بسم الله الرحمن الرحيم
حينما كنّا أمواتاً
(1)
أربع مراحل
جعل الله الإنسان يمر بأربع مراحل: (1) مرحلة الموت الأول، (2) مرحلة الحياة الأولى، (3) مرحلة الموت الثاني والأخير، (4) مرحلة الحياة الثانية والأخيرة.
وهذه المراحل الأربع مذكورة صراحة في هاتين الآيتين الكريمتين :
هذه هي الحالة العامة[1] للناس جميعاً. فكل إنسان له (موت أول) و(موت ثان أخير)، وله (حياة أولى) و(حياة ثانية أخيرة)، عدا استثناءات[2] معدودة. وسأتحدث فقط عن مرحلة الموت الأول، وأما سائر المراحل فواضحة.
(2)
فترة ما قبل الموت والحياة
ليس فقط لم توجد حياة في هذه الفترة، بل حتى لم يوجد موت [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ (2) الملك]. وليس فقط لم يوجد نور بل أيضاً لم توجد ظلمات [وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ (1) الأنعام].
فترة عدم وجود الإنسان
في لحظة من لحظات الدهر لم يكن الإنسان موجوداً:
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا {1} الإنسان
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا {9} مريم
ولا أدري إن كانت هذه الفترة ضمن موتنا الأول أم سابقة له.
مرحلة الموت الأول
مرحلة الموت هذه ذكرتها هاتان[3] الآيتان صراحة:
كل إنسان سيموت في يوم من الأيام، فهذا أمر محتوم [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (185) آل عمران]. وبعد أن يحيينا الله يوم القيامة لن يموت إنسان[4]. وإذن فالموت الذي تعنيه الآيتان: [(وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً)، (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ)]، هو موت سابق لحياتنا الدنيا هذه. وهذا (الموت الأول) قد بدأ على الأقل منذ أن كنا تراباً واستمر حتى ذقنا طعم الحياة لأول مرة في بطون أمهاتنا.
معنى (الْمَوْتَةَ الأُولَى) ليس هو معنى (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى (59) الصافات
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى (56) الدخان
(الموتة الأولى) بهذه الآيات التي تتحدث عن الآخرة، يُقصد بها الموتة (السابقة، الماضية، السالفة، الفائتة)، والتي هي الموت الثاني (الذي ستذوقه كل نفس حية بعد حين) في هذه الحياة الدنيا. وما حكته الآية عن قول الكافرين وهم بالدنيا [إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) الدخان]، فبقصدون بالموتة الأولى معنى الموت المعروف المعتاد الذي يرونه يصيب كل الأحياء. والموت الذي لم نلقه بعد [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ (143) آل عمران]، فهو الموت الثاني (الذي سيأتي في هذه الحياة الدنيا). وأما الموت الأول بالآيات [وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً)، (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ)] فقد حدث ومضى.
(3)
أطوار مرحلة الموت الأول
التراب (خلق ميت)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ {67} غافر
أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ {37} الكهف
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ {5}الحج
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ {20}الروم
وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ {11}فاطر
إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) الحجر
الخلق هو إيجاد شيء جديد، إما من شيء [وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ {11}فاطر]، وإما من لا شيء [وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا {9} مريم]. وقد بدأ الله خلق الإنسان من التراب مباشرة[5] [وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ {7} السجدة]، فخلق آدم بيده [قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (75) ص]. وكل الناس خلقهم الله كذرية ضمن خلق آدم وجزء منه. وقد جعل الله خلق الإنسان عدة أطوار [وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا {14} نوح].
الخلق المصوّر (خلق ميت) قبل سجود الملائكة
خلق الله الناس أجمعين من التراب إلى خلق وطبيعة جديدة (خلق إنساني) في علم الله، ثم (صوّرهم) بصورهم التي صاروا عليها في الدنيا، [قبل][6] أن (تسجد) الملائكة لآدم:
وفي هذا الوقت كان كل الناس أمواتاً (مع أنّهم قد خُلِقُوا وصُوِّرُوا)[7]. فهذا الخلق المصوّر (لم يُسوِّه) الله بعد، ولم ينفخ فيه الروح (باستثناء آدم). وسيظل هذا (الخلق المصوّر الميّت) بلا حياة حتى يحييه الله في الأرحام[8]. وقد انقضى هذا (الخلق المصوّر الميت) وتمّ لجميع[9] الناس إلى يوم القيامة.
الخلق الأول اسمه (تراب)، والخلق الجديد لم يعد تراباً محضاً بل أصبح شيئاً آخر اسمه (إنسان). فالتراب هو الخلق الأصلي القديم الذي تحول إلى خلق جديد مختلف (إنسان). فنستطيع القول أن هذا الخلق الإنساني الجديد الميّت هو الطور الأول والمادة الخام والبذرة الأصلية التي ستخرج منها التخلقات (الأطوار) الإنسانية اللاحقة (لكل فرد). أي أن ذلك الخلق الإنساني الأول الميّت (الطور الأول) هو خلق المادة والطبيعة والماهية والنوعية والصفة والوظيفة.
كيف تم خلقنا وتصويرنا قبل سجود الملائكة ؟
كيف خلقنا الله وصورنا قبل أن نكون في بطون أمهاتنا وقبل أن نولد؟ هذا في علم الله وحده. فهذا الخلق المصور هو (شيء ما مستوفى خلقاً وتصويراً في علم الله) قد جعله الله في حالة خمود وخمول (بصُلب آدم ومن بعده) ينتظر أمر تنفيذه وتشغيله (تسويته وإحيائه) في حينه المعلوم، ومهما تكهنّا وتخرصنا فحقيقة الأمر وكنهه وكيفيته عنده سبحانه. ولكن ربما جاز أن نقرب المعنى ببعض الأمثلة التوضيحية:
(أ) مثال صناعة الآلة المعقدة
المهندسون يخلقون الآلة (كالسيارة مثلاً) نظرياً، فيحسبون (على الورق) كل الحسابات العلمية التي لابد منها لخلق مكونات السيارة ويرسمون (على الورق) كل تلك المكونات ولا يكادون يتركون شيئاً من أمر تلك الآلة إلا حسبوه وأحصوه وعالجوه وحلّوه (خلقوه نظرياً) ورسموه ونسّقوه وزخرفوه (صوروه). فإذا راجع العلماء المختصون ما يرونه على الورق من تصميم وحساب ورسم فوجدوه صحيحاً وصالحاً حسب القوانين الطبيعية العلمية ويمكن تنفيذه وعمله كما أرادوا، استطاعوا حينئذ أن يدّعوا أنهم قد خلقوا وصوروا تلك السيارة (قبل صنعها مادياً).
