لَقد ذَكرَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ رحمَهُ اللهُ تعالى نَازِلة كنَازِلتِنَا عَاشَرَ أسبَابَها، وأهَوالَها، ودَاءها، ودواءَها، ورِجَالَها، ومُنافِقِيها فَخطَ لنَا صُورتها بِقلَمِهِ، وسَأذكُرُ لَكم أوجُه الشَّبَهِ بَيننا وبَينها.
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسُولِهِ الأمِين.
أمَا بَعدُ:
مُقدِّمَةٌ:
أيُها القارئُ الكريمُ كانَ الحرصُ بمقامٍ أمينٍ على إخراجِ هذا الموضوع في حُلَّةٍ وَضَحاء لتُبدِّدَ براثنَ الحِيرةِ، وتُهدِّمَ أنيابَ النَّازلةِ الكاشرةِ الشِّرِّيرةِ، وتَمحو شُحوبَ الشُكوكِ القَائِمةِ المَستورةِ الخَطيرةِ، وتَقْطَعُ نياطَ المُجادلاتِ الرَّابضةِ السَّعيرةِ، وذلك بآياتِ اللهِ المُشتهرةِ، وسُنةِ نبيهِ المُنتصرةِ، والسُننِ الكونيةِ القَاهرةِ على صفحةٍ صبحاء نيَّرة، فلِذلك أرجو أن لا يبلُغَ بِك الهوانُ منازل الأحزانِ بِحرمانِكَ الوقوف على حقِ اليقينِ، ونُورِ اللهِ المُبينِ.
هَل مَرَّت الأمةُ بِنازلةٍ كنازِلتِنَا؟
إنَّ الجوابَ على هذا السؤالِ يلزمُ مِنهُ تصوير الحاضرِ بكلِ دقائِقهِ، وجرائرِهِ، وقوالبهِ، ومشارِبهِ، لتنقلَ صورةً جليةً لمحركاتِ البحثِ التاريخيةِ بوسيلةِ سبرِ التاريخِ الثخينِ للحصولِ على نسخةٍ حيَّةِ ماضيةٍ نَسَجَت سُنَّةُ الله منها حاضرَ الحالِ، وللجوابِ على هذا السؤالِ أقولُ: نَعم مَرَّت على الأمةِ نوازلٌ كنازِلتِنا.
لذلك يقولُ ابن الأثيرُ رحمَهُ اللهُ تعالىَ: (فإنَّهُ لا يحدثُ أمرٌ إلا قد تَقدمَ هوَ أو نظِيرهُ، فيزدادُ بِذلكَ عقلاً، ويصبحُ لأن يُفتدى بِهِ أهلاً) [1].
وأكَّدَ هذا الأمرُ شيخُ الإسلامِ ابن تيمية رحمهُ اللهُ تعالى بكلامٍ نَفيسٍ، بل يكادُ أن يكونَ عديم النظيرِ فيمَا أعلمُ بقولهِ: (وَإِنَّمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قِصَصَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ لِتَكُونَ عِبْرَةً لَنَا. فَنُشَبِّهُ حَالَنَا بِحَالِهِمْ وَنَقِيسُ أَوَاخِرَ الْأُمَمِ بِأَوَائِلِهَا. فَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ شَبَهٌ بِمَا كَانَ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَيَكُونُ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ شَبَهٌ بِمَا كَانَ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا قَصَّ قِصَّةَ يُوسُفَ مُفَصَّلَةً وَأَجْمَلَ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ).
ثُمَّ قَالَ: ({لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} أَيْ هَذِهِ الْقَصَصُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا يُفْتَرَى مِنْ الْقَصَصِ...).
إلى أن قالَ: (فَأُمِرنَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِمَّنْ قَبْلَهَا مِنْ الْأُمَمِ. وَذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ سُنَّتَهُ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ وَعَادَتُهُ مُسْتَمِرَّةٌ. فَقَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا}، {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}) [2].
فَمن هُنا يتبينُ أن سنةَ اللهِ تقتضي أن يكونَ لنِازِلتِنَا أُختٌ، أو قَريبةٌ، ولكِن فِي أيِّ سطرٍ مِن سٌطورٍ التَاريخِ هيَ؟
مَا هِي الثَمرةُ لِمعرفةِ نَازِلَة كنَازِلتِنَا؟
لا شَك الجَميعُ يبحثُ عن مخرجٍ مِن ذلٍ أرسى مَراكِبَهُ على عَواتِقِنَا، وعَن ظُلمٍ فُصِِّّلَت ثِيَابَهُ لأرواحِنَا، وعن قَهرٍ خُلقَ لِيستوطنَ قلوبِنَا، وعن فَقدِ مَجدٍ أصبَحَ رِثَاءهُ لَحناً لدى صِغارِنَا وكبَارِنا، هُنا أقولُ لكَ أخي القارئُ الكَريم دَع ما فِي يديكَ لِتعلَمَ كيفَ خَلَصَ القَومُ من نَازِلتِهم، وكيفَ تعَامَلَ مَعها العَامةُ والخَاصةُ، والأميرُ والمأمورُ، وعالمُ الملةِ ومنافِقِ الأُمةِ، لِتكونَ لنَا عِبرة ولأجيَالِنا وعِظة.
أسبَابُ نَازِلة مَن قَبلِنَا:
لَقد ذَكرَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ رحمَهُ اللهُ تعالى نَازِلة كنَازِلتِنَا عَاشَرَ أسبَابَها، وأهَوالَها، ودَاءها، ودواءَها، ورِجَالَها، ومُنافِقِيها فَخطَ لنَا صُورتها بِقلَمِهِ، وسَأذكُرُ لَكم أوجُه الشَّبَهِ بَيننا وبَينها.
فقالَ عَن أسبابِها: (وَكَانَتْ هَزِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِذُنُوبِ ظَاهِرَةٍ، وَخَطَايَا وَاضِحَةٍ مِنْ فَسَادِ النِّيَّاتِ، وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَالْبَغْيِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ، وَكَانَ عَدُوُّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ رَاضِيًا مِنْهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ وَالْمُسَالَمَةِ، شَارِعًا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَكَانَ مُبْتَدِئًا فِي الْإِيمَانِ وَالْأَمَانِ، وَكَانُوا هُمْ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ) [3] أهـ
أسبَابٌ نَازِلتِنَا:
أنتجتها ذٌنوبٌ العِبَادِ، حٌكَاماً ومحكٌومينَ، مِن اتِّساعِ رٌقعَة الشِّركِ، وتقديسِ البِدعةِ، وطَلبِ الرِّبا، وانتشارِ الزِّنَا، ورفعِ المَأبونينَ نجوم بِِهم يُهتدىَ، والمأفونينَ سَادة سُننُهم تُحتَذىَ، والمُنافِقينَ رِجال التَّنظِيرِ قولُهم نورٌ بِهِ يُقتدىَ، فَاحشةٌ في الأرضِ، وأُخرى في السماءِ، فَطغى المُسلِم حتى هَانت عليهِ المَعصِية، يُقارِفها في فُلكِ البَحرِ أو أفلاكِ الفَضاء، لا يَخلو لِلمسلِمِينَ مَأوى إلا ودَخلهُ التَّغريبُ، ولا مَراح إلا وداهمَهُ التَّخريبُ، تنصيرٌ ينتشِر، وإِسلامٌ يعتصِر، وقيمٌ تحتضِر، كُلَما خَطَ الإصلاحٌ سَبِيلَهٌ بِالمِدادِ قََذَفَهُ الحال في مُستنقعَاتِ الفَسَادِ، حتى أعلَن على نَفسِهِ الحِداد، للفضَائِياتِ حَظٌ يَفوقُ حُظوظ القرآنِ، وفَاق مُتابعة الـ mbc والـ lbc سنةَ النَّبِي، فَتعددت مَشارِبُ الفَسادِ، بِصورةِ لم يَشهَد لَهَا التَاريخُ نَظِير، حتى جَعَلَت مِن وَجهِ العَالمِ عَبوساً قَمطرير، ولك أن تستَثني إلا ما رحمَ ربي مَع إيرادِ صُورِ الفَسادِ، ودِعَايات الجُرمِ عبَرَ فَواتِير الكَهرُباء، ولوحَات الشَوارعِ، ومنَاظِر الأسوَاقِ، وأغلِفةِ السِّلعِ، ونغماتِ وأفلامِ وصورِ الهواتف النَّقَالةِ، فسُمِمَت الأجوَاء، وأُفسِدَ الجِيل، إلا قَليلٌ من قليلٍ من قليلِ.
تَداعِي الأُمم عَليهِم:
قالَ رحمَهُ اللهُ تعالىَ: (فَيَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِسُنَّةِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ فِي عِبَادِهِ، وَدَأْب الْأُمَمِ وَعَادَاتُهُمْ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي طَبَّقَ الْخَافِقَيْنِ خَبَرَهَا، وَاسْتَطَارَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ شَرَرُهَا، وَأَطْلَعَ فِيهَا النِّفَاقُ نَاصِيَةَ رَأْسِهِ، وَكَشَّرَ فِيهَا الْكُفْرُ عَنْ أَنْيَابِهِ وَأَضْرَاسِهِ، وَكَادَ فِيهِ عَمُودُ الْكِتَابِ أَنْ يَجْتَثَّ وَيَخْتَرِمَ، وَحَبْلُ الْإِيمَانِ أَنْ يَنْقَطِعَ وَيَصْطَلِمَ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحِلَّ بِهَا الْبَوَارُ، وَأَنْ يَزُولَ هَذَا الدِّينُ بِاسْتِيلَاءِ الْفَجَرَةِ التَّتَارِ، وَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا، وَأَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ حِزْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا ظَنَّ السَّوْءِ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا، وَنَزَلَتْ فِتْنَةٌ تَرَكَتْ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ، وَأَنْزَلَتْ الرَّجُلَ الصَّاحِيَ مَنْزِلَةَ السَّكْرَانِ، وَتَرَكَتْ الرَّجُلَ اللَّبِيبَ لِكَثْرَةِ الْوَسْوَاسِ لَيْسَ بِالنَّائِمِ وَلَا الْيَقِظَانِ، وَتَنَاكَرَتْ فِيهَا قُلُوبُ الْمَعَارِفِ وَالْإِخْوَانِ، حَتَّى بَقِيَ لِلرَّجُلِ بِنَفْسِهِ شُغْلٌ عَنْ أَنْ يُغِيثَ اللَّهْفَانَ، وَمَيَّزَ اللَّهُ فِيهَا أَهْلَ الْبَصَائِرِ وَالْإِيقَانَ، مِنْ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاقٌ وَضَعْفُ إيمَانٍ، وَرَفَعَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، كَمَا خَفَضَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الْمَنَازِلِ الْهَاوِيَةِ، وَكَفَّرَ بِهَا عَنْ آخَرِينَ أَعْمَالَهُمْ الْخَاطِئَةَ، وَحَدَثَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلْوَى مَا جَعَلَهَا قِيَامَةُ مُخْتَصَرَةً مِنْ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى) [4].
