بما أنه لم يتبق إلا ستون يوما على رمضان (أسأل الله أن يبلغنا إياه) فتعالوا بنا نبدأ حملة التجهيز القلبى و الإيمانى لهذا الشهر العظيم و ليس من شىء نجهز به أنفسنا أعظم من القرآن الذى هو أعظم ما يميز رمضا جنبا الى جنب مع الصيام
و بما ان رمضان شهر مدارسة القرآن فستكون حملة التجهيز القرآنى عبارة عن مشاركة يومية أكتبها عن موضوع كل سورة من سور القرآن بداية بالفاتحة إلى ما تيسر من السور
نجمل فيها موضوع السورة و سبب أو اسباب نزولها إن وجدت مع الأهداف الرئيسية لها و ذكر الملابسات من السيرة التى صاحبت نزول السورة إن توفرت من مصادرها لنعيش كل يوم فى أجواء سورة من سور القرآن
الجانب الثانى من الحملة خاص باخوانى المشاركين فى الصفحة و هو يتلخص فى المشاركة بما تأثروا به من السورة (بعد قراءتها طبعا) فيذكروا أكثر الآيات التى مست شغاف قلوبهم و غيرت من حياتهم من السورة المذكورة و يا حبذا لو أفادونا بشىء من كلام المفسرين و العلماء الذين تكلموا فى السورة و ذلك ليتم النفع و نكون بدأنا فعليا مدارسة كتاب الله و تفهم معانيه فندخل رمضان بقلوب حية متصلة بكلام المولى عز و جل
كما سنرفق فى الردود روابط المواد الصوتية للتفسير الموضوعى لسور القرآن من سلسلة الطريق إلى القرآن للدكتور حازم و سلسلة فى صحبة القرآن للعبد الفقير
هيا يا شباب فلتعلوا الهمم و لنشمر جميعا و كما قال الله و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة أقول لكم و لو أردنا رمضان لأعددنا له عدة . و الله الموفق و المستعان
قبل البدأ فى التفسير الموضوعى و العرض المجمل لأهداف و معانى سورة الفاتحة لابد لنا من وقفة سريعة مع فضائل هذه السورة و التى تعد من أكثر السور التى أثنى عليها النبى و فضلها على غيرها بل فضلها الرب العلى و ميزها بقوله "و لقد آتيناك سبعا من المثانى و القرآن العظيم" فعلى قول جمهور المفسرين السبع المثانى هى الفاتحة فهى فى كفة و باقى القرآن فى كفة أخرى كيف لا و هى السورة التى جمعت أعظم المعانى التى وردت فى الكتب السابقة بل ما أوتى نبى مثلها كما فى حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته" رواه مسلم
بل هى الأعظم فى كتاب الله
فعن أبي سعيد بن المعلى قال مر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيت فقال: ما منعك أن تأتي، فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول، ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد فذهب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخرج من المسجد فذكَّرته فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. و في رواية :أفضل سورة في القرآن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال يا أبي وهو يصلي فالتفت أبي فلم يجبه وصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك فقال يا رسول الله إني كنت في الصلاة قال فلم تجد فيما أوحى الله إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال بلى ولا أعود إن شاء الله قال أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها قال نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقرأ في الصلاة قال فقرأ أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته . متفق عليه
و أخرج الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم في مسير فنزل و نزل رجل إلى جانبه قال : فالتفت النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ألا أخبرك بأفضل القرآن قال : فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين }
و هى مكان الإنجيل كما فى حديث واثلة بن الأسقع:"أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ومكان الزبور المئين ومكان الإنجيل المثاني و فضلت بالمفصل"
و من أعظم ما يدل على فضلها على سائر القرآن الإسم الذى خصها به النبى فعن أبى هريرة عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج - ثلاثا - غير تمام ». فقيل لأبى هريرة إنا نكون وراء الإمام. فقال اقرأ بها فى نفسك فإنى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول « قال الله تعالى قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ). قال الله تعالى حمدنى عبدى وإذا قال (الرحمن الرحيم ). قال الله تعالى أثنى على عبدى. وإذا قال (مالك يوم الدين). قال مجدنى عبدى - وقال مرة فوض إلى عبدى - فإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين ). قال هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل. فإذا قال (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ). قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل ». رواه مسلم
و لنتأمل سويا قول المولى فى الحديث القدسى السابق "قسمت الصلاة " ثم لم يذكر بعدها إلا آيات من الفاتحة فكنى بالصلاة عن الفاتحة كأنها هى الصلاة
كيف لا؟و هى الصلة بين العبد و ربه و فى قراءتها يكون الكلام بين العبد و مولاه يسمعه العابد بقلبه فى الدنيا و تسمو روحه عند استشعار الرد و ربه يرد عليه و يقول حمدنى عبدى و أثنى على عبدى و مجدنى عبدى
مغبون مسكين من لم يجد بهذه المشاعر و الصلة الروحية بينه و بين بارئه
و لذا استحق من تركها أن يقول عنه النبى "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب"
لأنه لم يتصل بربه و يكلمه و يرد ربه عليه
و لذا فهى ركن على الراجح لا تصح الصلاة التى هى عمود هذا الدين بدونها و هنا لفتة مهمة فهى بذلك أكثر السور فى معدل القراءة اليومية فرضا لا نفلا فالمسلم الملتزم بدينه الذى لا يفرط فى صلاته يقرأها فى يومه و ليلته على الأقل سبعة عشر مرة و قد تزيد عشرات المرات إن كان من أهل التنفل
و لابد هنا أن نسأل أنفسنا سؤالا ندلف منه إلى موضوع السورة
لماذا هذه السورة بالذات لها هذا المعدل العالى من القراءة ؟
لم فرض الله عليك أن تقرأها و تتأمل و تتدبر معانيها سبعة عشر مرة يوميا؟
لابد أن هناك معنى أو معان يحتاج كل مسلم أن يتذكرها الفينة بعد الفينة
ذهب جمهور الذين حاولوا الإجابة على هذا السؤال إلى أن هذا المعنى و الموضوع المحورى الذى تدور عنه السورة هو الدعاء الذى يتوسطها
أعظم و أخطر دعاء يحتاج المرء أن يدعو به ربه كل لحظة
سورة الفاتحة باختصار شديد عبارة عن دعاء سبقه ثناء
هكذا ببساطة؟
نعم . لكنه ليس أى دعاء و ليس أى ثناء
إنه دعاء بالهداية . الهداية التى من دونها الضلال عياذا بالله
لكى تعلم خطورة هذا الدعاء و أهميته لابد أن تعلم خطورة الشىء الذى تحتاج أن تهدى خلاله
إنه الصراط.
الصراط المستقيم فى الدنيا و الآخرة
هذا الطريق الصعب المحفوف بالمخاطر فى الدارين
ففى الدنيا حف هذا الصراط بالمكاره و الشهوات و ا لشبهات و امتلأ بالمزلات و الفخاخ و تربص بك فيه الأعداء من كل جانب خارجك و داخلك
و ما أوضح المثل الذى ضربه النبى لذلك الطريق حين قال "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَىِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا وَدَاعِى يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ وْالصَّرِاطُ الإِسْلاَمُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِى عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّاعِى مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِى قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ ».
