كنت أظن . . ولكني اكتشفت . . فقررت!!
. . الحلقةالخامسة . .
(الحيُّ لاتُؤمن عليه الفتنة!!)
كنت أظن . .
أن الشيوخ والدعاة الذين كنت أستمع إلى خطبهم، وأتابع دروسهم للتعلم منهم، وكنت كثيراً ما أتأثر بكلماتهم التي كانت تخترق بروعتها مسامع القلوب، وتلامس أعماق النفوس؛ لما تحمله من معاني الصدق التي يستشعر السامع لها منذ الوهلة الأولى، بأنها قد خرجت بالفعل من القلب إلى القلب . .
هم فوق مستوى الزلل أو الوقوع في أي مخالفة شرعية!!
وأن رأيهم دائماً هو الصواب الذي لا يحتمل بإذن الله الخطأ!! إذ كيف يمكن لأمثالهم ممن يُلقى تلك الخطب الرنانة والدروس المؤثرة، أن يزل أو يخطئ، وهو الداعية أو العالم الذي يعظ الناس ويرشدهم للحق؟!
وبالتالي كنت من أشد الناس حماساً في الدفاع عن آراء مشايخي الفقهية، ووجهة نظرهم الفكرية، وهكذا كان الحال مع أقراني!! حيث كان كل منهم يتعصب لشيخه، ولا يقبل عليه نقضاً؛ حتى كاد بعضهم أن يقول (ما صحَّ عن شيخي فهو مذهبي!!) وهكذا كان النقاش يشتد ويحتدم بيننا، كلٌ ينتصر لرأي شيخه، حتى وقع في مسجدنا النزاع، وتفرقت القلوب، وعمَّ الفشل ساحتنا الدعوية!!
ولكني اكتشفت . .
أن المنطق يقتضي بأن جميع الدعاة على اختلاف مدارسهم ومناهجهم، وتفاوت علمهم وفضلهم لا يعدون كونهم بشراً غير معصومين، بل إنهم يصيبون ويخطئون، شأنهم في ذلك شأن كافة البشر، وأن الجميع بمن فيهم صفوة السلف الصالح رضوان الله عليهم، والأئمة الأعلام (يؤخذ منهم ويرد) ولا معصوم إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يتنافى أبداً مع فضل العلماء ومنزلتهم، أو يقلل عياذاً بالله من شأنهم، حيث أنه من البديهي توقير أهل العلم الصحيح عامة، ورفعهم المكانة اللائقة بشرف ما يحملونه من العلم؛ وهذا أيضاً لا يتنافى مع كونهم متفاوتون في سبقهم للعلم والفضل، كلٌ بحسب ما يرزقه الله، ويفتح عليه من فيض علمه وحكمته، وما يؤتاه من الفقه والبصيرة.
إلا أن حماسة حديثي العهدٍ بالالتزام، تفقدهم كثيراً من الحكمة والروية في تقييمهم للأمور، حيث سرعان ما تنزلق بهم الأقدام بسبب العاطفة الزائدة في منزلق (الحب للشيء يعمي ويصم!!) فيطلقون سيل اتهاماتهم على مخالفيهم، تارة بالجهل وأخرى بالتبديع وثالثة بالتفسيق!!
وكل هذا ظناً منهم أن مرجعيتهم في إصدار هذه الاحكام التي أصدروها، هم مشايخهم الذين تعلقوا بهم، وبالتالي فهم على الحق المبين!!
ولعمر الله لو رجعوا إلى مشايخهم؛ وسألوهم عن تلك الأحكام الجائرة التي أصدروها في حق إخوانهم المسلمين؛ لتبرأوا منها على الفور، وهذا في أغلب الظن!!
حيث أن حسن ظننا في علمائنا ودعاتنا أنهم ولله الحمد دعاة توحيدٍ ولم شملٍ للأمة، وليسوا دعاة تفريق . . ودعاة إنصاف، وليسوا بدعاة قذف وتجريح . . ودعاة تقديم حسن للظن بالمسلمين، وليسوا دعاة رجم بالغيب وسوء ظنٍ بالمسلمين!!
أما من خالف هذا المنهج الذي ربى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وجعل من نفسه حكماً على بواطن غيره من الدعاة، وقدح في عقيدتهم دون دليل أو برهان، وأوغر صدور المسلمين بعضهم على بعض، وأشاع في الساحة مناهج التفريق والتشرذم؛ تحت مطية نبذ البدعة، ومخالفة أهل الزيغ والضلال، وكل هذه العبارات التي يستخدمونها كمفرقعات في وجه كل من خالفهم، أو لم يوافقهم على هذه المهزلة التي ذاع صيتها في الساحة وللأسف الشديد، حتى جعلت المسيرة السلفية موضع شماتة حتى من حسالة العلمانيين والليبراليين!! . . فقد حاد عن الجادة!!
والمصيبة الكبرى أن سياط ألسنتهم لم تكتف بأقرانهم من المعاصرين فحسب؛ بل تعدتها بالقدح في عدد كبير من علماء أهل السنة والجماعة السابقين، ممن هم مشهودٌ لهم بالعلم والفضل، حتى وصل الحال بسلاطة ألسنتهم إلى التجريح في بعض أهل السلف الصالح، والتشكيك في نسبة مؤلفاتهم من أمهات الكتب إليهم، واتهامهم بالتدليس والكذب!!
