مذكرات تجربة
(الحلقة الثانية)
(الحلقة الثانية)
أول لقاء مع الموت!!
تعودت بمجرد ما أفتح عيني كل صباح، أن أصعد هارباً إلى شقة جدتي (رحمها الله) فتتبعني والدتي بالإفطار الذي أتناوله في أجواء تلك القصص الجميلة التي كانت تقصّها عليَّ جدتي، وأمامها (السبرتاية) الخاصة بقهوتها، والتي كانت تحضرها لها أمي كل صباح، وكانت هذه الحكايات ممزوجة ما بين الدين والدنيا، أو تاريخ مصر أيام الإنجليز، وعلى الرغم من عدم فهمي لمعظم ما تقوله تقريباً، إلا أنه كان ينبغي عليَّ التأكد من بقاء الشريط شغال (بفائدة وبغير فائدة) حتى اكتفي من الحكايات وأعتقها لوجه الله الكريم، ثم أذهب إلى اللعب مع أبناء العمومة، الذين التحقوا بي مؤخراً بعدما أغويتهم لسماع تلك الحكايات، فازداد الهم على الجدة (رحمها الله) بزيادة هذا العدد الكبير، حتى قامت الوالدة بتطفيشنا جميعاً من حولها، بسبب ما كنّا نسببه لها من إزعاج وإرهاق!!
ما أتذكره فقط أنها كانت تدعو دائماً لوالدتي بأحرّ الدعوات، ولما اشتد عليها المرض، حاولت عمّاتي أخذها؛ للعناية بها عند أي منهن، فلم ترض جدتي بديلاً عن والدتي (رحمها الله)!!
ولم أكن أستوعب أنها لن تقوم من مرضها هذا، فكنت أحياناً ألعب عند رأسها، وأحياناً أخرى اختبئ تحت سريرها، المهم ألا أتركها في حالها أبداً، على أمل أن تنهض وتواصل حكاياتها اليومية لي، وبالطبع لم يكن نصيبي من والدتي سوى الزجر الشديد؛ حتى أتركها تنعم بالراحة والاسترخاء.
حتى جاء اليوم الموعود، والذي سمعت فيه أصوات الضجيج تملأ أرجاء البيت، فواحد يقول نادوا الطبيب أو اتصلوا بالإسعاف بسرعة، وآخر يقول خلاص ما في فايدة (إنا لله وإنا إليه راجعون)!! والثالث جالس يبكي وينتحب مثل الأطفال!! وأنا بينهم كالتائه لا أعرف ماذا يدور!! حتى سمعت أحدهم يقول: (نانا ماتت)!!
لم أستوعب هذه العبارة تماماً، وظننت أنهم يعنون أنها في حالة خطرة جداً، أو أن هناك إجراءات أخرى استثنائية لابد من اتخاذها حتى تُشفى!!
ولم أستوعب أخيراً حقيقة ما يقولونه، حتى صعد أبي (رحمه الله) ووقف على باب غرفتها راكناً يده على إطار الباب المفتوح، وواضعاً رأسه على يده؛ وهو ينظر إليها ودموعه تنهمر انهماراً على خديه، وجسده ينتفض من شدة النحيب دون صوت عالٍ، فتسللت من تحت يديه إلى داخل الغرفة، وألقيت عليها نظرة؛ محاولاً فهم ما يدور، فوجدتها مستلقاة على السرير في ثبات تام، وقد وضعوا الغطاء على وجهها في منظر ألقى في روعي أنه لا حراك بعده أبداً، فأدركت أنها النهاية!!
وكان هذا أول لقاء لي مع الموت!!
تأثرت تأثراً شديداً بموت جدتي، حيث شعرت بالوحدة على الرغم من امتلاء المنزل بالأقارب، إلا أن أجواء فراقها كانت هي المسيطرة على معظم ساعات يومي، لافتقادي تلك اللحظات التي كانت تجمعني بها صباح كل يوم للاستماع إلى قصصها وحكاياتها الجميلة.