و هذا الحديث يوضح المخاطر التى تحيط بهذا الطريق و الأعداء الذين يحاولون التأثير عليه ليلج الفتن و الشهوات و الشبهات و قد لا يستطيع الخروج منها فيكون ممن اتبع السبل كما قال المولى جل و علا "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر : شاذان ، حدثنا أبو بكر - هو ابن عياش - عن عاصم عن أبي وائل ، عن عبد الله - هو ابن مسعود ، رضي الله عنه - قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ، ثم قال : " هذا سبيل الله مستقيما " وخط على يمينه وشماله ، ثم قال : " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ثم قرأ : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .
فطريق محفوف بالمهالك ممتلىء بالأعداء من شياطين الإنس و الجن و من قبلهم النفس الأمارة بالسوء حرى بالمرء أن يتأهب فيه و يهاب سلوكه بغير معين لذا تأتى الدعوة من قلب مفتقر و عقل يعى خطورة الأمر فيجأر بها كل لحظة لمن يستطيع إعانته على وعورته و يقول "إهدنا الصراط المستقيم"
أما فى الآخرة فالأمر أخطر و الصعوبة أشد فصراط الآخرة كما وصفه النبى دحض مزلة فيه خطاطيف و كلاليب و حسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فناج مسلم و مخدوش مرسل و مكدوس على وجهه في النار ] خرجاه في الصحيحين و في رواية لمسلم قال أبو سعيد الخدري بلغني أن الجسر أدق من الشعر و أحد من السيف
فيمره المؤمن كطرف العين و كالبرق و كالريح و كالطير و كأجاويد الخيل و الركاب و في رواية للبخاري [ حتى يمر آخرهم يسحب سحبا ]
لكن كيف يوفق للمرور عليه بهذه السرعة و بسلام و هو بهذه الحدة و الخطورة ؟ لا شىء إلا أن ينجيه الله فيتذكر المؤمن ذلك فيدعو بحرقة أشد و بافتقار أكبر "إهدنا الصراط المستقيم"
لذلك نستطيع أن نقول أن هذا أهم دعاء يحتاج المسلم اأن يدعو به فى الدنيا لينجو فى الدنيا و الآخرة كيف لا و هو من دون ذلك ضال لا محالة لقول الله فى الحديث القدسى " كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم"
لكن لهذا الصراط الذى تطلب الهداية فيه خصائص و صفات تطلبها كذلك فى الفاتحة فهو طريق يعرف بسالكيه و ليس قفرا أنت أول من يسلكه
بل سلكه قبلك أناس زكاهم مولاك و تركوا لك آثارا عليك أن تقصها و تلتمس الصراط المستقيم بها
و هم الذين أنعم الله عليهم .
و لك أن تسأل من هؤلاء الذين لشرفهم ميز الله الصراط بهم و طلب منك أن تقفو آثارهم؟
يجيبك مولاك " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً"
فهم القدوات و المتبعون من البشر الذين تسير على نهجهم
عليك أن تتذكرهم كلما قرأت الفاتحة و دعوت مولاك بهذا الدعاء
تتذكر أنك لست وحدك تسير إلى الله بل هم من قبلك سبقوك و كانوا لك خير سلف و عليك أن تكون لهم خير خلف
تتذكر أنك لست نبتا مجتثا لا أصل لك و إنما لك جذور و قواعد راسخة عليك أن تعتز بها و تهفو روحك إلى الاقتداء بها
و مع هذه الأصول فإن البعض يشتبه عليه الطريق و يلتبس و يخلطه بطرق أخرى شتان ما بينها و بينه بل قد يختار عامدا أن يسلك طريقا آخر ليس له و لا خير فيه و هو طريق المغضوب عليهم الذين علموا و لم يعملوا أو طريق الضالين الذين عملوا بجهل و ضلال و أبوا أن يتعلموا
يحذرك الله و يعلمك أن تتعوذ من طريقتهم و أن تتبرأمن سبيلهم التى سلكها و سيسلكها كثيرون كما أخبر الصادق المصدوق " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم
قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن ؟!!رواه البخارى
فكما علمت و عرفت الطريق بمن سلكوه من قبلك من المزكين لابد أن تعلم السبل الأخرى لتتقيها و بضدها تتمايز الأشياء فشتان بين طريق العلم و الهدى و النور و طريق الجهل و العصيان و التمرد و الظلمات
هكذا انتهى الدعاء الذى اشتمل على كل الخير فى الدنيا و الآخرة لكن ليس من الأدب أبدا مع مولاك أن تدخل عليه هكذا بغير مقدمات بغير تذلل و ثناء
فتبدأ الفاتحة بالثناء على الله و التذلل بكل أنواع التوحيد
تثنى عليه و تحمده و تقر له بربوبيته فتقول "الحمد لله رب العالمين"
و الحمد هو الثناء لكنه ثناء بحب
ثم تستمر فى الثناء بذكر أحب أسمائه و صفاته إليه فتقول "الرحمن الرحيم "
و هى الصفة التى بدأ بها خلقه و كتبها يوم خلقهم على عرشه"إن رحمتى سبقت غضبى"
ثم بعد أن بدأت بصفات الجمال تثنى و تمجد بصفات الجلال و أعظمها أن تقر أنه الملك المالك فهو يملكك و يملك الكون كله و هو الملك الحاكم له صاحب السلطان عليه "ألا له الخلق و الأمر" تقر بهذا الملك المستحق لملك الملوك سبحانه فتقول "مالك يوم الدين"
ثم بعد أن أقررت له بكل الثناء و المجد تكون النتيجة أنه وحده المستحق لعبادتك و لا شريك له فى ذلك فتقترب أكثر و تعاهده قائلا " إياك نعبد" ثم تتذكر ضعفك و تقصيرك و تخشى من تبعات هذا التقصير على ذلك العهد الذى قطعته للتو فتتبرأمن حولك و قوتك و تطلب المعونة منه وحده و تقول" و إياك نستعين"
ساعتها إن قلت ذلك و انت تعنيه و تقصده و لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله تتوطد العلاقة أكثر فأكثر إلى مرحلة غير مسبوقة
إلى مرحلة يكون فيها أسرار بينك و بينه و هذا لا بكون إلا بين القريبين من بعضهم و ليس أرباب العلاقات السطحية
هذا السر يتضح فى قوله ردا على ما عاهدته به من إخلاص العبودية حين يقول المولى عز و جل "هذا بينى و بين عبدى "
فياله من شرف و ياله من مقام و صلت إليه بفضله و علمك كيف تصل إليه بمنه فله الحمد و المنة
بعد هذا الأدب و بعد هذا التمجيد لك الآن أن تسأل و تطلب و كلك رجاءا فى الإجابة بعد أن وعدك " و لعبدى ما سأل "
هذا و ما كان من توفيق فمن الله و حده و ما كان من زلل فمنى و من الشيطان و أبرأ ألى الله منه
و غدا بإذن الله مع سورة البقرة إن أحيانا الله
سورة البقرة هى أطول سورة على الإطلاق فى كتاب الله العزيز و هذا الطول يسبب للبعض عدم وضوح فى رؤية موضوع السورة و يكون التأثر بها جزئيا عند الكثيرين دون فهم الأهداف المجملة و الوحدة الموضوعية لهذه السورة العظيمة
و قد كان هذا سببا فى تطاول بعض المستشرقين على كتاب الله زعما منهم أن السورة فاقدة للترابط وأن هذا ليس من البلاغة عياذا بالله . و لبئس ما قالوا فهو لا يدل إلا على الجهل المطبق و النظر القاصر لكتاب الله
فسورة البقرة و لله الحمد و المنة من أوضح السور بفضل الله موضوعا و أهدافا لكن هذا لا يظهر إلا لمن بسط نظره و بدأ يحلل التقسيم البديع لموضوعات هذه السورة ثم يربطه بميعاد و ظروف نزول هذه السورة الكريمة
إن سورة البقرة نزلت فى أول العهد المدنى بعد هجرة النبى أى فى مطلع تأسيس أول دولة فى تاريخ المسلمين وسط مجموعة كبيرة من المتغيرات و الإختلافات بين عناصر هذا المجتمع الوليد
