السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ابن حزم الأندلسي
مولد ابن حزم ونسبـه :
هو علي بن أحمد بن حزم، جدّه (يزيد) من فارس، ولد في قرطبة سنة 384 هجرية، ونشأ في بيت ثراء وغِنى، وكان يقول "إن أكثر مطالعاته كانت على منابر الذهب والفضة".
كان شاعرا وأديبا يتميز بحاضرة تجعله يرتجل الشعر، وكثير من شعره يعبّر عمّا كان يحيط به وما كان يعانيه من الناس، ويعبّر عن نظرته إلى الدنيا وتقلباتها.
كان ابن حزم الأندلسي عالما، سبر الناس وخبرهم، عرف الناس وهو في أوج الثراء في حياته الأولى في بيت أبيه، ثم عرفهم وزيرا، ثم زهد في الدنيا وتركها لأصحابها، وعكف على التصنيف والعلم، وقد بلغت مصنفاته أربع مائة مجلد في 80 ألف ورقة.
واجه ابن حزم حملات شديدة حتى إن مصنفاته قد أُحرقت ومُزّقت علانية، وذلك لكراهية الفقهاء له ولكتبه، ورغم ذلك كان أشد إصرارا على بيان ما يعتقده من آراء وأفكار.
شعر ابن حزم بين الاتجاه الذاتي والاتجاه الجدلي:
اشتهر ابن حزم فقيها متميزا ومجادلا قويا ومفكرا أصيلا.
كما اشتهر أديبا وشاعرا ومؤلفا غزير الإنتاج، وناقدا، وهو يعد من العلماء القلائل الذين جمعوا بين قوة الفكر ورقة الأدب والفن.
يتراوح شعر ابن حزم بين قصائد مطولة كتلك التي نظمها في الزهد والوعظ، وبين قصائد قصيرة ومقطوعات أغلبها نظم تعبيرا عن شجونه العاطفية أو جدالا لخصومه وشكوى من أهل زمانه.
كما خلف عدة رسائل، لعل أهمها في هذا الباب: رسالة التقريب لحد المنطق، ذكر فيها وجهة نظره في قضايا بلاغية ورسالة التلخيص لوجوه التخليص ورد فيها مفهومه في الشعر والغاية منه، ثم رسالته في مراتب العلوم .
هذا إضافة إلى مؤلفه طوق الحمامة الذي جمع بين الإبداع النثري والشعري في الألفة والآلاف، بل هو أهم كتبه على الإطلاق في هذا الميدان، ميدان الإبداع النثري. إضافة إلى ما يحتويه من جدة في الموضوع، ومن تحليلات نفسية أخلاقية عميقة. لم يسبق إليها، ومن منهجية مبتكرة في العرض والتحليل.
ويمتاز أسلوبه النثري في هذا المؤلف الفريد بالجمع بين قوة التدفق، ودقة الوصف والتحليل ومتانة السبك والبعد عن التكلف والصنعة، إذ كان يأخذ على الكثير من معاصريه الصنعة التي كانوا يكتبون بها، أو ينظمون بها أشعارهم.
فما هو مفهوم الشعر عنده؟
لقد كان ابن حزم شاعرا وناقدا يتميز عن بقية الشعراء والنقاد في فهمه لوظيفة الشعر ويختلف عنهم في عدة قضايا منها:
1 - أنه فهم انطلق فيه من مبدأ ديني أخلاقي، فقبل بعض الأغراض الشعرية كأشعار الحكمة والزهد والوعظ والرثاء والاعتبار بالدنيا… الخ.
ورفض أخرى، كأشعار واللهو والخمريات والخلاعة ونهى عن ذكر الفواحش في الغزل، ورفض الهجاء رفضا قاطعا لما فيه من تناول لأعراض الناس… كما رفض شعر الصعلكة والحروب، لأنه يثير الفتن ويهوى الجنايات والشره إلى سفك الدماء مستندا في رأيه هذا إلى المقياس الفقهي في قبول ما قبل، وفي رفض ما رفض، كالاستحسان والإباحة والتحريم والنهي…الخ.