تدَاعِي الأُمم عَلينَا:
أقبَلت أممُ الكفرِ والإلحادِ بعددِها وعُدَّتِها،وألَّبِت البَشر عَربَها وعَجمهَا، وطَوَّعَت سُبُل الدُنيا أرضَها وسَماءَها، وبَرهَا وبَحرَها، وسهولَها وجبَالها، بِقوةٍ لم يُسجِل التَاريخُ مِثلَها، ولم تَشهد العُصورُ نَظِيرَها، قَنابِلٌ ذَكيةٌ، وصواريخٌ فتيةٌ، وطائراتٌ ظاهرةٌ وخفيةٌ، ومجنزراتٌ شرسةٌ قويةٌ، وأقمارٌ صناعيةٌ، تقذِف الأرضَ ناراً، والسماءَ شَرارا، والبَحرُ يَخلُقُ دمَاراً، فقنابِلَهم الذَّكية تقتلُ الأطفالَ، وصواريخَهم الفَتيةَ تفعلُ في النِّساءِ الأهوال، وطائراتَهم الخفيةَ تصنعُ في المباني سيئ الأحوَال، بدأو بِبورمَا فقتلوا مِن نِسائِها مِئة ألف وألقوهم في نِهراها قَهرا، ومروا بالبوسنةِ فانتهكوا ما يَربو عَن ثَلاثينَ ألف امرأة جُورا، وشَووا بِقذائفِهم كَبِد أكثر من عشرينَ ألفِ طِفلٍ ظُلماً وعدوانا، ومَالوا نَحو كُوسوفَا ففي يومٍ واحدٍ أكثرَ مِن عِشرينَ ألفٍ مِن رِجالِهم ونِسائهم وأطفالِهم قَضَوا عليهم بَغيَاً وعُلُوا، ومروا بِالأفغان فلم يُوقروا فِيهم كَبير، أو رحِموا صَغِير، ولم يَأزُهم ضَمِير، وهاهمُ اليوم في أرضِ الخِلافةِ فََعلوا ما لم يُوصف، أو يُسمَع بِهِ فَيُعلَمَ ويُعرَف، دِماءٌ منهمرةٌ، وأشلاءٌ منتشرةٌ مبعثرة، ونساءٌ مُنهكَاتٌ مُنتهكاتٌ أسِيراتٌ مُعتصِراتٌ مُقهَرَة، حُجِبَ المَاءُ، ومُنِعَ الكَلاُ، وفُقِدَ الدَّواءُ، وتقَاطَعَ الأقرِبَاءُ، وقطعت الكهرباء، وفُرِّقَ بين الأبِ وبنِيهِ، والأخِ وأخيهِ، والمحبِ ومحبِّيهِ، وعَزَّ على النَّاسِ قَضاء حَوائجِهم، ونَيل مَآرِبهم، خَوفٌ مٌطبِِقٌ، ودمارٌ مُحرِقٌ، وجُوعٌ مُعزقٌ، فلا يُحفظُ دِينٌ، ولا عرضٌ، ولا عَقلٌ، ولا نفسٌ، ولا مالٌ، فيا لِهولِ البَلِيةِ، ويا عظيمَ الرَّزيَّة.
حَالُ الأُمَةِ في نَازِلتِهم:
أخي القارئُ الكَريم يَجبُ أن تَعرفَ حَالهم لِيستبينَ لك مِن الظُلُمَاتِ الطَريق، وتَستوضِحَ سبيل مُعاملة المُؤمنِ والكافرِ والزِندِيقِ.
قال رحَمَهُ اللهُ تعالىَ: (وَكَرَّ الْعَدُوُّ كَرَّةً فَلَمْ يَلْوِ عَنْ.. وَخُذِلَ النَّاصِرُونَ فَلَمْ يَلْوُوا عَلَى.. وَتَحَيَّرَ السَّائِرُونَ فَلَمْ يَدْرُوا مَنْ.. وَلَا إلَى.. وَانْقَطَعَتْ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ. وَأَهْطَعَتْ الْأَحْزَابُ الْقَاهِرَةَ) [5].
حَالُ الأمةِ في نَازِلتِنَا:
وكَأنًّهٌ رحمَهُ اللهُ تعالى يتحدثُ عَن حَالِنا، ويُجلِّي صُورتَنا، لقدَ خَذلَ النَّاصِرونَ إخوَانهم، وقعدوا عن مَظَالِمِ أمتِهم، ورضوا مِن الدنيا بِتزييِنِ مساكنِهم، وتلوينِ مشارِبهم ومطاعمِهم، وتَحَيَّر بُغاة الخيرِ بسببِ الإرجافِ والتَّعويقِ، وقلَّةِ العلمِ باللهِ، والركونِ إلى الدُنيا، واستظهَرَ المُنظِّرونَ اليَوم أن الأسبابَ الجَالبَةَ للنَّصرِ مَقطُوعةٌ، والطَريقَ إليها ممنوعةٌ، فلا فَرق بَيننا وبينَهم.
حَالٌ المٌجاهدين في نَازِلتِهم:
قالَ رحمَهُ اللهُ تعالىَ: (وَانْصَرَفَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ، وَتَخَاذَلَتْ الْقُلُوبُ الْمُتَنَاصِرَةُ، وَثَبَتَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ، وَأَيْقَنَتْ بِالنَّصْرِ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ، وَاسْتَنْجَزَتْ مِنْ اللَّهِ وَعْدَهُ الْعِصَابَةُ الْمَنْصُورَةُ الظَّاهِرَةُ، فَفَتَحَ اللَّهُ أَبْوَابَ سَمَاوَاتِهِ لِجُنُودِهِ الْقَاهِرَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَى الْحَقِّ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةَ، وَأَقَامَ عَمُودَ الْكِتَابِ بَعْدَ مَيْلِهِ، وَثَبَتَ لِوَاءُ الدِّينِ بِقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ، وَأَرْغَمَ مَعَاطِسَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ التلاق).
حَالُ المُجاهِدينَ فِي نَازِلتِنَا:
قَام سَاداتُ الإسلامِ وبِلا مُنازع، وأعلامُ الرجولةِ آيةٌ لكلِ نَاظرٍ وسامع، لِنَصرِ دينِ ربِهم العليمِ السَّامع، مُتجاوزينَ كلَّ الفجَائِع، ومُتجاهلينَ لكلِ مُخذلٍ ومُرجفٍ ومُخادع، لِيدُكُّوا كلَّ المواقع، ويَضربوا كلَّ المَجامع، مَطالبهم الجِنَان، وغَايتهم رضا الرحمَان، حياةٌ على الإسلامِ أو اللحاق بخيرِ الأنامِ، فَقَهَرَ اللهُ بِهم الأعداء، وخَيَّبَ أماني المُرجفينَ البُلهاء، وأحرقَ بأيديِهم أفئدة العُملاء، أفلح والله من لحِقَ بِهم، ونَجَحَ مَن كانَ مَعهم، بعيشِ الكُرمَاء، أو بجوار ربِّ الأرضِ والسماء، وخَابَ مَن خذَّلَ ونَزل، وظَلَّ مَن جافاهم وَزل.
حَالُ المنافِقينَ والمُعوقِين مِن الجِهادِ وأهلِهِ في نَازِلتِهم:
قالَ رحمَهُ اللهُ تَعالىَ: (أمَا المُنافِقونَ فَلهم شَأنٌ آخر، ولَهمَ مَوقفٌ لا يَختلِفُ كثيراًَ عن مَواقِفِ أسلَافِهم فِي غزوةِ الأحزَابِ، حِينَ ابتلِيَ المُؤمِنونَ، وبِلغَت القلوبُ الحنَاجِرَ، وظَنوا بِاللهِ الظنونَا، وكانَوا شِيعَاً؛ فمِنهُم مَن قَالَ: مَا بَقِيَتْ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَقُومُ فَيَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْخَاصَّةِ: مَا بَقِيَتْ أَرْضُ الشَّامِ تُسْكَنُ؛ بَلْ نَنْتَقِلُ عَنْهَا إمَّا إلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَإِمَّا إلَى مِصْرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ الْمَصْلَحَةُ الِاسْتِسْلَامُ لِهَؤُلَاءِ كَمَا قَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهِمْ...).
إلى أن قالَ: (تَارَةً يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْنَا بِشُؤْمِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ الَّذِينَ دَعَوْتُمْ النَّاسَ إلَى هَذَا الدِّينِ وَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفْتُمُوهُمْ... وَتَارَةً يَقُولُونَ - أَنْتُمْ مَعَ قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ - تُرِيدُونَ أَنْ تَكْسِرُوا الْعَدُوَّ وَقَدْ غَرَّكُمْ دِينُكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وَتَارَةً يَقُولُونَ: أَنْتُمْ مَجَانِينُ لَاعقل لَكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ وَالنَّاسُ مَعَكُمْ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: أَنْوَاعًا مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي الشَّدِيدِ) [6].
