يُحكى أن أحد الأطفال كان لديه سلحفاة يطعمها ويلعب معها ..
وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة جاء الطفل لسلحفاته العزيزة فوجدها قد دخلت في غلافها الصلب طلبا للدفء .
فحاول أن يخرجها فأبت ..
ضربها بالعصا فلم تأبه به ..
صرخ فيها فزادت تمنعا .
فدخل عليه أبوه وهوغاضب حانق
وقال له : ماذا بك يا بني ؟
فحكى له مشكلته مع السلحفاة ، فابتسم الأب وقال له دعها وتعال معي .
ثم أشعل الأب المدفأة وجلس بجوارها هو والابن يتحدثان ..
ورويدا رويدا وإذ بالسلحفاة تقترب منهم طالبة الدفء .
فابتسم الأب لطفله
وقال: يا بني الناس كالسلحفاة إن أردتهم أن ينزلوا عند رأيك فأدفئهم بعطفك،ولا تكرههم على فعل ما تريد بعصاك .
الرفق بالمخالفين في الدعوة والإحسان إليهم من أوجب الواجبات فالقلوب جبلت على حب من احسن اليها وإذا احب القلب سمع وأطاع وانقاد.
( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حولك ) ..
إن الرفق واللين يتضمن : لين الجانب بالقول والفعل ، والأخذ بالأسهل والأيسر وحسن الخلق ،
وكثرة الاحتمال ، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف .
وقد قال الله تعالى لموسى وهارون
( اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى )
ولهذا قال القائل :
وإذا عجزت عن العدو فداره * * * وامزح له إن المزاح وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها * * * تعطي النضاح وطبعها الإحراق
أهمية الرفق واللين
عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها :
(إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، وصلة الرحم ،
وحسن الخلق ، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار).
فقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم شأن الرفق في الأمور كلها ، وبين ذلك بفعله وقوله بياناً
شافياً كافياً ، لكي تعمل أمته بالرفق في أمورها كلها ، وخاصة الدعاة إلى الله – عز وجل - ،
فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم ، وفي جميع تصرفاتهم ، وأحوالهم.
فالرفق سبب لكل خير ، لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب ،
ومن الثواب ما لا يحصل بغيره ، وما لا يأتي من ضده .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العنف ، وعن التشديد على أمته صلى الله عليه وسلم ،
فعن عائشة – رضي الله عنها – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي
هذا : (اللهم من ولي من أمر أمتى شيئاً فشق عليهم ، فاشقق عليهم ، ومن ولي من أمر أمتي
شيئاً فرفق بهم فارفق به) ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل أحداً من أصحابه في بعض
أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير .
فعن أبي موسى – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً
من أصحابه في بعض أموره قال : (بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إذا أراد الله – عز وجل – بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق).
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ – رضي الله عنهما –
حينما بعثهما إلى اليمن : (يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا) .
في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم
في هذه الألفاظ بين الشيء وضده ، لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقت والتسعير في وقت ،
ويبشر في وقت وينفر في وقت آخر فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على ما يسر مرة
أو مرات ، وعسر في معظم الحالات ، فإذا قال ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع تعسرا ،
وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ، لأنهما قد يتطاوعان في وقت يختلفان في وقت وقد
يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث في هذه الأحاديث
وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه ، وجزيل عطائه ، وسعة رحمته ، ونهى عن
التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير ، وهذا فيه تأليف لمن
قرب إسلامه وترك الشديد عليه ، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ، ومن بلغ ، ومن تاب
من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويتلطف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً ،
وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يسر على الداخل في الطاعة ، أو المريد
للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها ، ومتى عسرت عليه أوشك أنه
لا يدخل فيها ، وإن دخل أو شك أو لا يدوم ولا يستحليها. وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون
بالتدريج ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة
السآمة عليهم .
فصلوات الله وسلامه عليه فقد دل أمته على كل خير وحذرهم من كل شر ، ودعا على من
شق على أمته ، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة وهذا من أبلغ الزواجر عن
المشقة على الناس ، وأعظم الحث على الرفق بهم .