2 - كما أنه يخالف النقاد والشعراء في مفهوم المجاز والاستعارة، فهو ينكر مغالاة الشعراء ومبالغاتهم فلكل شيء حد -حسب تعبيره- في طوق الحماية، فوصف الشعراء لنحول المحبين، مثلا، وتشبيه الدموع بالأمطار التي تروي السفار، وعدم النوم البتة، وانقطاع الغذاء جملة "…
يعتبر ذلك، كله -كذبا لا وجه له، لذلك فهو يكره الكذب حتى في الشعر، فالأمور إذا خرجت عن حد المعقول، لا تصدق، ولا تجد لها التأثير المطلوب في النفوس. لذلك فهو يقر مبدأ الصدق والكذب في الشعر، منطلقا فيه من نزعته الأخلاقية، فقد أعلى من مبدأ الصدق حتى جعله على رأس الفضائل الإنسانية كلها في كل مؤلفاته، خاصة في كتابه الأخلاق والسير في موازاة النفوس .
وتأسيسا على مبدأ الصدق دعا إلى الاقتصاد في استعمال المجازات والاستعارات والتشبيهات، وكل ضروب الصنعة، فهو يجب التوسط والاعتدال في كل شيء، كما أنه لا يساير القولة المشهورة "أعذب الشعر أكذبه".
ونتيجة لذلك فإنه سيصدر في كل ما نظمه من أشعار عن تجربة حقيقية معاشة، ويستقي لغته من واقع التجربة وليس من الذاكرة، كما هي عادة معظم شعراء العرب، ومن ثم اتسمت تجربته بالصدق في شعره ولغته بالحيوية والعفوية.
وهكذا سيكون شعر ابن حزم سجلا ومرآة لكل مراحل حياته، وتعبيرا فنيا حيا وصادقا عن مشاعره وعواطفه اتجاه المرأة والطبيعة من جهة، ومن جهة أخرى تعبيرا عن همومه الفكرية في صراعاته مع الحساد والمناوئين من أهل زمانه. ثم وصفا صادقا لمعاناته الرحلة والاغتراب والحنين إلى الديار التي أصبحت أطلالا…
وأخيرا سيتخذ الشعر تعبيرا عن تأملاته الفكرية في الحياة والموت، واستشرافه للعالم الآخر.
عبر هذه المحاور سنحاول استجلاء رؤية ابن حزم الشعرية، في بعدها الذاتي، وفي الموقف من الآخر.
أولا - الأشعار العاطفية:
لقد عبر ابن حزم عن مشاعره اتجاه المرأة كما لم يفعل فقيه من قبله ولا من بعده، بصدق وصراحة، واعتبر عاطفة المحبة بين الرجل والمرأة نعمة من الله تعالى .
فهو لم يكن فقيها جافي العواطف أو مرائيا يتنكر لما بث الله في قلبه من عواطف إنسانية نبيلة.
كما أنه لم يكن كبقية شعراء الغزل التقليديين الذين يستوحون لغتهم الغزلية مما يحفظون من شعر وهم يرددون أوصافا لنساء لا وجود لهن في الواقع، جريا على العادة والتقليد. بل إنه صدر -كما سلف الذكر- عن تجربة حية معيشة، وتحدث عن نساء واقعيات من مجتمعه، وذكر بعضهن بأسمائهن الحقيقية.
وتتسم أشعاره في هذا الباب بالنزعة العذرية، إلى لا مجال فيها للعبث بصورة المرأة أو قيمة العفة. ولذلك تجده يفرق بين الحب الحقيقي، وبين مجرد الاستحسان الجسدي، وبذلك يرد على من يزعم كونه يحب اثنين في آن واحد قائلا:
كذب المدعي هوى اثنين حتما مثل ما في الأصول أكذب ماني
ليس في القلب موضع لحبيبيـ ى ولا أحدث الأمور بثاني
فكما العقل واحد ليس يدري خالقا غير واحد رحمان
فكذا القلب ليس يهوى غير فريد مباعد أو مدان
هو في شرعة المودة ذو شك بعيد من صحة الإيمان
وكذا الدين واحد مستقيم وكنوز من عنده دينان
فهو يعد التعدد في الهوى عدولا عن الوفاء، وهو يستنكر أن يحب الرجل شخصين دفعة واحدة ويعد ذلك من قبيل الشهوات الجسدية ليس إلا، وهي من صفات الرجل الملول الذي يتقلب في أهوائه ولا يستقر على عاطفة واحدة… وليس هذا من الحب الحقيقي الذي هو أولا وقبل كل شيء تشاكل بين النفوس وتوحدها في خصائص معينة… كما فصل ذلك في طوق الحمامة.
