Tweet
مذكرات تجربة
(الحلقة السابعة)
تفاصيل العالم الجديد !!
شعرت بعد اتخاذي لقرار ترك النادي بهذا الحسم، أنني قد أعتقت نفسي بالفعل من رق التعلق بزينة الحياة الدنيا، واستعدت حريتي الكاملة في توثيق علاقتي بالله عز وجل، وصارت الساحة أمامي رحبة؛ للتعرف على هذا العالم الجديد بشبابه الطاهر النقي الذي آثر الله ورسوله، بل وقهر عنفوان شبابه، وأرغمه على الإذعان لأمر الله عز وجل، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم!!
وانطلقت رحلة اكتشافي للمساجد والزوايا المحيطة بمنطفتي في كل اتجاه، حيث كانت هناك زوايا رئيسية؛ تمثل مراكز تجمعات للإخوة الملتزمبن أو (السنية) حسبما كان يحلو للعوام تسميتهم!! ولقد فوجئت بالفعل من كثرتها وتعددها، حيث لم أكن أتوقع وجود كل هذه الزوايا والمساجد التابعة للإخوة في منطقتي!!
وكان أبرزها زاوية (الكحال) حيث الشيخ السلفي الدكتور/ إيهاب والشيخ/ ماجد، ثم زاوية بديع (طوسون) والشيخ/ محمد عبد المقصود(حفظه الله) ثم مسجد الصحابة أو (السكة الحديد) بجزيرة بدران، حيث (السلفية الجهادية) ثم زاوية (خضر) والشيخ/أحمد فتحي والشيخ/ عصام البكري، وكلاهما من أتباع الشيخ/ أسامة عبد العظيم (السلفية المذهبية)، ثم زاوية (البراد) وما أدراك ما زاوية (البراد)؟ّ!
فهذه الزاوية التي لم تكن في الأصل سوى منور عمارة!! وكان الإخوة يخرجون منها في معظم الأحيان بعد كل صلاة في حالة فرار من مطاردة سكان العمارة، وبالأخص سكان الدور الأول، الذين كانوا يستيقظون على أصواتهم صباح كل يوم، وبالأخص حينما يخلص بعض الإخوة في قول آآآآآآآآآآآمين بعد قراءة الفاتحة بصوت جهوري، فيفزع السكان من نومهم، ويخرجون لهم بالمقشات من بيوتهم؛ ليهرعوا خلفهم في الشارع!!!
إلا أن الأخ/ عبد الفتاح فهمي (رحمه الله) أحد سكان هذه العمارة، كان يصر على تحويل هذا المنور الضيق إلى زاوية صغيرة، على الرغم من أن بابه لا يمكن لأحد دخوله إلا راكعاً من شدة قصره!! كما أن البالوعات الموجودة في أرضيته، غالباً ما تطفح في معظم الصلوات، فيصلون فيها فرضاً والباقي في زوايا أخرى!! وكان الناس يوبخون الإخوة وهم يهرعون خلفهم بقولهم : (يا أولاد الك.... ده مكان للصلاة ده؟! بتصلوا فوق البلاعات وجنب غرف النوم يااللي ما عندكم دم)؟!
إلا أن روح المغامرة والإثارة التي كان يتمتع بها الأخ/ عبد الفتاح، كانت كفيلة بأن تجذب الإخوة القريبين من سكنه؛ لتكرار نفس التجربة المأساوية مراراً وتكراراً، وفي كل مرة كانوا يقصون علينا نوادر هم المضحكة مع هؤلاء الجيران المساكين!!
وكما سبق وذكرت أن حي شبرا كان متداخل الأفكار ومتعدد الاتجاهات، وكنت بحكم حداثة التزامي أخشى من نقض أي اتجاه، أو توجيه اتهام لأي فكر بالمخالفة، حيث كنت أرى الخير في الجميع، لذلك كنت أفضل التجوال على جميع الزوايا والمساجد؛ حتى أستكشف بنفسي أفكارهم، فخرجت مع جماعة التبليغ فترة من الزمن، ولكن سرعان ما احتدم بيننا الخلاف؛ بسبب إصرارهم على الاعتكاف بمساجد الصوفية الذين تأصل بغضهم في قلبي منذ البداية، كما أن وجود الأضرحة والشركيات في تلك المساجد، لم يمنعهم من الاعتكاف والصلاة فيها دون حرج، وكنت ألحظ قلة علمهم الشرعي؛ حينما أسالهم عن الدليل، فلم يرروا غليلي من ذلك غفر الله لنا ولهم!!