صور في مواقف تطبيق الرفق في الدعوة
- الصورة الأولى : مع شاب استأذن في الزنا
عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال : إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
يا رسول الله ، ائذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه ! فقال له :
(ادنه) ، فدنا منه قريباً ، قال : (أتحبه لأمك ؟) قال : (لا والله ، جعلني الله فداءك ، قال : لا
والله يا رسول الله ، جعلني الله فداءك. قال : (ولا الناس يحبونه لبناتهم). قال : (أفتحبه لأختك ؟)
قال : لا والله جعلني الله فداءك. قال (ولا الناس يحبونه لأخواتهم). قال : (أفتحبه لعمتك ؟)
قال : لا والله ، جعلني الله فداءك. قال : (ولا الناس يحبونه لعماتهم) . قال (أفتحبه لخالتك ؟)
قال : لا والله جعلني الله فداءك. قال : (ولا الناس يحبونه لخالاتهم) .
قال : فوضع يده عليه ، وقال : (اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه) ،
فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء .
- الصور الثانية : مع اليهود
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت :
(دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم .
قالت عائشة : ففهمتها فقلت : وعليكم السام واللعنة. قلت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله) ، فقلت : يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قد قلت وعليكم) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا
يعطي على العنف ، وما لا يعطي على ما سواه) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
وقال صلى الله عليه وسلم : (من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من الخير ،
وليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن) .
- الصورة الثالثة :
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم : مه مه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تزرموه ، دعوه) ، فتركوه
حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : (إن هذه المساجد لا تصلح
لشيء من هذا البول ، ولا القذر ، إنما هي لذكر الله ، والصلاة وقراءة القرآن) ، أو كما قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال : فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوا من ما فشنه عليه.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال : دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين ،
ثم قال : (اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً ! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : (لقد تحجرت واسعاً) ، ثم لم يلبث أن بال في المسجد ، فأسرع الناس إليه فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ، أهريقوا
عليه دلوًا من ماء ، أو سجلاً من ماء) .
وهذا الأعرابي قد عمل أعمالاً تثير الغضب ، وتسبب عقوبته وتأديبه من الحاضرين ، ولذلك
قام الصحابة إليه ، واستنكروا أمره ، وزجروه ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعوا
عليه بوله . وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة ، ويجمع ذلك كله الحكمة .
وحينما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه ، لأنه قد شرع في المفسدة ،
فلو منع ذلك لزادت المفسدة ، وقد حصل تلويث جزء من المسجد ، فلو منعه صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك لدار بين أمرين :
1- إما أن يقطع عليه بوله فيتضرر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه.
2- وإما أن يقطع فلا يأمن من تنجيس بدنه ، أو ثوبه ، أو مواضع أخرى من المسجد.
فأمر البني صلى الله عليه وسلم بالكف عنه للمصلحة الراجحة.
وهذا من أعظم الحكم العالية ، فقد راعي النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصالح ،
وما يقابلها من المفاسد ، ورسم صلى الله عليه وسلم لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل ،
وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ، ولا سب ولا إيذاء ولا تشديد ، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً.
- الصورة الرابعة : مع معاوية بن الحكم :
عن معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه – قال :
بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله !
فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم
على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني ، ولكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فو الله ما كهرني ولا ضربني
ولا شتمني ، قال (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح
والتكبير وقراءة القرآن) .
- الصورة الخامسة :
عن عمر بن أبي سلمة – رضي الله عنه – قال : كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصفحة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(يا غلام سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك) ، فمازالت تلك طعمتي بعد.
- الصورة السادسة : مع من أصاب من امرأته قبل الكفارة
عن سلمة بن صخر الأنصاري – رضي الله عنه – قال في حديثه :
(خرجت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري فقال لي : (أنت بذاك) ؟ فقلت :
أنا بذاك ، فقال : (أنت بذاك)؟ فقلت : أنا بذاك ، فقال : (أنت بذاك) ؟ فقلت : نعم ها أنذا
فأمض في حكمك فإني صابر له. قال (أعتق رقبة) قال : فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت :
لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال : (فصم شهرين) قال قلت : يا رسول الله
وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ، قال : (فتصدق) قال فقلت : والذي بعثك بالحق لقد
بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء.
قال: (اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقا ثم
استعن بسائره عليك وعلي عيالك) .