وهكذا يربط ابن حزم عاطفة المحبة التي تربط الرجل بالمرأة بالأخلاق، بل إنه يربط الأخلاق في كل ما يصدر عن الإنسان من مشاعر وأفعال وأفكار… فالصدق والعفة والوفاء قمة القمم في السلوك البشري، وقد لقي عنتا كبيرا من أهل زمانه الذين لا موه على أشعاره العاطفية، وهو الفقيه المتدين، واستنكر بعضهم منه تأليف طوق الحمامة في الحب.
فما كان منه إلا أن يرد عليهم، مجادلا، ومدحضا أقوالهم بالحجة من الكتاب والسنة، ومن سيرة الخلفاء الراشدين… ويبين لهم أن القلوب بيد الله تعالى وما يلزم الإنسان سوى معرفة الصواب من الخطأ في ذلك، فالمحبة فطرة وخلقة، وإنما يملك الإنسان جوارحه المكتسبة . خصوصا وأنه وهب من رقة المشاعر وحب الألفة شيئا كثيرا.
وصف الطبيعة:
ومن أجمل شعره، في وصف الطبيعة الأندلسية، ما نظمه بعد التنزه في بستان مع بعض إخوانه، واصفا ذلك البستان وما يزخر به من جمال طبيعي، حيث قال:
ولما تروجنا بأكناف روضة مهدلة الأفنان في تربها النـدي
وقد ضحكت أنوارها وتضوعت أساورها في ظل فيء ممدد
وأبدت لنا الأطيار حسن صريفها فمن بين شاك شجره ومغرد
وللماء فيما بيننا متصرف وللعين مرتاد، هناك ولليــد
وفي هذا السياق تندرج أبياته التي نظمها، يصف الليل الذي امتد ظلامه، ووقف النجم حائرا وسط السماء فلا هو يمضي ولا هو يغيب، كأنه ارتكب خطأ فهو خائف وجل أو يترقب موعدا أو عاشقا دنفا:
أقول والليل قد أرخى أجلته وقد تأنى بألا ينقضي فوفـا
والنجم قد حار في أفق السماء فمـا يمضي ولا هو للتغوير منصرفا
تخاله مخطئا أو خائفا وجلا أو راقبا موعدا أو عاشقا دنفـا
فهذه التشبيهات المتلاحقة في بيت واحد وهذا التشخيص للنجم كمظهر من مظاهر الطبيعة، لا يصدر إلا عن خيال مبدع.
أشعاره في الحنين:
ومما يدخل في هذا المنحى الشجي الذاتي، أشعاره في الحنين إلى الماضي، إلى الأهل والأحباب الذين تفرقوا، إلى الألفة والعشرة الطيبة التي افتقدها، داعيا بالسقي لتلك الأيام التي تشبه زهرة النيلوفر في عبق نشرها:
سقى الله أياما مضت ولياليــا تحاكي لنا النيلوفر الغض في النشر
فأوراقه الأيام حسنا وبهجـة وأوسطه الليل المقصر للعمـر
لهونا بها في غمرة وتآلــف تمر فلا تدري وتأتي فلا تـدري
فتشبيه الأيام والليالي بالنيلوفر، تشبيه أندلسي صرف، يكشف عن تغلغل موضوع الطبيعة في نفوس الشعراء الأندلسي وتجلى هذا، بصفة خاصة إحساس ابن حزم العميق بها، زهرة النيلوفر لخضرتها ويناعتها، وتشبيه الليل المقصر للعمر بقلب هذه الزهرة (وسطها) لدكانة لونها التي تناسب الليل… فالماضي مشرق يانع، أما الحاضر فهو داكن كئيب.