وأصبحت أترصد وجه كل امرأة عجوز تزورنا في المنزل بعد ذلك؛ لعلي أجد من بينهن من تشبه جدتي، أو لعل جدتي تعود لي من جديد (حسبما تقتضي أمنيات الطفولة البريئة) كي تأخذني بين أحضانها وتقص عليَّ حكاياتها الجميلة من جديد!!
إلا أنني استوعبت على صغر سني أن الموت يعني النهاية والانتزاع الذي لا رجعة فيه من بين الأحبة والخلان!! فكنت أرثي لحالي بفقدانها، وأرثي لحالها لفقدان هذه الأجواء الجميلة التي خلفتها وراءها من الأحفاد والأبناء (أسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته).
البديل وبداية التعلق بحب العمل الخيري
جاء اليوم الموعود، ودخلت بيتنا امرأة عجوز، أشبه ما تكون شكلاً بجدتي، حيث سماحة الوجه وبشاشته، وكانوا ينادونها بـ (أم أحمد) وقد طلبت منها أمي الحضور لمساعدة الخادمة الأخرى في القيام بأعمال المنزل؛ نظراً لكثرتها وعدم استطاعة الخادمة الأولى بمفردها القيام بها، فكانت هذه المرأة فرحة ومسرورة بعملها الجديد عندنا، نظراً لما كانت تجود به أمي (رحمها الله) عليها نهاية كل يوم، حيث كنت أسمعها عند انصرافها تدعو للوالدة خير الدعاء.
ولدى حضورها في اليوم التالي، كنت أتحين الفرصة للهروب من والدتي، وإحضار مقعد صغير للجلوس بجوارها أثناء قيامها بغسل الملابس؛ كي أتجاذب معها أطراف الحديث، لعلي أنجح رويداً رويداً في إقناعها أن تحتل مكان جدتي في حكاية القصص الجميلة، وبالفعل استطاعت أم أحمد أن تملاً شيئاً من الفراغ الذي خلفته وفاة جدتي!!
ونشأت بيننا علاقة حميمة كجدة وحفيدها، غير أنها تأخرت ذات يوم، فسألت أمي عليها إحدى صديقاتها، فأخبرتها بأنها مريضة!! وعلى الفور، نادتني أمي وقالت لي: (ما رأيك في أن أرسل معك بعض الطعام لأم أحمد لأنها مسكينة مريضة جداً، وليس عندها من يعد لها الطعام!!
وسوف أراقبك من النافذة لأرشدك إلى بيتها القريب جداً من منزلنا، فسوف تفرح كثيراً حينما تراك أمامها، فأنا أعرف جيداً كم تحبها وتحبك!!) كاد عقلي يطير من شدة الفرحة!! ووافقت على الفور، وتجهزت وحملت الحقيبة التي بها الطعام، ونزلت تنطوي درجات السلم تحت قدمي كالريح، وما أن خرجت من باب المنزل إلى الشارع حتى نظرت عاليا لأعرف من أمي أين المنزل؟
فأشارت لي على البيت الثالث من جهة اليمين بعد أول منزل مجاور لنا، فوجدت باباً خشبياً متهالكاً، ولم أعرف في أي موضع يمكنني طرقه!! فأشارت إلى أن ادفع الباب وادخل مباشرة، وقد كان بالفعل يمثل الباب العمومي لمنزل القديم، أي أنني مهما طرقت فلن يجيبني أحد!!
دخلت فوجدت نفسي أسبح في ظلام دامس، ورويداً رويداً بدأ يظهر أمامي ظل امرأة كانت على ما يبدو تغسل الملابس في حوش هذا البيت، وسألتني (عاوز مين يا حبيبي؟) فقلت لها أم أحمد، ففرحت وسرعان ما نهضت لإرشادي إلى غرفتها، حيث عرفت فيما بعد أن هذا البيت كان عبارة عن غرف مقسمة، كل أسرة تسكن غرفة!!
