يتعين على مَن تصدى للحكم على الناس أنْ يتصف بالعِلم والعدل.
أما عن الاتصاف بالعِلم فقد قال الله تعالى:﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا﴾ [الإسراء:36]، وقال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور:15]. وأما عن الاتصاف بالعدل فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام:152].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة:8].
وليس لحاكمٍ على الناس جرحاً وتعديلاً أنْ يجُور في حُكمه لعداوةٍ أو بغضاء.
قال ابن جرير: ((يعنى بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد، ليكن مِن أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم، وأفعالكم، فتجاوزوا حدود ما حددت لكم في أعدائكم، لعداوتهم لكم، ولا تُقَصِّروا فيما حددت لكم مِن أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيهم بأمري)) [تفسير الطبري (10/95)، بتحقيق أحمد شاكر].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك:((والكلام في الناس يجب أنْ يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع)) [منهاج السنة النبوية (4/337)].
وقال ابن القيم: ((والله يحب الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلَّى بها الرجل، خصوصاً مَن نصب نفسه حَكَماً بين الأقوال والمذاهب، وقد قال تعالى:﴿وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى:15])) [إعلام الموقعين (3/94)].
ومِن الإنصاف أنْ يحترم ما عند الآخرين مِن الخير، قال تعالى:﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ [الشعراء:183].
كتب عبدالله العُمري العابد الإمام مالك يحثه على الاقتصار على التعبد وترك الخلطة، فكتب إليه الإمام قائلاً: ((إنَّ الله قسَّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد، فنشْر العلم مِن أفضل أعمال البر، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر)) [سير أعلام النبلاء (8/114)].
ومَن أراد أن ينصف فلينصت إلى ابن حزم وهو يقول: ((مَن أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه)) [الأخلاق والسير لابن حزم ص18].
قال أحدهم:
ولم تَزَلْ قلَّـةُ الإنصافِ قاطعةً بين الأنامِ وإنْ كانوا ذوي رَحِمِ
ومِن نواقض الإنصاف: تعميم الأحكام، والحُكم على فرد بمجرد انتمائه إلى طائفة، والحُكم على طائفة مِن خلال فرد فيها.
· ومِن نواقض الإنصاف: المبالغة والمجازفة في الأحكام، وذلك بحسب حال الرضا والموافقة، أو حال الغضب والمخالفة، كحال يهود حين علموا بإيمان كعب الأحبار فبدلوا القول مِن ((سيدنا وابن سيدنا)) إلى ((شرنا وابن شرنا)) [جزء مِن حديث أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرءان، باب: مَن كان عدواً لجبريل رقم (4210)]. والأمثلة على كلا الأمرين قديماً وحديثاً أكثر مِن أنْ تحصر.
· ومن نواقض الإنصاف: محاكمة المجتهد إلى اجتهاده في أول أمره دون آخره مثل مَن ينسب القول بإباحة ربا الفضل، أو حِل نكاح المتعة لابن عباس رضي الله عنهما، مع أنه قد ثبت رجوعه عنهما في آخر أمره وخاتمة عمره، وإنما العبرة بالخواتيم.
·ومِن نواقض الإنصاف: الحكم على الشخص في مرحلة بعينها مِن حياته، فمَن حَكَم على أبي الحسن الأشعري مثلاً في أول مراحله قال: كان معتزلياً، ومن حَكَم عليه في المرحلة الوسطى قال: كان مُلفِّقاً أشعرياً، ومَن حكم عليه في المرحلة الأخيرة قال: كان سلفياً!
· ومِن نواقض الإنصاف: الحسد، وهو آفة في النفس دافعة إلى انتقاص المحسود وتمني زوال نعمته، فلا يجتمع معها عدل ولا إنصاف، قال تعالى :﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء:54].
حَسَدُوا الفَتى إذ لم ينالوا سَعيهُ فالـنَّاسُ أعـداءٌ له وخُصومُ
وترى اللبيبَ محسَّداً لم يجترمْ شتمَ الرجالِ وعـرضهُ مشتومُ
كضرائرِ الحسناء قلنَ لوجهِها حسـداً وبـغضـاً إنه لدميمُ
ولقد درج أهل السنة على تحري الإنصاف مع غاية الورع، لاسيما عند الكلام على أهل العِلم والفضل.
قال الذهبي: ((وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع)) [سير أعلام النبلاء (8/448)].
وقد ضرب السلف الصالح رضي الله عنهم أروع المثل في الورع والتثبت.