هذا المجتمع الذى كان يتكون من عناصر شتى بعضها شديد التناقض بل يصل إلى حد التنافر و التعادى أحيانا ما بين مسلمين و مشركين لا يزالون على كفرهم و وثنيتهم و يهود استوطنوا المدينة و تشابكت فيها مصالحهم منذ عشرات السنين كل ذلك جنبا إلى جنب مع الصنف الجديد الذى بدأ لأول مرة فى الظهور فى هذا المجتمع الناشىء
الصنف الذى اختار أن يظهر خلاف ما يبطن حرصا على مصالحه و مقامه فى هذا المجتمع
هذا الصنف الجديد هم المنافقون
و مع هذا الخليط الغير متجانس بل المتنافر المتصارع أحيانا يأتى التحدى الأصعب الذى تمر به أى دولة وليدة و هو رسم الإطار و النسق الذى ستسير عليه هذه الدولة و إن شئت فقل بمصطلحات عصرنا الدستور الذى سيحترمه و يسير عليه أبناء هذه الدولة الجديدة على اختلاف مشاربهم
فى ظل هذه الظروف الصعبة و التحديات المقلقة نزلت هذه السورة لترسم للمسلمين الخط الذى سيسيرون عليه و تضع لهم الأسس التى سيبنون عليها دولتهم لكن بركيزة أساسية لابد لكل مجتمع وليد أن يرسخها فى ضمير أتباعه
هذه الركيزة هنا و الأصل الأكبر الذى ترسخه سورة البقرة هو
الإسلام لله عز وجل
فكما لابد لكل مجتمع أن يسوده قانون يتحاكم إليه أفراده و يرضون به و يرضخون لسيادته _فيما يعرف اليوم بسيادة القانون_ كان لابد للمجتمع المسلم أن يرسخ لديه هذا الأصل فيسلم كله لسيادة القانون لكنه هنا القانون الإلهى أو حكم الله الذى يجب أن يستسلم أفراد المجتمع الوليد لأمره و نهيه طوعا فيما يعرف اصطلاحا بالإسلام لله (و هو الإستسلام طوعا لمراد الله)
سورة البقرة ببساطة تضعنا أمام خيار من ثلاثة .
تُتبين هذه الخيارات من خلال الثلاث قصص الرئيسية التى تطرحها سورة البقرة و التى اختار أبطال كل قصة خيارا منهم
ثم تضع السورة المجتمع المسلم فى جزئها الثانى أمام عدد من الإختبارات تتمثل فى تشريعات رئيسية و أحكام هامة عرضتها السورة و تختم بأصعب هذه الإختبارات ليسأل كل واحد منا نفسه بعدها هل سأجاوز الإختبار و أختار الإختيار الصحيح أم الأخرى عياذا بالله
و لفهم هذ المضمون المجمل نعرض بإيجاز تحليلا لعناصر السورة و مراحلها
فسورة البقرة باختصار شديد عبارة عن:
· مقدمة تصنيفية ذكر الله فيها الأصناف التى بيناها كلها و التى يتكون منها المجتمع المدنى (المؤمنون – الكافرون – المنافقون – اليهود) و هى من الآية الأولى إلى الآية 29
· الجزء القصصى و الذى احتوى ثلاث قصص رئيسية كما بينا و هى
1) قصة سيدنا آدم عليه السلام
2) قصة بنى إسرائيل بطولها
3) قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام
· جزء الأحكام و التكاليف الشرعية
· خاتمة و ابتلاء أخير
و إذا نظرنا للقصص الثلاث لوجدنا أنها تشاركت فى وقوع التكليف عليها ثم تباينت ردود الأفعال تجاه هذا التكليف
فنجد فى قصة آدم الطاعة التى شابتها معصية لأمر الله بسبب زلة من الشيطان ثم مسارعة فى العودة و التوبة
" فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
و نجد فى قصة بنى إسرائيل العصيان المطلق و التمرد المستمر و ما أكثر الشواهد من السورة على ذلك
· وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
· ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ {} فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
· أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
· } وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
· فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ
· وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
كل هذه الآيات و غيرها تبين لدى مدى العصيان و التمرد الذى وصلوا إليه و الذى تمثل جليا فى قصة البقرة و التى سميت السورة بإسمها و التى هى نموذج حى للتركيبة المتمردة الرافضة للاستسلام و الانقياد لشرع الله و يتضح هذا فى أول كلمة ردوا بها على نبيهم الذى رأوا الآيات مه حين أخبرهم أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة فماذا كان الرد من هؤلاء المتمردين؟
" قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ "
ثم يستمر الجدال و التعنت و التشديد و تعقيد أمر يسير وواضح فتارة يسألون عن ماهية البقرة و تارة عن لونها و تارة عن صفاتها و كل هذا التعنت لا لشىء إلا لما بينه الله من حقيقة فى قوله " فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ"
فحقيقتهم أنهم يرفضون حكم الله عليهم و شعارهم الذى أعلنوه – سمعنا و عصينا- و هو شعار التزموا به و استمسكوا بأهدابه حتى الرمق الأخير فما تركوا أمرا من أوامر الله إلا واجهوه بهذا العصيان المقيت حتى ما كان فى مصلحتهم (
"وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {2/58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ"
فالمغفرة لو قالوا الكلمة التى علمهم إياها الله - حطة – فقالوا حنطة و دخلوا القرية يزحفون على إستاههم"مؤخراتهم" أعزكم الله بدلا من الدخول سجدا كما أمروا فما أقبح تمردهم و ما أبعدهم عن الإسلام لله عز و جل
§ أما فى قصة إبراهيم عليه السلام فنجد النقيض تماما و نلمس تمام الإسلام و الخضوع المطلق لأمر الله مهما كان صعبا على النفس
و تأمل حين وصف الله حاله أمام الاختبارات المتتالية من أوامر و نواهى
"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ"
فلقد أتم إبراهيم عليه السلام كل إجابة لكل اختبار و على أكمل وجه حتى ما كان منها مستحيلا على غيره كذبح ولده و تركه مع امه قبل ذلك بسنين فى العراء لا لشىء إلا لأن الله أمره بهذا
إن لم يكن هذا هو تمام الإسلام لله فما إذا
"إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ "
و بعد الإسلام ما كلًّ و ما ملًّ و ما ذل فتارة يكسر أصنام قومه و تارة يصبر على إلقاء فى النار و تارة يهاجر من بلد إلا بلد و يجوب مشارق الأرض و مغاربها قابضا على دينه
لسان حاله ثابت لا يتبدل أمام كل أمر :سمعا و طاعة لمولاى
هاجر فى الله. سمعا و طاعة لمولاى
اترك ولدك و امرأتك فى الصحراء .سمعا و طاعة لمولاى
اذبح ولدك .سمعا وطاعة لمولاى
إبن البيت . سمعا و طاعة لمولاى
أذن فى الناس بالحج لتسمع الدنيا (و بدون و سائل اتصال أو مكبرات ) و الإجابة واحدة لا تتبدل سمعا و طاعة لمولاى
حتى وهو ابن الثمانين عاما يأمره الله بالختان فيختتن بالقدوم و دون أدنى مناقشة
و يوصى أبناءه بالدوام على هذا الحال من الإستسلام الطوعى لرب العالمين
"وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ "
و يوصى بها أبناؤه أبناءهم و يتكرر الأمر بالإسلام لله
" أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"
" ثم توجه الوصية للنبى و أمته وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {} فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {} صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ"
بعد هذه النماذج الثلاث يأتى ما يزيد عن جزء كامل من الاختبارات الموجهة للأمة الوليدة و القوانين و التشريعات و الأوامر و النواهى التى تسير دينهم و دنياهم
فتأتى أحكام العبادات (كالصلاة و القبلة و الصيام و الحج و الإنفاق )و تأتى أحكام المعاملات الداخلية ( كالزواج و الطلاق و الرضاع و الوصية و الربا و المداينة و الرهن ) و المعاملات الخارجية ( كأحكام الجهاد و الأشهر الحرم ) و بعض القوانين و الحدود ( كالقصاص و تحريم الخمر و الميسر و طائفة من أحكام الحلال و الحرام)
هذه الأحكام بخلاف أنها دستور و تشريع سيقوم عليه المجتمع الجديد بالمدينة على أساس واضح من العدل فإنها ابتلاء للأمة فى قضية الإسلام لله
و كأن السورة توجه سؤالا للجماعة المسلمة بعد أن عرض عليها نماذج من ابتلوا من قبلها و استخلفوا فى الأرض ابتداءا بآدم و انتهاءا ببنى إسرائيل
بعدما رأيتم هذه النماذج الثلاث أيهم تختارون ؟
السؤال الذى يجب على كل منا أن يسأله لنفسه و هو يعرض حاله على أحكام سورة البقرة و غيرها من أحكام الشرع الحنيف
هل أنا مسلم مستسلم لأمر الله كإبراهيم لاأحيد قيد أنملة
أو كآدم أزل مرة و أعصى لكن أسارع بالتوبة و لا أكابر
أم النموذج المخيف الذى فصله ربنا تفصيلا طويلا لبيان خطورته. و للأسف لأنه النموذج الذى سيقع فيه الكثيرون ممن يرفضون حكم الله و يتمردون عليه و يسلكون سبيل المغضوب عليهم و لسان حالهم كشياطينهم (سمعنا و عصينا)
ثم توجه السورة رسالة أخيرة باختبار شديد و ابتلاء صعب حين أنزل الله قوله "لله مافي السماوات والأرض وإن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير". حاول الصحابة العمل بها و تطبيقها. ومعنى الأية أن كل خواطر الإنسان الخفية والأعمال الظاهرة يحاسب عليها. فمثلاً إذا رأى الإنسان مالاً وخطر له سرقته ولكن لم يسرقه فالله يحاسبه أنه سارق. أو رأى امرأة وخطر في باله الزنى ولم يفعله فهو زان و هذا مقتضى ظاهر الآية و أول ما تبادر إلى أذهان الصحابة.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ ، ثُمَّ قَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ : الصَّلاةِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، فَلَمَّا قَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أثْرِهَا : آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلِهِ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قَالَ : نَعَمْ
رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قَالَ : نَعَمْ
رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَالَ : نَعَمْ
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، قَالَ : نَعَمْ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ و فى رواية قال قد فعلت
هذا الأثر يلخص موضوع السورة بإيجاز فهاهنا أمر قد يتنافى مع هواك و يطرأ إلى فهم المرء و يسارع إلى عقله أنه يستحيل تنفيذه أو أنه غير مناسب لكن مع ذلك المطلوب منه أن يسلم ...يستسلم ..يسمع و يطيع
و لا شك أنه لضعفه قد يزل و يخطىء و هذه طبيعته لذلك يشفع سمعنا و أطعنا ب غفرانك ربنا و إليك المصير فأنا أقبل الأمر يا رب و لا أتمرد أو أعصى لكننى أطلب المغفرة لتقصير وارد و غير مقصود
هذا هو المبدأ الذى ينبغى أن يكون لدى المسلم القناعة الكاملة به و كما قال العلماء المسلم لا يقول لم أمرنا و لكن بم أمرنا لينفذ و يسمع و يطيع
و لذلك لما اختار الصحابة الخيار الصحيح نزل التخفيف من الله الرحيم فبين أن الإنسان مكلف بما كسب أو اكتسب و نسخت الآية و زال الابتلاء
فشعار السورة الأوضح و توصيتها الأساسية "سمعنا و أطعنا" أو الإسلام المطلق و الإذعان الكامل لشرع الله و القبول به حتى و إن حدث التقصير أو الزلل فأصل الإنقياد و القبول يزين المؤمن و يجعله أهلا للقب الذى يحمله . مسلم
هذا و ما كان من توفيق فمن الله و ما كان من زلل فمنى و من الشيطان و الله و رسوله منه براء و إلى لقاء فى القريب العاجل إن شاء الله مع سورة آل عمران
و بما ان رمضان شهر مدارسة القرآن فستكون حملة التجهيز القرآنى عبارة عن مشاركة يومية أكتبها عن موضوع كل سورة من سور القرآن بداية بالفاتحة إلى ما تيسر من السور
نجمل فيها موضوع السورة و سبب أو اسباب نزولها إن وجدت مع الأهداف الرئيسية لها و ذكر الملابسات من السيرة التى صاحبت نزول السورة إن توفرت من مصادرها لنعيش كل يوم فى أجواء سورة من سور القرآن
الجانب الثانى من الحملة خاص باخوانى المشاركين فى الصفحة و هو يتلخص فى المشاركة بما تأثروا به من السورة (بعد قراءتها طبعا) فيذكروا أكثر الآيات التى مست شغاف قلوبهم و غيرت من حياتهم من السورة المذكورة و يا حبذا لو أفادونا بشىء من كلام المفسرين و العلماء الذين تكلموا فى السورة و ذلك ليتم النفع و نكون بدأنا فعليا مدارسة كتاب الله و تفهم معانيه فندخل رمضان بقلوب حية متصلة بكلام المولى عز و جل
كما سنرفق فى الردود روابط المواد الصوتية للتفسير الموضوعى لسور القرآن من سلسلة الطريق إلى القرآن للدكتور حازم و سلسلة فى صحبة القرآن للعبد الفقير
هيا يا شباب فلتعلوا الهمم و لنشمر جميعا و كما قال الله و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة أقول لكم و لو أردنا رمضان لأعددنا له عدة . و الله الموفق و المستعان
الحلقة الأولى من حملة الاعداد القرآنى لرمضان "سورة الفاتحة"
التفسير الموضوعى لسورة الفاتحة
قبل البدأ فى التفسير الموضوعى و العرض المجمل لأهداف و معانى سورة الفاتحة لابد لنا من وقفة سريعة مع فضائل هذه السورة و التى تعد من أكثر السور التى أثنى عليها النبى و فضلها على غيرها بل فضلها الرب العلى و ميزها بقوله "و لقد آتيناك سبعا من المثانى و القرآن العظيم" فعلى قول جمهور المفسرين السبع المثانى هى الفاتحة فهى فى كفة و باقى القرآن فى كفة أخرى كيف لا و هى السورة التى جمعت أعظم المعانى التى وردت فى الكتب السابقة بل ما أوتى نبى مثلها كما فى حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه فرفع رأسه فقال هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم فسلم وقال أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته" رواه مسلم