طرقت المرأة باب أم أحمد، وفتحته بيدها وقالت تفضل، أم أحمد نائمة مريضة ما تستطيع القيام، فدخلت إلى غرفة مظلمة، وحددت بناء على قليل من الضوء الخافت القادم من ثقوب النافذة المتهاكلة موضعها، لا أستطيع أن أصف لكم كيف كانت فرحتها بقدومي، وبالطعام الذي حملته لها بيدي وأنا في هذه المرحلة الصغيرة من العمر، فلقد رأيت وجهها يتلألأ فرحاً وسعادة، ولم يتوقف لسانها عن الدعاء لي وللوالدة لحظة واحدة منذ دخولي وحتى خروجي من غرفتها، غير أني رأيتها تمسح الدموع عن عينيها وهي تلهج بالدعاء، فلا أدري والله، هل كانت تلك الدموع، دموع فرح بقدومي؟! أم كانت دموع فرح بتفريج همٍ؟! أم دموع الأسى كوني رأيتها على مثل هذه الحال؟! أم دموع الألم من المرض الشديد الذي ألم بها؟!
كل الذي أدريه أن هذه الدموع قد ألهبت وجداني!! وأثارت في نفسي الكثير من العبر التي وودت البوح بها تعبيراً عن فرحتي بفرحها، ومدى حبي لها، ولكن كل هذه العبارات اختنقت بتلك العبرات التي انهمرت من عينيها!! وبعجزي كطفل عن التعبير عنها بوضوح.
إلا أن الموقف برمته، هزَّ قلبي هزاّ عميقاً من الداخل!! وكأن صوتاً بداخلي يقول: "يالله . . كم هي عظيمة تلك اللحظات التي تبدل فيها كرب مكروب إلى فرح وسرور؟!) إنها بالفعل أعظم شيء في الحياة، بل أعظم ما في هذه الدنيا بأسرها، فقد تمنيت من أعماق قلبي أن أقول لها بطفولتي :
"لا تخافي يا أم أحمد، لن أتركك تذهبي مني كما ذهبت مني جدتي!! سأكون عندك في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة!!
وددت ألا أفارقها حتى يذهب عنها المرض والفقر والجوع، ووددت أن أعمل لها كل شيء، فتلك الابتسامة الممزوجة بالدموع، قد فعلت بي الأفاعيل!!
لقد أعطتني أبعاداً أخرى للحياة!! تمنيت على إثرها أن أنزل جميع نقماتي على كل معاني الأنانية، التي جعلت الأغنياء لا يبالون بهؤلاء البؤساء الذين يعيشون على هامش الحياة؛ ويتجرعون ألوان البؤس والحرمان والفقر والمرض!!
رجعت إلى بيتي محاولاً تطبيق ما انتابني من مشاعر، فحرمت على أسرتي _ وأنا الطفل الصغير _ تناول طعام الغداء كل يومٍ حتى تتناوله أم أحمد!! أرسله لها بيدي كل يوم، لاستمتع بمشاعر فرحها وسرورها، وأتجرع شحنة جديدة من جميل معاني الحياة، ثم أرجع لهم كي أعطيهم إشارة البدء؛ لنبدأ نحن في تناول وجبة الغداء!!
كانت أمي منبهرة وسعيدة بفعلي هذا!! وكانت تحكي لوالدي بعد عودته من العمل ليلاً، فتدمع عيناه فرحاً بحسن صنيعي، فيأخذني بين أحضانه ويقبلني قائلاً :"بارك الله فيه هذا الشيخ الصغير"!!
المأساة . . واللقاء الثاني مع الموت
استمر الوضع على هذه الحالة سنوات، حتى بلغت المرحلة الابتدائية، وكنت بمجرد عودتي من المدرسة أجد وجبة غداء أم أحمد جاهزة ومعدة، فآخذها في يدي وأنزل بها فوراً إليها، حتى اشتهرت قصة صداقتي الحميمة مع جدتي الثانية أم أحمد بين أبناء الحي، وهي في كل يوم تنتظرني حسب الموعد المحدد تماماً، لأخذ الصحون القديمة وأستبدلها بوجبة غداء يوم جديد، وكعادتها لا تبخل علي بفيض دعائها، حتى أصبح صوتها الحبيب مألوفاً لدي صباح مساء.
