ظهرت حركات الاستقلال في بلاد العرب منذ ستة عقود، وتعددت أدوار الحركات الإسلامية في ذلك الوقت، وتوالت الأحداث والمستجدات حتى أصبحت تلك الحقبة تمثل في وجدان الأمة تجربة عميقة لها أثرها وتأثيرها، ولكن يظل هناك مشهدان معبِّران، يلخِّصان لكثير من العاملين للإسلام خلاصة هذه التجربة، وهما:
المشهد الأول:في يوم الجمعة 12 فبراير 1954م في ما يسمى بالذكرى الخامسة لوفاة الأستاذ حسن البنا - رحمه الله - في 12 فبراير 1949م، وقف جمال عبد الناصر مع وفد من مجلس قيادة الثورة وسط الحشود العريضة أمام قبر الأستاذ حسن البنا - رحمه الله - ليعلن التزامه بالعهد قائلاً: (إنني أذكر هذه السنين والآمال التي كنا نعمل من أجل تحقيقها... نعم أذكر في هذا الوقت وفي مثل هذا المكان كيف كان حسن البنا يلتقي مع الجميع، ليعمل الجميع في سبيل المبادئ العالية والأهداف السامية، لا في سبيل الأشخاص ولا الأفراد ولا الدنيا... وأُشهد الله أني أعمل - إن كنتُ أعمل - لتنفيذ هذه المبادئ، وأفنى فيها وأجاهد في سبيلها)[1].
المشهد الثاني:في صباح يوم الإثنين 29 أغسطس 1966م خرجت صحيفة الأهرام بخبر تقول فيه: (تم صباح اليوم تنفيذ حكم الإعدام في كلٍّ من: سيد قطب، عبد الفتاح إسماعيل، محمد يوسف هواش، قادة التنظيم الإرهابي للإخوان المسلمين، وقد أصدر الرئيس جمال عبد الناصر قراراً بتخفيف عقوبة الإعدام بالنسبة للأربعة الآخرين؛ مراعاة لصغر سنهم، واستبدالها بالأشغال الشاقة المؤبدة)[2].
وبين هذين المشهدين ظلت الأجواء الثقافية المعاصرة مشحونة بكثير من الحكايات والتحليلات والرؤى والخبرات والمراجعات، كلٌّ يحاول استخلاص العِبَر من هذه التجربة الثريَّة، والاستفادة من التراكمات الحيوية لهذه الأحداث.
ومع بزوغ نجم الربيع العربي وعودة ظاهرة الثورات إلى صدارة المشهد، واضطلاع الحركات الإسلامية بدور أساسي في دفع عجلة التغيير، يظل الهاجس الذي يراودنا جميعاً: هل يمكن أن نُساق مرة أخرى إلى المصير نفسه الذي سيق إليه الرواد الأوائل؟
والإجابة الجازمة على هذا السؤال غيبٌ، نسأل الله اللطف بأمة الإسلام، ولكن تبدو في الأفق ظواهر تدل على وجود فروق جوهرية بين التجربتين، وظواهر أخرى تُحذِّر من تكرار التجربة نفسها والنتيجة نفسها، ومن ذلك:
أولاً: الظواهر التي تدل على وجود فروق جوهرية بين ثورات الربيع العربي الحالية وحركات التحرير السابقة:
1- أنَّ حركات التحرير في العالم العربي أتت ملتحفةً روح الهزيمة النفسية في الأمة؛ فالخلافة قد أُلغيَت، وفلسطين قد احتُلت، وأعلن اليهود قيام دولتهم، وأطراف العالم الإسلامي أصبحت تحت حُكْم أقلياتها غير المسلمة... إلخ. أما اليوم فقد ارتدى كثيرون روحاً جديدة تعلوها العزيمة، وتحدوها الآمال؛ ذلك أنَّ هزائم أمتنا السابقة فَقَدت تأثيرها السلبي لتقادُم عهدها، إضافة إلى ظهور بوادرَ قد تقود للنصر في كثير من البقاع الملتهبة، تقابِلها أعراض الهزيمة لقوى الشر العالمية بمعسكريها (الشرقي والغربي).
2- أنَّ الجيل الذي قاد حركات التحرير كَثُرت في أفراده الانحرافات الفكرية والعقدية، وتداخلت الروح الدينية بالروح القومية والوطنية، وسادت انحرافات المتصوفة وأقوال المرجئة وآراء المعتزلة، كلُّ ذلك وغيره أفقد كثيراً من قادة العمل الإسلامي الرؤية الواضحة التي تجابه التحديات الكثيرة. أما اليوم فعلى الرغم من وجود كثير من هذه الأمور الهدَّامة إلا أنَّ كثيراً من شيوخ الصحوة وشبابها قد ميَّزوا بين العمل للإسلام والنعرات القومية، وسئموا من البدع العقدية والعملية، وانزوى كثير ممن لا يزال متلبِّساً بتلك العقائد في زوايا الخمول والكسل، ولم يعد لتلك الأطروحات ذاك الرونق الذي كانت تتحلى به قديماً.