بل هى الأعظم فى كتاب الله
فعن أبي سعيد بن المعلى قال مر بي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيت فقال: ما منعك أن تأتي، فقلت: كنت أصلي، فقال: ألم يقل الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُول، ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد فذهب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليخرج من المسجد فذكَّرته فقال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته. و في رواية :أفضل سورة في القرآن.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبي بن كعب فقال يا أبي وهو يصلي فالتفت أبي فلم يجبه وصلى أبي فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك السلام ما منعك يا أبي أن تجيبني إذ دعوتك فقال يا رسول الله إني كنت في الصلاة قال فلم تجد فيما أوحى الله إلي أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم قال بلى ولا أعود إن شاء الله قال أتحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها قال نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقرأ في الصلاة قال فقرأ أم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها سبع من المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته . متفق عليه
و أخرج الحاكم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم في مسير فنزل و نزل رجل إلى جانبه قال : فالتفت النبي صلى الله عليه و سلم فقال : ألا أخبرك بأفضل القرآن قال : فتلا عليه { الحمد لله رب العالمين }
و هى مكان الإنجيل كما فى حديث واثلة بن الأسقع:"أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ومكان الزبور المئين ومكان الإنجيل المثاني و فضلت بالمفصل"
و من أعظم ما يدل على فضلها على سائر القرآن الإسم الذى خصها به النبى فعن أبى هريرة عن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال « من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهى خداج - ثلاثا - غير تمام ». فقيل لأبى هريرة إنا نكون وراء الإمام. فقال اقرأ بها فى نفسك فإنى سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول « قال الله تعالى قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال العبد ( الحمد لله رب العالمين ). قال الله تعالى حمدنى عبدى وإذا قال (الرحمن الرحيم ). قال الله تعالى أثنى على عبدى. وإذا قال (مالك يوم الدين). قال مجدنى عبدى - وقال مرة فوض إلى عبدى - فإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين ). قال هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل. فإذا قال (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ). قال هذا لعبدى ولعبدى ما سأل ». رواه مسلم
و لنتأمل سويا قول المولى فى الحديث القدسى السابق "قسمت الصلاة " ثم لم يذكر بعدها إلا آيات من الفاتحة فكنى بالصلاة عن الفاتحة كأنها هى الصلاة
كيف لا؟و هى الصلة بين العبد و ربه و فى قراءتها يكون الكلام بين العبد و مولاه يسمعه العابد بقلبه فى الدنيا و تسمو روحه عند استشعار الرد و ربه يرد عليه و يقول حمدنى عبدى و أثنى على عبدى و مجدنى عبدى
مغبون مسكين من لم يجد بهذه المشاعر و الصلة الروحية بينه و بين بارئه
و لذا استحق من تركها أن يقول عنه النبى "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب"
لأنه لم يتصل بربه و يكلمه و يرد ربه عليه
و لذا فهى ركن على الراجح لا تصح الصلاة التى هى عمود هذا الدين بدونها و هنا لفتة مهمة فهى بذلك أكثر السور فى معدل القراءة اليومية فرضا لا نفلا فالمسلم الملتزم بدينه الذى لا يفرط فى صلاته يقرأها فى يومه و ليلته على الأقل سبعة عشر مرة و قد تزيد عشرات المرات إن كان من أهل التنفل
و لابد هنا أن نسأل أنفسنا سؤالا ندلف منه إلى موضوع السورة
لماذا هذه السورة بالذات لها هذا المعدل العالى من القراءة ؟
لم فرض الله عليك أن تقرأها و تتأمل و تتدبر معانيها سبعة عشر مرة يوميا؟
لابد أن هناك معنى أو معان يحتاج كل مسلم أن يتذكرها الفينة بعد الفينة
ذهب جمهور الذين حاولوا الإجابة على هذا السؤال إلى أن هذا المعنى و الموضوع المحورى الذى تدور عنه السورة هو الدعاء الذى يتوسطها
أعظم و أخطر دعاء يحتاج المرء أن يدعو به ربه كل لحظة
سورة الفاتحة باختصار شديد عبارة عن دعاء سبقه ثناء
هكذا ببساطة؟
نعم . لكنه ليس أى دعاء و ليس أى ثناء
إنه دعاء بالهداية . الهداية التى من دونها الضلال عياذا بالله
لكى تعلم خطورة هذا الدعاء و أهميته لابد أن تعلم خطورة الشىء الذى تحتاج أن تهدى خلاله
إنه الصراط.
الصراط المستقيم فى الدنيا و الآخرة
هذا الطريق الصعب المحفوف بالمخاطر فى الدارين
ففى الدنيا حف هذا الصراط بالمكاره و الشهوات و ا لشبهات و امتلأ بالمزلات و الفخاخ و تربص بك فيه الأعداء من كل جانب خارجك و داخلك
و ما أوضح المثل الذى ضربه النبى لذلك الطريق حين قال "ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَعَلَى جَنْبَتَىِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعاً وَلاَ تَتَفَرَّجُوا وَدَاعِى يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُفْتَحَ شَيْئاً مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ وَيْحَكَ لاَ تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ وْالصَّرِاطُ الإِسْلاَمُ وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى وَالأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الدَّاعِى عَلِى رَأْسِ الصِّرَاطِ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّاعِى مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَاعِظُ اللَّهِ فِى قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ ».
و هذا الحديث يوضح المخاطر التى تحيط بهذا الطريق و الأعداء الذين يحاولون التأثير عليه ليلج الفتن و الشهوات و الشبهات و قد لا يستطيع الخروج منها فيكون ممن اتبع السبل كما قال المولى جل و علا "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون"
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر : شاذان ، حدثنا أبو بكر - هو ابن عياش - عن عاصم عن أبي وائل ، عن عبد الله - هو ابن مسعود ، رضي الله عنه - قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ، ثم قال : " هذا سبيل الله مستقيما " وخط على يمينه وشماله ، ثم قال : " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ثم قرأ : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .
فطريق محفوف بالمهالك ممتلىء بالأعداء من شياطين الإنس و الجن و من قبلهم النفس الأمارة بالسوء حرى بالمرء أن يتأهب فيه و يهاب سلوكه بغير معين لذا تأتى الدعوة من قلب مفتقر و عقل يعى خطورة الأمر فيجأر بها كل لحظة لمن يستطيع إعانته على وعورته و يقول "إهدنا الصراط المستقيم"
أما فى الآخرة فالأمر أخطر و الصعوبة أشد فصراط الآخرة كما وصفه النبى دحض مزلة فيه خطاطيف و كلاليب و حسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فناج مسلم و مخدوش مرسل و مكدوس على وجهه في النار ] خرجاه في الصحيحين و في رواية لمسلم قال أبو سعيد الخدري بلغني أن الجسر أدق من الشعر و أحد من السيف
فيمره المؤمن كطرف العين و كالبرق و كالريح و كالطير و كأجاويد الخيل و الركاب و في رواية للبخاري [ حتى يمر آخرهم يسحب سحبا ]
لكن كيف يوفق للمرور عليه بهذه السرعة و بسلام و هو بهذه الحدة و الخطورة ؟ لا شىء إلا أن ينجيه الله فيتذكر المؤمن ذلك فيدعو بحرقة أشد و بافتقار أكبر "إهدنا الصراط المستقيم"
لذلك نستطيع أن نقول أن هذا أهم دعاء يحتاج المسلم اأن يدعو به فى الدنيا لينجو فى الدنيا و الآخرة كيف لا و هو من دون ذلك ضال لا محالة لقول الله فى الحديث القدسى " كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم"
لكن لهذا الصراط الذى تطلب الهداية فيه خصائص و صفات تطلبها كذلك فى الفاتحة فهو طريق يعرف بسالكيه و ليس قفرا أنت أول من يسلكه
بل سلكه قبلك أناس زكاهم مولاك و تركوا لك آثارا عليك أن تقصها و تلتمس الصراط المستقيم بها
و هم الذين أنعم الله عليهم .
و لك أن تسأل من هؤلاء الذين لشرفهم ميز الله الصراط بهم و طلب منك أن تقفو آثارهم؟
يجيبك مولاك " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً"
فهم القدوات و المتبعون من البشر الذين تسير على نهجهم
عليك أن تتذكرهم كلما قرأت الفاتحة و دعوت مولاك بهذا الدعاء
تتذكر أنك لست وحدك تسير إلى الله بل هم من قبلك سبقوك و كانوا لك خير سلف و عليك أن تكون لهم خير خلف
تتذكر أنك لست نبتا مجتثا لا أصل لك و إنما لك جذور و قواعد راسخة عليك أن تعتز بها و تهفو روحك إلى الاقتداء بها
و مع هذه الأصول فإن البعض يشتبه عليه الطريق و يلتبس و يخلطه بطرق أخرى شتان ما بينها و بينه بل قد يختار عامدا أن يسلك طريقا آخر ليس له و لا خير فيه و هو طريق المغضوب عليهم الذين علموا و لم يعملوا أو طريق الضالين الذين عملوا بجهل و ضلال و أبوا أن يتعلموا
يحذرك الله و يعلمك أن تتعوذ من طريقتهم و أن تتبرأمن سبيلهم التى سلكها و سيسلكها كثيرون كما أخبر الصادق المصدوق " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم
قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن ؟!!رواه البخارى
فكما علمت و عرفت الطريق بمن سلكوه من قبلك من المزكين لابد أن تعلم السبل الأخرى لتتقيها و بضدها تتمايز الأشياء فشتان بين طريق العلم و الهدى و النور و طريق الجهل و العصيان و التمرد و الظلمات
هكذا انتهى الدعاء الذى اشتمل على كل الخير فى الدنيا و الآخرة لكن ليس من الأدب أبدا مع مولاك أن تدخل عليه هكذا بغير مقدمات بغير تذلل و ثناء
فتبدأ الفاتحة بالثناء على الله و التذلل بكل أنواع التوحيد
تثنى عليه و تحمده و تقر له بربوبيته فتقول "الحمد لله رب العالمين"
و الحمد هو الثناء لكنه ثناء بحب
ثم تستمر فى الثناء بذكر أحب أسمائه و صفاته إليه فتقول "الرحمن الرحيم "
و هى الصفة التى بدأ بها خلقه و كتبها يوم خلقهم على عرشه"إن رحمتى سبقت غضبى"
ثم بعد أن بدأت بصفات الجمال تثنى و تمجد بصفات الجلال و أعظمها أن تقر أنه الملك المالك فهو يملكك و يملك الكون كله و هو الملك الحاكم له صاحب السلطان عليه "ألا له الخلق و الأمر" تقر بهذا الملك المستحق لملك الملوك سبحانه فتقول "مالك يوم الدين"
ثم بعد أن أقررت له بكل الثناء و المجد تكون النتيجة أنه وحده المستحق لعبادتك و لا شريك له فى ذلك فتقترب أكثر و تعاهده قائلا " إياك نعبد" ثم تتذكر ضعفك و تقصيرك و تخشى من تبعات هذا التقصير على ذلك العهد الذى قطعته للتو فتتبرأمن حولك و قوتك و تطلب المعونة منه وحده و تقول" و إياك نستعين"
ساعتها إن قلت ذلك و انت تعنيه و تقصده و لا يعلم حقيقة ذلك إلا الله تتوطد العلاقة أكثر فأكثر إلى مرحلة غير مسبوقة
إلى مرحلة يكون فيها أسرار بينك و بينه و هذا لا بكون إلا بين القريبين من بعضهم و ليس أرباب العلاقات السطحية
هذا السر يتضح فى قوله ردا على ما عاهدته به من إخلاص العبودية حين يقول المولى عز و جل "هذا بينى و بين عبدى "
فياله من شرف و ياله من مقام و صلت إليه بفضله و علمك كيف تصل إليه بمنه فله الحمد و المنة
بعد هذا الأدب و بعد هذا التمجيد لك الآن أن تسأل و تطلب و كلك رجاءا فى الإجابة بعد أن وعدك " و لعبدى ما سأل "
هذا و ما كان من توفيق فمن الله و حده و ما كان من زلل فمنى و من الشيطان و أبرأ ألى الله منه
و غدا بإذن الله مع سورة البقرة إن أحيانا الله
و كتبه
الفقير لعفو ربه
محمد على يوسف
فى الخامس من شهر يونيو عام 2011
الحلقة الثانية من سلسلة الإعداد القرآنى لرمضان
سورة البقرة
سورة البقرة هى أطول سورة على الإطلاق فى كتاب الله العزيز و هذا الطول يسبب للبعض عدم وضوح فى رؤية موضوع السورة و يكون التأثر بها جزئيا عند الكثيرين دون فهم الأهداف المجملة و الوحدة الموضوعية لهذه السورة العظيمة
و قد كان هذا سببا فى تطاول بعض المستشرقين على كتاب الله زعما منهم أن السورة فاقدة للترابط وأن هذا ليس من البلاغة عياذا بالله . و لبئس ما قالوا فهو لا يدل إلا على الجهل المطبق و النظر القاصر لكتاب الله
فسورة البقرة و لله الحمد و المنة من أوضح السور بفضل الله موضوعا و أهدافا لكن هذا لا يظهر إلا لمن بسط نظره و بدأ يحلل التقسيم البديع لموضوعات هذه السورة ثم يربطه بميعاد و ظروف نزول هذه السورة الكريمة
إن سورة البقرة نزلت فى أول العهد المدنى بعد هجرة النبى أى فى مطلع تأسيس أول دولة فى تاريخ المسلمين وسط مجموعة كبيرة من المتغيرات و الإختلافات بين عناصر هذا المجتمع الوليد