قال فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم السعة الكبرى وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي ، قال : فدفعوها لي).
- الصورة السابعة :
عن أنس – رضي الله عنه – قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال :
(اتق الله واصبري) قالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه ، فقيل لها :
إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين .
فقالت : لم أعرفك. فقال : (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) ، وهذا فيه الدلالة على
رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالجاهل ، وترك المؤاخذة.
- الصورة الثامنة : من رفق صلة بن أشيم :
ومن المؤلف التطبيقية ما فعله صلة بن أشيم – رحمه الله – مرصلة بن أشيم برجل قد أسبل
ثيابه يسحبها ويجرها على الأرض فأخذ الناس يسبونه ويغلظون له في القول ، فساءه ذلك
وأراد أن يريهم درساً عملياً للرفق واللين في الإنكار فقال لهم : دعوني أكفكم أمره. ثم قال :
يا ابن أخي إن لي إليك حاجة. قال : ما هي ؟ قال : أحب أن ترفع إزارك ، قال : نعم ونعمي
عيني – أن أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك – فرفع إزاره. فقال : صلة لأصحابه : هذا كان
أمثل مما أردتم ، فإنكم لو شتمتوه وآذيتموه لشتمكم .
أخى الحبيب,,
لا تغفُل هذا الجانب العظيم وذاك النهج الكريم, واعلم أنك قد تكون داعية برقيك, وحسن خلقك, وقد يؤثر ذلك فيمن ترجو دعوته أشد من الكلام وإثبات الأدلة وتقديم البراهين.
والناس مختلفون في تقبلهم النصح اختلافًا بيّنًا..
فالزرع عند سقيه, يختلف, منه ما يؤتيه أكله في أيام ومنه ما يحتاج لشهور..
فدع عنك الشدة ونحي العنف جانبًا إن أردتِ تقبل الناس, واجعل البسمة عنوانك مع أخوانك, ولا يحملنك بغض المعصية على بغض أخوانك واستشعر الشفقة عليهن, فلعل ذلك يخفف ما في قلبك من ضيق وحزن, والله أسأل أن يجعلنا جميعًا من الهادين المهتدين وأن يجنبنا سلوك الضالين المضلين, وفق الله الجميع لما يحب ويرضى..
إن الرفق واللين يتضمن : لين الجانب بالقول والفعل ، والأخذ بالأسهل والأيسر وحسن الخلق ،
وكثرة الاحتمال ، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف .
وقد قال الله تعالى لموسى وهارون
( اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى )
ولهذا قال القائل :
وإذا عجزت عن العدو فداره * * * وامزح له إن المزاح وفاق
فالنار بالماء الذي هو ضدها * * * تعطي النضاح وطبعها الإحراق
أهمية الرفق واللين
عن عائشة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها :
(إنه من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة ، وصلة الرحم ،
وحسن الخلق ، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار).
فقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم شأن الرفق في الأمور كلها ، وبين ذلك بفعله وقوله بياناً
شافياً كافياً ، لكي تعمل أمته بالرفق في أمورها كلها ، وخاصة الدعاة إلى الله – عز وجل - ،
فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم ، وفي جميع تصرفاتهم ، وأحوالهم.
فالرفق سبب لكل خير ، لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب ،
ومن الثواب ما لا يحصل بغيره ، وما لا يأتي من ضده .
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من العنف ، وعن التشديد على أمته صلى الله عليه وسلم ،
فعن عائشة – رضي الله عنها – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي
هذا : (اللهم من ولي من أمر أمتى شيئاً فشق عليهم ، فاشقق عليهم ، ومن ولي من أمر أمتي
شيئاً فرفق بهم فارفق به) ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أرسل أحداً من أصحابه في بعض
أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير .
فعن أبي موسى – رضي الله عنه – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً
من أصحابه في بعض أموره قال : (بشروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(إذا أراد الله – عز وجل – بأهل بيت خيراً أدخل عليهم الرفق).
وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري ومعاذ – رضي الله عنهما –
حينما بعثهما إلى اليمن : (يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا) .
