مذكرات تجربة
(الحلقة الثالثة)
أجواء الحرب بين الرعب والفرح!!
وتأتي الأحداث التي لا يمكن إزالتها من ذاكرة الطفولة، حيث أجواء الحرب التي خيمت فيها مشاعر الرعب والخوف على أيام حياتي، وذلك خلال نكسة حرب 1967م!! فلقد وجدت نفسي وأنا في الرابعة من عمري مجبراً على حشر جسدي الصغير بين أمي وأبي كل ليلة لا أبرحهما وهما يرقبان الغارات الجوية بجوار نافذة المنزل الحديدية، وذلك بعدما تم صبغ بقية النوافذ الزجاجية باللون الأزرق، ووضع عليها الورق اللاصق من أعلى إلى أسفل، وأصبح الليل بمثابة ساحة لتجول الأشباح في المنطقة بأسرها، وليس في منزلنا فحسب!! حيث لم يسمح لأحد بإيقاد ولو حتى شمعة صغيرة بعد سماع صفارات الإنذار خلال الغارات الإسرائيلية على مصر!!
فأصبحت ملازماً لجوارهما، ولم يسمح لي مطلقاً بالتحرك!! وكلما أبديت رغبتي في الذهاب إلى سلم المنزل؛ كي أصعد لأي شقة من شقق أقاربي، أو أسأل عن أي طفل منهم، سرعان ما ينهرونني، ويقولون لي : (إن الطائرات اليهودية إذا رأت أي جسم يتحرك على الأرض، فسوف تلقي قنابلها فوراً على منزلنا!!) فكنت أبالغ في الاختباء تحت إبطيهما؛ خوفاً من أن يحدث ذلك، وكنت أرى من بعد السماء المظلمة تضيء بين الحين والآخر؛ فأظن أن الطائرات قد ضربت بعض المنازل المجاورة، وأضحى لسان والدي لا يكف عن الدعاء، ألطف يارب!!
وتحول سلم البيت الذي كان مرتعاً للقائي مع أبناء العمومة يومياً لممارسة مختلف الألعاب، في مخيلتي كطفل إلى ساحة حرب، سوف يضربنا اليهود لو تحركنا عليها مرة أخرى!! وكلما أظلم الليل، سيطرت على النفوس نفس مشاعر الخوف والرعب لتكرار نفس المسلسل كل ليلة!!
أما في الصباح، فهناك مراسم أخرى للحزن والأسى، حيث كنا نتزاحم على نافذة البيت المطلة على الشارع الرئيسي؛ بمجرد سماعنا أن سيارت الجيش قد وصلت؛ لنرى نعوش الجنود تنزل منها أمام قهوة الحاج حسن، فتتجمع الأهالي على تلك النعوش؛ لمعرفة هوية القتلى!!
ويهرع هذا من هنا، وذاك من هناك، ليخبروا أهاليهم؛ فتخرج النساء أفواجاً أفواجاً من بين السكك والحواري بأصوات الصراخ والعويل تلطم الخدود وتشق الجيوب!!
وكان هذا المنظر يومياً على مدار أيام الحرب، يبعث في النفوس الحسرة والأسى، وكنت أرى الدموع في عيون الكبار من حولي تبكي زهرة شباب هؤلاء الفتية، وكيف أن هذا الشاب أو ذاك كان على وشك الدخلة أو كتب الكتاب، والآخر الذي رزق حديثاً بمولود!! فأثارت هذه الأجواء المحزنة في نفسي كطفل الكثير من التساؤلات!!
من قتل هؤلاء الناس؟! وإذا كان اليهود الملاعين، فلماذا لم نقتلهم؟! أليس عندنا طائرات مثلهم؟! ألسنا أقوى منهم؟! أليست الأناشيد الحماسية التي نسمعها صباح مساء تصور جنودنا كالأسود البواسل؟! فماذا حدث لهم؟!