حَالُ المنافِقينَ والمُعوقِين مِن الجِهادِ وأهلِهِ في نَازِلتِنَا:
وأنا أقسمُ بِاللهِ العَظيم، الَّذي هوَ رَبي وبِيدهِ مَلاكُ أمرِي وأمر العَالمينَ أجمعِين؛ أنَّ هذا الرجلُ كَأنهُ يَصفُ حَالَنَا، فلَقد رَأينَا مَن قَالَ لا يمكنُ أن تُطبقَ الشَّريعِة في عَصرِنَا، أو تقومَ قائمةُ الإسلامِ في جُلِّ شأنِنَا، وينبغي لنَا الرِّضَا بالديمقراطيَّةِ الأمريكيةِ فهي غَيثُ عصرِنَا، وقالَ بَعضُ الخَاصةِ يجبُ الهِجرة لِمَن لم يستطع إِقامَة دِينهِ، وهو لم يَبذِل في دفعِ العدوِ واجبَهُ وقدرتَهُ، وقال مِن العُلماءِ الواجبُ الاستسلام وتسليمِ السِّلاحِ، والخضوع مع تركِ الكِفَاح، ومَن قام بواجبِ الجِهادِ وما أمرَ اللهُ بهِ فأصابَه قرحٌ قالوا هذا مِن شُؤمِكم، وما وقَعت الأمة في هذه البَليةِ إلا بِفعالِكم، فأنتم رأس البَلاءَ، وأصلُ الفسادِ، وقادةُ الإرهابِ، وكذبوا، وخابوا، وخسروا؛ ويقولونَ أنتم ضُعفاء لا تقوى قُوتُكم لمُجابهةِ طائراتِ أمريكا، فأسلِموا أمرَكُم إلى مُرادِها، ومُرادُها التَنصِير، فحسبُنا اللهُ اعملوا مَا شِئتُم إِنَّهُ بِمَا تَعملون بَصِير.
ويَرمُون أهل الجِهادِ بالغُرورِ، والتَّسرعِ، والحُمقِ، وعدمِ الفهمِ، والبُعدِ عن تقديرِ المصَالحِ، وتارةً يقولون الجِهادُ تَهلُكة، فسبَحان مَن لا تَجِدُ لسُنَتِهِ في خَلقِهِ تَبدِيلا، ولا تَحوِيلا.
وصَدق الرسولُ الكريم صَلَى اللهُ عليهِ وسلمَ إذ قَالَ: (ليَأتِينَ على النَّاسِ زَمَانٌ قُلوبُهم قلوبُ العَجَمِ قُلتُ وما قُلوبُ العَجَمِ قَالَ، حُبُ الدُنيا، سُنتهم سنة الأعرابِ، مَا أتَاهم مِن رِزقٍ جَعلوهُ في الحَيوانِ يَرونَ الجِهاد ضَرراً، والزكاة مغرماً) [7].
مَعَ العِلمِ أنَّ أهلَ الثُغُورِ همُ المَهديونَ، المُوفَّقونَ مِن ربِهم سبحانَهُ.
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ: (وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ مُوجِبًا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مُحِيطَةٌ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فَجَعَلَ لِمَنْ جَاهَدَ فِيهِ هِدَايَةَ جَمِيعِ سُبُلِهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}) [8].
أينَ وجِدَ النِّفاقُ في نَازِلتِهم؟
قالَ رحمَهُ اللهُ تَعالَى: (وَيُوجِدُونَ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ، وَالْمُتَفَقِّهَةِ، وَفِي الْمُقَاتِلَة، وَالْأُمَرَاءِ، وَفِي الْعَامَّةِ أَيْضًا، وَلَكِنْ يُوجِدُونَ كَثِيرًا فِي نِحَلِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لَا سِيَّمَا الرَّافِضَةُ).
أينَ وجِدَ النِّفاقُ في نازِلتِنَا؟
لا حِظ أخي القَارئُ الكريم أن مَن ذكرَهم رحمَهُ اللهُ تعالى مِنهم مَن يَنتَسِبُ لِحمايةِ وحفظِ الدِّينِ إن لم يكن كُلُهم، وأخُصُّ بِالذكرِ "المُتفقهة"، ولقد رأينَا فِي زمَانِنَا مِن هذا الكَثير والكثير مِن أضرَابِ مَن ذكَرَهم، وهذا لا يَحتاجُ لزيادةِ بيانٍ، وكبيرِ برهانٍ، واللهُ المستعانُ، وعليه التُكلان.
كيفَ خَرجوا مِن نَازِلتِهِم؟
ونَدعُ الكلامَ لشيخِ الإسلامِ رحمَهُ اللهُ تَعالى حيثُ قالَ: (وَكَانَ مَبْدَأُ رَحِيلِ قازان فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَأَرَاضِي حَلَبَ؛ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمَ دَخَلَتْ مِصْرَ عَقِيبَ الْعَسْكَرِ، وَاجْتَمَعَت بِالسُّلْطَانِ وَأُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِالْجِهَادِ مَا أَلْقَاهُ، فَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ صَرَفَ الْعَدُوَّ جَزَاءً مِنْهُ، وَبَيَانًا أَنَّ النِّيَّةَ الْخَالِصَةَ، وَالْهِمَّةَ الصَّادِقَةَ يَنْصُرُ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ الدِّيَارُ 0 انتهَى كَلامهُ رحمَهُ اللهُ تعالىَ ولكن أخي القارئ تَعَالَ لَقد جَمعتُ لكَ مَن التَاريخِ مَا فَعَلَهُ ابنُ تيميةَ بِصدَدِ التَّربِيةِ والتَّصفِيةِ العَمليةِ، فقالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ: وفِي بُكرةِ يومِ الجُمعةِ المَذكور دَارَ الشيخُ تقي الدينِ بن تيمية رحمَه اللهُ وأصحابُهُ على الخمَاراتِ، والحَاناتِ فَكسروا آنيةَ الخُمورِ، وشَققُوا الظُروفَ، وأراقوا الخُمورَ، وعَزروا جمَاعة مِن أهل الحَاناتِ المُتخذَة لِهذهِ الفََواحشِ) [9].
وأمَا في شَأنِ جِهادِهِ يَقولُ: (وكانَ الشيخُ تقي الدين بن تيمية يَدور كُلَّ لِيلةٍ علَى الأسوارِ يُحرضُ النَّاسَ على الصبرِ والقِتَالِ، ويَتلوَ عليهم آيات الجِهادِ والرِّباطِ) [10].
وقالَ: (وخرجَ الشيخُ تقي الدين بن تيمية وَمعَهُ خَلقٌ كثيرٌ مِن المُتطوعةِ والحوارنةِ لِقتالِ أَهلِ تِلكَ النَّاحيةِ بِسببِِ فسادِ نيتِهم، وعقائدِهم، وكفرِهم وضلالِهم، ومَا كانوا عَامَلوا بهِ العسَاكِر لما كَسرَهم التتر وهربوا حينَ اجتَازوا بِبِلادِهم وثَبوا عليِهم ونَهبوهم واخَذوا أسلِحتَهم، وخُيُولَهم، وقتَلوا كثيراً مِنهم، فلمَّا وصَلوا إلى بِلادهم جَاء رؤساؤهم إلى الشيخِ تقي الدين بن تيمية فَاستتابهم، وبينَ للكثيرِ مِنهم الصَواب) [11].
وَذَكَرَ نازلةٌ في عامِ سبعمائةٍ ومَا مَوقفُ ابنُ تيميةَ مِنها، فقالَ: (وجلسَ الشيخُ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صَفر بمجلسِهِ في الجامِعِ وحَرَّضَ النَّاسَ على القتالِ، وساقَ لهم الآيات والأحاديثَ الواردة في ذلكَ، ونَهى عن الإسراعِ في الفِرارِ، ورغَبَ في إنفاقِ الأموَالِ في الذَّبِ عِن المُسلمينَ وبِلادِهم وأموَالِهم، وأن مَا يُنفقُ في أجرةِ الهَربِ إذا انفِقَ فيِ سبيلِ اللهِ كَانَ خيراً، وأوجبَ جِهاد التتر حَتمَاً في هذهِ الكَرةِ، وتَابعَ المَجالسَ في ذلكِ، ونُوديَ فِي البِلادِ لا يسافرُ أحدٌ إلا بمرسومٍ وورقةٍ) [12].
وانظر كيفَ تَعاملَ ابنُ تيمية والفقهاءُ مع نَازِلةِ "مَوقعة شَقحَب"، قال ابنُ كثير: (وَجَلَسَ القضَاةُ بالجامعِ، وحَلَفوا جَمَاعَةٌ مِن الفُقهاءِ والعَامةِ على القتَالِ، وتَوجَهَ الشَيخُ تقي الدين بن تيمية إلى العسكرِ الواصلِ مِن حَماةِ فاجتمعَ بِهم في القَطيعَةِ، فَأعلمَهم بِما تَحالفَ عَليِهِ الأمراءُ والنَّاسُ مِن لِقاءِ العَدوِ فَأجابوا إلى ذلكَ، وحَلَفوا مَعهم، وكانَ الشيخُ تقي الدينِ بن تيمية يَحلِفُ للأُمراءِ والنَّاسِ إنكم في هذه الكرةِ مَنصورونَ، فيقول لَه الأمراءُ قُل إن شَاء اللهُ، فيقولُ إن شَاء اللهُ تَحقيقاً لا تعليقاً) [13].
وقَالَ عُمر البزار رحمَهُ اللهُ تَعالىَ عَنهُ: (وأخبَرَ غَيرُ واحدٍ أن الشيخَ رضيَ اللهُ عَنهُ كَانَ إذا حَضَرَ معَ عَسكرِ المسلمينَ في جهادٍ يكونُ بَينهم واقِيتَهم، وقُطب ثبَاتِهم، إن رأى مِن بعضِهم هلعاً أو رِقةً أو جَبانَةً شَجَعَهُ، وثبتَهُ، وبَشرَهُ، ووعدَهُ بالنصرِ والظفرِ والغنيمةِ، وبينَ لهُ فضل الجهادِ والمجاهدينَ، وإنزال اللهِ عليهم السكِينةَ، وكانَ إذا ركِبَ الخَيلَ يتحنك ويَجولُ في العدوِ كأعظمِ الشُجعان، ويَقومُ كأثبتِ الفُرسَان، ويُكبِّرُ تكبيراً أنكىَ في العدوِ مِن كَثير مِن الفَتكِ بِهم، ويَخوضُ فِيهم خَوضَ رَجلٍ لا يخافُ المَوت) [14].