فخلق السيارة وتصويرها في الحقيقة قد تم وفرغ منه وهي لا تزال فكرة على الورق. ولم يتبق إلا جعل ذلك الخلق والتصوير (النظري) واقعاً مادياً ملموساً محسوساً. فيبدأ بعد ذلك تنفيذ وإحداث وصنع وتطبيق ذلك الأمر النظري، فيتم صناعة وتصوير السيارة بطريقة مادية حسية ملموسة مرئية كما نعرفها. فالخلق الأول للسيارة (الحساب والرسم والتصميم) هو خلق فكرة يمكن أن تحدث وتكون، والخلق الثاني للسيارة (المادي الواقعي الملموس) هو تنفيذ وإحداث تلك الفكرة وجعلها واقعاً.
فلو استطاع مهندس أن يصمم على الورق آلة جديدة قد حسب كل حساباتها ورسم كل مكوناتها فنجح كل ذلك نظرياً، ثم رأى العلماء المختصون أن هذا التصميم صحيح وصالح حسب القوانين الطبيعية العلمية، وأنه يمكن تطبيق وتنفيذ وصنع تلك الآلة، لاستطاع ذلك المهندس أن يعلن ويقول أنه قد اخترع وخلق وصور آلة جديدة سوف تعمل كما أراد (حتى قبل أن يُنَفِّذ ذلك التصميم النظري ويجعله آلة مادية واقعة حادثة).
ومثال الآلة هذا مجرد مثال ركيك ناقص أردنا به أن نقترب من فهم الآية [وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا (11) الأعراف]. فالله سبحانه قد جعل كل الخلق والتقدير والتصوير في نفس الخلق (المخلوق)، وزود هذا المخلوق بما يحتاجه من قدرات لإنتاج لبناته ومواده الخام. فالله يخلق من العدم، ويقول للشيء كن فيكون. لذلك فالشيء المخلوق فيه تصميمه وفيه تصويره وفيه مواده الخام وفيه لبناته الأساسية لتنفيذه وصنعه مستقبلاً. وهذا ما حصل معنا فقد خلقنا الله وصورنا (في أنفسنا وفي ذاتنا) قبل أن نولد وقبل أن نكون في بطون أمهاتنا وقبل أن نكون في أصلاب آبائنا بل قبل أن تسجد الملائكة لآدم.
(ب) مثال بذرة الشجرة
كل ما يخص الشجرة من خلق وتصوير قد قدره الله ورسمه وصممه وصوره ووضع مواده الخام بداخل تلك (البذرة الميتة). وكل ذلك الخلق والتصوير للشجرة قد تم وانقضى وفرغ منه، قبل أن نزرع نحن تلك الشجرة وقبل أن تسرح في السماء وتثمر.
(ج) مثال الجينات أو الحمض النووي الوراثي
المختصون في علم الوراثة يعلمون اليوم أن الحمض النووي لخلية الإنسان فيه المعلومات الوراثية الوافية بكل تفاصيلها تركيباً ووظيفة وصفة (مكتوباً بلغة الجينات)[10]، وأن الجنين في بطن أمه يتخلق ويتصور حسب تلك الأوامر الوراثية الجينية في خلاياه. فكلنا يعلم اليوم أن التصميم والخطة والتعليمات والبرمجة موجودة مسبقاً ضمن جينات الحمض النووي قبل أن يبدأ تكون الجنين.
ورغم أن علماء الحمض النووي لا يزالون على ساحل بحر لجي ليس له قرار، إلا أن ما توصلوا إليه في علم الجينات كأنه بصيص نور خافت وضئيل جداً لفهم كيف خلقنا الله وصورنا قبل سجود الملائكة. فالجينات هي الأوامر والتعليمات والتوجيهات التي وضعها الله في أساس خلق الإنسان، لتخليق البروتينات المتنوعة اللازمة لخلق الإنسان. وقد انتقلت هذه الجينات (كما هي) عن طريق الآباء والأمهات منذ آدم حتى تكون الجنين في الرحم. فرأينا أن الله قد وضع الخلق والتصوير في نفس المخلوق، فكل خلية فيها أوامرها الهندسية المعلوماتية (الجينات) وفيها مصنعها الذي ينفذ تلك الأوامر فيخلق البروتين (لبنات البناء) ويشكله حسب تلك التعليمات الجينية. ومن خلال هذه الأمور السطحية الضحلة التي فهمها العلماء عن الجينات حتى الآن، لعلنا نستطيع أن نفهم ولو مقدار ذرة كيف خلقنا الله وصورنا منذ ما قبل سجود الملائكة، رغم أن حقيقة الخلق والتصوير لا يعلمها إلا الله وتفوق مستوى إدراك البشر ولا يمكن أن نستوعب علومهم وعقولهم ماهيته أو كيفيته.
نقل هذا الخلق المصور الميّت في ظهور الآباء
بعد أن خلق الله بعلمه جميع الناس (وهم في حالة ذلك الخلق المصور الميت أوالذرية الميتة) في صلب آدم، جعل (نقلهم) منه عبر ماء آدم وماء من بعده. وقد انقضت هذه المرحلة للأولين ولنا، ولا تزال عملية نقل الذرية الميتة (المخلوقة والمصوّرة) مستمرة لمن بعدنا.
(قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا )
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا (172) الأعراف
مخاطبة الله للذرية البشرية وهم في ظهور آبائهم ثم قولهم لله [بَلَى شَهِدْنَا]، لا يدل بالضرورة أنهم كانوا أحياء. لأن ما نعتبره جماداً ميتاً لا حياة له، قد خاطبه الله (كنار إبراهيم) [11]، أو تخاطب مع الله كالأرض والسماء [فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فصلت/ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) ق]، أو تجاوب مع الله عموماً (كالأرض والسموات والجبال)[12]. والأرض سوف تحدث أخبارها يوم القيامة[13] وهي جماد ميت[14]. والظل[15] الميت يسجد لله. وكل شيء[16] يسبح الله.
فالذي بالآية [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا] هو أمر[17] فطر الله الإنسان عليه [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (30) الروم/ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ {138} البقرة.]. وكل شيء لابد أنه يشهد أن الله خلقه. وكذلك كل ذرة في الإنسان تشهد أن الله خلقها[18]. فهذا شيء تلقائي من طبيعة الأشياء قد ختم الله خلقه به. ولكن الإنسان بعد أن أعطاه الله الإرادة والاختيار يجحد[19] بما خلقه الله فيه أو ينساه.
أطوار ما قبل التسوية (الأطوار الأولى خلق ميت)
وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ {7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ {8} ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ {9} السجدة.
أطوار ما قبل التسوية[20] تبدأ من النطفة[21] وهو طور النشأة الأولى [وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ {62} الواقعة/ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) المعارج]. ثم أنشأنا الله في بطون أمهاتنا من طور النطفة إلى طور العلقة إلى طور المضغة [ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ (5) الحج][22] إلى طور العظام واكتسائها باللحم حتى النشأة الآخرة[23] ولعلها التسوية والانتهاء من الخلق تقريباً، وهي لحظة قبل الولادة . وبعد أن سوانا الله في الرحم نفخ فينا الروح، فانتقلنا إلى مرحلة جديدة (مرحلة الحياة الأولى التي نحياها الآن). وانتهت بذلك مرحلة الموت الأول.
[1] [تفسير الطبري: عن قتادة، قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا" الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان / عن قتادة، قوله:( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان.]. / تفسير الثعالبي: معنى قولهم امتنا اثنتين الآية فقال ابن عباس وغيره أرادوا موتة كونهم في الاصلاب/ الدر المنثور للسيوطي: عن قتادة رضي الله عنه في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم.
[2] كالذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، أو كقوم موسى الذين أماتهم الله ثم بعثهم، أو كالألوف الذين أماتهم الله ثم أحياهم، وكالذي أحياه موسى، وكالذين أحياهم عيسى. والله يفعل ما يشاء ويغيّر سننه متى شاء، ولكن يجب أن نمضي هذا القانون العام بالقرآن على كل نفس (موت ثم حياة ثم موت ثم حياة) ما لم يرد استثناء بالقرآن.
[3] تفسير ابن أبى حاتم : عن ابن عباس ابن مسعود رضي الله ، عنه في قوله : امتنا اثنتين واحييتنا اثنتين قال : هي مثل التي في البقرة كنتم امواتا فاحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم كانوا امواتا في اصلاب ابائهم.
[4] لن يموت الفائزون [أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى (59) الصافات]، ولن يموت الخاسرون [وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ (17) إبراهيم].
[5] أصبح بعض المسلمين للأسف يعتقدون في نظرية التطور الداروينية ويحاولون أن يوفقوا بينها وبين خلق آدم من تراب فيقولون أن الله خلق من التراب أول خلية أرضية حيّة، ثم تطورت هذه الخلية الحيّة (كما تقول نظرية داروين) إلى أن خرج آدم من جد حي أقدم سبقه في الحياة والتزواج والتوالد والأكل والشرب والسكن وغيره. وهذا هو التخرص والتخبط بعينه. وأخشى عليهم الكفر بآيات الله وهم لا يشعرون. ولو سألتهم هل عندكم من علم فتخرجوه لنا لما أجابوا إلا بالخيال والظنون. بل أن بعضهم تمادى وقال أن أكثر من آدم قد خرج من تلك المخلوقات (الأجداد السابقين)، فهناك آدم الأسود وآدم الأشقر، .. الخ. وربط القرآن بنظرية داروين الخيالية هو من الضلال المبين والظلم البالغ. فالقرآن واضح وصريح أن الله قد بدأ خلق آدم من التراب مباشرة وليس من جد حي أقدم منه [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (29) الحجر/ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (72) ص/ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (75) ص]. فكما خلق الله طير عيسى من الطين مباشرة (وليس من أصل طير حي أقدم)، وكما خلق الله ثعبان موسى من العصا مباشرة (وليس من ثعبان حي أقدم)، كذلك خلق الله آدم من التراب مباشرة (ولم يخلقه من مخلوق حي أقدم منه).
[6] [تفسير الطبري: عن مجاهد: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، في ظهر آدم./ حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، قال: في ظهر آدم]/ معاني القرآن – النحاس: وقال مجاهد رواه عنه ابن جريج وابن أبي نجيح معنى ولقد خلقناكم ثم صورناكم في ظهر آدم/ تفسير الفخر الرازي: والوجه الرابع أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير كما قررناه في هذا الكتاب وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله خَلَقْنَاكُمْ إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم وقوله صَوَّرْنَاكُمْ إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبر أنه تعالى قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه.