ثم حاولت الالتحاق بمعسكر للإخوان المسلمين في منطقة أبو قير بالاسكندرية، ولكن سبحان الله لم تجذبني أجواؤه مطلقاً؛ حيث شعرت وكأنه أقرب ما يكون لمعسكر كشفي أو دورة طلابية، فقررت مغادرته على الفور؛ لعدم إشباعه لشغفي الروحي!!
ثم قضيت العشر الأواخر من أول رمضان في تاريخ التزامي بمسجد السلفية المذهبية بمنطقة الإمام الشافعي، معتكفاً في مسجد الشيخ/ أسامة عبد العظيم (حفظه الله) وعلى الرغم من أنهم كانوا يصلون التراويح طوال الليل، أي بداية من صلاة العشاء، وحتى قرب أذان الفجر، لدرجة أننا كنا في بعض الأحيان لا نكاد ندرك طعام السحور؛ إلا أن صفاء الإجواء بحلاوتها الإيمانية؛ كانت تسيطر على مشاعر الجميع؛ لدرجة تحولت معها المشقة إلى لذة جميلة، لاسيما وأنها تمثل منافسة حميدة نحو الله والجنة، قال تعالى : (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ). الآية
ومن النوادر التي لا تنسى مع ذكر التطويل في صلاة التراويح، أن رجلاً كان عائداً على ما يبدو من عمله متأخراً، ولم يكن قد صلى العشاء، فدخل في الصلاة ظناً منه أنها صلاة العشاء، فلما رأى الشيخ لا يركع أبداً، حيث كان يصلي في بعض الأحيان بسورة البقرة على ركعتين، سحب نفسه بهدوء من الصف، وأخذ حذاءه ووقف على باب المسجد قائلاً : (دي صلاة دي؟ دي صلاة دي يا أولاد الك....) ثم أخذ ذيله في سنانه وفرَّ هارباً!! كاد بعض الإخوة أن يخرج من الصلاة من شدة مقاومته للضحك!!
وبمجرد انتهاء أيام الاعتكاف، وخروجنا لصلاة العيد في أجواء روحانية جميلة؛ بدأت رحلتي مع الفكر السلفي، ولكن نظراً لتنوع مدارس السلفية أيضاً بشبرا؛ فقد بدأ أنصار المدارس الأخرى ممن أعرفهم من (جمهورية العجائب الشبراوية) يقدحون في بقية المدارس، بما فيها مدرسة الشيخ/ أسامة عبد العظيم (حفظه الله) ويصفونهم بأنهم دراويش، بل ومتعصبين فقط لمذهب الإمام الشافعي (رحمه الله) لدرجة أنهم ذكروا لي عن بعض أتباعه المشهورين قوله : (ما صح عن الشافعي فهو مذهبي)!!
حاولت صرف كل أنواع التشكيك في أي جماعة عن ذهني، لاسيما وأن الجميع أصحاب عقيدة سليمة في نظري، وليسوا كالصوفية الذين هالني أمرهم منذ البداية!!
وجاء يوم له ذكرى كئيبة على نفسي، تسببت لا شعورياً في تقصبري عن الذهاب لمسجد الشيخ/ أسامة عبد العظيم (حفظه الله) على الرغم من مكانته الكبيرة في قلبي حتى الآن (حفظه الله) إلا أن الشبراوية بحماسهم الكبير، قد أصلوا بعض الثوابت الطيبة في قلبي، وعلى الرغم من فضلها، إلا أنها اصطدمت بوقائع ذلك الحادث المريع الذي وقع بجوار مسجد الشيخ (حفظه الله) أيام شهر رمضان من العام الذي يليه!!
وقبل أن استطرد في ذكريات ذلك الحادث، دعوني أذكر لكم أن تلك الثوابت التي تأصلت في نفسي، مفادها أن العزة لله ورسوله وللمؤمنين، وعليه فلم يكن مسموحاً لنصراني في شبرا أن يتجرأ على الإخوة الملتزمين بحال، على الرغم من أن حي شبرا كما يعلم الجميع، يمثل أكبر تجمع سكاني لنصارى مصر!!