وقالَ: (رأوا مِنهُ في فَتحِ عَكةَ أموراً مِن الشجَاعةِ يَعجزُ الواصِفُ عَن وصفِها، قالوا ولَقد كانَ السَببُ في تَملُكِ المُسلمين إيَاها بِفعلِهِ، ومَشورتِهِ وحُسنِ نَظرِهِ) [15].
كَيفَ الخُروجُ مِن نَازِلتِنَا؟
لا شَكَ أن الخروجَ لا يكونُ إلا بمراجعةِ الدِّينِ، وكانَ مِن أساسياتِ استحقاقِ العذابِ هو تركُ الجهادِ، وانتشارِ الفَسادِ، وعمومِ الظلمِ قالَ صَلى اللهُ عليهِ وسَلمَ: (مَا تَركَ قَومٌ الجَهَادَ إلا عَمَهم اللهُ بِالعذابِ) [16]، وقالَ: (إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ , وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ , وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ) [17].
أقولُ تَأمل أخي القارئُ الكريم - وفقنيَ اللهُ وإيَاكَ للسدادِ - في دَورِ شيخ الإسلامِ رحمَهُ اللهُ تَعالىَ، وهو دَورُ العَالِمِ العَامِلِ، لا دَورُ المُنظِرِ القَاعِدِ، فانظر كيفَ كانَ يُصَفِي الأُمَةَ مِن مُستنقعاتِ الفسادِ بِنفسِهِ، وكيفَ يُحرِّضُ أهلَ الإيمانِ بِنَفسِهِ، وكيفَ كانَ يَدُورُ فِي كُلِّ لَيلَةٍ على الأسوارِ بِنفسِهِ، وكيفَ كانَ يُقوِّى عِزائِم الولاةِ بِنَفسِهِ، وكيفَ كانَ يَقودُ المعَاركَ بَنفسِهِ، وكيفَ كانَ يَعِدُ النَّاسَ بِالنَّصرِ ويُقسِمُ على ذلكَ بِنفسِهِ، وكيفَ كَانَ يَحلِفُ على عَدمِ الفِرارِ، ويُحلِّفُ النَّاسَ على ذلكَ.
فاللهُ أكبرُ أينَ هَذهِ القُدوةُ اليوم لشبَابِ الإسلامِ؟! ولكِن لا شَكَ أن الخَيرَ في الأمةِ قَائمٌ؛ إذاً لا يُمكِنُ الخروج مِمَّا نَحنُ فِيهِ إلا إذا فَعلنَا كمَا فَعَلوا، وسلَكنَا سبِيل مَا سَلَكوا، دُونَ الالتفاتِ إلى المُرجِفِينَ، والسَّماعِ للمُعوِّقينَ، والتأملِ في كلامِ مَن في قُلوبِهم مَرضٌ، ومَن كانَ لَهُ في الدُنيا عَرَضٌ، حَيثُ وأن الأمَوال قد سُلبت، وأن الأعراضَ قدِ انتهِكت، والمساجِدَ هُدِّمت، والنُّفوسَ قُتِلت، والدِّيانَةَ أُرخِصَت، والنُصرَانيَّةَ طَمَت، والصُهيونِيَّةَ عَمَت، فَلا سَبيلٌ إلا الجهادُ تَربِيَةً، وفِعلاً، بَياناً وسِنَاناً، حتى يَكشفَ اللهُ الغُمةَ، ويَرفَعَ الذِّلةَ، وتُشرقَ الأرضُ بِنورِ ربِها، وسُنَّةِ نبِيِّها؛ فإن لم يَكُن هذا فوالله لا نزدادُ إلا خُذلاناً، ولا نَحصدُ إلا ذُلاً.
خاتمة:
كَلَامُ اللهِ جَلَّ وعَزَّ:
قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
كَلامُ رَسولِ اللهِ صَلَىَ اللهُ عَليهِ وسَلمَ:
(أفضُلُ الشُهداءِ الَّذينَ يُقاتَلونَ في الصَفِ الأولِ فَلا يَلفِتُونَ وجوهَهم حتى يُقَتَلوا أولئكَ يَتلبَّطُونَ في الغُرفِ العُلى مِن الجَنَّةِ، يَضحكُ إليهمُ ربُكَ، فإذا ضَحِكَ ربُك إلى عَبدٍ في مَوطنٍ فلا حِسابَ عليهِ) [18].
(ثَلاثةٌ يُحبهم اللهُ، ويضَحكُ إليهم، ويستبشرُ بهم: الذي إذا انكشفت فئةٌ، قاتلَ وراءها بِنفسِهِ للهِ عزَّ وجلَّ، فإمَّا أن يُقتلَ وإمَّا أن ينصرَهُ الله ويَكفِيهِ، فيقول اللهُ: انظروا إلى عَبدي هَذا كيفَ صبرَ لِي بِنَفسهِ...) [19].
(ثلاثةٌ يُحبهم اللهُ، و ثلاثةٌ يشنؤهم اللهٌ: الرَّجُلُ يَلقى العَدو في فئةٍ فَينصِبُ لهم نَحرَهُ حتىَ يُقتَلَ أو يفتحَ لأصحابِهِ...) [20].
(مقامُ أحدِكُم في سبيلِ اللهِ خُيرٌ مِن صلاةِ سِتينَ عاماً خَالياً؛ ألا تُحبونَ أن يَغفرَ اللهُ لَكم ويُدخلِكم الجنَّةَ؟ اغزوا في سبيلِ اللهِ؛ مَن قاتل في سبيل الله فُواق ناقةٍ وجبت لَهُ الجَنَّة) [21].
(... وإنِّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليدعو يومَ القِيامَة الجَنَّةَ فتأتي بزُخرفِها، وزِينتِها فيقول: أينَ عبادي الَّذينَ قَاتَلوا في سَبيلي، وقُوتِلوا، وأُوذوا في سَبيلي، وجَاهدوا في سَبيلي، ادخلوا الجَنَّةَ، فيدخُلونَها بِغيرِ حِساب؛ وتأتي الملائكة فيسجدونَ، فيقولونَ: ربنَا نحنُ نُسبحُ بِحمدِكَ الليل والنَّهار ونُقدِّسُ لكَ، مَن هؤلاءِ الَّذينَ آثرتَهم عَلينَا؟ فيقولُ الرَّبُ عزَّ وجلَّ: هؤلاءِ عِبادي الَّذينَ قَاتَلوا في سَبيلي، وأُوذوا في سبيلي، فَتدخلُ عَليهم المَلائكة مِن كُلِّ بَاب {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}) [22].
أقول: إنَّ الأحداثَ جامعاتٌ تربيةٌ , ومِحنَها مِنَحٌ عِلمِيَّةٌ ربَّانِيةٌ، يَتخرجُ مِنها رِجَالٌ تُسَاسُ بِهم عِظَام المُدلهمات لِيستَحقِقُوا وبِجدارةٍ عُروشَ خَوافقِ المُمتلكات، وبالمقابلِ يُمنَحُ فِئامٌ مِن النَّاسِ أردى المقاماتِ، وأدنى الدرجاتِ، وكُلَّما امتُحِنَ الذَّهَبُ صَفىَ، وكُلَّمَا امتُحِنَ الكَدَرُ اختَفىَ، والزَّبَدُ يَذْهَبُ جُفَاء، ومَا يَنفَعُ النَّاسَ حَظُهُ البَقاء، لِيُعلِنَ العدلُ نورَهُ، والمجدُ زَهوَهُ وسُرُورَاه.
[1] الكامل في التاريخ ج1/ص10
[2] الفتاوى ج28/ص426
[3] الفتاوى ج28/ص432
[4] الفتاوى ج28/ص427
[5] الفتاوى ج28/ص466
[6] الفتاوى ج28/ص457
[7] حديث صَحيح
[8] الفتاوى ج28/ص442
[9] البداية والنهاية ج14/ص11
[10] البداية والنهاية ج14/ص11
[11] البداية والنهاية ج14/ص12
[12] البداية والنهاية ج14/ص14
[13] البداية والنهاية ج14/ص23
[14] الأعلام العلية ج1/ص67
[15] الأعلام العلية ج1/ص68
[16] أنظر الصحيحة رقم (2663)
[17] رواه أبو داود وهو صحيح
[18] رواه أحمد عن نعيم بن همار وهو صحيح.
[19] رواه البيهقي في الأسماء والصفات من حديث أبي الدرداء وهو محتج به.
[20] رواه أحمد عن أبي ذر وهو حسن.
[21] رواه أحمد عن ابي هريرة وهو حجة.
[22] انظر الصحيحة 2559عن عبد الله بن عمرو.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسُولِهِ الأمِين.
أمَا بَعدُ:
* * *
مُقدِّمَةٌ:
أيُها القارئُ الكريمُ كانَ الحرصُ بمقامٍ أمينٍ على إخراجِ هذا الموضوع في حُلَّةٍ وَضَحاء لتُبدِّدَ براثنَ الحِيرةِ، وتُهدِّمَ أنيابَ النَّازلةِ الكاشرةِ الشِّرِّيرةِ، وتَمحو شُحوبَ الشُكوكِ القَائِمةِ المَستورةِ الخَطيرةِ، وتَقْطَعُ نياطَ المُجادلاتِ الرَّابضةِ السَّعيرةِ، وذلك بآياتِ اللهِ المُشتهرةِ، وسُنةِ نبيهِ المُنتصرةِ، والسُننِ الكونيةِ القَاهرةِ على صفحةٍ صبحاء نيَّرة، فلِذلك أرجو أن لا يبلُغَ بِك الهوانُ منازل الأحزانِ بِحرمانِكَ الوقوف على حقِ اليقينِ، ونُورِ اللهِ المُبينِ.