[7] وقول بعض المفسرين (أن الآية تقصد خلق آدم وتصويره) أو أن (ثم) ليست للترتيب [نظم الدرر –البقاعي: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم (الأعراف : 11 ) بأجوبة، منها أن الخلق والتصوير لآدم وحده، وذكره بضمير الجمع لأنه أبو البشر فخلقه خلقهم وتصويره تصويرهم؛ ومنها أن ( ثم ) بمعنى الواو ليست للترتيب - انتهى]، لعل سببه أن الخلق عادة يرتبط في الذهن كخلق حيّ مُسوى، مثل هيئة وخلقة الرجل والمرأة. وأيضاً سببه الخلط بين هذا الخلق الإنساني الأول القديم لجميع الناس قبل سجود الملائكة [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) المؤمنون] وبين ذلك الخلق والتصوير للناس فيما بعد والذي هو تخلق الجنين وتصويره في الرحم [ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون]. فالأول هو الخلق الأساسي (في صلب آدم)، والثاني هو تنفيذ الخلق الأساسي وإحداثه وتسويته (في الرحم). وقد استدلوا على قولهم أن المقصود هو آدم وحده بالآيات التي تخاطب بني إسرائيل زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبأنها في الحقيقة قصدت آبائهم زمن موسى عليه السلام. وهذا استدلال ضعيف، لأن بني إسرائيل الذين بالمدينة زمن الرسول، قد كانوا موجودين (كخلق مصور ميّت) في أصلاب بني إسرائيل زمن موسى (أجدادهم). فكل ما حصل للأولين (الأجداد قوم موسى) فقد حصل كذلك مع الذين كانوا بظهورهم (الأبناء زمن محمد عليه الصلاة والسلام). ومثله قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ {11} الحاقة. فهذا قول حق موجّه لكل من قصده الخطاب زمن الرسول أنّهم حُملوا في الفلك، لإنهم كانوا بالفعل بظهور أصحاب السفينة قبل آلاف السنين. فهل نقول أن قريشاً والعرب (زمن الرسول) لم يكونوا في سفينة نوح؟ بل كانوا في السفينة ولكن كخلق مصور ميت. وكذلك الآية [وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {41}يس]، حيث المعنى المشهور للذريّة هو الأبناء، وقيل قد يجوز للآباء، وهو ضعيف. ولكن يبدو أن لفظة الذريّة بالآية يُقصد بها (قريش والعرب)، لأن من خاطبتهم الآية زمن الرسول كانوا هم الذريّة (أي هم الذريّة الذين كانوا بظهور الناجين بالسفينة)، فكأن أصلهم (الذرية)أضيف إليهم. أو بمعنى مماثل هم الذرية أي الذرء الذي ذرأه الله، أي كانوا هم الخلق المصور الميّت الأول (بأصلاب من كان بالسفينة)، الذين حُملوا في الفلك، فكأن (ذريّتهم) بالآية بمعنى (خلقهم الأبسط قبل تسويتهم، أي (هم) حينما كانوا بظهور آبائهم وقبل ولادهم). وكذلك تشمل الآية حمل ذرية قريش والعرب زمن الرسول (أي حمل أبناءهم من بعدهم والذين هم نحن).
[8] باستثناء زوج آدم.
[9] هذا الخلق الأساسي (الخلق المصوّر الميت) انقضى وتم لجميع الناس: للذين مضوا وللذين يعيشون اليوم وللذين لم يولدوا بعد.
[10] تبدو كأنها أبجدية تتكون من أربعة أحرف فقط. تتعاقب فيها كل ثلاثة أحرف بطريقة وترتيب معين لتكون كلمة معينة. وكل مجموعة كلمات تكون جملة مفيدة سمّاها العلماء باسم (جين). وهذا الجين (تلك الكلمات أو تلك الجملة) بمثابة أمر هندسي يأمر وحدات بناء الجسم (البروتينات) بالتخلق والتشكل بطريقة معينة لتؤدي وظيفة معينة حسب أوامر وتعليمات ذلك الجين. ويقال يوجد في جسم الإنسان من 30 ألف إلى 80 ألف جين (مازال تحديد عدد الجينات افتراضي وغير مؤكد).
[11] [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) الأنبياء]. وكالأرض والسماء [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي (44) هود].
[12] إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا (72) الأحزاب
[13] يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) الزلزلة
[14] وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) يس
[15] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) الرعد/ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) النحل
[16] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (44) الإسراء/ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ (13) الرعد
[17] احتار العلماء من وجود دين لكل شعب على الأرض، مهما بلغت درجة انعزال ذلك الشعب وتخلّفه. والسبب أن تلك الفطرة أو الصبغة التي خلقها الله في الإنسان تحرّكه وتدفعه إلى البحث عن خالقه.
[18] وسوف يشهد بدن الإنسان عليه [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) النور].
[19] قد يعرف الإنسان الحقيقة ويراها واضحة كالشمس ولكنه يرفضها ويجحدها لأسباب قلبية عاطفية عديدة منها الكبر والاستعلاء أو الحسد والبغض والعصبية أو تضارب المصالح أو طغيان الشهوات، ومن وراء كل ذلك إبليس. فكل هذه العوامل تأمره بكراهية الحقيقة. ولعل في هذه الآية شيء من هذا المعنى [وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ (119) النساء].
[20] التسوية قد تكون بمعنى استقرار الخلق واعتداله وبلوغه الغاية.
[21] تفسير الفخر الرازي: قال كثير من المفسرين الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة/ بحر العلوم للسمرقندي: قوله تعالى " قالوا ربنا أمتنا اثنتين " يعني كنا أمواتا نطفا.
[22] وهذا التخليق والخلق [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ (6) الزمر] والتصوير بالرحم [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ (6) آل عمران] هو غير الخلق والتصوير الأول الأساسي (الميّت) الذي تم قبل سجود الملائكة. فالخلق والتصوير (الميّت) قد تم وانقضى قبل السجود، وهو الأصل والأساس الذي يحكم ما بعده، ولكنه كان في طور وطبيعة مختلفة عن الأطوار اللاحقة كالخلق والتصوير بالرحم (الذي هو أطوار خلق جديدة وتنفيذ وإحداث وتسوية وإحياء).
[23] قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ {20} العنكبوت./ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى {45} مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى {46} وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى {47} النجم / ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ {14} المؤمنون. / يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ (6) الزمر
حينما كنّا أمواتاً
(1)
أربع مراحل
جعل الله الإنسان يمر بأربع مراحل: (1) مرحلة الموت الأول، (2) مرحلة الحياة الأولى، (3) مرحلة الموت الثاني والأخير، (4) مرحلة الحياة الثانية والأخيرة.
