مذكرات تجربة
رغبة من بعض إخواني في تحرير تجارب حياتي، عسى أن يستفيد منها الكثير من أبنائي وإخواني، قررت نشر تلك المذكرات على موقعكم الطيب، سائلاً المولى عز وجل أن يجعل فيها الخير والنفع للجميع، وفيما يلي حلقات تلك المذكرات.
(الحلقة الأولى)
النشأة :
النشأة :
في يوم 20 مارس عام 1963 كانت ولادتي بحي شبرا بالقاهرة، حيث نشأت في إحدى البيوت المصرية التي تنعم بالروح الاجتماعية الجميلة في ذاك الزمان، وكان والدي (رحمه الله) الملقب بين أبناء الحي بـ (الحاج يوسف) يملك مصنعاً لطرمبات المياه (المضخة الماصة) ويقوم بالتوريد لكافة محافظات مصر والسودان، حيث المصنع المنافس مملوكاً لنصراني، وكان الناس يفضلون التعامل مع والدي (رحمه الله) لما عرفوه عنه من طيبة القلب والتسامح في التعامل، نحسبه كذلك والله حسيبه.
لمحة سريعة عن شخصية الوالد (رحمه الله)
كان والدي ولله الحمد شخصية محبوبة لدى الجميع، لدرجة أن أهل الحي أجمعوا عليه في حل المنازعات والإصلاح بينهم، ناهيك عن أنه كان مصاباً بشلل الأطفال في كامل رجله اليمنى، ولديه ضمور كامل بها، إلا أنه على الرغم من ذلك كان يسير على جهاز خاص بمشقة بالغة، فيتبادر الناس والجيران إليه لتلبية رغباته حتى لا يواصل المسير، وهنا وقفة يسيرة ألقي فيها الضوء على بعض ملامح سيرته، حيث كلما تذكرته (رحمه الله) أتذكر معه سرعة انحدار الدموع من عينيه عند سماعه القرآن حتى ولو كان الصوت يأتيه من على بعد، أو كانت المشاغل تحيط به!! فقد كان رقيق القلب بشكل ملحوظ، وأشهد الله أنني لم أر أحداً من بعده في مثل رقة قلبه إلى يومنا هذا، لا أذكر ذلك لأنه والدي، وإنما بالفعل كان شديد الرقة وسريع التفاعل عند سماع القرآن، وكان كل من يعرفه يتعجب من سرعة هذا التفاعل، حتى أنه كان ذات مرة في اجتماع عمل مع شركة أوروبية، وسمع صوت الطبلاوي يقرأ القرآن من بعيد، ففوجيء الجميع برؤية الدموع تنحدر من عينيه!! وبالطبع لم يجد أمثال هؤلاء تفسيراً لذلك (رحمه الله تعالى)!!
مبشرات :
رأي النبي صلى الله عليه وسلم مرتين في حياته، بشَّره في الأولى بالحج، فظهر اسمه في اليوم التالي مباشرة مع جدتي في قائمة حجاج القرعة، وكان ذلك على غير المتوقع تماماً؛ لأنهم حين قدموا طلباتهم كان على سبيل المحاولة لا غير؛ نظراً لشلل والدي، وكان الأمر شبه مستبعد تماماً؛ إلا أنها جاءتهم سهلة ميسرة ولله الحمد والمنة ففرحوا بذلك فرحاً شديداً!!
وفي الثانية جاءه ليخبره بدنو أجله، فأيقظني فجراً ودموعه تندحر على خديه، وهو يبتسم بوجه مشرق قائلاً : (جاءني حبيبك) فسألته: من؟ وظننته يقصد أحد الإخوة المفضلين عندي وهو واقف عند الباب، فقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، الليلة في منامي، فقد جاءني ليخبرني بدنو أجلي ويقول : خلاص يا يوسف دنا الأجل!! فما لبث بعدها سوى ثلاثة أشهر حتى مات؛ وهو يصلي صلاة العصر (رحمه الله تعالى)!!
أسأل الله أن يتقبله في الصالحين وأن يرحمه ووالدتي رحمة واسعة، وأن يدخلهما الجنة من غير سابقة عذاب ولا مناقشة حساب وجميع موتى المسلمين.