في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير ، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم
في هذه الألفاظ بين الشيء وضده ، لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقت والتسعير في وقت ،
ويبشر في وقت وينفر في وقت آخر فلو اقتصر على يسروا لصدق ذلك على ما يسر مرة
أو مرات ، وعسر في معظم الحالات ، فإذا قال ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع تعسرا ،
وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ، لأنهما قد يتطاوعان في وقت يختلفان في وقت وقد
يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد حث في هذه الأحاديث
وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه ، وجزيل عطائه ، وسعة رحمته ، ونهى عن
التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير ، وهذا فيه تأليف لمن
قرب إسلامه وترك الشديد عليه ، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ، ومن بلغ ، ومن تاب
من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويتلطف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً ،
وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يسر على الداخل في الطاعة ، أو المريد
للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها ، ومتى عسرت عليه أوشك أنه
لا يدخل فيها ، وإن دخل أو شك أو لا يدوم ولا يستحليها. وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون
بالتدريج ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة
السآمة عليهم .
فصلوات الله وسلامه عليه فقد دل أمته على كل خير وحذرهم من كل شر ، ودعا على من
شق على أمته ، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة وهذا من أبلغ الزواجر عن
المشقة على الناس ، وأعظم الحث على الرفق بهم .
صور في مواقف تطبيق الرفق في الدعوة
- الصورة الأولى : مع شاب استأذن في الزنا
عن أبي أمامة – رضي الله عنه – قال : إن فتى شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
يا رسول الله ، ائذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه ! فقال له :
(ادنه) ، فدنا منه قريباً ، قال : (أتحبه لأمك ؟) قال : (لا والله ، جعلني الله فداءك ، قال : لا
والله يا رسول الله ، جعلني الله فداءك. قال : (ولا الناس يحبونه لبناتهم). قال : (أفتحبه لأختك ؟)
قال : لا والله جعلني الله فداءك. قال (ولا الناس يحبونه لأخواتهم). قال : (أفتحبه لعمتك ؟)
قال : لا والله ، جعلني الله فداءك. قال : (ولا الناس يحبونه لعماتهم) . قال (أفتحبه لخالتك ؟)
قال : لا والله جعلني الله فداءك. قال : (ولا الناس يحبونه لخالاتهم) .
قال : فوضع يده عليه ، وقال : (اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه) ،
فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء .
- الصور الثانية : مع اليهود
عن عائشة – رضي الله عنها – قالت :
(دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم .
قالت عائشة : ففهمتها فقلت : وعليكم السام واللعنة. قلت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(مهلاً يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله) ، فقلت : يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (قد قلت وعليكم) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي على الرفق ما لا
يعطي على العنف ، وما لا يعطي على ما سواه) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه).
وقال صلى الله عليه وسلم : (من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من الخير ،
وليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن) .
- الصورة الثالثة :
عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ جاء أعرابي ، فقام يبول في المسجد ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم : مه مه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تزرموه ، دعوه) ، فتركوه
حتى بال ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له : (إن هذه المساجد لا تصلح
لشيء من هذا البول ، ولا القذر ، إنما هي لذكر الله ، والصلاة وقراءة القرآن) ، أو كما قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال : فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوا من ما فشنه عليه.
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه - قال : دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين ،
ثم قال : (اللهم ارحمني ومحمداً ، ولا ترحم معنا أحداً ! فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال : (لقد تحجرت واسعاً) ، ثم لم يلبث أن بال في المسجد ، فأسرع الناس إليه فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنما بعثتم ميسرين ، ولم تبعثوا معسرين ، أهريقوا
عليه دلوًا من ماء ، أو سجلاً من ماء) .
وهذا الأعرابي قد عمل أعمالاً تثير الغضب ، وتسبب عقوبته وتأديبه من الحاضرين ، ولذلك
قام الصحابة إليه ، واستنكروا أمره ، وزجروه ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعوا
عليه بوله . وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة ، ويجمع ذلك كله الحكمة .
وحينما بال في المسجد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه ، لأنه قد شرع في المفسدة ،
فلو منع ذلك لزادت المفسدة ، وقد حصل تلويث جزء من المسجد ، فلو منعه صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك لدار بين أمرين :
1- إما أن يقطع عليه بوله فيتضرر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه.
2- وإما أن يقطع فلا يأمن من تنجيس بدنه ، أو ثوبه ، أو مواضع أخرى من المسجد.