لم أستطع البوح بتلك الأسئلة أو التعبير عنها لأحد نظراً لصغر سني!! وبالتالي لم يسعفني أحد بأي نوع من الإجابة الشافية عليها!! ولكنني أصبحت متعلقاً فقط بهذه الأناشيد الحماسية التي ما فتئت إذاعة (صوت العرب) ترددها صباح مساء، لعلها تحدث في نفوس الجنود ما أحدثته في نفسي من الحماس المتوهج وأنا الطفل، فيأخذون بثأرنا من هؤلاء الأوغاد!! ولعل أخبار ذلك الانتقام الحتمي، تأتي بعد هذا النشيد أوذلك!! وانتظرت طويلاً . . غير أن أخبار انتقامنا لم تأت!!
وبدأت أستمع إلى أحاديث والدي مع أعمامي، ووالدتي مع عماتي، وفهمت من خلاصتها أن الهزيمة كانت قاسية، وأنه قد تم سحق جيشنا براً وجواً وبحراً!! وأن مصر كلها قد هزمت!! وأن اليهود انتصروا علينا!! يعني بمنطق الطفولة . . قد ضاع كل شيء!! وزهقت هذه الأرواح سدى، ولن يأخذ أحد بثأرها!! هذا ما جعل الشعور بالحنق على اليهود يبلغ ذروته!! وامتزج هذا الشعور بالحسرة على عدم استطاعة جيشنا الرد عليهم!!
ولكن هذا العجز في المقابل انعكس على نفسيتي بالخوف على أسرتي وأمي وأبي من قذائف الطائرات التي لن يستطع جيشنا إيقافها لوما قررت قذف بيتنا!! فأصبحت أخاف من الليل!! ومن لون النافذة الأزرق!! ومن قهوة الحاج حسن والساحة التي كانوا ينزلون فيها النعوش أمامها!!
فلم أجد بداً من الشحن الذاتي لنفسي؛ للصمود وعدم الخوف من هؤلاء الأوغاد!! فأصبحت أردد دوماً بصوت عالٍ في صعودي ونزولي، لعل من في طائراتهم يسمع صوتي : (حنحارب . . حنحارب . . إسرائيل الأرانب) !!
ولم نجد نحن الأطفال ما نسري به عن أنفسنا، سوى تقسيم أنفسنا إلى فريقين، فريق يمثل الجيش المصري، وفريق آخر يمثل الجيش الإسرائيلي، وكنت بالطبع في الجيش المصري، حيث أبت عليَّ نفسي أن أمثل دور هؤلاء الأوغاد حتى ولو في اللعب!!
ولكن وا أسفاه على شقيقي مجدي الذي كان يكبرني بأربع سنوات، وذلك لأن قرعته دائماً ما كانت توقعه تحت يدي كجندي إسرائيلي، حيث كان يناله من البطش والضرب والتنكيل ما الله به عليم!! وكنت كلما أشتد عليه في الضرب بيدي وبكل ما طالته يدي، كلما ازدادت قهقهته من شدة الضحك لما يراه من شدة انفعالي، وما يحمله من غلٍ وغيظٍ على اليهود، فنال المسكين ما لم يخطر على باله من شتى أنواع الضرب والنهش، وكانت أمي تنزعه من تحت أسناني ولكماتي وهي تصرخ قائلة: (أخوك يا ولد عنده الربو حايموت في أيديك) فيخرج من تحت يدي محمر الوجه، لا يكاد يستطيع أخذ نفسه من شدة الضحك والاختناق معاً تحت وقع الضرب، ولكنه لا يلبث يسيراً حتى يصطنع بملامح وجهه شكلاً عدائياً كأحد وجوه اليهود، ثم ينطق ببعض العبارات الاستفزازية لإثارتي، ومن ثم ينطلق هارباً كي أحاول الإمساك به مجدداً؛ ولتبدأ علقة ساخنة من جديد!! وكأنه ما يحرَّم!! فتضحك أمي وتقول : (يا ولد يا مجدي أنت لسه فيك نفس؟!).