وجاء اليوم الموعود . . حيث عدت من المدرسة كعادتي ظهراً، فألقيت بالحقيبة على أول مقعد بجوار الباب، وتوجهت مباشرة إلى المطبخ منادياً على والدتي، فلم أجدها هناك، ولم أجد أي شيء جاهز كي آخذه بيدي لأم أحمد!! بحثت عنها فلم أجدها!! ولكن لاحظت علامات الحزن على وجوه من كان موجوداً بالبيت حيينها!!
فسألتهم؟ أين أمي؟ وأين طعام أم أحمد؟! فانفجرت الخادمة باكية!! وتبعتها عمتي وأخذتني في حضنها قائلة، البقاء لله يا ابني!! أم أحمد ماتت اليوم صباحاً، ولكن أهل الحي قرروا تأخير جنازتها حتى ترجع من المدرسة وتودعها!!
كادت الأرض تتزلزل تحت قدماي!! حيث خطفت تلك الكلمات قلبي خطفاً!! وأطبق الصمت على لساني فلم أعد أستطيع الكلام مطلقاً، فنظرت حولي في ذهول، فوجدت مساحة البيت الفسيح، قد انحصرت فقط في الركن الذي كانت تضع أمي فيه الطعام لأم أحمد يومياً!!
لم أر أمامي سوى هذا الركن!! فتوجهت إليه بخطى بطيئة، وجلست فيه منكسراً على الأرض، واضعاً رأسي بين ركبتي . . ووالله لكأنني أعايش هذه اللحظات الآن!! وانظر إلى نفسي وقد سالت الدموع من عيني !! أو إن شئت فقل . . انفجرت الدموع الصامتة تحكي بحرارتها ذكريات العطف والود والحنان . . وتشكو تجرع قسوة فقدان الحبيب الثاني على التوالي، تماماً كما حدث مع الحبيب الأول على حين غرةٍ!!
لقد ذهبت أم أحمد!! ذهبت بما تعنيه هذه الكلمة من معاني حرماني لرؤية ابتسامتها البشوشة المشرقة التي كانت تمسح عن قلبي يومياً عناء شوقي الطويل لمعاودة لقائها!! ذهبت لتحرمني سماع جميل صوت دعائها!!
لم أشعر وسط انهماكي بالبكاء والتفكير سوى بيد والدتي وهي تحاول إيقافي على قدمي وتقول، تعالى يا حبيبي، أم أحمد مش راضية تمشي إلا لما تشوفها، والله أهل الحي بينادوا من تحت ويقولوا نعش أم احمد واقف عند البيت عاوزة تشوفك!!
أسرعت نحوها والدموع تملأ عيناي، ووالله لم تكد قدماي تحملاني وأنا أودعها، والكل يتأسى لحالي، وكأني ولدها الوحيد الذي أنجبته، ثم ذهبوا بنعشها بعيداً، فأشرت إليها بيدي، وكأني أقول لها مع السلامة يا أم احمد (حتوحشيني)!!
ووالله كأني أسمع صوتها من داخل النعش يقول، شكراً لك يا ولدي على كل ما قدمت، سوف أفتقدك يا ولدي في غربة طويلة بعيدة، ولكن حتماً . . سيكون اللقاء!!
ماتت أم أحمد . . ولكنها ولَّدت في قلبي معاني جميلة، استشعرتها تماماً برغم صغر سني، وذقت حلاوتها بالفعل في عمر مبكرة، وما أرجوه من الله أن يعلَّق قلوبنا بها دوماً، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
وأكرر أسفي لهذا الاسترسال الذي لم أستطع بالفعل كبح جماحه؛ حينما قرر أن يسترسل القلم، فالمعذرة منكم إخواني أجمعين.