ومن أجمل قصائده في الحنين، رغم الطابع البدوي الذي يكتسي لغتها، قصيدته السينية (التي نسج ابن الأبار سينية أخرى تنظر إليها) وفيها حنين إلى معاهد الذكريات، حيث غفارة العيش، واجتماع شمل الأحباب، والتي أصبحت أطلالا دارسة تبكي فراق الشاعر الذي غادرها، منها هذه الأبيات:
أجل هو ربع قد عفته الروامـس فهل أنت ويب غيرك حابـس
لقل له أن تحبس العيس ساعـة عليه فتبكيك الرسوم الطوامـس
إن الشاعر يستوقف الركب، هنا، على عادة شعراء الأطلال ويوقف العيس، ليسائلها عما فعل الدهر بها، ويأخذ العبرة من تقلبات الزمان وتحول الأيام، هكذا يعوج بناقته على تلك الأطلال، يبكيها ويذرف الدموع على ماضيه هناك، لقد كان عيشه بها موفقا -لو دام- لكن هيهات، فالدهر قد أتى على الجميع، يقول مخاطبا الربع:
فعجب عليه ناقتي وهو سبسـب سقته وجادته الغمام الرواجـس
فقلت ودمعي ساكب متحــدر وإنسان عيني في هواميه غامــس
لقد كان عيشي فيك لو دام موفقا ولكن أبت ذاك الحظوظ الأباخــس
ليالي من أهواه يمسي كأنـه من العفر ظبي بالصريمة كانس
وإذ شملنا باق جميع محسد ولم تقتطع ذاك الدهور الدهارس
وبعد هذا القسم من استحضار الماضي والتحسر عليه، انتقل الشاعر إلى الشيب الذي بدأ يغزو رأسه وفعل الدهر به… الخ.
والقصيدة تسير على منوال القدماء في مراعاة جزالة اللفظ، والميل إلى القاموس المرتبط، باللغة البدوية، لذكر الأطلال والظباء والعيس، الدهاريس، السباسب…الخ. ومع ذلك فإن الشاعر لم يكن متكلفا لهذه اللغة البدوية، بل إنها جاءت مناسبة للمقام.
فقد أخرج ابن حزم من دياره بقرطبة إبان الفتنة بها وجاب المدن الأندلسية، متنقلا بين مدينة وأخرى، وعند عودته إليها. ألقاها أطلالا دارسة، لما نالها من خراب، وما تعرضت له من نهب . فلغة البكاء على الأطلال والحنين إلى العيش الغابر هي اللغة المناسبة في هذا المقام.
ومن أجمل قصائده (وتروى لغيره) قصيدة نظمها يتشوق فيها إلى أهله وولده، نظمها أثناء حبسه، وقد عارض بها "فراقية" ابن زريق البغدادي التي كان معجبا بها.
وهي قصيدة رائعة تسكنها اللوعة والحزن، والحنين إلى الحرية واللهفة إلى لقاء أهله وأولاده، وربما فاقت فراقية ابن زريق في صوق لهجتها ومشاعر الحزن التي تستشف من لغتها.
يقول واصفا معاناته وغربته:
مسهد القلب في خديه أدمعه قد طالما شرقت بالوجد أضلعـه
داني الهموم، بعيد الدار نازحها رجع الأنين سكيب الدمع مفزعـه
يأوي إلى زفرات لو يباشرهـا قاسي الحديد فواقا ذاب أجمعــه
وفي القصيدة شكوى موجعة مما آلت إليه حاله من ضعف ونحول، ثم في حنين عارم إلى أهله وولده، ينادي ذاك الراحل بعيدا، نحو دياره، حيث يوجد رمقه وقلبه:
يا راحلا عند حي عنده رمقـي اقرأ السلام على من لم أودعه
وأطول شوقاه ما جد البعاد بهم إليهم مذ سعوا للبين أفظعه
لئن تباعد جثماني فلم أرهـم فعندهم وأبيك القلب أجمعـه
إنه نداء محمل باللهفة والأشواق، إلى الأحباب الغائبين: وقد وظف الشاعر في هذه القصيدة كل الأساليب الإنشائية التي تظهر انفعالاته ولهفته إلى الحرية والقفول نحو أهله وعشيرته، كأسلوب الندبة: و ا…. يا…. وأسلوب النداء والاستفهام وغيرهما، وقد خرجت عن معناها الظاهر إلى سياق التفجع والندبة، إضافة إلى المقابلات والمفارقات في تصوير لوعته، وما صار إليه حاله وهو يرسف في القيود… الخ.
في أمان الله .
تعليق