شحن الأجواء والتعبئة العامة
استمرت أجواء الحرب تسيطر على نفوس جميع طوائف الشعب المصري فترة طويلة من الزمن، شيوخاً وأطفالاً!! رجالاً ونساءً!! فالكل يريد إزالة العار ومحو الهزيمة، (فياله من شعب لو قاده رجال)!!
وصار الحديث عن سحق إسرائيل، وحتمية الأخذ بالثأر، وانتشار صور مذابح أطفالنا في مدرسة بحر البقر التي تفرقت فيها الأشلاء في كل مكان؛ تملأ جدران البلد، لشحن الجو العام سواء في المدارس أو الشوارع أو المساجد، وحتى الأسواق!!
وأراد الله أن يخفف عن هذا الشعب المسكين، ببعض المبشرات التي كانت تأتيه عبر الأخبار عن حرب الاستنزاف، وما تحدثه من نكايات متفرقة بالعدو، ولكن جاءت الصدمة الموجعة، حين أستيقظت صباح يوم من الأيام، فوجدت الشعب كله يرتدي اللون الأسود، والأعلام السوداء توزع مجاناً هنا وهناك، ولم تخل نافذة أو سطح بيت إلا وقد وضع عليه علم أسود!! فالشوارع تكدست بآلاف الجماهير حتى لم يبق فيها موضع قدم!! حتى سمعت نحيب النساء يعلو كل مكان، والناس تهتف قائلة : (الوداع يا جمال يا حبيب الملايين!!) فعرفت أن الرئيس جمال عبد الناصر قد مات!! وأن ردة فعل الخبر قد شملت كل أنحاء البلد، فخرج الشعب كله مودعاً له!! فاعتبرت الأمر في نفسي تتمة المصائب التي وقعت على كاهل هذا الشعب المسكين!!
وجاءت رياح الفرج!!
حاول الناس التغلب على أحزانهم، لمواجهة العدو المتربص (إسرائيل)!! وتولى زمام الحكم أنور السادات، الذي لم يكن له أن يحيد عن مسار سلفه، ويستمر في شحن الأجواء في اتجاه المواجهة الحاسمة مع اليهود، حتى جاء يومٌ أشرقت فيه شمس جديدة، أذهبت بنورها جميع مخاوفي من الليل!!ومن لون الزجاج الأزرق!!بل وحتى من الصعود على السلم ليلاً!!
لقد جاءت رياح النصر في يوم العاشر من رمضان، الموافق السادس من أكتوبر عام 1973م حيث انطلقت زغاريد الفرح هنا وهناك!! وانطلقت أناشيد النصر تقول: (عبرنا الهزيمة يا مصر يا عظيمة)!!
لقد جاءت سيارات الجيش هذه المرة، ولكن ليس لتنزل نعوش الجنود القتلى!! وليس إلى الساحة المقابلة لقهوة الحاج حسن!! إنما جاءت لبيتنا مباشرة!! وفي طوابير ما أروعها!! تملأ العين سروراً وبهجةً!!
جاءت لتحمل وجبات الأطعمة المجففة التي قام أهل الحي بإعدادها تحت قيادة الوالدة (رحمها الله) للجنود في خط النار الأول!! فلقد أرسل خالي الضابط ذو الرتبة العالية في الجيش تلك السيارات بناء على طلب والدتي التي جمعت أهالي الحي مع عماتي والأقارب، لمساعدتها في إعداد آلاف الوجبات المجففة للجنود، حيث قرر والدي (رحمه الله) رصد مبلغ مالي كبير لهذا الغرض، فكانت النساء يصنعن الأقراص المحشوة بالعجوة، والأطفال يذهبون بها إلى أفران الحي، ثم بعد العودة نقوم بتعبئتها مع المعلبات في عبوات خاصة!! ومن ثم نقوم بحمل مئات العبوات وننزل بها؛ لنسلمها للجنود الذين كانوا ينتظروننا أمام المنزل!!