وهذه المراحل الأربع مذكورة صراحة في هاتين الآيتين الكريمتين :
هذه هي الحالة العامة[1] للناس جميعاً. فكل إنسان له (موت أول) و(موت ثان أخير)، وله (حياة أولى) و(حياة ثانية أخيرة)، عدا استثناءات[2] معدودة. وسأتحدث فقط عن مرحلة الموت الأول، وأما سائر المراحل فواضحة.
(2)
فترة ما قبل الموت والحياة
ليس فقط لم توجد حياة في هذه الفترة، بل حتى لم يوجد موت [الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ (2) الملك]. وليس فقط لم يوجد نور بل أيضاً لم توجد ظلمات [وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ (1) الأنعام].
فترة عدم وجود الإنسان
في لحظة من لحظات الدهر لم يكن الإنسان موجوداً:
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا {1} الإنسان
وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا {9} مريم
ولا أدري إن كانت هذه الفترة ضمن موتنا الأول أم سابقة له.
مرحلة الموت الأول
مرحلة الموت هذه ذكرتها هاتان[3] الآيتان صراحة:
كل إنسان سيموت في يوم من الأيام، فهذا أمر محتوم [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (185) آل عمران]. وبعد أن يحيينا الله يوم القيامة لن يموت إنسان[4]. وإذن فالموت الذي تعنيه الآيتان: [(وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً)، (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ)]، هو موت سابق لحياتنا الدنيا هذه. وهذا (الموت الأول) قد بدأ على الأقل منذ أن كنا تراباً واستمر حتى ذقنا طعم الحياة لأول مرة في بطون أمهاتنا.
معنى (الْمَوْتَةَ الأُولَى) ليس هو معنى (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى (59) الصافات
لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى (56) الدخان
(الموتة الأولى) بهذه الآيات التي تتحدث عن الآخرة، يُقصد بها الموتة (السابقة، الماضية، السالفة، الفائتة)، والتي هي الموت الثاني (الذي ستذوقه كل نفس حية بعد حين) في هذه الحياة الدنيا. وما حكته الآية عن قول الكافرين وهم بالدنيا [إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) الدخان]، فبقصدون بالموتة الأولى معنى الموت المعروف المعتاد الذي يرونه يصيب كل الأحياء. والموت الذي لم نلقه بعد [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ (143) آل عمران]، فهو الموت الثاني (الذي سيأتي في هذه الحياة الدنيا). وأما الموت الأول بالآيات [وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً)، (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ)] فقد حدث ومضى.
(3)
أطوار مرحلة الموت الأول
التراب (خلق ميت)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ {67} غافر
أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ {37} الكهف
فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ {5}الحج
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ {20}الروم
وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ {11}فاطر
إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) الحجر
الخلق هو إيجاد شيء جديد، إما من شيء [وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ {11}فاطر]، وإما من لا شيء [وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا {9} مريم]. وقد بدأ الله خلق الإنسان من التراب مباشرة[5] [وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ {7} السجدة]، فخلق آدم بيده [قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (75) ص]. وكل الناس خلقهم الله كذرية ضمن خلق آدم وجزء منه. وقد جعل الله خلق الإنسان عدة أطوار [وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا {14} نوح].
الخلق المصوّر (خلق ميت) قبل سجود الملائكة
خلق الله الناس أجمعين من التراب إلى خلق وطبيعة جديدة (خلق إنساني) في علم الله، ثم (صوّرهم) بصورهم التي صاروا عليها في الدنيا، [قبل][6] أن (تسجد) الملائكة لآدم:
وفي هذا الوقت كان كل الناس أمواتاً (مع أنّهم قد خُلِقُوا وصُوِّرُوا)[7]. فهذا الخلق المصوّر (لم يُسوِّه) الله بعد، ولم ينفخ فيه الروح (باستثناء آدم). وسيظل هذا (الخلق المصوّر الميّت) بلا حياة حتى يحييه الله في الأرحام[8]. وقد انقضى هذا (الخلق المصوّر الميت) وتمّ لجميع[9] الناس إلى يوم القيامة.
الخلق الأول اسمه (تراب)، والخلق الجديد لم يعد تراباً محضاً بل أصبح شيئاً آخر اسمه (إنسان). فالتراب هو الخلق الأصلي القديم الذي تحول إلى خلق جديد مختلف (إنسان). فنستطيع القول أن هذا الخلق الإنساني الجديد الميّت هو الطور الأول والمادة الخام والبذرة الأصلية التي ستخرج منها التخلقات (الأطوار) الإنسانية اللاحقة (لكل فرد). أي أن ذلك الخلق الإنساني الأول الميّت (الطور الأول) هو خلق المادة والطبيعة والماهية والنوعية والصفة والوظيفة.
كيف تم خلقنا وتصويرنا قبل سجود الملائكة ؟
كيف خلقنا الله وصورنا قبل أن نكون في بطون أمهاتنا وقبل أن نولد؟ هذا في علم الله وحده. فهذا الخلق المصور هو (شيء ما مستوفى خلقاً وتصويراً في علم الله) قد جعله الله في حالة خمود وخمول (بصُلب آدم ومن بعده) ينتظر أمر تنفيذه وتشغيله (تسويته وإحيائه) في حينه المعلوم، ومهما تكهنّا وتخرصنا فحقيقة الأمر وكنهه وكيفيته عنده سبحانه. ولكن ربما جاز أن نقرب المعنى ببعض الأمثلة التوضيحية:
(أ) مثال صناعة الآلة المعقدة
المهندسون يخلقون الآلة (كالسيارة مثلاً) نظرياً، فيحسبون (على الورق) كل الحسابات العلمية التي لابد منها لخلق مكونات السيارة ويرسمون (على الورق) كل تلك المكونات ولا يكادون يتركون شيئاً من أمر تلك الآلة إلا حسبوه وأحصوه وعالجوه وحلّوه (خلقوه نظرياً) ورسموه ونسّقوه وزخرفوه (صوروه). فإذا راجع العلماء المختصون ما يرونه على الورق من تصميم وحساب ورسم فوجدوه صحيحاً وصالحاً حسب القوانين الطبيعية العلمية ويمكن تنفيذه وعمله كما أرادوا، استطاعوا حينئذ أن يدّعوا أنهم قد خلقوا وصوروا تلك السيارة (قبل صنعها مادياً).