لذا فقد قررت. .
أن أعرف الرجال بالحق، وليس الحق بالرجال، فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، وذلك لأن التجارب التي مرت بي طوال ثلاثين عاماً من العمل الدعوي، كانت كفيلة بأن تظهر لي نماذج غريبة، ما كنت لأتصور وجودها على أرض الواقع، لولا أني عاينتها بنفسي، وللأسف ألقت بتبعاتها (سلباً) على الدعاة والدعوة، وأذكر منها ما يلي :
1 - رأيت من الدعاة من يبدأ مسيرته باعتدال ووسطية، فإذا ما رأى من كثرة الاتباع والأشياع، تسرب إلى (نفسه البشرية) في لحظة ضعف أو تدني إيماني أو غفلة شعوراً لا إرادياً بالتميز والسبق، فينعكس ذلك على منهجه الفكري، فيطرحه في الساحة بأسلوب يضمن له عدم انصراف الاتباع لغيره، حيث يجعل فيه من الحواجز النفسية ما يمثل (حقن تطعيم) لأتباعه، حتى لا يسهل عليهم الانفلات منها، وقبول غيرها من المناهج!!
ولا يفوته أن يحيط ذلك المنهج بهالة من الترهيب النفسي الغير مباشر!! كأن يختم تعليقه على تقييم منهجه ببعض العبارات الرنانة، مثل : (وهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فمن خالف ذلك المنهج فهو إلى البدعة أقرب!!) ثم تفاجأ مع مرور الأيام، وتغير موازين الأحداث في الساحة، أنه كان أول المخالفين لمنهجه، حيث هبت رياح لا يستطيع مجارتها بفكره المتحجر؛ نظراً لاصطدامه الرهيب بالواقع، فيلين مع الموجة ولسان حاله يقول : (يارب سترك بألا يتذكروا ما كان من سابق أقوالي!!)
2 - ورأيت دعاة قامت لهم الدنيا ولم تقعد، والتف حولهم جموع غفيرة من الناس، ليس من المتدينين فحسب، وإنما حتى من عوام الناس!!
فإذا بهم ينقلبون في لحظة مباغتة رأساً على عقب بزاوية (180 درجة) فإذا بالأمر يتضح فيما بعد أن أمن الدولة هو من كان يقف وراء هذا اللعبة القذرة، حيث كان يرمي من خلالها لربط فكرة أو ظاهرة (الالتزام) بأشخاص بعينهم، ثم يقوم بإسقاطهم على حين غرة، لتسقط معهم تلقائياً الفكرة أو الظاهرة!!
وبالفعل فقد فتن بهذا الدمية خلق كثير، وقطاع عريض، وبالأخص من عوام الناس!!
3 - ورأيت أيضاً من الدعاة شيخاً كبيراً كان يتهم كل معارضيه بأن لديهم ميولاً تكفيرية، حتى اجتمع عليه جمع كبير من الشباب، وصار موضع إشارات البنان!! فلما ظهر شيوخ السلفية بتأصيلهم الرائع، وعلمهم المرجعي الوافي، وشعر بكساد تجارته، حيث لم يكن لديه من العلم الشرعي ما يجاريهم به، وكان في مقدمتهم الشيخ / أبو إسحاق الحويني والشيخ / محمد إسماعيل حفظهما الله تعالى، انقلب كذلك بزاوية (180 درجة) وصار صاحب أكبر مدرسة للفكر التكفيري جهاراً نهاراً!! فقط لكي يشعر أنه شيخ كبير وله جمع من الاتباع حوله، ممن استهوتهم ميوله التكفيرية!!
والحمد لله، فلم يلبث الأمر يسيراً حتى اندثر فلم يعد له ذكراً، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل!!
هذه التجارب وغيرها الكثير، تجعلني أهدي نصيحتي لإخواني وأبنائي، بقلب ملؤه اليقين والسكينة والطمأنينة، أن تعلقوا بمنهج الله الحق وحده، فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، وليكن تعظيمنا لعلمائنا ودعاتنا بقدر تمسكهم بهذا الحق، فها هو صديق الأمة يؤصل لها قاعدة عبر التاريخ قائلاً : (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم!!) ولم يشترط عليهم أن يكونوا طلبة علم أو مقلدين أو عوام، إذ أن الحق يخاطب الفطر السليمة، دون أي موانع أو حواجز، ولكم بذل أهل الباطل من محاولات لطمسه فلم يفلحوا، وذلك لأن الله يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون!!
وتذكروا دائماً أننا نتقرب إلى الله بحب الحق وأهله، وفي مقدمتهم علمائنا ومشايخنا الأفاضل (حفظهم الله تعالى) لأنهم من علمونا قواعد اتباع هذا الحق، وهم جميعاً إخوة متحابين في الله، ولله الحمد والمنة، ولكن نظراً لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، كان لابد من هذا التذكير الذي يجلي عن النفوس حماسها العاطفي، ويجردها للحق والحق وحده . .
حيث أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة
تابعوا . .
والدكم المحب
أبو مهند القمري
تعليق