الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده ، أما بعد :
فقد أخرج مسلم من حديث أبى رقية تَميم بن أوس الدَّارىِّ رَضِىَ الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال :
(الدِّينُ النَّصِيحَةُ) ثَلاثاً ، قُلْنا : لِمَنْ يا رَسُولُ الله ؟ قالَ : (( للهِ ولِكتابِهِ ولِرَسولهِ ولأئِمَّةِ المُسلِمِينَ ، وعامَّتِهِم )) رَواهُ مُسْلِمٌ
قال الإمام النووى :
قوله صلى الله عليه وسلم : (( الدِّينُ النَّصِيحَةُ :للهِ ، ولِكتابِهِ ، ولِرَسولهِ ، ولأئِمَّةِ المُسلِمِينَ ، وعامَّتِهِم ))
قال الخطابى : النصحية كلمة جامعة معناها : حيازة الحظ للمنصوح له ، وقيل: النصحية مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه ، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسد من خلل الثوب .
وقيل : إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صَفيتهُ من الشمع ، فشبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط .
فال العلماء : (( أما النصحية لله تعالى )) : فمعناها ينصرف إلى الإيمان بالله ، ونفى الشريك عنه ، وترك الإلحاد فى صفاته ، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها ، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن جميع أنواع النقائص ، والقيام بطاعته وإجتناب معصيته ، والحب فيه والبغض فيه ، ومودة من أطاعه ومعاداة من عصاة وجهاد من كفر به ، والإعتراف بنعمته وشكره عليها ، والإخلاص فى جميع الأمور ، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها ، والتلطف بجميع الناس أو من أمكن منهم ، وحقيقة هذه الأوصاف راجعة إلى العبد فى نصحه نفسه ، والله تعالى غنى عن نصح الناصح .
وأما النصحية لكتاب الله تعالى : فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله ، لا يشبه شئ من كلام الناس ، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق ، ثم تعظيمه ، وتلاوته حق تلاوته وتحسينها والخشوع عندها ، وإقامة حروفه فى التلاوة ، والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين ، والتصديق بما فيه ، والوقوف مع أحكامه ، وتَفَهُمِ علموهِ وأمثاله ، والإعتبار بمواعظه ، والتفكر فى عجائبه ، والعمل بمحكمه ، والتسليم لمتشابهه ، والبحث عن عمومه وخصوصه ، وناسخه ومنسوخه ، ونشر علومه ، والدعاء إليه وإلى ما ذكرناه من نصيحة .
وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم :
فتصديقه على الرسالة ، والإيمان بجميع ما جاء به ، وطاعته فى أمره ونهيه ، ونصرته حيَّاً وميتاً ، ومعاداة من عاداه ، وموالاة من والاه ، وإعظام حقه وتوقيره ، وإحياء طريقته وسننه ، وبث دعوته ونشر سنته ، ونفى التهم عنها ، ونشر علومها ، والتفقُّه فيها ، والدعاء لها ، والتلطف فى تعلمها وتعليمها وإعظامها وإجلالها ، والتأدب عند قراءتها والإمساك عن الكلام فيها بغير علم،
وإجلال أهلها لانتسابهم إليها .
والتخلق بأخلاقه ، والتأدب بآدابه ، ومحبة أهل بيته وأصجابه ، ومجانبة من إبتدع فى سنته ، أو تعرض لأحد من أصحابه ، ونحو ذلك .
وأما النصحية لأئمة المسلمين :
فمعاونتهم على الحق ، وطاعتهم فيه ، وأمرهم به ونهيهم ،وتذكيرهم برفق ، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين ، وترك الخروج بالسيف عليهم ، وتأليف قلوب المسلمين لطاعتهم .
قال الخطابى : ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم ، والجهاد معهم ، وأداء الصدقات إليهم ، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة ، وأن لا يغرُّوا بثناء الكاذب عليهم وأن يُدعى لهم بالصلاح .
قال إبن بطال رحمه الله تعالى : فى هذا الحديث دليل على أن النصيحة تُسَمَى ديناً وإسلاماً ، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول .
قال : والنصيحة فرض يجزئ فيه من قام به ويسقط عن الباقين .
قال : والنصيحة واجبة على قدر الطاقة إذا عَلِمَ الناصح أنه يقبل نُصحَهُ ، ويُطاع أمره وأمن على نفسه من المكروه ، فإن خشى أذى فهو فى سِعة ، والله تعالى أعلم .
تابعونا ....
أبو مالك محمد المصرى