فخلق السيارة وتصويرها في الحقيقة قد تم وفرغ منه وهي لا تزال فكرة على الورق. ولم يتبق إلا جعل ذلك الخلق والتصوير (النظري) واقعاً مادياً ملموساً محسوساً. فيبدأ بعد ذلك تنفيذ وإحداث وصنع وتطبيق ذلك الأمر النظري، فيتم صناعة وتصوير السيارة بطريقة مادية حسية ملموسة مرئية كما نعرفها. فالخلق الأول للسيارة (الحساب والرسم والتصميم) هو خلق فكرة يمكن أن تحدث وتكون، والخلق الثاني للسيارة (المادي الواقعي الملموس) هو تنفيذ وإحداث تلك الفكرة وجعلها واقعاً.
فلو استطاع مهندس أن يصمم على الورق آلة جديدة قد حسب كل حساباتها ورسم كل مكوناتها فنجح كل ذلك نظرياً، ثم رأى العلماء المختصون أن هذا التصميم صحيح وصالح حسب القوانين الطبيعية العلمية، وأنه يمكن تطبيق وتنفيذ وصنع تلك الآلة، لاستطاع ذلك المهندس أن يعلن ويقول أنه قد اخترع وخلق وصور آلة جديدة سوف تعمل كما أراد (حتى قبل أن يُنَفِّذ ذلك التصميم النظري ويجعله آلة مادية واقعة حادثة).
ومثال الآلة هذا مجرد مثال ركيك ناقص أردنا به أن نقترب من فهم الآية [وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا (11) الأعراف]. فالله سبحانه قد جعل كل الخلق والتقدير والتصوير في نفس الخلق (المخلوق)، وزود هذا المخلوق بما يحتاجه من قدرات لإنتاج لبناته ومواده الخام. فالله يخلق من العدم، ويقول للشيء كن فيكون. لذلك فالشيء المخلوق فيه تصميمه وفيه تصويره وفيه مواده الخام وفيه لبناته الأساسية لتنفيذه وصنعه مستقبلاً. وهذا ما حصل معنا فقد خلقنا الله وصورنا (في أنفسنا وفي ذاتنا) قبل أن نولد وقبل أن نكون في بطون أمهاتنا وقبل أن نكون في أصلاب آبائنا بل قبل أن تسجد الملائكة لآدم.
(ب) مثال بذرة الشجرة
كل ما يخص الشجرة من خلق وتصوير قد قدره الله ورسمه وصممه وصوره ووضع مواده الخام بداخل تلك (البذرة الميتة). وكل ذلك الخلق والتصوير للشجرة قد تم وانقضى وفرغ منه، قبل أن نزرع نحن تلك الشجرة وقبل أن تسرح في السماء وتثمر.
(ج) مثال الجينات أو الحمض النووي الوراثي
المختصون في علم الوراثة يعلمون اليوم أن الحمض النووي لخلية الإنسان فيه المعلومات الوراثية الوافية بكل تفاصيلها تركيباً ووظيفة وصفة (مكتوباً بلغة الجينات)[10]، وأن الجنين في بطن أمه يتخلق ويتصور حسب تلك الأوامر الوراثية الجينية في خلاياه. فكلنا يعلم اليوم أن التصميم والخطة والتعليمات والبرمجة موجودة مسبقاً ضمن جينات الحمض النووي قبل أن يبدأ تكون الجنين.
ورغم أن علماء الحمض النووي لا يزالون على ساحل بحر لجي ليس له قرار، إلا أن ما توصلوا إليه في علم الجينات كأنه بصيص نور خافت وضئيل جداً لفهم كيف خلقنا الله وصورنا قبل سجود الملائكة. فالجينات هي الأوامر والتعليمات والتوجيهات التي وضعها الله في أساس خلق الإنسان، لتخليق البروتينات المتنوعة اللازمة لخلق الإنسان. وقد انتقلت هذه الجينات (كما هي) عن طريق الآباء والأمهات منذ آدم حتى تكون الجنين في الرحم. فرأينا أن الله قد وضع الخلق والتصوير في نفس المخلوق، فكل خلية فيها أوامرها الهندسية المعلوماتية (الجينات) وفيها مصنعها الذي ينفذ تلك الأوامر فيخلق البروتين (لبنات البناء) ويشكله حسب تلك التعليمات الجينية. ومن خلال هذه الأمور السطحية الضحلة التي فهمها العلماء عن الجينات حتى الآن، لعلنا نستطيع أن نفهم ولو مقدار ذرة كيف خلقنا الله وصورنا منذ ما قبل سجود الملائكة، رغم أن حقيقة الخلق والتصوير لا يعلمها إلا الله وتفوق مستوى إدراك البشر ولا يمكن أن نستوعب علومهم وعقولهم ماهيته أو كيفيته.
نقل هذا الخلق المصور الميّت في ظهور الآباء
بعد أن خلق الله بعلمه جميع الناس (وهم في حالة ذلك الخلق المصور الميت أوالذرية الميتة) في صلب آدم، جعل (نقلهم) منه عبر ماء آدم وماء من بعده. وقد انقضت هذه المرحلة للأولين ولنا، ولا تزال عملية نقل الذرية الميتة (المخلوقة والمصوّرة) مستمرة لمن بعدنا.
(قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا )
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا (172) الأعراف
مخاطبة الله للذرية البشرية وهم في ظهور آبائهم ثم قولهم لله [بَلَى شَهِدْنَا]، لا يدل بالضرورة أنهم كانوا أحياء. لأن ما نعتبره جماداً ميتاً لا حياة له، قد خاطبه الله (كنار إبراهيم) [11]، أو تخاطب مع الله كالأرض والسماء [فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فصلت/ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) ق]، أو تجاوب مع الله عموماً (كالأرض والسموات والجبال)[12]. والأرض سوف تحدث أخبارها يوم القيامة[13] وهي جماد ميت[14]. والظل[15] الميت يسجد لله. وكل شيء[16] يسبح الله.