3- أنَّ الخبرة التي كانت لدى الجيل السابق تَوَلَّد معظمها من ثنايا الأحداث، واصطبغ كثير منها بالتلقائية وردود الأفعال. أمَّا اليوم فلدى جماعات العمل الإسلامي تراكمات ضخمة، وثراء فكري، ورؤية متكاملة لكثير من التجارب التي مرَّت بها الأمة في العقود الستة المنصرمة، وهو ما قد يكون أكسبَها بُعداً في النظر، وعمقاً في التأمل والتحليل.
4- أنَّ قوى الشرِّ العالمية كانت في القرن الماضي قريبة العهد بالقتال، تضحي بفلذات أكبادها بلا عدٍّ ولا حصر من أجل تلبية غرور قادتها المستكبرين، ولم تكن تعبأ بملايين الضحايا الذين سقطوا من رعاياهم في الحرب العالمية الأولى والثانية وفي الدول التي احتلوها في مشارق الأرض ومغاربها. أما اليوم مع بُعْد عهدهم نسبيّاً بتلك المجازر البشعة، فقد دخلهم - مع تطاوُل العهد واتساع رقعة التزوُّد من متع الدنيا وزخرفها - ما يَدخُل الأمم - غالباً - مِن فتور وحرص على تحصيل الشهوات الآنية، وهلع إذا أصابتهم أدنى المصائب، وقد عاتب الله - جل وعلا - مَن تخلَّف عن رسول الله # في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحرِّ؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْـحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38][3]
فإذا كان المؤمن قد يتثاقل إذا فُتحَت عليه الدنيا، فما بالنا بالكافر الذي يتقلب في أتون الشهوات والنزوات؟
5- أنَّ الصدمة الحضارية التي أصابت كثيراً من أبناء المسلمين قديماً، وكانت تأخذ بلُبِّ كثير ممن وطئت أقدامهم بلاد الكفار فأرْدَتهم صرعى لأول وهلة، فعادوا ناقمين على الأمة الإسلامية وتاريخها وثقافتها وحضارتها: لم يَعد لهذه الصدمة الحضارية ذاك التأثير بعد أن امتدَّت يدُ العُمران في كثير من بقاع المسلمين، وانتشرت في الأمة الكفاءات الفنية التي فككت طلاسم الحضارة الغربية؛ ليرى الجميع أنَّ ما وصل إليه الغرب ليس بمعجز لنا إن صدقت النوايا وحَسُن العمل.
ثانياً: الظواهر التي تدل على تشابُه بين ثورات الربيع العربي الحالية وحركات التحرير السابقة:
1- أنَّ سيطرة الجيش تظل في المشهدين باديةً بوضوح، وعاملاً مؤثـراً فـي تحديد هوية الطـريق الـذي تسير إليـه الدولة؛ بل قد لا نجانب الحقيقة إن قلنا: إن بِنيَة الجيوش العربية في واقعنا المعاصر أسوأ بالنسبة لآمال الأمة المسلمة من بناء الجيوش قبل ستة عقود من الزمن؛ ذلك أن بنية الجيوش المعاصرة أحيطت بقدر كبير من الحيطة والحذر أثناء تكوينها؛ خشية أن تتخللها عناصر تناوئ الحكومات المعاصرة، وأصبحت اختبارات الهيئة التي يُستَدل بها على التكوين الثقافي للمتقدم لتلك الجيوش نقطة جوهرية في قبول الجنود، ويجري مع ترقيات الضباط تحديث للمعلومات الخاصة بالضابط، مثل: أحوال أفراد عائلته، وصداقاته، وموقف زوجته من الحجاب، وعدد أولاده، وعلاقته بالصلاة والمسجد... إلخ، فنشأ جيل من قيادات الجيوش يغلب عليه الجهل بأمور الدين، والتقيد بالتعليمات العسكرية مهما كانت، وهذا يخالف تكوين الجيوش في الحقبة السابقة؛ حيث لم تكن الإجراءات الإدارية بهذه الصرامة، وكان الجيش يجمع في طياته مختلف التوجهات والأفكار، وهذا ما كان يؤدي سابقاً لكثير من الانقلابات في الجيش، والمحاكمات العسكرية في صفوف الجند بتُهَمٍ تتعلق بمحاولة قلب النظام، خلافاً لما استقر عليه حال كثير من الجيوش الآن.
وعندما يحكم الجيش بلداً ما فإن سياسته تتسم - غالباً - بالروح التي تربى عليها، والتي لا يُتقن غيرها؛ وهي روح المناورة والهجوم الكاسح عند التقدم، والكمون والانقضاض على العدو عند التقهقر.