كانت البسمة تملأ شفاههم، في مشهد ينم على روح من التلاحم الرائع بين الشعب وبين الجيش في مواجهة الصهاينة الملاعيين!!
لقد كان كل شيء في عيني يضحك، بل يطير فرحاً وسروراً في هذه اللحظات!! لقد كانت الدنيا كلها تنشد كلمات النصر!! حتى شعرت بأن السماء تلقي زهوراً تعبق الأجواء بعطرها!! والأرض تهتز فرحاً تحت أقدامنا!! لقد وددت بمشاعر الطفولة البرئية أن أعانق كل أحد!! بل وأقبل كل أحد!! من أعرف ومن لا أعرف!! لقد كان مهرجاناً للنصر كبير!! تحدوه هتافات (الله أكبر) هذا النداء الذي تقهقرت أمامه قوة إسرائيل التي ادعوا يوماً أنها لا تقهر!!
إيه ياشعب مصر . . هكذا كنت ومن أجل ذلك لابد أن تبقى، قائداً للأمة نحو النصر والفتح المبين!!
لقد انتصرنا على اليهود الأوغاد أبناء بني صهيون، غير أن التاريخ قد كشف لنا عملاءً لليهود من جلدتنا، ويتسمون بأسمائنا، وينطقون بألسنتنا، غير أنهم أشد ولاء لليهود من أنفسهم، وأخس حقارة من اليهود على أبناء جلدتهم!!
لقد كشف التاريخ أن هزيمة 67 إنما جاءت جزاءً وفاقاً لتلك العصابة المجرمة التي كانت تحكم البلاد بقيادة عدو الله جمال عبد الناصر، وتحارب الله ودينه وأولياءه المؤمنين، فكان هذا الخزي على أيدي أحقر الخلق أنسب جزاء لهم، ولكن يا للأسف تحمل تبعاته معهم هذا الشعب المسكين!!
كما كشف التأريخ أن حرب 73 إنما كانت تمثيلية ديكورية، تمهد الطريق أمام اتفاقية الذل والهوان المسماة بـ (كامب ديفيد) لإجراء الصلح مع بني صهيون، وتسوية أوضاعهم وجعل دولتهم الغاصبة واقعاً مريراً في قلب أمتنا الإسلامية!! وقد لعب الإعلام الخبيث دوره في استغفال الأمة!!
ولكن يأبى الله لهذا المسلسل الهزيل أن يدوم، ولن تقوم الساعة كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يقول الحجر والشجر، يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا شجر الغرقد، فإنه من شجر اليهود!!
هذه الحرب لن يكون قائدها عميلاً للموساد ولا عبداً ذليلاً للبيت الأبيض، وإنما سيكون قائداً ربانياً، يسمع كلام الله ويسمعنا!! ينقاد للشرع ويقودنا!! يهب روحه لله قبل أرواحنا!! يلهب القلوب والأرواح شوقاً للشهادة وينشدها!!
فاللهم إنا نسألك أن تُعجل لنا بقيادته، وأن تجعلنا جنداً تحت رايته، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
---------------------------------------------
ما جاء في هذه الحلقة من العبر
· عاطفة الشعب المصري، فرحاً وحزناً حماساَ وسخطاً من أقوى العواطف على وجه الإطلاق، وشعبها من خير أجناد الأرض لو توفرت لهم القيادة الربانية.
· أثر دور الإعلام في استغفال الشعوب، أو توعيتها كأثر السحر!!
· يأبى التاريخ إلا أن يفضح عمالة العملاء مهما تباعد الزمن!!
· سوف تشهد عودة الخلافة صحائف من نور، سوف يسطرها التاريخ على أيدي جند مصر (وانتظروا إني معكم من المنتظرين)!!
واستودعكم الله إلى لقاء قريب مع الحلقة الرابعة إن شاء الله
تعليق