يقول البخاري: ((سمعت أبا عاصم يقول: منذ أنْ عقلت أنَّ الغيبة حرام ما اغتبت أحداً قط))، وقال أيضاً رحمه الله: ((أرجو أنْ ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً)) [سير أعلام النبلاء (8/448)].
وعلَّق الذهبي على كلامه فقال: ((صدق رحمه الله، ومَن ينظر في كلامه في الجرح والتعديل، عَلِم ورعه في الكلام على الناس، وإنصافه فيمن يُضَعِّفُه... ويستطرد الذهبي فينقل عن البخاري قوله: حتى إذا قلتُ: ((فلان في حديثه نظر فهو متهم واه))، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني أني اغتبت أحداً، وهذا والله غاية الورع )) [سير أعلام النبلاء (12/439)].
وكما كانوا رضي الله عنهم في الذروة من الورع والتوقي عن أعراض الخلق، كانوا أصحاب منهج دقيق في التثبت، حيث جاء الأمر به في كتاب الله تعالى: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:6].وفي قراءة حمزة والكسائي: ﴿فتثبتوا﴾، قال الحسن البصري: ((المؤمن وقَّاف حتى يتبين)) [مجموع الفتاوى (10/382)] فكانوا ينظرون في ضبط نقلة الأخبار، كما ينظرون في فهمهم لها.
وكما قيل:
وكم مِن عائبٍ قولاً صحيحاً وآفتُه من الفَـهْـمِ السقيمِ
ولكن تأخُـذُ الأذهانُ منـهُ على قَـدْرِ القرائحِ والعُلومِ
· ومِن نواقض الإنصاف: إغفال القرائن المحتفة بالأخبار، قبل قبولها أو ردها، فرُبَّ قائل كلمة حق أراد بها محض الباطل، كما قال عليُّ رضي الله عنه للخوارج.
وقال ابن القيم: ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، ومايدعو إليه ويناظر عنه)) [مدارج السالكين (3/521)].
تقولُ هذا جَنَى النَّحـلِ تمدحُـه وإنْ تشأْ قُلتَ ذا قيءُ الزنابيرِ
مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفَهما والحقُّ قَدْ يعتريِه سـوءُ تعبيرِ
وقال السبكي: ((فإذا كان الرجل ثقةً مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أنْ يُحمَل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعُوِّد منه ومِن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحُسن الظن الواجب به وبأمثاله)).
وقد قال الله تعالى في حادثة الإفك طالباً التثبت: ﴿لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ [النور:13]، وأَمَر بتقديم حُسن الظن فقال: ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور:12]، كما أَمَر بالكفِّ عن الكلام بغير علم فقال: ﴿وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ [النور:16]، وفي الحديث: ((وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم)) [أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة، رقم (2541)]. وروى سهل بن سعد مرفوعاً: ((مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) [أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: حفظ اللسان، رقم (5993)].
تكلَّمْ وسدِّدْ ما استطعت فإنما كلامُك حيُّ والسكوتُ جمـادُ
فإنْ لم تجدْ قولاً سديداً تقولُهُ فصمتُكَ عن غير السَّدادِ سدادُ
والمقصود مِن ذلك كلِّه أنْ يَزُمَّ المسلمُ لسانَه بزمامِ التقوى، أنْ يربط على قلبه برباط الورع، وحُسن الظنِّ بالمسلمين، وأنْ لا يعجل على أحدٍ بأمرٍ حتى تقُوم بينته، وتنقطع معذرته، وتُزال شبهته، ثم إذا ثبت خطؤه، وبان زلـله، نُظِر في سائر أمره، وعامة أحواله، فإنْ كانت على وجه السداد والمقاربة احتُمِل له ما لا يُحْتَمَل لغيره، وانغمرت زلته وهفوته في لُجـة حسناته.
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ جاءتْ محاسنُه بألفِ شفيـعِ
كتبه: فضيلة الشيخ د. محمد يسري إبراهيم
كلية الشريعة بجامعة الأزهر، والأمين العام للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، ونائب رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
مِن كتاب: الإحكام في قواعد الحُكم على الأنام
أما عن الاتصاف بالعِلم فقد قال الله تعالى:﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا﴾ [الإسراء:36]، وقال تعالى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ [النور:15]. وأما عن الاتصاف بالعدل فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا﴾ [الأنعام:152].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة:8].