* * *
هَل مَرَّت الأمةُ بِنازلةٍ كنازِلتِنَا؟
إنَّ الجوابَ على هذا السؤالِ يلزمُ مِنهُ تصوير الحاضرِ بكلِ دقائِقهِ، وجرائرِهِ، وقوالبهِ، ومشارِبهِ، لتنقلَ صورةً جليةً لمحركاتِ البحثِ التاريخيةِ بوسيلةِ سبرِ التاريخِ الثخينِ للحصولِ على نسخةٍ حيَّةِ ماضيةٍ نَسَجَت سُنَّةُ الله منها حاضرَ الحالِ، وللجوابِ على هذا السؤالِ أقولُ: نَعم مَرَّت على الأمةِ نوازلٌ كنازِلتِنا.
لذلك يقولُ ابن الأثيرُ رحمَهُ اللهُ تعالىَ: (فإنَّهُ لا يحدثُ أمرٌ إلا قد تَقدمَ هوَ أو نظِيرهُ، فيزدادُ بِذلكَ عقلاً، ويصبحُ لأن يُفتدى بِهِ أهلاً) [1].
وأكَّدَ هذا الأمرُ شيخُ الإسلامِ ابن تيمية رحمهُ اللهُ تعالى بكلامٍ نَفيسٍ، بل يكادُ أن يكونَ عديم النظيرِ فيمَا أعلمُ بقولهِ: (وَإِنَّمَا قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا قِصَصَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الْأُمَمِ لِتَكُونَ عِبْرَةً لَنَا. فَنُشَبِّهُ حَالَنَا بِحَالِهِمْ وَنَقِيسُ أَوَاخِرَ الْأُمَمِ بِأَوَائِلِهَا. فَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ شَبَهٌ بِمَا كَانَ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَيَكُونُ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ شَبَهٌ بِمَا كَانَ لِلْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى لَمَّا قَصَّ قِصَّةَ يُوسُفَ مُفَصَّلَةً وَأَجْمَلَ قِصَصَ الْأَنْبِيَاءِ).
ثُمَّ قَالَ: ({لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى} أَيْ هَذِهِ الْقَصَصُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا يُفْتَرَى مِنْ الْقَصَصِ...).
إلى أن قالَ: (فَأُمِرنَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَمِمَّنْ قَبْلَهَا مِنْ الْأُمَمِ. وَذَكَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: أَنَّ سُنَّتَهُ فِي ذَلِكَ سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ وَعَادَتُهُ مُسْتَمِرَّةٌ. فَقَالَ تَعَالَى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إلَّا قَلِيلًا}، {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}) [2].
فَمن هُنا يتبينُ أن سنةَ اللهِ تقتضي أن يكونَ لنِازِلتِنَا أُختٌ، أو قَريبةٌ، ولكِن فِي أيِّ سطرٍ مِن سٌطورٍ التَاريخِ هيَ؟
* * *
مَا هِي الثَمرةُ لِمعرفةِ نَازِلَة كنَازِلتِنَا؟
لا شَك الجَميعُ يبحثُ عن مخرجٍ مِن ذلٍ أرسى مَراكِبَهُ على عَواتِقِنَا، وعَن ظُلمٍ فُصِِّّلَت ثِيَابَهُ لأرواحِنَا، وعن قَهرٍ خُلقَ لِيستوطنَ قلوبِنَا، وعن فَقدِ مَجدٍ أصبَحَ رِثَاءهُ لَحناً لدى صِغارِنَا وكبَارِنا، هُنا أقولُ لكَ أخي القارئُ الكَريم دَع ما فِي يديكَ لِتعلَمَ كيفَ خَلَصَ القَومُ من نَازِلتِهم، وكيفَ تعَامَلَ مَعها العَامةُ والخَاصةُ، والأميرُ والمأمورُ، وعالمُ الملةِ ومنافِقِ الأُمةِ، لِتكونَ لنَا عِبرة ولأجيَالِنا وعِظة.
* * *
أسبَابُ نَازِلة مَن قَبلِنَا:
لَقد ذَكرَ شيخُ الإسلامِ ابن تيميةَ رحمَهُ اللهُ تعالى نَازِلة كنَازِلتِنَا عَاشَرَ أسبَابَها، وأهَوالَها، ودَاءها، ودواءَها، ورِجَالَها، ومُنافِقِيها فَخطَ لنَا صُورتها بِقلَمِهِ، وسَأذكُرُ لَكم أوجُه الشَّبَهِ بَيننا وبَينها.
فقالَ عَن أسبابِها: (وَكَانَتْ هَزِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي بِذُنُوبِ ظَاهِرَةٍ، وَخَطَايَا وَاضِحَةٍ مِنْ فَسَادِ النِّيَّاتِ، وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَعَنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَالْبَغْيِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَالرُّومِ، وَكَانَ عَدُوُّهُمْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ رَاضِيًا مِنْهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ وَالْمُسَالَمَةِ، شَارِعًا فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَكَانَ مُبْتَدِئًا فِي الْإِيمَانِ وَالْأَمَانِ، وَكَانُوا هُمْ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَحْكَامِ الْإِيمَانِ) [3] أهـ
* * *
أسبَابٌ نَازِلتِنَا:
أنتجتها ذٌنوبٌ العِبَادِ، حٌكَاماً ومحكٌومينَ، مِن اتِّساعِ رٌقعَة الشِّركِ، وتقديسِ البِدعةِ، وطَلبِ الرِّبا، وانتشارِ الزِّنَا، ورفعِ المَأبونينَ نجوم بِِهم يُهتدىَ، والمأفونينَ سَادة سُننُهم تُحتَذىَ، والمُنافِقينَ رِجال التَّنظِيرِ قولُهم نورٌ بِهِ يُقتدىَ، فَاحشةٌ في الأرضِ، وأُخرى في السماءِ، فَطغى المُسلِم حتى هَانت عليهِ المَعصِية، يُقارِفها في فُلكِ البَحرِ أو أفلاكِ الفَضاء، لا يَخلو لِلمسلِمِينَ مَأوى إلا ودَخلهُ التَّغريبُ، ولا مَراح إلا وداهمَهُ التَّخريبُ، تنصيرٌ ينتشِر، وإِسلامٌ يعتصِر، وقيمٌ تحتضِر، كُلَما خَطَ الإصلاحٌ سَبِيلَهٌ بِالمِدادِ قََذَفَهُ الحال في مُستنقعَاتِ الفَسَادِ، حتى أعلَن على نَفسِهِ الحِداد، للفضَائِياتِ حَظٌ يَفوقُ حُظوظ القرآنِ، وفَاق مُتابعة الـ mbc والـ lbc سنةَ النَّبِي، فَتعددت مَشارِبُ الفَسادِ، بِصورةِ لم يَشهَد لَهَا التَاريخُ نَظِير، حتى جَعَلَت مِن وَجهِ العَالمِ عَبوساً قَمطرير، ولك أن تستَثني إلا ما رحمَ ربي مَع إيرادِ صُورِ الفَسادِ، ودِعَايات الجُرمِ عبَرَ فَواتِير الكَهرُباء، ولوحَات الشَوارعِ، ومنَاظِر الأسوَاقِ، وأغلِفةِ السِّلعِ، ونغماتِ وأفلامِ وصورِ الهواتف النَّقَالةِ، فسُمِمَت الأجوَاء، وأُفسِدَ الجِيل، إلا قَليلٌ من قليلٍ من قليلِ.
* * *
تَداعِي الأُمم عَليهِم:
قالَ رحمَهُ اللهُ تعالىَ: (فَيَنْبَغِي لِلْعُقَلَاءِ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِسُنَّةِ اللَّهِ وَأَيَّامِهِ فِي عِبَادِهِ، وَدَأْب الْأُمَمِ وَعَادَاتُهُمْ، لَا سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي طَبَّقَ الْخَافِقَيْنِ خَبَرَهَا، وَاسْتَطَارَ فِي جَمِيعِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ شَرَرُهَا، وَأَطْلَعَ فِيهَا النِّفَاقُ نَاصِيَةَ رَأْسِهِ، وَكَشَّرَ فِيهَا الْكُفْرُ عَنْ أَنْيَابِهِ وَأَضْرَاسِهِ، وَكَادَ فِيهِ عَمُودُ الْكِتَابِ أَنْ يَجْتَثَّ وَيَخْتَرِمَ، وَحَبْلُ الْإِيمَانِ أَنْ يَنْقَطِعَ وَيَصْطَلِمَ، وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَحِلَّ بِهَا الْبَوَارُ، وَأَنْ يَزُولَ هَذَا الدِّينُ بِاسْتِيلَاءِ الْفَجَرَةِ التَّتَارِ، وَظَنَّ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنَّ مَا وَعَدَهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلَّا غُرُورًا، وَأَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ حِزْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَظَنُّوا ظَنَّ السَّوْءِ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا، وَنَزَلَتْ فِتْنَةٌ تَرَكَتْ الْحَلِيمَ فِيهَا حَيْرَانَ، وَأَنْزَلَتْ الرَّجُلَ الصَّاحِيَ مَنْزِلَةَ السَّكْرَانِ، وَتَرَكَتْ الرَّجُلَ اللَّبِيبَ لِكَثْرَةِ الْوَسْوَاسِ لَيْسَ بِالنَّائِمِ وَلَا الْيَقِظَانِ، وَتَنَاكَرَتْ فِيهَا قُلُوبُ الْمَعَارِفِ وَالْإِخْوَانِ، حَتَّى بَقِيَ لِلرَّجُلِ بِنَفْسِهِ شُغْلٌ عَنْ أَنْ يُغِيثَ اللَّهْفَانَ، وَمَيَّزَ اللَّهُ فِيهَا أَهْلَ الْبَصَائِرِ وَالْإِيقَانَ، مِنْ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَوْ نِفَاقٌ وَضَعْفُ إيمَانٍ، وَرَفَعَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، كَمَا خَفَضَ بِهَا أَقْوَامًا إلَى الْمَنَازِلِ الْهَاوِيَةِ، وَكَفَّرَ بِهَا عَنْ آخَرِينَ أَعْمَالَهُمْ الْخَاطِئَةَ، وَحَدَثَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلْوَى مَا جَعَلَهَا قِيَامَةُ مُخْتَصَرَةً مِنْ الْقِيَامَةِ الْكُبْرَى) [4].