ما جاء في هذه الحلقة من العبر :
· قد يؤثر فيك موقفاً عايشته في الصغر، فيؤصل فيك معاني جميلة؛ ربما تستمر معك مدى الحياة.
· تشجيع الوالدين للطفل على الخصال الحميدة، من أهم عوامل تفعيل معاني الفطرة السليمة في قلبه، بحيث تنقش عليه كالنقش على الحجر، وتكون له خير مرشدٍ خلال سنوات حياته.
· أفعال الصغار التي تفوق أعمارهم، يكون لها أكبر الأثر في قلوب الكبار، باعتبارها غير متوقعة منهم!!
واستودعكم الله إلى لقاء قريب مع الحلقة الثالثة إن شاء الله
ما أتذكره فقط أنها كانت تدعو دائماً لوالدتي بأحرّ الدعوات، ولما اشتد عليها المرض، حاولت عمّاتي أخذها؛ للعناية بها عند أي منهن، فلم ترض جدتي بديلاً عن والدتي (رحمها الله)!!
ولم أكن أستوعب أنها لن تقوم من مرضها هذا، فكنت أحياناً ألعب عند رأسها، وأحياناً أخرى اختبئ تحت سريرها، المهم ألا أتركها في حالها أبداً، على أمل أن تنهض وتواصل حكاياتها اليومية لي، وبالطبع لم يكن نصيبي من والدتي سوى الزجر الشديد؛ حتى أتركها تنعم بالراحة والاسترخاء.
حتى جاء اليوم الموعود، والذي سمعت فيه أصوات الضجيج تملأ أرجاء البيت، فواحد يقول نادوا الطبيب أو اتصلوا بالإسعاف بسرعة، وآخر يقول خلاص ما في فايدة (إنا لله وإنا إليه راجعون)!! والثالث جالس يبكي وينتحب مثل الأطفال!! وأنا بينهم كالتائه لا أعرف ماذا يدور!! حتى سمعت أحدهم يقول: (نانا ماتت)!!
لم أستوعب هذه العبارة تماماً، وظننت أنهم يعنون أنها في حالة خطرة جداً، أو أن هناك إجراءات أخرى استثنائية لابد من اتخاذها حتى تُشفى!!
ولم أستوعب أخيراً حقيقة ما يقولونه، حتى صعد أبي (رحمه الله) ووقف على باب غرفتها راكناً يده على إطار الباب المفتوح، وواضعاً رأسه على يده؛ وهو ينظر إليها ودموعه تنهمر انهماراً على خديه، وجسده ينتفض من شدة النحيب دون صوت عالٍ، فتسللت من تحت يديه إلى داخل الغرفة، وألقيت عليها نظرة؛ محاولاً فهم ما يدور، فوجدتها مستلقاة على السرير في ثبات تام، وقد وضعوا الغطاء على وجهها في منظر ألقى في روعي أنه لا حراك بعده أبداً، فأدركت أنها النهاية!!
وكان هذا أول لقاء لي مع الموت!!
تأثرت تأثراً شديداً بموت جدتي، حيث شعرت بالوحدة على الرغم من امتلاء المنزل بالأقارب، إلا أن أجواء فراقها كانت هي المسيطرة على معظم ساعات يومي، لافتقادي تلك اللحظات التي كانت تجمعني بها صباح كل يوم للاستماع إلى قصصها وحكاياتها الجميلة.
وأصبحت أترصد وجه كل امرأة عجوز تزورنا في المنزل بعد ذلك؛ لعلي أجد من بينهن من تشبه جدتي، أو لعل جدتي تعود لي من جديد (حسبما تقتضي أمنيات الطفولة البريئة) كي تأخذني بين أحضانها وتقص عليَّ حكاياتها الجميلة من جديد!!
إلا أنني استوعبت على صغر سني أن الموت يعني النهاية والانتزاع الذي لا رجعة فيه من بين الأحبة والخلان!! فكنت أرثي لحالي بفقدانها، وأرثي لحالها لفقدان هذه الأجواء الجميلة التي خلفتها وراءها من الأحفاد والأبناء (أسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته).
