع المصلين الخارجة أفواجاً من الجامع الأزهر، مما أدى إلى حصار قوات الأمن في الوسط!! وإصابة حركة المرور بشللٍ تام، فنزل الناس من الباصات، وشكلوا بكثافتهم العددية مدداً لتلك المظاهرات!!
فارتفعت الرايات في أيدي الإخوة، وانطلقت الهتافات المدوية في أوساط الجماهير:
إن الأقصى قد نادنا . . من سيعيد القدس سوانا
خيبر خيبر يا يهود . . جيش محمد سوف يعود
ما كادت قوات الأمن ترتب صفوفها، محاولةً حصار المظاهرة في أضيق حدود؛ إلا وظهرت علامات التبرم على وجوه العوام، الذين أخذ البعض يكيل لها وابلاً من الشتائم والسباب!! وأذكر أن أحدهم صرخ قائلاً : يا أولاد الـ .... تحاصروهم لأنهم يسبون اليهود!!
كنت أسير مع الشيخ/ عبد الفتاح على جانب الطريق، وكأننا مواطنون صالحون، وليس لنا دخل بكل ما يحدث!! وكانت قلوبنا تكاد تطير فرحاً ونحن نرى الأمور تسير على خير حال، ولكننا لم نتصور أبداً أن تصل المظاهرات إلى هذا الحجم الكبير، وأن يتحول وسط القاهرة بسببها إلى كتلة سيارات مكدسة بلا حراك، وأن تصير بالفعل حديث الناس، حيث أن كل من يسأل عن سبب توقف السيارات يقال له: فيه مظاهرات كبيرة جداً، والطرق كلها مسدودة!!
رجعت معه على منزله، وبدأنا في تقصي الأخبار، عمن تم اعتقاله من الإخوة، والمذهل في الأمر أن كل ما توقعه الشيح/ عبد الفتاح قد حدث 100%!!
· فالمظاهرات نجحت بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معاني في أضفاء الصبغة الإسلامية على الانتفاضة الفلسطينية، بل وحصدت تأييد شعبي كاسح!!
· نشرات الأخبار التلفزيونية الأولى أثنت على المظاهرة، والثانية بدأت في الذم فيها!!
· ونفس الشيء مع الصحف القومية الصادرة في نفس الليلة، وفي صباح اليوم التالي!!
· وجميع الإخوة المعتقلين قد تم الإفراج الفوري عنهم في نفس اليوم، والذي طال به المقام؛ خرج بعد يومين أو ثلاثة!!
· لم يتجرأ الشيوعيون بعدها في الجامعات على نسب الانتفاضة إلى تيارهم، ومن تجرأ على ذلك؛ كان يقابل بتهكم واستخفاف كبير!!
· ارتفعت الروح المعنوية لدى الشباب بشكل كبير، وكان بعض صغار السن، يتمنى لو كانت لدينا كل جمعة مظاهرة مثلها!!
وبعد هذه الاستفاضة في سرد قصتي مع الشيخ/ عبد الفتاح فهمي أسألكم له الدعاء من خالص قلوبكم، حيث توفاه الله بعد معاناة مريرة مع المرض، حيث أحسب أنه قد عاش حياته كلها لله، فلم تك له أسرة يأوي إليها؛ لأنه ولد يتيماً، وعاش وحيداً بعد وفاة والدته وهو في مقتبل العشرينات من عمره، تبرأ منه أقارب والديه بسبب كثرة اعتقاله!! · نشرات الأخبار التلفزيونية الأولى أثنت على المظاهرة، والثانية بدأت في الذم فيها!!
· ونفس الشيء مع الصحف القومية الصادرة في نفس الليلة، وفي صباح اليوم التالي!!
· وجميع الإخوة المعتقلين قد تم الإفراج الفوري عنهم في نفس اليوم، والذي طال به المقام؛ خرج بعد يومين أو ثلاثة!!
· لم يتجرأ الشيوعيون بعدها في الجامعات على نسب الانتفاضة إلى تيارهم، ومن تجرأ على ذلك؛ كان يقابل بتهكم واستخفاف كبير!!
· ارتفعت الروح المعنوية لدى الشباب بشكل كبير، وكان بعض صغار السن، يتمنى لو كانت لدينا كل جمعة مظاهرة مثلها!!
كما أنه لم يرغب في الزواج؛ نظراً لانشغاله الكبير بالدعوة، وأرجو أن تشهد له جدران السجون المصرية والسودانية وكذا معاناته في كل من باكستان وبريطانيا أن تكون شفيعة له يوم القيامة!! حيث كان كالفارس الذي كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه يبتغي القتل والموت مظانّه!!
فلعل دعواتكم تصل إليه، فتنير عليه قبره، كما أنار بسيرته الأمل في قلوب إخوانه من جديد، وأعطانا مثالاً حياً على العيش لهذا الدين، ونصرة رب العالمين.
وفي الحلقة العاشرة بإذن الله، سوف أواصل معكم فصول مذكرات تجربة، والنقلة النوعية من مسجد السكة الحديد إلى عالمٍ آخر غريب، بعدما اختطفت أبصارنا سيرة هذا النبراس المضيئ الشيخ/ عبد الفتاح فهمي رحمه الله تعالى.
ما جاء في هذه الحلقة من العبر:
· رب العزة عند ظن عبده به!!
· كلما كانت القلوب أنقى من شوائب الذنوب؛ كلما كانت لله أخلص!!
· هموم الدعوة نصرةٌ للعبد في الدنيا، وعزٌ له في الآخرة!!
· عالم الأخوة الصادقة، وانهماك أوساطه بالعمل لهذا الدين؛ بمثابة واحة الإيمان الطاهرة، التي تهب عليها رياح الجنة!!
· حسن التنظير وملكات القيادة، نعمة من الله تعالى يمن بها على من يشاء من عباده، وما أظن الشيخ/ حازم إلا واحداً منهم!!
· كلما كانت القلوب أنقى من شوائب الذنوب؛ كلما كانت لله أخلص!!
· هموم الدعوة نصرةٌ للعبد في الدنيا، وعزٌ له في الآخرة!!
· عالم الأخوة الصادقة، وانهماك أوساطه بالعمل لهذا الدين؛ بمثابة واحة الإيمان الطاهرة، التي تهب عليها رياح الجنة!!
· حسن التنظير وملكات القيادة، نعمة من الله تعالى يمن بها على من يشاء من عباده، وما أظن الشيخ/ حازم إلا واحداً منهم!!
وإلى لقاء قريب في الحلقة العاشرة بإذن الله تعالى
تعليق