* * *
تدَاعِي الأُمم عَلينَا:
أقبَلت أممُ الكفرِ والإلحادِ بعددِها وعُدَّتِها،وألَّبِت البَشر عَربَها وعَجمهَا، وطَوَّعَت سُبُل الدُنيا أرضَها وسَماءَها، وبَرهَا وبَحرَها، وسهولَها وجبَالها، بِقوةٍ لم يُسجِل التَاريخُ مِثلَها، ولم تَشهد العُصورُ نَظِيرَها، قَنابِلٌ ذَكيةٌ، وصواريخٌ فتيةٌ، وطائراتٌ ظاهرةٌ وخفيةٌ، ومجنزراتٌ شرسةٌ قويةٌ، وأقمارٌ صناعيةٌ، تقذِف الأرضَ ناراً، والسماءَ شَرارا، والبَحرُ يَخلُقُ دمَاراً، فقنابِلَهم الذَّكية تقتلُ الأطفالَ، وصواريخَهم الفَتيةَ تفعلُ في النِّساءِ الأهوال، وطائراتَهم الخفيةَ تصنعُ في المباني سيئ الأحوَال، بدأو بِبورمَا فقتلوا مِن نِسائِها مِئة ألف وألقوهم في نِهراها قَهرا، ومروا بالبوسنةِ فانتهكوا ما يَربو عَن ثَلاثينَ ألف امرأة جُورا، وشَووا بِقذائفِهم كَبِد أكثر من عشرينَ ألفِ طِفلٍ ظُلماً وعدوانا، ومَالوا نَحو كُوسوفَا ففي يومٍ واحدٍ أكثرَ مِن عِشرينَ ألفٍ مِن رِجالِهم ونِسائهم وأطفالِهم قَضَوا عليهم بَغيَاً وعُلُوا، ومروا بِالأفغان فلم يُوقروا فِيهم كَبير، أو رحِموا صَغِير، ولم يَأزُهم ضَمِير، وهاهمُ اليوم في أرضِ الخِلافةِ فََعلوا ما لم يُوصف، أو يُسمَع بِهِ فَيُعلَمَ ويُعرَف، دِماءٌ منهمرةٌ، وأشلاءٌ منتشرةٌ مبعثرة، ونساءٌ مُنهكَاتٌ مُنتهكاتٌ أسِيراتٌ مُعتصِراتٌ مُقهَرَة، حُجِبَ المَاءُ، ومُنِعَ الكَلاُ، وفُقِدَ الدَّواءُ، وتقَاطَعَ الأقرِبَاءُ، وقطعت الكهرباء، وفُرِّقَ بين الأبِ وبنِيهِ، والأخِ وأخيهِ، والمحبِ ومحبِّيهِ، وعَزَّ على النَّاسِ قَضاء حَوائجِهم، ونَيل مَآرِبهم، خَوفٌ مٌطبِِقٌ، ودمارٌ مُحرِقٌ، وجُوعٌ مُعزقٌ، فلا يُحفظُ دِينٌ، ولا عرضٌ، ولا عَقلٌ، ولا نفسٌ، ولا مالٌ، فيا لِهولِ البَلِيةِ، ويا عظيمَ الرَّزيَّة.
* * *
حَالُ الأُمَةِ في نَازِلتِهم:
أخي القارئُ الكَريم يَجبُ أن تَعرفَ حَالهم لِيستبينَ لك مِن الظُلُمَاتِ الطَريق، وتَستوضِحَ سبيل مُعاملة المُؤمنِ والكافرِ والزِندِيقِ.
قال رحَمَهُ اللهُ تعالىَ: (وَكَرَّ الْعَدُوُّ كَرَّةً فَلَمْ يَلْوِ عَنْ.. وَخُذِلَ النَّاصِرُونَ فَلَمْ يَلْوُوا عَلَى.. وَتَحَيَّرَ السَّائِرُونَ فَلَمْ يَدْرُوا مَنْ.. وَلَا إلَى.. وَانْقَطَعَتْ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ. وَأَهْطَعَتْ الْأَحْزَابُ الْقَاهِرَةَ) [5].
* * *
حَالُ الأمةِ في نَازِلتِنَا:
وكَأنًّهٌ رحمَهُ اللهُ تعالى يتحدثُ عَن حَالِنا، ويُجلِّي صُورتَنا، لقدَ خَذلَ النَّاصِرونَ إخوَانهم، وقعدوا عن مَظَالِمِ أمتِهم، ورضوا مِن الدنيا بِتزييِنِ مساكنِهم، وتلوينِ مشارِبهم ومطاعمِهم، وتَحَيَّر بُغاة الخيرِ بسببِ الإرجافِ والتَّعويقِ، وقلَّةِ العلمِ باللهِ، والركونِ إلى الدُنيا، واستظهَرَ المُنظِّرونَ اليَوم أن الأسبابَ الجَالبَةَ للنَّصرِ مَقطُوعةٌ، والطَريقَ إليها ممنوعةٌ، فلا فَرق بَيننا وبينَهم.
* * *
حَالٌ المٌجاهدين في نَازِلتِهم:
قالَ رحمَهُ اللهُ تعالىَ: (وَانْصَرَفَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ، وَتَخَاذَلَتْ الْقُلُوبُ الْمُتَنَاصِرَةُ، وَثَبَتَتْ الْفِئَةُ النَّاصِرَةُ، وَأَيْقَنَتْ بِالنَّصْرِ الْقُلُوبُ الطَّاهِرَةُ، وَاسْتَنْجَزَتْ مِنْ اللَّهِ وَعْدَهُ الْعِصَابَةُ الْمَنْصُورَةُ الظَّاهِرَةُ، فَفَتَحَ اللَّهُ أَبْوَابَ سَمَاوَاتِهِ لِجُنُودِهِ الْقَاهِرَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَى الْحَقِّ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةَ، وَأَقَامَ عَمُودَ الْكِتَابِ بَعْدَ مَيْلِهِ، وَثَبَتَ لِوَاءُ الدِّينِ بِقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ، وَأَرْغَمَ مَعَاطِسَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ إلَى يَوْمِ التلاق).
* * *
حَالُ المُجاهِدينَ فِي نَازِلتِنَا:
قَام سَاداتُ الإسلامِ وبِلا مُنازع، وأعلامُ الرجولةِ آيةٌ لكلِ نَاظرٍ وسامع، لِنَصرِ دينِ ربِهم العليمِ السَّامع، مُتجاوزينَ كلَّ الفجَائِع، ومُتجاهلينَ لكلِ مُخذلٍ ومُرجفٍ ومُخادع، لِيدُكُّوا كلَّ المواقع، ويَضربوا كلَّ المَجامع، مَطالبهم الجِنَان، وغَايتهم رضا الرحمَان، حياةٌ على الإسلامِ أو اللحاق بخيرِ الأنامِ، فَقَهَرَ اللهُ بِهم الأعداء، وخَيَّبَ أماني المُرجفينَ البُلهاء، وأحرقَ بأيديِهم أفئدة العُملاء، أفلح والله من لحِقَ بِهم، ونَجَحَ مَن كانَ مَعهم، بعيشِ الكُرمَاء، أو بجوار ربِّ الأرضِ والسماء، وخَابَ مَن خذَّلَ ونَزل، وظَلَّ مَن جافاهم وَزل.
* * *
حَالُ المنافِقينَ والمُعوقِين مِن الجِهادِ وأهلِهِ في نَازِلتِهم:
قالَ رحمَهُ اللهُ تَعالىَ: (أمَا المُنافِقونَ فَلهم شَأنٌ آخر، ولَهمَ مَوقفٌ لا يَختلِفُ كثيراًَ عن مَواقِفِ أسلَافِهم فِي غزوةِ الأحزَابِ، حِينَ ابتلِيَ المُؤمِنونَ، وبِلغَت القلوبُ الحنَاجِرَ، وظَنوا بِاللهِ الظنونَا، وكانَوا شِيعَاً؛ فمِنهُم مَن قَالَ: مَا بَقِيَتْ الدَّوْلَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ تَقُومُ فَيَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي دَوْلَةِ التَّتَارِ. وَقَالَ بَعْضُ الْخَاصَّةِ: مَا بَقِيَتْ أَرْضُ الشَّامِ تُسْكَنُ؛ بَلْ نَنْتَقِلُ عَنْهَا إمَّا إلَى الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَإِمَّا إلَى مِصْرَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ الْمَصْلَحَةُ الِاسْتِسْلَامُ لِهَؤُلَاءِ كَمَا قَدْ اسْتَسْلَمَ لَهُمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ وَالدُّخُولُ تَحْتَ حُكْمِهِمْ...).
إلى أن قالَ: (تَارَةً يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْنَا بِشُؤْمِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ الَّذِينَ دَعَوْتُمْ النَّاسَ إلَى هَذَا الدِّينِ وَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهِ وَخَالَفْتُمُوهُمْ... وَتَارَةً يَقُولُونَ - أَنْتُمْ مَعَ قِلَّتِكُمْ وَضَعْفِكُمْ - تُرِيدُونَ أَنْ تَكْسِرُوا الْعَدُوَّ وَقَدْ غَرَّكُمْ دِينُكُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. وَتَارَةً يَقُولُونَ: أَنْتُمْ مَجَانِينُ لَاعقل لَكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُهْلِكُوا أَنْفُسَكُمْ وَالنَّاسُ مَعَكُمْ، وَتَارَةً يَقُولُونَ: أَنْوَاعًا مِنْ الْكَلَامِ الْمُؤْذِي الشَّدِيدِ) [6].