فالذي بالآية [أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا] هو أمر[17] فطر الله الإنسان عليه [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا (30) الروم/ صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ {138} البقرة.]. وكل شيء لابد أنه يشهد أن الله خلقه. وكذلك كل ذرة في الإنسان تشهد أن الله خلقها[18]. فهذا شيء تلقائي من طبيعة الأشياء قد ختم الله خلقه به. ولكن الإنسان بعد أن أعطاه الله الإرادة والاختيار يجحد[19] بما خلقه الله فيه أو ينساه.
أطوار ما قبل التسوية (الأطوار الأولى خلق ميت)
وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ {7} ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ {8} ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ {9} السجدة.
أطوار ما قبل التسوية[20] تبدأ من النطفة[21] وهو طور النشأة الأولى [وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ {62} الواقعة/ كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) المعارج]. ثم أنشأنا الله في بطون أمهاتنا من طور النطفة إلى طور العلقة إلى طور المضغة [ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ (5) الحج][22] إلى طور العظام واكتسائها باللحم حتى النشأة الآخرة[23] ولعلها التسوية والانتهاء من الخلق تقريباً، وهي لحظة قبل الولادة . وبعد أن سوانا الله في الرحم نفخ فينا الروح، فانتقلنا إلى مرحلة جديدة (مرحلة الحياة الأولى التي نحياها الآن). وانتهت بذلك مرحلة الموت الأول.
[1] [تفسير الطبري: عن قتادة، قوله:"كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا" الآية. قال: كانوا أمواتًا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله وخلقهم، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان / عن قتادة، قوله:( أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) قال: كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم، فأحياهم الله في الدنيا، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة، فهما حياتان وموتتان.]. / تفسير الثعالبي: معنى قولهم امتنا اثنتين الآية فقال ابن عباس وغيره أرادوا موتة كونهم في الاصلاب/ الدر المنثور للسيوطي: عن قتادة رضي الله عنه في قوله أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين قال : كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم.
[2] كالذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، أو كقوم موسى الذين أماتهم الله ثم بعثهم، أو كالألوف الذين أماتهم الله ثم أحياهم، وكالذي أحياه موسى، وكالذين أحياهم عيسى. والله يفعل ما يشاء ويغيّر سننه متى شاء، ولكن يجب أن نمضي هذا القانون العام بالقرآن على كل نفس (موت ثم حياة ثم موت ثم حياة) ما لم يرد استثناء بالقرآن.
[3] تفسير ابن أبى حاتم : عن ابن عباس ابن مسعود رضي الله ، عنه في قوله : امتنا اثنتين واحييتنا اثنتين قال : هي مثل التي في البقرة كنتم امواتا فاحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم كانوا امواتا في اصلاب ابائهم.
[4] لن يموت الفائزون [أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الأُولَى (59) الصافات]، ولن يموت الخاسرون [وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ (17) إبراهيم].
[5] أصبح بعض المسلمين للأسف يعتقدون في نظرية التطور الداروينية ويحاولون أن يوفقوا بينها وبين خلق آدم من تراب فيقولون أن الله خلق من التراب أول خلية أرضية حيّة، ثم تطورت هذه الخلية الحيّة (كما تقول نظرية داروين) إلى أن خرج آدم من جد حي أقدم سبقه في الحياة والتزواج والتوالد والأكل والشرب والسكن وغيره. وهذا هو التخرص والتخبط بعينه. وأخشى عليهم الكفر بآيات الله وهم لا يشعرون. ولو سألتهم هل عندكم من علم فتخرجوه لنا لما أجابوا إلا بالخيال والظنون. بل أن بعضهم تمادى وقال أن أكثر من آدم قد خرج من تلك المخلوقات (الأجداد السابقين)، فهناك آدم الأسود وآدم الأشقر، .. الخ. وربط القرآن بنظرية داروين الخيالية هو من الضلال المبين والظلم البالغ. فالقرآن واضح وصريح أن الله قد بدأ خلق آدم من التراب مباشرة وليس من جد حي أقدم منه [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (29) الحجر/ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (72) ص/ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (75) ص]. فكما خلق الله طير عيسى من الطين مباشرة (وليس من أصل طير حي أقدم)، وكما خلق الله ثعبان موسى من العصا مباشرة (وليس من ثعبان حي أقدم)، كذلك خلق الله آدم من التراب مباشرة (ولم يخلقه من مخلوق حي أقدم منه).
[6] [تفسير الطبري: عن مجاهد: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، في ظهر آدم./ حدثنا أبو سعد المدني قال، سمعت مجاهدًا في قوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم)، قال: في ظهر آدم]/ معاني القرآن – النحاس: وقال مجاهد رواه عنه ابن جريج وابن أبي نجيح معنى ولقد خلقناكم ثم صورناكم في ظهر آدم/ تفسير الفخر الرازي: والوجه الرابع أن الخلق في اللغة عبارة عن التقدير كما قررناه في هذا الكتاب وتقدير الله عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته لتخصيص كل شيء بمقداره المعين فقوله خَلَقْنَاكُمْ إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم وقوله صَوَّرْنَاكُمْ إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورة كل شيء كائن محدث إلى قيام الساعة على ما جاء في الخبر أنه تعالى قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فخلق الله عبارة عن حكمه ومشيئته والتصوير عبارة عن إثبات صور الأشياء في اللوح المحفوظ ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له وهذا التأويل عندي أقرب من سائر الوجوه.
