محمد السيد عبد الرازق
من أعظم الأوهام التي تسيطر على عقول الكثيرين اعتقاد عدم إمكانية الجمع بين الدنيا والآخرة، أو توهم التعارض بينهما، فنظروا إليهما وكأنهما ضرتان لا تتفقان؛ فوقفوا حائرين ما بين دنيا لابد منها وبين دار أخرى لا بديل عن الفوز بها.
والمتأمل في آيات القرآن يدرك مدى الوهن الفكري لصاحب هذه النظرة؛ فالقرآن يصف المؤمنين {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: ٢٠١].
قال ابن كثير حول هذه الآية:(فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هين) [تفسير ابن كثير].
قبسات من القبسات:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة؛ فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها) [رواه البخاري].
(أول ما يخطر على البال هو هذه العجيبة التي يتميز بها الإسلام: أن طريق الآخرة هو طريق الدنيا بلا اختلاف ولا افتراق، أنها ليسا طريقين منفصلين أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، وإنما هو طريق واحد يشمل هذه وتلك، ويربط بين هذه وتلك، ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة وطريق للدنيا اسمه العمل، وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة) [قبسات من الرسول، محمد قطب، ص(19)].
هدي من القصص:
إن فكرة عدم إمكانية الجمع بين الدنيا والآخرة أفرزت لنا صنفين متضادين من الناس، صنف جعل همه الدنيا وكأنها دار الخلود، متكئًا على النصوص التي تحث على العمل وأخذ النصيب من الدنيا، دون النظر إلى النصوص الأخرى التي تحذر منها.
وصنف آخر يشارك الأول نظرته للدارين في استحالة الجمع بينهما، لكنه انصرف إلى الآخرة، وانقطع عن الدنيا، وتركها لأهل الفساد متكئًا على النصوص التي تحث على الزهد في الدنيا، وكلاهما بعيد عن الصواب.
وأما أهل الوسط والاعتدال فهم الذين يعملون بقول الله تعالى في سورة القصص: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: ٧٧].
يقول ابن كثير: (أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدار الآخرة.
{وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي: مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح، فإن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا) [تفسير ابن كثير، (6/253)].
يتبع بإذن الله
يتبع بإذن الله
تعليق