ولا يمكن بحال لمن تدبَّر الأمور أن يركن لحكم هذه الجيوش التي ترعرعت في قبضة القهر والاستبداد مهما أظهرت من ودٍّ طالما لم تعلن صراحة وقوفها بجانب الإسلام والشريعة؛ لأنَّ السلوك الحميد لم يكن يوماً من الأيام سلعة تباع وتشترى، يتزيَّا بها من أراد وقت ما شاء.
2- ازدياد الخلاف والشقاق بين جيل الصحوة الإسلامية، بصورة تفوق ما كان ملاحظاً في المشهد العام أثناء حركات التحرير السابقة؛ فقد أُجهِد شباب الصحوة من عبء التنازع الفكري لكثير من القضايا المتراكمة عبر عشرات السنين، ولم تعد حالة الاستقطاب يتنازعها طرفان أو ثلاثة، بل أصبحت معترَكاً بين عشرات الجماعات والجمعيات والأحزاب والحركات التي تقترب من بعضها وتبتعد لأسباب كثيرة وأحياناً بلا أسباب.
استمرار مسلسل صناعة (البطل) وتصديره إلى شعوب المسلمين؛ بل إن صناعة (البطل) كانت تتم سابقاً بناءً على تخطيط سابق وعمل دؤوب مستمر؛ ذاك (البطل) الذي تلتفُّ حوله الجماهير وترفعه فوق الأعناق، ثمَّ ما يلبث أن يُسفِر عن عداوته للإسلام وأهله، ويذيقَهم ألواناً من الأذى والعذاب. أمَّا الآن فلم يعُد (البطل) يحتاج إلى سجل معارك ليسمى (الغازي)، ولا تاريخاً نضاليّاً ليسمى (الزعيم)، وأصبحت صناعة هذا (البطل) لا تستغرق الآن سوى أيام معدودة، تتكاتف فيها وسائل الإعلام مع رؤوس الأموال مع مراكز القوى؛ لتمجيد هذا (البطل) الذي يهبط على الأمة فجأة قادماً من واشنطن أو باريس أو لندن، ويمسك بتقاليد الحكم دون سابق مقدمات أو معرفة للأمة به.
3- ظهور نوع من الركون إلى عاطفة الشعوب، والاغترار بالكثرة الزائفة التي تهتف باسم الإسلام، وتتسابق للظهور في المشهد اليومي للعمل الإسلامي؛ ولكن الخشية أن نتوانى عن استثمار هذه الطاقات وتوجيهها التوجيه السليم، فنجدَها قد تبخَّر أكثرها عند أول مفترق للطرق، وعند احتدام الأمور، كما تبخَّرت مِن قَبْلُ جماهيرُ أكثر عدداً من الجماهير التي نراها اليوم.
4- على الرغم من وضوح هوية كثير من الحركات الإسلامية منذ ستة عقود، إلا أنَّ بعض الناس الآن يحاول مُوارَاة الخطاب العقدي للحركات الإسلامية، محاولاً الاقتراب من الخطاب السياسي للقوى المناوئة للحركات الإسلامية؛ حتى لا يظهر بمظهر الشاذ عمَّا يسمى بالقوى الوطنية، والعولمة الفكرية، وحقوق الإنسان، وهذه الطريقة في الخطاب مِن شأنها أن تُذهِب بريق النور الذي تحمله الحركات الإسلامية، وتُخمِد روح الإيمان الذي يحرِّك الأفراد العاملين للإسلام، إضافة إلى أنه قد يؤدي لتقديم خطاب مشوَّه لا يمثل حقيقة الإسلام ولا حقيقة دعوته.
أخيراً:إننا اليوم في أول الطريق، وبين أيدينا أمانة يجب أن نؤديَها إلى مَن بعدنا، وليس لنا من سبيل إلا أن نستعين بالله - جل وعلا - ثم نصبر على تحمُّل كثيراً من المسؤولية في سبيل تحقيق العبودية التي أمرنا الله - جل وعلا - بتحقيقها؛ تلك العبودية بمعناها الشامل الكامل الذي يأخذ من الدنيا زاداً إلى الآخرة.
ونحن وإن كنا قد تمازجت الصورة المعاصرة للثورات العربية في بدايتها بالصورة قبل ستة عقود؛ فرأينا اليوم مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي يوم الأحد 25 ذو القعدة 1432هـ يسجد شكراً لله - جل وعلا - أمام العالم كله، ويعلن أنَّ (أي قانون يعارض المبادئ الإسلامية للشريعة الإسلامية فهو معطَّل قانوناً)، فإنَّ الصورة النهائية للمستقبل ستظل غيباً إلى أن تستعرضه الأجيال القادمة، لكنَّ المسلمين دوماً موقنون أنَّ النصر المبين والفوز العظيم هو قدرُهم الذي كتبه الله لهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
تعليق