* * *
حَالُ المنافِقينَ والمُعوقِين مِن الجِهادِ وأهلِهِ في نَازِلتِنَا:
وأنا أقسمُ بِاللهِ العَظيم، الَّذي هوَ رَبي وبِيدهِ مَلاكُ أمرِي وأمر العَالمينَ أجمعِين؛ أنَّ هذا الرجلُ كَأنهُ يَصفُ حَالَنَا، فلَقد رَأينَا مَن قَالَ لا يمكنُ أن تُطبقَ الشَّريعِة في عَصرِنَا، أو تقومَ قائمةُ الإسلامِ في جُلِّ شأنِنَا، وينبغي لنَا الرِّضَا بالديمقراطيَّةِ الأمريكيةِ فهي غَيثُ عصرِنَا، وقالَ بَعضُ الخَاصةِ يجبُ الهِجرة لِمَن لم يستطع إِقامَة دِينهِ، وهو لم يَبذِل في دفعِ العدوِ واجبَهُ وقدرتَهُ، وقال مِن العُلماءِ الواجبُ الاستسلام وتسليمِ السِّلاحِ، والخضوع مع تركِ الكِفَاح، ومَن قام بواجبِ الجِهادِ وما أمرَ اللهُ بهِ فأصابَه قرحٌ قالوا هذا مِن شُؤمِكم، وما وقَعت الأمة في هذه البَليةِ إلا بِفعالِكم، فأنتم رأس البَلاءَ، وأصلُ الفسادِ، وقادةُ الإرهابِ، وكذبوا، وخابوا، وخسروا؛ ويقولونَ أنتم ضُعفاء لا تقوى قُوتُكم لمُجابهةِ طائراتِ أمريكا، فأسلِموا أمرَكُم إلى مُرادِها، ومُرادُها التَنصِير، فحسبُنا اللهُ اعملوا مَا شِئتُم إِنَّهُ بِمَا تَعملون بَصِير.
ويَرمُون أهل الجِهادِ بالغُرورِ، والتَّسرعِ، والحُمقِ، وعدمِ الفهمِ، والبُعدِ عن تقديرِ المصَالحِ، وتارةً يقولون الجِهادُ تَهلُكة، فسبَحان مَن لا تَجِدُ لسُنَتِهِ في خَلقِهِ تَبدِيلا، ولا تَحوِيلا.
وصَدق الرسولُ الكريم صَلَى اللهُ عليهِ وسلمَ إذ قَالَ: (ليَأتِينَ على النَّاسِ زَمَانٌ قُلوبُهم قلوبُ العَجَمِ قُلتُ وما قُلوبُ العَجَمِ قَالَ، حُبُ الدُنيا، سُنتهم سنة الأعرابِ، مَا أتَاهم مِن رِزقٍ جَعلوهُ في الحَيوانِ يَرونَ الجِهاد ضَرراً، والزكاة مغرماً) [7].
مَعَ العِلمِ أنَّ أهلَ الثُغُورِ همُ المَهديونَ، المُوفَّقونَ مِن ربِهم سبحانَهُ.
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمهُ اللهُ: (وَلِهَذَا كَانَ الْجِهَادُ مُوجِبًا لِلْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ مُحِيطَةٌ بِأَبْوَابِ الْعِلْمِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فَجَعَلَ لِمَنْ جَاهَدَ فِيهِ هِدَايَةَ جَمِيعِ سُبُلِهِ تَعَالَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامَانِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ وَغَيْرُهُمَا: إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي شَيْءٍ فَانْظُرُوا مَاذَا عَلَيْهِ أَهْلُ الثَّغْرُ فَإِنَّ الْحَقَّ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}) [8].
* * *
أينَ وجِدَ النِّفاقُ في نَازِلتِهم؟
قالَ رحمَهُ اللهُ تَعالَى: (وَيُوجِدُونَ فِي الْمُتَصَوِّفَةِ، وَالْمُتَفَقِّهَةِ، وَفِي الْمُقَاتِلَة، وَالْأُمَرَاءِ، وَفِي الْعَامَّةِ أَيْضًا، وَلَكِنْ يُوجِدُونَ كَثِيرًا فِي نِحَلِ أَهْلِ الْبِدَعِ؛ لَا سِيَّمَا الرَّافِضَةُ).
* * *
أينَ وجِدَ النِّفاقُ في نازِلتِنَا؟
لا حِظ أخي القَارئُ الكريم أن مَن ذكرَهم رحمَهُ اللهُ تعالى مِنهم مَن يَنتَسِبُ لِحمايةِ وحفظِ الدِّينِ إن لم يكن كُلُهم، وأخُصُّ بِالذكرِ "المُتفقهة"، ولقد رأينَا فِي زمَانِنَا مِن هذا الكَثير والكثير مِن أضرَابِ مَن ذكَرَهم، وهذا لا يَحتاجُ لزيادةِ بيانٍ، وكبيرِ برهانٍ، واللهُ المستعانُ، وعليه التُكلان.
* * *
كيفَ خَرجوا مِن نَازِلتِهِم؟
ونَدعُ الكلامَ لشيخِ الإسلامِ رحمَهُ اللهُ تَعالى حيثُ قالَ: (وَكَانَ مَبْدَأُ رَحِيلِ قازان فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ وَأَرَاضِي حَلَبَ؛ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حَادِيَ عَشَرَ جُمَادَى الْأُولَى يَوْمَ دَخَلَتْ مِصْرَ عَقِيبَ الْعَسْكَرِ، وَاجْتَمَعَت بِالسُّلْطَانِ وَأُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الِاهْتِمَامِ بِالْجِهَادِ مَا أَلْقَاهُ، فَلَمَّا ثَبَّتَ اللَّهُ قُلُوبَ الْمُسْلِمِينَ صَرَفَ الْعَدُوَّ جَزَاءً مِنْهُ، وَبَيَانًا أَنَّ النِّيَّةَ الْخَالِصَةَ، وَالْهِمَّةَ الصَّادِقَةَ يَنْصُرُ اللَّهُ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ الدِّيَارُ 0 انتهَى كَلامهُ رحمَهُ اللهُ تعالىَ ولكن أخي القارئ تَعَالَ لَقد جَمعتُ لكَ مَن التَاريخِ مَا فَعَلَهُ ابنُ تيميةَ بِصدَدِ التَّربِيةِ والتَّصفِيةِ العَمليةِ، فقالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ: وفِي بُكرةِ يومِ الجُمعةِ المَذكور دَارَ الشيخُ تقي الدينِ بن تيمية رحمَه اللهُ وأصحابُهُ على الخمَاراتِ، والحَاناتِ فَكسروا آنيةَ الخُمورِ، وشَققُوا الظُروفَ، وأراقوا الخُمورَ، وعَزروا جمَاعة مِن أهل الحَاناتِ المُتخذَة لِهذهِ الفََواحشِ) [9].
وأمَا في شَأنِ جِهادِهِ يَقولُ: (وكانَ الشيخُ تقي الدين بن تيمية يَدور كُلَّ لِيلةٍ علَى الأسوارِ يُحرضُ النَّاسَ على الصبرِ والقِتَالِ، ويَتلوَ عليهم آيات الجِهادِ والرِّباطِ) [10].
وقالَ: (وخرجَ الشيخُ تقي الدين بن تيمية وَمعَهُ خَلقٌ كثيرٌ مِن المُتطوعةِ والحوارنةِ لِقتالِ أَهلِ تِلكَ النَّاحيةِ بِسببِِ فسادِ نيتِهم، وعقائدِهم، وكفرِهم وضلالِهم، ومَا كانوا عَامَلوا بهِ العسَاكِر لما كَسرَهم التتر وهربوا حينَ اجتَازوا بِبِلادِهم وثَبوا عليِهم ونَهبوهم واخَذوا أسلِحتَهم، وخُيُولَهم، وقتَلوا كثيراً مِنهم، فلمَّا وصَلوا إلى بِلادهم جَاء رؤساؤهم إلى الشيخِ تقي الدين بن تيمية فَاستتابهم، وبينَ للكثيرِ مِنهم الصَواب) [11].
وَذَكَرَ نازلةٌ في عامِ سبعمائةٍ ومَا مَوقفُ ابنُ تيميةَ مِنها، فقالَ: (وجلسَ الشيخُ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صَفر بمجلسِهِ في الجامِعِ وحَرَّضَ النَّاسَ على القتالِ، وساقَ لهم الآيات والأحاديثَ الواردة في ذلكَ، ونَهى عن الإسراعِ في الفِرارِ، ورغَبَ في إنفاقِ الأموَالِ في الذَّبِ عِن المُسلمينَ وبِلادِهم وأموَالِهم، وأن مَا يُنفقُ في أجرةِ الهَربِ إذا انفِقَ فيِ سبيلِ اللهِ كَانَ خيراً، وأوجبَ جِهاد التتر حَتمَاً في هذهِ الكَرةِ، وتَابعَ المَجالسَ في ذلكِ، ونُوديَ فِي البِلادِ لا يسافرُ أحدٌ إلا بمرسومٍ وورقةٍ) [12].
وانظر كيفَ تَعاملَ ابنُ تيمية والفقهاءُ مع نَازِلةِ "مَوقعة شَقحَب"، قال ابنُ كثير: (وَجَلَسَ القضَاةُ بالجامعِ، وحَلَفوا جَمَاعَةٌ مِن الفُقهاءِ والعَامةِ على القتَالِ، وتَوجَهَ الشَيخُ تقي الدين بن تيمية إلى العسكرِ الواصلِ مِن حَماةِ فاجتمعَ بِهم في القَطيعَةِ، فَأعلمَهم بِما تَحالفَ عَليِهِ الأمراءُ والنَّاسُ مِن لِقاءِ العَدوِ فَأجابوا إلى ذلكَ، وحَلَفوا مَعهم، وكانَ الشيخُ تقي الدينِ بن تيمية يَحلِفُ للأُمراءِ والنَّاسِ إنكم في هذه الكرةِ مَنصورونَ، فيقول لَه الأمراءُ قُل إن شَاء اللهُ، فيقولُ إن شَاء اللهُ تَحقيقاً لا تعليقاً) [13].