وليس لحاكمٍ على الناس جرحاً وتعديلاً أنْ يجُور في حُكمه لعداوةٍ أو بغضاء.
قال ابن جرير: ((يعنى بذلك جلّ ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله محمد، ليكن مِن أخلاقكم وصفاتكم القيام لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، ولا تجوروا في أحكامكم، وأفعالكم، فتجاوزوا حدود ما حددت لكم في أعدائكم، لعداوتهم لكم، ولا تُقَصِّروا فيما حددت لكم مِن أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيهم بأمري)) [تفسير الطبري (10/95)، بتحقيق أحمد شاكر].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك:((والكلام في الناس يجب أنْ يكون بعلم وعدل، لا بجهل وظلم كحال أهل البدع)) [منهاج السنة النبوية (4/337)].
وقال ابن القيم: ((والله يحب الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلَّى بها الرجل، خصوصاً مَن نصب نفسه حَكَماً بين الأقوال والمذاهب، وقد قال تعالى:﴿وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ﴾ [الشورى:15])) [إعلام الموقعين (3/94)].
ومِن الإنصاف أنْ يحترم ما عند الآخرين مِن الخير، قال تعالى:﴿وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ﴾ [الشعراء:183].
كتب عبدالله العُمري العابد الإمام مالك يحثه على الاقتصار على التعبد وترك الخلطة، فكتب إليه الإمام قائلاً: ((إنَّ الله قسَّم الأعمال كما قسَّم الأرزاق، فرُبَّ رجل فُتح له في الصلاة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الصدقة ولم يُفتح له في الصوم، وآخر فُتح له في الجهاد، فنشْر العلم مِن أفضل أعمال البر، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه، وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر)) [سير أعلام النبلاء (8/114)].
ومَن أراد أن ينصف فلينصت إلى ابن حزم وهو يقول: ((مَن أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه، فإنه يلوح له وجه تعسفه)) [الأخلاق والسير لابن حزم ص18].
قال أحدهم:
ولم تَزَلْ قلَّـةُ الإنصافِ قاطعةً بين الأنامِ وإنْ كانوا ذوي رَحِمِ
ومِن نواقض الإنصاف: تعميم الأحكام، والحُكم على فرد بمجرد انتمائه إلى طائفة، والحُكم على طائفة مِن خلال فرد فيها.
· ومِن نواقض الإنصاف: المبالغة والمجازفة في الأحكام، وذلك بحسب حال الرضا والموافقة، أو حال الغضب والمخالفة، كحال يهود حين علموا بإيمان كعب الأحبار فبدلوا القول مِن ((سيدنا وابن سيدنا)) إلى ((شرنا وابن شرنا)) [جزء مِن حديث أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرءان، باب: مَن كان عدواً لجبريل رقم (4210)]. والأمثلة على كلا الأمرين قديماً وحديثاً أكثر مِن أنْ تحصر.
· ومن نواقض الإنصاف: محاكمة المجتهد إلى اجتهاده في أول أمره دون آخره مثل مَن ينسب القول بإباحة ربا الفضل، أو حِل نكاح المتعة لابن عباس رضي الله عنهما، مع أنه قد ثبت رجوعه عنهما في آخر أمره وخاتمة عمره، وإنما العبرة بالخواتيم.
·ومِن نواقض الإنصاف: الحكم على الشخص في مرحلة بعينها مِن حياته، فمَن حَكَم على أبي الحسن الأشعري مثلاً في أول مراحله قال: كان معتزلياً، ومن حَكَم عليه في المرحلة الوسطى قال: كان مُلفِّقاً أشعرياً، ومَن حكم عليه في المرحلة الأخيرة قال: كان سلفياً!
· ومِن نواقض الإنصاف: الحسد، وهو آفة في النفس دافعة إلى انتقاص المحسود وتمني زوال نعمته، فلا يجتمع معها عدل ولا إنصاف، قال تعالى :﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء:54].
حَسَدُوا الفَتى إذ لم ينالوا سَعيهُ فالـنَّاسُ أعـداءٌ له وخُصومُ
وترى اللبيبَ محسَّداً لم يجترمْ شتمَ الرجالِ وعـرضهُ مشتومُ
كضرائرِ الحسناء قلنَ لوجهِها حسـداً وبـغضـاً إنه لدميمُ
ولقد درج أهل السنة على تحري الإنصاف مع غاية الورع، لاسيما عند الكلام على أهل العِلم والفضل.
قال الذهبي: ((وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع)) [سير أعلام النبلاء (8/448)].