[7] وقول بعض المفسرين (أن الآية تقصد خلق آدم وتصويره) أو أن (ثم) ليست للترتيب [نظم الدرر –البقاعي: ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم (الأعراف : 11 ) بأجوبة، منها أن الخلق والتصوير لآدم وحده، وذكره بضمير الجمع لأنه أبو البشر فخلقه خلقهم وتصويره تصويرهم؛ ومنها أن ( ثم ) بمعنى الواو ليست للترتيب - انتهى]، لعل سببه أن الخلق عادة يرتبط في الذهن كخلق حيّ مُسوى، مثل هيئة وخلقة الرجل والمرأة. وأيضاً سببه الخلط بين هذا الخلق الإنساني الأول القديم لجميع الناس قبل سجود الملائكة [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) المؤمنون] وبين ذلك الخلق والتصوير للناس فيما بعد والذي هو تخلق الجنين وتصويره في الرحم [ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) المؤمنون]. فالأول هو الخلق الأساسي (في صلب آدم)، والثاني هو تنفيذ الخلق الأساسي وإحداثه وتسويته (في الرحم). وقد استدلوا على قولهم أن المقصود هو آدم وحده بالآيات التي تخاطب بني إسرائيل زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبأنها في الحقيقة قصدت آبائهم زمن موسى عليه السلام. وهذا استدلال ضعيف، لأن بني إسرائيل الذين بالمدينة زمن الرسول، قد كانوا موجودين (كخلق مصور ميّت) في أصلاب بني إسرائيل زمن موسى (أجدادهم). فكل ما حصل للأولين (الأجداد قوم موسى) فقد حصل كذلك مع الذين كانوا بظهورهم (الأبناء زمن محمد عليه الصلاة والسلام). ومثله قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ {11} الحاقة. فهذا قول حق موجّه لكل من قصده الخطاب زمن الرسول أنّهم حُملوا في الفلك، لإنهم كانوا بالفعل بظهور أصحاب السفينة قبل آلاف السنين. فهل نقول أن قريشاً والعرب (زمن الرسول) لم يكونوا في سفينة نوح؟ بل كانوا في السفينة ولكن كخلق مصور ميت. وكذلك الآية [وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ {41}يس]، حيث المعنى المشهور للذريّة هو الأبناء، وقيل قد يجوز للآباء، وهو ضعيف. ولكن يبدو أن لفظة الذريّة بالآية يُقصد بها (قريش والعرب)، لأن من خاطبتهم الآية زمن الرسول كانوا هم الذريّة (أي هم الذريّة الذين كانوا بظهور الناجين بالسفينة)، فكأن أصلهم (الذرية)أضيف إليهم. أو بمعنى مماثل هم الذرية أي الذرء الذي ذرأه الله، أي كانوا هم الخلق المصور الميّت الأول (بأصلاب من كان بالسفينة)، الذين حُملوا في الفلك، فكأن (ذريّتهم) بالآية بمعنى (خلقهم الأبسط قبل تسويتهم، أي (هم) حينما كانوا بظهور آبائهم وقبل ولادهم). وكذلك تشمل الآية حمل ذرية قريش والعرب زمن الرسول (أي حمل أبناءهم من بعدهم والذين هم نحن).
[8] باستثناء زوج آدم.
[9] هذا الخلق الأساسي (الخلق المصوّر الميت) انقضى وتم لجميع الناس: للذين مضوا وللذين يعيشون اليوم وللذين لم يولدوا بعد.
[10] تبدو كأنها أبجدية تتكون من أربعة أحرف فقط. تتعاقب فيها كل ثلاثة أحرف بطريقة وترتيب معين لتكون كلمة معينة. وكل مجموعة كلمات تكون جملة مفيدة سمّاها العلماء باسم (جين). وهذا الجين (تلك الكلمات أو تلك الجملة) بمثابة أمر هندسي يأمر وحدات بناء الجسم (البروتينات) بالتخلق والتشكل بطريقة معينة لتؤدي وظيفة معينة حسب أوامر وتعليمات ذلك الجين. ويقال يوجد في جسم الإنسان من 30 ألف إلى 80 ألف جين (مازال تحديد عدد الجينات افتراضي وغير مؤكد).
[11] [قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) الأنبياء]. وكالأرض والسماء [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي (44) هود].
[12] إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا (72) الأحزاب
[13] يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) الزلزلة
[14] وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) يس
[15] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) الرعد/ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) النحل
[16] تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ (44) الإسراء/ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ (13) الرعد
[17] احتار العلماء من وجود دين لكل شعب على الأرض، مهما بلغت درجة انعزال ذلك الشعب وتخلّفه. والسبب أن تلك الفطرة أو الصبغة التي خلقها الله في الإنسان تحرّكه وتدفعه إلى البحث عن خالقه.
[18] وسوف يشهد بدن الإنسان عليه [يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) النور].
[19] قد يعرف الإنسان الحقيقة ويراها واضحة كالشمس ولكنه يرفضها ويجحدها لأسباب قلبية عاطفية عديدة منها الكبر والاستعلاء أو الحسد والبغض والعصبية أو تضارب المصالح أو طغيان الشهوات، ومن وراء كل ذلك إبليس. فكل هذه العوامل تأمره بكراهية الحقيقة. ولعل في هذه الآية شيء من هذا المعنى [وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ (119) النساء].
[20] التسوية قد تكون بمعنى استقرار الخلق واعتداله وبلوغه الغاية.
[21] تفسير الفخر الرازي: قال كثير من المفسرين الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة/ بحر العلوم للسمرقندي: قوله تعالى " قالوا ربنا أمتنا اثنتين " يعني كنا أمواتا نطفا.
[22] وهذا التخليق والخلق [يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ (6) الزمر] والتصوير بالرحم [هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ (6) آل عمران] هو غير الخلق والتصوير الأول الأساسي (الميّت) الذي تم قبل سجود الملائكة. فالخلق والتصوير (الميّت) قد تم وانقضى قبل السجود، وهو الأصل والأساس الذي يحكم ما بعده، ولكنه كان في طور وطبيعة مختلفة عن الأطوار اللاحقة كالخلق والتصوير بالرحم (الذي هو أطوار خلق جديدة وتنفيذ وإحداث وتسوية وإحياء).
[23] قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ {20} العنكبوت./ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى {45} مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى {46} وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى {47} النجم / ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ {14} المؤمنون. / يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ (6) الزمر
تعليق