وعلى الرغم من قلة عدد الملتزمين مقارنة لأعدادهم ذلك الوقت؛ إلا أنهم أرغموا النصارى على السير بحوار الحائط خوفاً ورعباً، وقد وقع ذلك بسبب ما قام به بعض سفهاء النصارى من تفجير بالون اختبار بالتجرأ على الملتزمين، فصدمتهم ردة الفعل الموجعة، بل والمفزعة في آن واحد من الإخوة هناك، وكان ذلك سبباً على ما يبدو في الحيلولة دون مجرد (تحديثهم لأنفسهم) بمحاولة تكرار تلك التجربة الأليمة!!
وأذكر على سبيل المثال حادثة قام فيها أحد بلطجية النصارى بتحدي رفاقه وهو جالس معهم ذات مساء على إحدى المقاهي، حين مرت أمامهم أخت منتقبة برفقة والدها العجوز، فقال لهم بمنتهى الجرأة والصلافة : (مين يراهني أكشف وش البت دي؟!) فراهنوه على ذلك، فقام فكشف عن وجه الأخت، فلما حاولت مقاومته؛ ضربها هي ووالدها العجوز، بل وأوقعهما على الأرض!!
طار الخبر كاالصاعقة في كل مكان، وخرج الإخوة من كل حدب وصوب، بعدما تم تعميم الخبر على جميع الزاويا والمساجد، فخرجت أفواجهم تسد عين الشمس من كل شارع وحارة، وتجمعوا حول منزل هذا الخنزير، وكانت واجهته كلها من الزجاج، حيث كان على ما يبدو من أغنياء الحي، فحطموا زجاجها تماماً وطرحوه أرضاً، ثم دخل ثلاثة عمالقة من لاعبي كمال الأجسام القدامي من الإخوة (ما شاء الله لا قوة إلا بالله عليهم) فأغلق بقية الإخوة باب المنزل دونهم، ليأخذوا راحتهم في تجريعه وجبة شهية من السحل والضرب المبرح، بل إن شئت فقل : من التربنة وفقدان الذاكرة!!
حيث قام أحدهم بالاستفراد برأسه وأشبع الجدران من دمه النجس!! بعدما كان الآخر قد (صفف شعره) بعمود خشبي (غليظ) من أعمدة البناء، فأحدثوا له (تربينة) في عقله، ناهيكم عن سحله من أعلى سلالم البناية إلى أسفلها، وأهله النصارى ينتحبون ويصرخون، ولكن لم يجرأ أحد على مجرد التفكير في الدفاع عنه؛ من هول ما يصب الإخوة عليه من وابل الضربات والصدمات!!
حضرت الشرطة وسيارة الإسعاف؛ لاستلام جثته؛ بعدما شفى الإخوة منه غليلهم، وقد ذهب إلى المستشفى وهو لا يزال به رمق من الحياة، ولكن من سوء حظ أهله؛ أنه وقع في يد مجموعة من أطباء الإخوان المسلمين الذين عرفوا قصته، فحرروا له تقريراً طبياً تحولت القضية على إثره إلى جنحة وليس إلى جناية، كنوع من التنكيل به من جهة، وحفاظاً على مؤدبيه، ونصرة لأختهم المسلمة من جهة أخرى!!
انعكست تلك الحادثة على نصارى شبرا، بمشاعر الخوف والهلع من تلك الظاهرة الجديدة التي بدأت تنتشر في شوارع شبرا (باسم السنية) لدرجة أنهم صاروا يقولون لبعضهم البعض، إياكم وهؤلاء (السنية) فهم كالوحوش الآدمية لا ترحم أحداً، فكل من سيتعرض لهم، سيلقى حتماً نفس المصير!! وعليه التزموا حدود الأدب، ولم يحاولوا التعرض للإخوة أو الأخوات من قريب أو بعيد، طوال فترة من الزمن!!
حتى أغوى الشيطان أحد أشقيائهم ذات يوم، فحمل سلاحه الآلي وهاجم أحد مساجد الإخوة في منطقة (الزاوية الحمراء) بخسة وجبن، حيث أطلق عليهم النيران من ظهورهم وهم يصلون العشاء؛ فقتل منهم عدداً ليس بالبسيط!!