وقد ضرب السلف الصالح رضي الله عنهم أروع المثل في الورع والتثبت.
يقول البخاري: ((سمعت أبا عاصم يقول: منذ أنْ عقلت أنَّ الغيبة حرام ما اغتبت أحداً قط))، وقال أيضاً رحمه الله: ((أرجو أنْ ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً)) [سير أعلام النبلاء (8/448)].
وعلَّق الذهبي على كلامه فقال: ((صدق رحمه الله، ومَن ينظر في كلامه في الجرح والتعديل، عَلِم ورعه في الكلام على الناس، وإنصافه فيمن يُضَعِّفُه... ويستطرد الذهبي فينقل عن البخاري قوله: حتى إذا قلتُ: ((فلان في حديثه نظر فهو متهم واه))، وهذا معنى قوله: لا يحاسبني أني اغتبت أحداً، وهذا والله غاية الورع )) [سير أعلام النبلاء (12/439)].
وكما كانوا رضي الله عنهم في الذروة من الورع والتوقي عن أعراض الخلق، كانوا أصحاب منهج دقيق في التثبت، حيث جاء الأمر به في كتاب الله تعالى: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات:6].وفي قراءة حمزة والكسائي: ﴿فتثبتوا﴾، قال الحسن البصري: ((المؤمن وقَّاف حتى يتبين)) [مجموع الفتاوى (10/382)] فكانوا ينظرون في ضبط نقلة الأخبار، كما ينظرون في فهمهم لها.
وكما قيل:
وكم مِن عائبٍ قولاً صحيحاً وآفتُه من الفَـهْـمِ السقيمِ
ولكن تأخُـذُ الأذهانُ منـهُ على قَـدْرِ القرائحِ والعُلومِ
· ومِن نواقض الإنصاف: إغفال القرائن المحتفة بالأخبار، قبل قبولها أو ردها، فرُبَّ قائل كلمة حق أراد بها محض الباطل، كما قال عليُّ رضي الله عنه للخوارج.
وقال ابن القيم: ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، ومايدعو إليه ويناظر عنه)) [مدارج السالكين (3/521)].
تقولُ هذا جَنَى النَّحـلِ تمدحُـه وإنْ تشأْ قُلتَ ذا قيءُ الزنابيرِ
مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفَهما والحقُّ قَدْ يعتريِه سـوءُ تعبيرِ
وقال السبكي: ((فإذا كان الرجل ثقةً مشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أنْ يُحمَل كلامه وألفاظ كتاباته على غير ما تُعُوِّد منه ومِن أمثاله، بل ينبغي التأويل الصالح، وحُسن الظن الواجب به وبأمثاله)).
وقد قال الله تعالى في حادثة الإفك طالباً التثبت: ﴿لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ [النور:13]، وأَمَر بتقديم حُسن الظن فقال: ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ [النور:12]، كما أَمَر بالكفِّ عن الكلام بغير علم فقال: ﴿وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ [النور:16]، وفي الحديث: ((وهل يكبُّ الناس في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم)) [أخرجه الترمذي، كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة، رقم (2541)]. وروى سهل بن سعد مرفوعاً: ((مَن يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) [أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب: حفظ اللسان، رقم (5993)].
تكلَّمْ وسدِّدْ ما استطعت فإنما كلامُك حيُّ والسكوتُ جمـادُ
فإنْ لم تجدْ قولاً سديداً تقولُهُ فصمتُكَ عن غير السَّدادِ سدادُ
والمقصود مِن ذلك كلِّه أنْ يَزُمَّ المسلمُ لسانَه بزمامِ التقوى، أنْ يربط على قلبه برباط الورع، وحُسن الظنِّ بالمسلمين، وأنْ لا يعجل على أحدٍ بأمرٍ حتى تقُوم بينته، وتنقطع معذرته، وتُزال شبهته، ثم إذا ثبت خطؤه، وبان زلـله، نُظِر في سائر أمره، وعامة أحواله، فإنْ كانت على وجه السداد والمقاربة احتُمِل له ما لا يُحْتَمَل لغيره، وانغمرت زلته وهفوته في لُجـة حسناته.
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ جاءتْ محاسنُه بألفِ شفيـعِ
كتبه: فضيلة الشيخ د. محمد يسري إبراهيم
كلية الشريعة بجامعة الأزهر، والأمين العام للهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح، ونائب رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة
مِن كتاب: الإحكام في قواعد الحُكم على الأنام
تعليق