البديل وبداية التعلق بحب العمل الخيري
جاء اليوم الموعود، ودخلت بيتنا امرأة عجوز، أشبه ما تكون شكلاً بجدتي، حيث سماحة الوجه وبشاشته، وكانوا ينادونها بـ (أم أحمد) وقد طلبت منها أمي الحضور لمساعدة الخادمة الأخرى في القيام بأعمال المنزل؛ نظراً لكثرتها وعدم استطاعة الخادمة الأولى بمفردها القيام بها، فكانت هذه المرأة فرحة ومسرورة بعملها الجديد عندنا، نظراً لما كانت تجود به أمي (رحمها الله) عليها نهاية كل يوم، حيث كنت أسمعها عند انصرافها تدعو للوالدة خير الدعاء.
ولدى حضورها في اليوم التالي، كنت أتحين الفرصة للهروب من والدتي، وإحضار مقعد صغير للجلوس بجوارها أثناء قيامها بغسل الملابس؛ كي أتجاذب معها أطراف الحديث، لعلي أنجح رويداً رويداً في إقناعها أن تحتل مكان جدتي في حكاية القصص الجميلة، وبالفعل استطاعت أم أحمد أن تملاً شيئاً من الفراغ الذي خلفته وفاة جدتي!!
ونشأت بيننا علاقة حميمة كجدة وحفيدها، غير أنها تأخرت ذات يوم، فسألت أمي عليها إحدى صديقاتها، فأخبرتها بأنها مريضة!! وعلى الفور، نادتني أمي وقالت لي: (ما رأيك في أن أرسل معك بعض الطعام لأم أحمد لأنها مسكينة مريضة جداً، وليس عندها من يعد لها الطعام!!
وسوف أراقبك من النافذة لأرشدك إلى بيتها القريب جداً من منزلنا، فسوف تفرح كثيراً حينما تراك أمامها، فأنا أعرف جيداً كم تحبها وتحبك!!) كاد عقلي يطير من شدة الفرحة!! ووافقت على الفور، وتجهزت وحملت الحقيبة التي بها الطعام، ونزلت تنطوي درجات السلم تحت قدمي كالريح، وما أن خرجت من باب المنزل إلى الشارع حتى نظرت عاليا لأعرف من أمي أين المنزل؟
فأشارت لي على البيت الثالث من جهة اليمين بعد أول منزل مجاور لنا، فوجدت باباً خشبياً متهالكاً، ولم أعرف في أي موضع يمكنني طرقه!! فأشارت إلى أن ادفع الباب وادخل مباشرة، وقد كان بالفعل يمثل الباب العمومي لمنزل القديم، أي أنني مهما طرقت فلن يجيبني أحد!!
دخلت فوجدت نفسي أسبح في ظلام دامس، ورويداً رويداً بدأ يظهر أمامي ظل امرأة كانت على ما يبدو تغسل الملابس في حوش هذا البيت، وسألتني (عاوز مين يا حبيبي؟) فقلت لها أم أحمد، ففرحت وسرعان ما نهضت لإرشادي إلى غرفتها، حيث عرفت فيما بعد أن هذا البيت كان عبارة عن غرف مقسمة، كل أسرة تسكن غرفة!!
طرقت المرأة باب أم أحمد، وفتحته بيدها وقالت تفضل، أم أحمد نائمة مريضة ما تستطيع القيام، فدخلت إلى غرفة مظلمة، وحددت بناء على قليل من الضوء الخافت القادم من ثقوب النافذة المتهاكلة موضعها، لا أستطيع أن أصف لكم كيف كانت فرحتها بقدومي، وبالطعام الذي حملته لها بيدي وأنا في هذه المرحلة الصغيرة من العمر، فلقد رأيت وجهها يتلألأ فرحاً وسعادة، ولم يتوقف لسانها عن الدعاء لي وللوالدة لحظة واحدة منذ دخولي وحتى خروجي من غرفتها، غير أني رأيتها تمسح الدموع عن عينيها وهي تلهج بالدعاء، فلا أدري والله، هل كانت تلك الدموع، دموع فرح بقدومي؟! أم كانت دموع فرح بتفريج همٍ؟! أم دموع الأسى كوني رأيتها على مثل هذه الحال؟! أم دموع الألم من المرض الشديد الذي ألم بها؟!