وقَالَ عُمر البزار رحمَهُ اللهُ تَعالىَ عَنهُ: (وأخبَرَ غَيرُ واحدٍ أن الشيخَ رضيَ اللهُ عَنهُ كَانَ إذا حَضَرَ معَ عَسكرِ المسلمينَ في جهادٍ يكونُ بَينهم واقِيتَهم، وقُطب ثبَاتِهم، إن رأى مِن بعضِهم هلعاً أو رِقةً أو جَبانَةً شَجَعَهُ، وثبتَهُ، وبَشرَهُ، ووعدَهُ بالنصرِ والظفرِ والغنيمةِ، وبينَ لهُ فضل الجهادِ والمجاهدينَ، وإنزال اللهِ عليهم السكِينةَ، وكانَ إذا ركِبَ الخَيلَ يتحنك ويَجولُ في العدوِ كأعظمِ الشُجعان، ويَقومُ كأثبتِ الفُرسَان، ويُكبِّرُ تكبيراً أنكىَ في العدوِ مِن كَثير مِن الفَتكِ بِهم، ويَخوضُ فِيهم خَوضَ رَجلٍ لا يخافُ المَوت) [14].
وقالَ: (رأوا مِنهُ في فَتحِ عَكةَ أموراً مِن الشجَاعةِ يَعجزُ الواصِفُ عَن وصفِها، قالوا ولَقد كانَ السَببُ في تَملُكِ المُسلمين إيَاها بِفعلِهِ، ومَشورتِهِ وحُسنِ نَظرِهِ) [15].
* * *
كَيفَ الخُروجُ مِن نَازِلتِنَا؟
لا شَكَ أن الخروجَ لا يكونُ إلا بمراجعةِ الدِّينِ، وكانَ مِن أساسياتِ استحقاقِ العذابِ هو تركُ الجهادِ، وانتشارِ الفَسادِ، وعمومِ الظلمِ قالَ صَلى اللهُ عليهِ وسَلمَ: (مَا تَركَ قَومٌ الجَهَادَ إلا عَمَهم اللهُ بِالعذابِ) [16]، وقالَ: (إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ , وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ , وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إلَى دِينِكُمْ) [17].
أقولُ تَأمل أخي القارئُ الكريم - وفقنيَ اللهُ وإيَاكَ للسدادِ - في دَورِ شيخ الإسلامِ رحمَهُ اللهُ تَعالىَ، وهو دَورُ العَالِمِ العَامِلِ، لا دَورُ المُنظِرِ القَاعِدِ، فانظر كيفَ كانَ يُصَفِي الأُمَةَ مِن مُستنقعاتِ الفسادِ بِنفسِهِ، وكيفَ يُحرِّضُ أهلَ الإيمانِ بِنَفسِهِ، وكيفَ كانَ يَدُورُ فِي كُلِّ لَيلَةٍ على الأسوارِ بِنفسِهِ، وكيفَ كانَ يُقوِّى عِزائِم الولاةِ بِنَفسِهِ، وكيفَ كانَ يَقودُ المعَاركَ بَنفسِهِ، وكيفَ كانَ يَعِدُ النَّاسَ بِالنَّصرِ ويُقسِمُ على ذلكَ بِنفسِهِ، وكيفَ كَانَ يَحلِفُ على عَدمِ الفِرارِ، ويُحلِّفُ النَّاسَ على ذلكَ.
فاللهُ أكبرُ أينَ هَذهِ القُدوةُ اليوم لشبَابِ الإسلامِ؟! ولكِن لا شَكَ أن الخَيرَ في الأمةِ قَائمٌ؛ إذاً لا يُمكِنُ الخروج مِمَّا نَحنُ فِيهِ إلا إذا فَعلنَا كمَا فَعَلوا، وسلَكنَا سبِيل مَا سَلَكوا، دُونَ الالتفاتِ إلى المُرجِفِينَ، والسَّماعِ للمُعوِّقينَ، والتأملِ في كلامِ مَن في قُلوبِهم مَرضٌ، ومَن كانَ لَهُ في الدُنيا عَرَضٌ، حَيثُ وأن الأمَوال قد سُلبت، وأن الأعراضَ قدِ انتهِكت، والمساجِدَ هُدِّمت، والنُّفوسَ قُتِلت، والدِّيانَةَ أُرخِصَت، والنُصرَانيَّةَ طَمَت، والصُهيونِيَّةَ عَمَت، فَلا سَبيلٌ إلا الجهادُ تَربِيَةً، وفِعلاً، بَياناً وسِنَاناً، حتى يَكشفَ اللهُ الغُمةَ، ويَرفَعَ الذِّلةَ، وتُشرقَ الأرضُ بِنورِ ربِها، وسُنَّةِ نبِيِّها؛ فإن لم يَكُن هذا فوالله لا نزدادُ إلا خُذلاناً، ولا نَحصدُ إلا ذُلاً.
* * *
خاتمة:
كَلَامُ اللهِ جَلَّ وعَزَّ:
قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
كَلامُ رَسولِ اللهِ صَلَىَ اللهُ عَليهِ وسَلمَ:
(أفضُلُ الشُهداءِ الَّذينَ يُقاتَلونَ في الصَفِ الأولِ فَلا يَلفِتُونَ وجوهَهم حتى يُقَتَلوا أولئكَ يَتلبَّطُونَ في الغُرفِ العُلى مِن الجَنَّةِ، يَضحكُ إليهمُ ربُكَ، فإذا ضَحِكَ ربُك إلى عَبدٍ في مَوطنٍ فلا حِسابَ عليهِ) [18].
(ثَلاثةٌ يُحبهم اللهُ، ويضَحكُ إليهم، ويستبشرُ بهم: الذي إذا انكشفت فئةٌ، قاتلَ وراءها بِنفسِهِ للهِ عزَّ وجلَّ، فإمَّا أن يُقتلَ وإمَّا أن ينصرَهُ الله ويَكفِيهِ، فيقول اللهُ: انظروا إلى عَبدي هَذا كيفَ صبرَ لِي بِنَفسهِ...) [19].
(ثلاثةٌ يُحبهم اللهُ، و ثلاثةٌ يشنؤهم اللهٌ: الرَّجُلُ يَلقى العَدو في فئةٍ فَينصِبُ لهم نَحرَهُ حتىَ يُقتَلَ أو يفتحَ لأصحابِهِ...) [20].
(مقامُ أحدِكُم في سبيلِ اللهِ خُيرٌ مِن صلاةِ سِتينَ عاماً خَالياً؛ ألا تُحبونَ أن يَغفرَ اللهُ لَكم ويُدخلِكم الجنَّةَ؟ اغزوا في سبيلِ اللهِ؛ مَن قاتل في سبيل الله فُواق ناقةٍ وجبت لَهُ الجَنَّة) [21].
(... وإنِّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليدعو يومَ القِيامَة الجَنَّةَ فتأتي بزُخرفِها، وزِينتِها فيقول: أينَ عبادي الَّذينَ قَاتَلوا في سَبيلي، وقُوتِلوا، وأُوذوا في سَبيلي، وجَاهدوا في سَبيلي، ادخلوا الجَنَّةَ، فيدخُلونَها بِغيرِ حِساب؛ وتأتي الملائكة فيسجدونَ، فيقولونَ: ربنَا نحنُ نُسبحُ بِحمدِكَ الليل والنَّهار ونُقدِّسُ لكَ، مَن هؤلاءِ الَّذينَ آثرتَهم عَلينَا؟ فيقولُ الرَّبُ عزَّ وجلَّ: هؤلاءِ عِبادي الَّذينَ قَاتَلوا في سَبيلي، وأُوذوا في سبيلي، فَتدخلُ عَليهم المَلائكة مِن كُلِّ بَاب {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}) [22].
أقول: إنَّ الأحداثَ جامعاتٌ تربيةٌ , ومِحنَها مِنَحٌ عِلمِيَّةٌ ربَّانِيةٌ، يَتخرجُ مِنها رِجَالٌ تُسَاسُ بِهم عِظَام المُدلهمات لِيستَحقِقُوا وبِجدارةٍ عُروشَ خَوافقِ المُمتلكات، وبالمقابلِ يُمنَحُ فِئامٌ مِن النَّاسِ أردى المقاماتِ، وأدنى الدرجاتِ، وكُلَّما امتُحِنَ الذَّهَبُ صَفىَ، وكُلَّمَا امتُحِنَ الكَدَرُ اختَفىَ، والزَّبَدُ يَذْهَبُ جُفَاء، ومَا يَنفَعُ النَّاسَ حَظُهُ البَقاء، لِيُعلِنَ العدلُ نورَهُ، والمجدُ زَهوَهُ وسُرُورَاه.
وكتبه خادم الإسلام تشريفاً له
ابن القرية الفلاح المعتصم
29 / 10 / 1425 هـ
ابن القرية الفلاح المعتصم
29 / 10 / 1425 هـ
[1] الكامل في التاريخ ج1/ص10
[2] الفتاوى ج28/ص426
[3] الفتاوى ج28/ص432
[4] الفتاوى ج28/ص427
[5] الفتاوى ج28/ص466
[6] الفتاوى ج28/ص457
[7] حديث صَحيح
[8] الفتاوى ج28/ص442
[9] البداية والنهاية ج14/ص11
[10] البداية والنهاية ج14/ص11
[11] البداية والنهاية ج14/ص12
[12] البداية والنهاية ج14/ص14
[13] البداية والنهاية ج14/ص23
[14] الأعلام العلية ج1/ص67
[15] الأعلام العلية ج1/ص68
[16] أنظر الصحيحة رقم (2663)
[17] رواه أبو داود وهو صحيح
[18] رواه أحمد عن نعيم بن همار وهو صحيح.
[19] رواه البيهقي في الأسماء والصفات من حديث أبي الدرداء وهو محتج به.
[20] رواه أحمد عن أبي ذر وهو حسن.
[21] رواه أحمد عن ابي هريرة وهو حجة.
[22] انظر الصحيحة 2559عن عبد الله بن عمرو.
تعليق