هذا المجتمع الذى كان يتكون من عناصر شتى بعضها شديد التناقض بل يصل إلى حد التنافر و التعادى أحيانا ما بين مسلمين و مشركين لا يزالون على كفرهم و وثنيتهم و يهود استوطنوا المدينة و تشابكت فيها مصالحهم منذ عشرات السنين كل ذلك جنبا إلى جنب مع الصنف الجديد الذى بدأ لأول مرة فى الظهور فى هذا المجتمع الناشىء
الصنف الذى اختار أن يظهر خلاف ما يبطن حرصا على مصالحه و مقامه فى هذا المجتمع
هذا الصنف الجديد هم المنافقون
و مع هذا الخليط الغير متجانس بل المتنافر المتصارع أحيانا يأتى التحدى الأصعب الذى تمر به أى دولة وليدة و هو رسم الإطار و النسق الذى ستسير عليه هذه الدولة و إن شئت فقل بمصطلحات عصرنا الدستور الذى سيحترمه و يسير عليه أبناء هذه الدولة الجديدة على اختلاف مشاربهم
فى ظل هذه الظروف الصعبة و التحديات المقلقة نزلت هذه السورة لترسم للمسلمين الخط الذى سيسيرون عليه و تضع لهم الأسس التى سيبنون عليها دولتهم لكن بركيزة أساسية لابد لكل مجتمع وليد أن يرسخها فى ضمير أتباعه
هذه الركيزة هنا و الأصل الأكبر الذى ترسخه سورة البقرة هو
الإسلام لله عز وجل
فكما لابد لكل مجتمع أن يسوده قانون يتحاكم إليه أفراده و يرضون به و يرضخون لسيادته _فيما يعرف اليوم بسيادة القانون_ كان لابد للمجتمع المسلم أن يرسخ لديه هذا الأصل فيسلم كله لسيادة القانون لكنه هنا القانون الإلهى أو حكم الله الذى يجب أن يستسلم أفراد المجتمع الوليد لأمره و نهيه طوعا فيما يعرف اصطلاحا بالإسلام لله (و هو الإستسلام طوعا لمراد الله)
سورة البقرة ببساطة تضعنا أمام خيار من ثلاثة .
تُتبين هذه الخيارات من خلال الثلاث قصص الرئيسية التى تطرحها سورة البقرة و التى اختار أبطال كل قصة خيارا منهم
ثم تضع السورة المجتمع المسلم فى جزئها الثانى أمام عدد من الإختبارات تتمثل فى تشريعات رئيسية و أحكام هامة عرضتها السورة و تختم بأصعب هذه الإختبارات ليسأل كل واحد منا نفسه بعدها هل سأجاوز الإختبار و أختار الإختيار الصحيح أم الأخرى عياذا بالله
و لفهم هذ المضمون المجمل نعرض بإيجاز تحليلا لعناصر السورة و مراحلها
فسورة البقرة باختصار شديد عبارة عن:
· مقدمة تصنيفية ذكر الله فيها الأصناف التى بيناها كلها و التى يتكون منها المجتمع المدنى (المؤمنون – الكافرون – المنافقون – اليهود) و هى من الآية الأولى إلى الآية 29
· الجزء القصصى و الذى احتوى ثلاث قصص رئيسية كما بينا و هى
1) قصة سيدنا آدم عليه السلام
2) قصة بنى إسرائيل بطولها
3) قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام
· جزء الأحكام و التكاليف الشرعية
· خاتمة و ابتلاء أخير
و إذا نظرنا للقصص الثلاث لوجدنا أنها تشاركت فى وقوع التكليف عليها ثم تباينت ردود الأفعال تجاه هذا التكليف
فنجد فى قصة آدم الطاعة التى شابتها معصية لأمر الله بسبب زلة من الشيطان ثم مسارعة فى العودة و التوبة
" فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "
و نجد فى قصة بنى إسرائيل العصيان المطلق و التمرد المستمر و ما أكثر الشواهد من السورة على ذلك
· وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
· ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ {} فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ
· أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
· } وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
· فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ
· وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
كل هذه الآيات و غيرها تبين لدى مدى العصيان و التمرد الذى وصلوا إليه و الذى تمثل جليا فى قصة البقرة و التى سميت السورة بإسمها و التى هى نموذج حى للتركيبة المتمردة الرافضة للاستسلام و الانقياد لشرع الله و يتضح هذا فى أول كلمة ردوا بها على نبيهم الذى رأوا الآيات مه حين أخبرهم أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة فماذا كان الرد من هؤلاء المتمردين؟
" قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ "
ثم يستمر الجدال و التعنت و التشديد و تعقيد أمر يسير وواضح فتارة يسألون عن ماهية البقرة و تارة عن لونها و تارة عن صفاتها و كل هذا التعنت لا لشىء إلا لما بينه الله من حقيقة فى قوله " فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ"
فحقيقتهم أنهم يرفضون حكم الله عليهم و شعارهم الذى أعلنوه – سمعنا و عصينا- و هو شعار التزموا به و استمسكوا بأهدابه حتى الرمق الأخير فما تركوا أمرا من أوامر الله إلا واجهوه بهذا العصيان المقيت حتى ما كان فى مصلحتهم (
"وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {2/58} فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ"
فالمغفرة لو قالوا الكلمة التى علمهم إياها الله - حطة – فقالوا حنطة و دخلوا القرية يزحفون على إستاههم"مؤخراتهم" أعزكم الله بدلا من الدخول سجدا كما أمروا فما أقبح تمردهم و ما أبعدهم عن الإسلام لله عز و جل
§ أما فى قصة إبراهيم عليه السلام فنجد النقيض تماما و نلمس تمام الإسلام و الخضوع المطلق لأمر الله مهما كان صعبا على النفس
و تأمل حين وصف الله حاله أمام الاختبارات المتتالية من أوامر و نواهى
"وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ"
فلقد أتم إبراهيم عليه السلام كل إجابة لكل اختبار و على أكمل وجه حتى ما كان منها مستحيلا على غيره كذبح ولده و تركه مع امه قبل ذلك بسنين فى العراء لا لشىء إلا لأن الله أمره بهذا
إن لم يكن هذا هو تمام الإسلام لله فما إذا
"إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ "
و بعد الإسلام ما كلًّ و ما ملًّ و ما ذل فتارة يكسر أصنام قومه و تارة يصبر على إلقاء فى النار و تارة يهاجر من بلد إلا بلد و يجوب مشارق الأرض و مغاربها قابضا على دينه
لسان حاله ثابت لا يتبدل أمام كل أمر :سمعا و طاعة لمولاى
هاجر فى الله. سمعا و طاعة لمولاى
اترك ولدك و امرأتك فى الصحراء .سمعا و طاعة لمولاى
اذبح ولدك .سمعا وطاعة لمولاى