كل الذي أدريه أن هذه الدموع قد ألهبت وجداني!! وأثارت في نفسي الكثير من العبر التي وودت البوح بها تعبيراً عن فرحتي بفرحها، ومدى حبي لها، ولكن كل هذه العبارات اختنقت بتلك العبرات التي انهمرت من عينيها!! وبعجزي كطفل عن التعبير عنها بوضوح.
إلا أن الموقف برمته، هزَّ قلبي هزاّ عميقاً من الداخل!! وكأن صوتاً بداخلي يقول: "يالله . . كم هي عظيمة تلك اللحظات التي تبدل فيها كرب مكروب إلى فرح وسرور؟!) إنها بالفعل أعظم شيء في الحياة، بل أعظم ما في هذه الدنيا بأسرها، فقد تمنيت من أعماق قلبي أن أقول لها بطفولتي :
"لا تخافي يا أم أحمد، لن أتركك تذهبي مني كما ذهبت مني جدتي!! سأكون عندك في كل يوم، بل في كل ساعة، بل في كل لحظة!!
وددت ألا أفارقها حتى يذهب عنها المرض والفقر والجوع، ووددت أن أعمل لها كل شيء، فتلك الابتسامة الممزوجة بالدموع، قد فعلت بي الأفاعيل!!
لقد أعطتني أبعاداً أخرى للحياة!! تمنيت على إثرها أن أنزل جميع نقماتي على كل معاني الأنانية، التي جعلت الأغنياء لا يبالون بهؤلاء البؤساء الذين يعيشون على هامش الحياة؛ ويتجرعون ألوان البؤس والحرمان والفقر والمرض!!
رجعت إلى بيتي محاولاً تطبيق ما انتابني من مشاعر، فحرمت على أسرتي _ وأنا الطفل الصغير _ تناول طعام الغداء كل يومٍ حتى تتناوله أم أحمد!! أرسله لها بيدي كل يوم، لاستمتع بمشاعر فرحها وسرورها، وأتجرع شحنة جديدة من جميل معاني الحياة، ثم أرجع لهم كي أعطيهم إشارة البدء؛ لنبدأ نحن في تناول وجبة الغداء!!
كانت أمي منبهرة وسعيدة بفعلي هذا!! وكانت تحكي لوالدي بعد عودته من العمل ليلاً، فتدمع عيناه فرحاً بحسن صنيعي، فيأخذني بين أحضانه ويقبلني قائلاً :"بارك الله فيه هذا الشيخ الصغير"!!
المأساة . . واللقاء الثاني مع الموت
استمر الوضع على هذه الحالة سنوات، حتى بلغت المرحلة الابتدائية، وكنت بمجرد عودتي من المدرسة أجد وجبة غداء أم أحمد جاهزة ومعدة، فآخذها في يدي وأنزل بها فوراً إليها، حتى اشتهرت قصة صداقتي الحميمة مع جدتي الثانية أم أحمد بين أبناء الحي، وهي في كل يوم تنتظرني حسب الموعد المحدد تماماً، لأخذ الصحون القديمة وأستبدلها بوجبة غداء يوم جديد، وكعادتها لا تبخل علي بفيض دعائها، حتى أصبح صوتها الحبيب مألوفاً لدي صباح مساء.
وجاء اليوم الموعود . . حيث عدت من المدرسة كعادتي ظهراً، فألقيت بالحقيبة على أول مقعد بجوار الباب، وتوجهت مباشرة إلى المطبخ منادياً على والدتي، فلم أجدها هناك، ولم أجد أي شيء جاهز كي آخذه بيدي لأم أحمد!! بحثت عنها فلم أجدها!! ولكن لاحظت علامات الحزن على وجوه من كان موجوداً بالبيت حيينها!!