كانت هذه الجريمة بفجاعتها؛ كفيلة باجتماع الإخوة من كافة أنحاء مصر، وليس من شبرا أو القاهرة فحسب؛ فحاصروا المنطقة بأسرها، وكلما أراد أحد السكان من (الرجال فقط) الدخول أو الخروج؛ كشفوا عن يديه؛ فإذا وجودوا بها صليباً طرحه السكان الغاضبون أرضاً، وذبحوه على الفور!! حتى كان بعضهم يقول : (بسم الله الله أكبر) ظناً منه أنه شرط لقبول عملية النحر!! (مزاح)
هزَّت هذه الحادثة مصر من أولها إلى آخرها، بعدما تعرضت الحكومة المصرية لضغوط دولية، اتهموها فيها باضطهاد الأقلية الصليبية في مصر!! ولكن الشاهد من الحديث أن تلك الحوادث بما حملته من ردة فعل شديدة من الملتزمين، أصَّلت معاني الخوف والرعب في قلوب الصليبيين، وأيقنوا بحتمية التزام حدود الأدب مع الملتزمين، والسير بجوار الجدران؛ تفادياً لردات الفعل التي لا قبل لهم بها بحال!!
أعود الآن لذكريات تلك الحادثة الأليمة بمسجد الشيخ / أسامة عبد العظيم (حفظه الله)، حيث أبت عليَّ تلك الأجواء الشبراوية المشتعلة بحماسها، قبول ردة الفعل المستكينة التي أبداها أتباع الشيخ (حفظه الله) حين قام أحد النصارى الذين لا تتجاوز أعدادهم أصابع اليد الواحدة من سكان منطقة الإمام الشافعي، برش الماء عمداً على أحد الإخوة المتوجهين للمسجد، فلوث ملابسه، فلما قام هذا الأخ بالسؤال على سبب قيام النصراني بذلك، تبجَّح عليه في الرد، وأمسك به مضارباً له؛ فاجتمع عليه النصاري من أصدقاء ذلك المجرم، ومزقوا وجهه (بالمطاوي) وشوهوه أيما تشويه، لدرجة حالت دون تجميع جلد وجهه وتخييطه بشكل مقبول!!
كان هذا الفعل يستوجب في رأيي القيام بردة فعل مناسبة، لأخذ حق الأخ المسلم ونصرته من جهة، ورد اعتبار المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان تلك المنطقة من جهة أخرى، إلا أن الأمر كان على العكس من ذلك تماماً!!
فقد رفض أتباع الشيخ القيام بأي شيء، حتى ولو بعمل تقرير في قسم الشرطة!! بل ونصحوا أخاهم بالصبر والاحتساب، تفادياً لوقوع فتنة بين المسلمين والنصارى، لأن في ذلك مفسدة عظيمة، والقاعدة الشرعية تقضي بدرء المفاسد لأنه أولى من جلب المصالح ... حاولوا إجراء العشرات من عمليات التجميل لأخينا المسكين الذي كان يعمل مهندساً دون جدى!!
حتى دفع وجهه المشوه زوجته لطلب الطلاق، حيث كانوا لا يزالون في مرحلة كتب الكتاب، وأذكر فيما تناقله الناس عنها قولها : كان بإمكاني الاحتساب لوجه الله تعالى؛ لو رأيت منه أو من جماعته ردة فعل تدل على النخوة، ولكن ما رأيته بصيب بالصدمة، يل يثير في النفس مشاعر اليأس والإحباط!!
وعلى إثر تلك الواقعة المؤلمة؛ بدأت البوصلة عندي تتجه نحو (السلفيةالجهادية) لما رأيت لديهم من حلول قاطعة، وردات فعل سريعة، استهوت ميولي الشبابية آن ذاك!!
فأخذت الأفكار تتبلور لدي وفقاً لذلك المنهج، واتخذت فصول حياتي منحى جديداً، ستكون أحداثه هي محتوى الحلقة القادمة بإذن الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
ما جاء في هذه الحلقة من العبر:
· الحسم مع النفس باعتزال أسباب الفتنة؛ من أهم عوامل ثبات الخطى على الطريق إلى الله!!
· نقاء العقيدة وصلاحها هو الأصل في بناء علاقة الأخوة الإسلامية، أما التنوع في الأفكار والمناهج التي تدندن حولها، فهو سنة باقية (ولا يزالون مختلفين)!!
· الحماسة أسرع الطرق لفتح مسامع قلوب الشباب، نظراً لتوافقها مع طاقتهم المخزونة!! ولكن غالباً ما تأتي بنتائج عكسية، ومن هنا اكتسبت خبرة الكبار ونصائحهم الغالية أهمبتها!!
واستودعكم الله إلى لقاء قريب مع الحلقة الثامنة إن شاء الله
تعليق