إبن البيت . سمعا و طاعة لمولاى
أذن فى الناس بالحج لتسمع الدنيا (و بدون و سائل اتصال أو مكبرات ) و الإجابة واحدة لا تتبدل سمعا و طاعة لمولاى
حتى وهو ابن الثمانين عاما يأمره الله بالختان فيختتن بالقدوم و دون أدنى مناقشة
و يوصى أبناءه بالدوام على هذا الحال من الإستسلام الطوعى لرب العالمين
"وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ "
و يوصى بها أبناؤه أبناءهم و يتكرر الأمر بالإسلام لله
" أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ"
" ثم توجه الوصية للنبى و أمته وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ {} فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {} صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ"
بعد هذه النماذج الثلاث يأتى ما يزيد عن جزء كامل من الاختبارات الموجهة للأمة الوليدة و القوانين و التشريعات و الأوامر و النواهى التى تسير دينهم و دنياهم
فتأتى أحكام العبادات (كالصلاة و القبلة و الصيام و الحج و الإنفاق )و تأتى أحكام المعاملات الداخلية ( كالزواج و الطلاق و الرضاع و الوصية و الربا و المداينة و الرهن ) و المعاملات الخارجية ( كأحكام الجهاد و الأشهر الحرم ) و بعض القوانين و الحدود ( كالقصاص و تحريم الخمر و الميسر و طائفة من أحكام الحلال و الحرام)
هذه الأحكام بخلاف أنها دستور و تشريع سيقوم عليه المجتمع الجديد بالمدينة على أساس واضح من العدل فإنها ابتلاء للأمة فى قضية الإسلام لله
و كأن السورة توجه سؤالا للجماعة المسلمة بعد أن عرض عليها نماذج من ابتلوا من قبلها و استخلفوا فى الأرض ابتداءا بآدم و انتهاءا ببنى إسرائيل
بعدما رأيتم هذه النماذج الثلاث أيهم تختارون ؟
السؤال الذى يجب على كل منا أن يسأله لنفسه و هو يعرض حاله على أحكام سورة البقرة و غيرها من أحكام الشرع الحنيف
هل أنا مسلم مستسلم لأمر الله كإبراهيم لاأحيد قيد أنملة
أو كآدم أزل مرة و أعصى لكن أسارع بالتوبة و لا أكابر
أم النموذج المخيف الذى فصله ربنا تفصيلا طويلا لبيان خطورته. و للأسف لأنه النموذج الذى سيقع فيه الكثيرون ممن يرفضون حكم الله و يتمردون عليه و يسلكون سبيل المغضوب عليهم و لسان حالهم كشياطينهم (سمعنا و عصينا)
ثم توجه السورة رسالة أخيرة باختبار شديد و ابتلاء صعب حين أنزل الله قوله "لله مافي السماوات والأرض وإن تبدوا مافي أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير". حاول الصحابة العمل بها و تطبيقها. ومعنى الأية أن كل خواطر الإنسان الخفية والأعمال الظاهرة يحاسب عليها. فمثلاً إذا رأى الإنسان مالاً وخطر له سرقته ولكن لم يسرقه فالله يحاسبه أنه سارق. أو رأى امرأة وخطر في باله الزنى ولم يفعله فهو زان و هذا مقتضى ظاهر الآية و أول ما تبادر إلى أذهان الصحابة.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ ، ثُمَّ قَالُوا : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ : الصَّلاةِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلا نُطِيقُهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، قَالُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، فَلَمَّا قَرَأَهَا الْقَوْمُ وَذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أثْرِهَا : آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى قَوْلِهِ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللَّهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ، قَالَ : نَعَمْ
رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا قَالَ : نَعَمْ
رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ قَالَ : نَعَمْ
وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، قَالَ : نَعَمْ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ و فى رواية قال قد فعلت
هذا الأثر يلخص موضوع السورة بإيجاز فهاهنا أمر قد يتنافى مع هواك و يطرأ إلى فهم المرء و يسارع إلى عقله أنه يستحيل تنفيذه أو أنه غير مناسب لكن مع ذلك المطلوب منه أن يسلم ...يستسلم ..يسمع و يطيع
و لا شك أنه لضعفه قد يزل و يخطىء و هذه طبيعته لذلك يشفع سمعنا و أطعنا ب غفرانك ربنا و إليك المصير فأنا أقبل الأمر يا رب و لا أتمرد أو أعصى لكننى أطلب المغفرة لتقصير وارد و غير مقصود
هذا هو المبدأ الذى ينبغى أن يكون لدى المسلم القناعة الكاملة به و كما قال العلماء المسلم لا يقول لم أمرنا و لكن بم أمرنا لينفذ و يسمع و يطيع
و لذلك لما اختار الصحابة الخيار الصحيح نزل التخفيف من الله الرحيم فبين أن الإنسان مكلف بما كسب أو اكتسب و نسخت الآية و زال الابتلاء
فشعار السورة الأوضح و توصيتها الأساسية "سمعنا و أطعنا" أو الإسلام المطلق و الإذعان الكامل لشرع الله و القبول به حتى و إن حدث التقصير أو الزلل فأصل الإنقياد و القبول يزين المؤمن و يجعله أهلا للقب الذى يحمله . مسلم
هذا و ما كان من توفيق فمن الله و ما كان من زلل فمنى و من الشيطان و الله و رسوله منه براء و إلى لقاء فى القريب العاجل إن شاء الله مع سورة آل عمران
و كتبه
الفقير لعفو ربه
محمد على يوسف
فى الثامن من يونيو 2011
رابط الحلقة الثالثة سورة آل عمران
https://forums.way2allah.com/showthread.php?t=135860
رابط الحلقة الرابعة من السلسلة
سورة النساء
https://forums.way2allah.com/showthre...post1059966684
https://forums.way2allah.com/showthread.php?t=135860
رابط الحلقة الرابعة من السلسلة
سورة النساء
https://forums.way2allah.com/showthre...post1059966684
رابط الحلقة الخامسة
سورة المائدة
رابط الحلقة الثالثة سورة آل عمران
https://forums.way2allah.com/showthread.php?t=135860
رابط الحلقة الرابعة من السلسلة
سورة النساء
https://forums.way2allah.com/showthre...post1059966684
https://forums.way2allah.com/showthread.php?t=135860
رابط الحلقة الرابعة من السلسلة
سورة النساء
https://forums.way2allah.com/showthre...post1059966684
رابط الحلقة الخامسة
سورة المائدة
تعليق