مؤثرات النشأة:
وعوداً على نشأتي . . فقد كنت الطفل السابع والأخير لأربع ذكور وبنتين، وكانت لي منزلة خاصة لدى الجميع لكوني أصغرهم، وكنت بالفعل مدللاً بين أشقائي، بل بين جميع أقربائي وأبنائهم الذين تفتحت عيناي على تواجدهم الدائم في بيتنا؛ حتى لم أعد أفرق بينهم وبين أشقائي؛ نظراً لأن والدي (رحمه الله) جعلى العمارة التي كنا نسكن فيها محل إقامة دائمة لجميع أشقائه البنين والبنات، فضلاً عن أبناءهم وبناتهم، باعتبار ذلك نوعاً من البر بجدتي (رحمها الله) حيث خصص لها طابقاً بالعمارة؛ لكي يجتمع حولها جميع الأبناء والأحفاد فيه ولله الحمد والمنة، فكان المنزل يزخر يومياً بحركة دائمة ونبض غير اعتيادي، ولكنه كان مناخاً اجتماعياً رائعاً بالنسبة لي كطفل، لتوفير العديد من البدلاء للهو واللعب معهم.
وأتذكر أنه كانت تشتد المنافسة دوماً بيننا على استضافة جدتي (رحمها الله) لاسيما خلال شهر رمضان!! حيث كان الجميع يسعى لإقناع جدتي بالإفطار عنده في شقته، فكنت بدلالي عليها (نظراً لصغر سني) المرجح لكفّة أسرتي في الفوز بها دوماً، حيث كانت لا تستطيع أن ترفض لي طلباً (رحمها الله رحمة واسعة) بل إنهم لو نجحوا يوماً في إلهائي؛ حتى تتمكن من الصعود لشقة أحد أعمامي للإفطار عنده ولو لمرة واحدة، كنت أكتشف ذلك عندما يحين وقت الإفطار ولا أجدها في مقعدها على السفرة، فأصعد كالبرق لشقة عمي، وأصر إصراراً لا نقاش فيه حتى انتزعها من على مائدة الطعام انتزاعاً، ولو أثناء الإفطار وأرغمها على النزول مكرراً لشقتنا!! وذلك يرجع بالطبع لصغر سني وعدم اقتناعي بأي منطق!! حتى يأسوا في نهاية المطاف من مجرد التفكير في هذا الأمر!!
هذه النشأة في مثل هذه الأجواء، أصَّلت في نفسي بساطة العيش وسهولة أمر الدنيا، فكنت آخذ كل الأمور ببساطة!! وكانت الشاشة دائماً أمامي وردية اللون، وكان كل الناس عندي طيبيين، وحبوبين، ولا تعرف البشرية في قاموس حياتي حتى ذلك الحين أشراراً البتة!!
وهذا ما تسبب لي بعد ذلك في كثير من المشاكل التي واجهتها أثناء تجاربي الحياتية، والتي سوف نستعرض الكثير منها بإذن الله على مدار الحلقات القادمة.
بقي أن استميحكم عذراً في إضاعة وقتكم خلال هذه الحلقة في إلقاء الضوء سريعاً على هذه النشأة، ولكن يرجع ذلك لاعتقادي بأهمية العيش في أجوائها؛ لفهم وقع الأحداث التي تلتها في مراحل العمر المقبلة على نفسيتي، وكيف كانت ردة الفعل مني في بعض الأحيان مرتبطة بهذه النشأة، وحجم الوهم الذي كنت أعيشه في كثير من الأحيان.
-----------------------------------------
وأهم العبر التي يمكن استخلاصها من هذه الحلقة في اعتقادي هو ما أكرم الله به والدي (رحمه الله) من حسن الخاتمة، ولا أظن ذلك والله أعلم إلا بسبب حبه وشغفه بكتاب الله عز وجل، مع ما منَّ الله به عليه من طيبة وسلامة القلب (نحسبه كذلك والله حسيبه) أسأل الله أن يتقبله في الصالحين، وأن يحسن خاتمة الجميع.
واستودعكم الله إلى لقاء قريب مع الحلقة الثانية إن شاء الله
تعليق