فسألتهم؟ أين أمي؟ وأين طعام أم أحمد؟! فانفجرت الخادمة باكية!! وتبعتها عمتي وأخذتني في حضنها قائلة، البقاء لله يا ابني!! أم أحمد ماتت اليوم صباحاً، ولكن أهل الحي قرروا تأخير جنازتها حتى ترجع من المدرسة وتودعها!!
كادت الأرض تتزلزل تحت قدماي!! حيث خطفت تلك الكلمات قلبي خطفاً!! وأطبق الصمت على لساني فلم أعد أستطيع الكلام مطلقاً، فنظرت حولي في ذهول، فوجدت مساحة البيت الفسيح، قد انحصرت فقط في الركن الذي كانت تضع أمي فيه الطعام لأم أحمد يومياً!!
لم أر أمامي سوى هذا الركن!! فتوجهت إليه بخطى بطيئة، وجلست فيه منكسراً على الأرض، واضعاً رأسي بين ركبتي . . ووالله لكأنني أعايش هذه اللحظات الآن!! وانظر إلى نفسي وقد سالت الدموع من عيني !! أو إن شئت فقل . . انفجرت الدموع الصامتة تحكي بحرارتها ذكريات العطف والود والحنان . . وتشكو تجرع قسوة فقدان الحبيب الثاني على التوالي، تماماً كما حدث مع الحبيب الأول على حين غرةٍ!!
لقد ذهبت أم أحمد!! ذهبت بما تعنيه هذه الكلمة من معاني حرماني لرؤية ابتسامتها البشوشة المشرقة التي كانت تمسح عن قلبي يومياً عناء شوقي الطويل لمعاودة لقائها!! ذهبت لتحرمني سماع جميل صوت دعائها!!
لم أشعر وسط انهماكي بالبكاء والتفكير سوى بيد والدتي وهي تحاول إيقافي على قدمي وتقول، تعالى يا حبيبي، أم أحمد مش راضية تمشي إلا لما تشوفها، والله أهل الحي بينادوا من تحت ويقولوا نعش أم احمد واقف عند البيت عاوزة تشوفك!!
أسرعت نحوها والدموع تملأ عيناي، ووالله لم تكد قدماي تحملاني وأنا أودعها، والكل يتأسى لحالي، وكأني ولدها الوحيد الذي أنجبته، ثم ذهبوا بنعشها بعيداً، فأشرت إليها بيدي، وكأني أقول لها مع السلامة يا أم احمد (حتوحشيني)!!
ووالله كأني أسمع صوتها من داخل النعش يقول، شكراً لك يا ولدي على كل ما قدمت، سوف أفتقدك يا ولدي في غربة طويلة بعيدة، ولكن حتماً . . سيكون اللقاء!!
ماتت أم أحمد . . ولكنها ولَّدت في قلبي معاني جميلة، استشعرتها تماماً برغم صغر سني، وذقت حلاوتها بالفعل في عمر مبكرة، وما أرجوه من الله أن يعلَّق قلوبنا بها دوماً، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
وأكرر أسفي لهذا الاسترسال الذي لم أستطع بالفعل كبح جماحه؛ حينما قرر أن يسترسل القلم، فالمعذرة منكم إخواني أجمعين.
ما جاء في هذه الحلقة من العبر :
· قد يؤثر فيك موقفاً عايشته في الصغر، فيؤصل فيك معاني جميلة؛ ربما تستمر معك مدى الحياة.
· تشجيع الوالدين للطفل على الخصال الحميدة، من أهم عوامل تفعيل معاني الفطرة السليمة في قلبه، بحيث تنقش عليه كالنقش على الحجر، وتكون له خير مرشدٍ خلال سنوات حياته.
· أفعال الصغار التي تفوق أعمارهم، يكون لها أكبر الأثر في قلوب الكبار، باعتبارها غير متوقعة منهم!!
واستودعكم الله إلى لقاء قريب مع الحلقة الثالثة إن شاء الله
تعليق