فأمر البني صلى الله عليه وسلم بالكف عنه للمصلحة الراجحة.
وهذا من أعظم الحكم العالية ، فقد راعي النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصالح ،
وما يقابلها من المفاسد ، ورسم صلى الله عليه وسلم لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل ،
وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ، ولا سب ولا إيذاء ولا تشديد ، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً.
- الصورة الرابعة : مع معاوية بن الحكم :
عن معاوية بن الحكم السلمي – رضي الله عنه – قال :
بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم ، فقلت : يرحمك الله !
فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم
على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني ، ولكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فو الله ما كهرني ولا ضربني
ولا شتمني ، قال (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ، إنما هو التسبيح
والتكبير وقراءة القرآن) .
- الصورة الخامسة :
عن عمر بن أبي سلمة – رضي الله عنه – قال : كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكانت يدي تطيش في الصفحة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(يا غلام سم الله ، وكل بيمينك ، وكل مما يليك) ، فمازالت تلك طعمتي بعد.
- الصورة السادسة : مع من أصاب من امرأته قبل الكفارة
عن سلمة بن صخر الأنصاري – رضي الله عنه – قال في حديثه :
(خرجت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبري فقال لي : (أنت بذاك) ؟ فقلت :
أنا بذاك ، فقال : (أنت بذاك)؟ فقلت : أنا بذاك ، فقال : (أنت بذاك) ؟ فقلت : نعم ها أنذا
فأمض في حكمك فإني صابر له. قال (أعتق رقبة) قال : فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت :
لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال : (فصم شهرين) قال قلت : يا رسول الله
وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام ، قال : (فتصدق) قال فقلت : والذي بعثك بالحق لقد
بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء.
قال: (اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك ، فأطعم عنك منها وسقا ثم
استعن بسائره عليك وعلي عيالك) .
قال فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم السعة الكبرى وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي ، قال : فدفعوها لي).
- الصورة السابعة :
عن أنس – رضي الله عنه – قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال :
(اتق الله واصبري) قالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه ، فقيل لها :
إنه النبي صلى الله عليه وسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد عنده بوابين .
فقالت : لم أعرفك. فقال : (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) ، وهذا فيه الدلالة على
رفق النبي صلى الله عليه وسلم بالجاهل ، وترك المؤاخذة.
- الصورة الثامنة : من رفق صلة بن أشيم :
ومن المؤلف التطبيقية ما فعله صلة بن أشيم – رحمه الله – مرصلة بن أشيم برجل قد أسبل
ثيابه يسحبها ويجرها على الأرض فأخذ الناس يسبونه ويغلظون له في القول ، فساءه ذلك
وأراد أن يريهم درساً عملياً للرفق واللين في الإنكار فقال لهم : دعوني أكفكم أمره. ثم قال :
يا ابن أخي إن لي إليك حاجة. قال : ما هي ؟ قال : أحب أن ترفع إزارك ، قال : نعم ونعمي
عيني – أن أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك – فرفع إزاره. فقال : صلة لأصحابه : هذا كان
أمثل مما أردتم ، فإنكم لو شتمتوه وآذيتموه لشتمكم .
أخى الحبيب,,
لا تغفُل هذا الجانب العظيم وذاك النهج الكريم, واعلم أنك قد تكون داعية برقيك, وحسن خلقك, وقد يؤثر ذلك فيمن ترجو دعوته أشد من الكلام وإثبات الأدلة وتقديم البراهين.
والناس مختلفون في تقبلهم النصح اختلافًا بيّنًا..
فالزرع عند سقيه, يختلف, منه ما يؤتيه أكله في أيام ومنه ما يحتاج لشهور..
فدع عنك الشدة ونحي العنف جانبًا إن أردتِ تقبل الناس, واجعل البسمة عنوانك مع أخوانك, ولا يحملنك بغض المعصية على بغض أخوانك واستشعر الشفقة عليهن, فلعل ذلك يخفف ما في قلبك من ضيق وحزن, والله أسأل أن يجعلنا جميعًا من الهادين المهتدين وأن يجنبنا سلوك الضالين المضلين, وفق الله الجميع لما يحب ويرضى..
تعليق