خواطر متفرقة (7)
للصدق أبعاد حسب وجهات نظر الناس، فمنهم من يصدق في عامة حديثه، ويلجأ إلى الكذب في بعضه، ومنهم من يكذب في عامة حديثه، ويلجأ للصدق في بعضه، ومنهم من يصدق في عامة حديثه إلى مدىً محدود، فإذا ما بالخناق يضيق عليه في بعض المواقف، أو خشي من فوات مصلحة في مواقف أخرى؛ لجأ إلى الكذب، ومنهم من حاله كذلك، غير أنه يستبدل الكذب بالمواراة التي تؤدي في بعض الأحيان إلى الكذب _متى أفرط في استخدامها_ والنادر من الناس من يصدق في عامة حديثه دون لجوء لأي نوع من ألوان الكذب أو المواراة، فإذا ما وفقك الله للتعرف على مثل هذا العبد، فامسك بتلابيبه؛ فإنه عملةٌ نادرةٌ في هذا الزمان؛ لأنه إذا أحبك أخلص إليك، وأوفى فيك ذمته، وإن لم تحظَ بحبه، فلن ُتحرم أمانته، وسوف يوافيك حقك على الوجه الذي ترضاه . . إذ بصحبته تكون النجاة .
***************************************
توقف عند كل كلمةٍ أو فعلٍ تقوم به، فموازين الله في الجزاء والعقاب تختلف تماماً عما يمكن أن تتصوره!! إذ يمكن دخول الجنة بكلمةٍ!! أو الحرمان منها أيضاً بكلمةٍ!! لا يمكنك فداء نفسك منها؛ حتى ولو أنفقت ملء الأرض ذهباً!! كما يمكن أن يكون دخول النار أو الاحتجاب عنها، بفعلٍ صغيرٍ أو قولٍ يسيرٍ تستهين بوزنه، ولا تعبأ بفعله؛ إلا أنه عند الله كبيراً . . وفي عرصات يوم القيامة أمراً عظيماً!! إذا ما وضع في الميزان لك أو عليك!! فارحم نفسك بتقوى الله، ولا تهلكها بالغفلة والبعد عن الله، فاليوم عملٌ بلا حساب، وغداً حسابٌ بلا عمل، فاسأل ربك الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، فإن رزقك الله ذلك فهذه والله عين النجاة .
***************************************
أبداً لم يكن الفقر عيباً يحق لأحدٍ أن يعيَّر أحداً به!! إذ الرزق بيد الله، ولا حيلة ولا إرادة لغير الله فيه، فمن رضي بنصيبه من الدنيا على قلته، هانت عليه أيام حياته رغم قصر ذات يده، وخف عليه عبء سؤال القبر وضمته، ومن يدري لعله إن رُزِقَ المالُ في الدنيا؛ لكان للنَّار أول داخليها!! وللجنة أول مفارقيها!! إذ أن المال يُطغي، والغنى يَعمي، ولا ناجيَ إلا من أنجاه الله فلنرض بالقليل من الرزق، ولنحمد الله على نعمة الستر، ولا نحزن لفوات نعيمٍ زائلٍ، سوف يودي بأصحاب التفريط فيه إلى عذابٍ دائمٍ، وليكن رجاؤنا أن ينجينا ربنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ حتى نكون يوم القيامة في مأمنٍ ومستقرٍ، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدرٍ .
***************************************
ولله المثل الأعلى . . كيف يمكن للوالدة أن تضيّع وليدها؟! أو تتركه هملاً دون رعاية أو مراقبة؟! وكيف نظن بربنا الرحمن أن يضيعنا أو يتركنا هملاً في أي أودية الدنيا هلكنا؟! ونحن عباده الفقراء إلا من رحمته، الضعفاء إلا بقوته، الضالين إلا بهدايته، وقد أخبرنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه أرحم بالعبد من الوالدة بولدها، فنسأله تعالى أن يتغمدنا بواسع عفوه ومغفرته ورحمته .
***************************************
أنت في هذه الدنيا بين لئيمٍ لا تأمن غدره!! وبين خائنٍ تترقب خيانته!! وبين منافقٍ يتربص بك!! وبين طامعٍ يتحين فرصة الاستيلاء على ما تملك!! وبين حاقدٍ يعتصر قلبه حقداً عليك!! وبين فاجرٍ يسخر منك!! وبين سفيهٍ تخشى أن يضر بك!! وبين مجتمع لا يعبأ بمثلك!! فسل الله السلامة والنجاة، إذ لا منجى لك من هذه الفتن سواه.
***************************************
الدنيا غشاءٌ يصيب من بداخله بنوعٍ من التخدير الذي يسوّغ له التردي شيئاً فشيئاً؛ حتى إذا ما وصل إلى قاع الحضيض؛ صار ملطخاً بالأوساخ والأقذار التي يصعب التخلص منها إلا بتوبةٍ صادقةٍ، يعينه الله فيها على الخلاص من كل شوائب السوء التي علقت به، وإلا فمزيدٌ من التلطخ، ومزيدٌ من الموبقات والآثام التي تلقي بالعبد حتماً في وادٍ سحيقٍ من الخسران (نسأل الله العفو والعافية).
***************************************
رجاء العبد مقطوعٌ ابتداءً، ورجاء الله موصولٌ دواماً، فمن رجا العبد خابت أمنيته، وحار مقصده، أما من رجا الله تعالى، فلا خيبة لرجائه، ولا حرمان لأمنيته، وإنما هو الرضا بعينه، إذ يرحمه حال منعه، ويأجره حال عطائه، فمن رضي من الله برزقه، شعر بالغنى طوال عمره، إذ أن الغنى غنى النفس، فمن ملك الدنيا بحذافيرها ولم يرزقه الله غنى النفس، فهو أفقر الناس على وجه الإطلاق!! فليحمد الله كل من رزقه الله غنى النفس، إذ حفظه حين أمنه من نوائب الدهر التي يجزع لها الأغنياء قبل الفقراء، وأكرمه بأن جعل قيمته في كيانه، وليست في ماله الذي إذا ذهب؛ ذهبت معه قيمته لدى البلهاء!! فاللهم ارزقنا غنى النفسوالاستغناء عن الناس، برحمتك يا أرحم الراحمين .
***************************************
عجيب سعي الناس في هذه الحياة . . . فما بين منهمكٍ على دنياه، يبذل في سبيلها كل شيءٍ لإدراك سعادةٍ زائفةٍ!! وما بين داعٍ لربه، يبذل في سبيل دينه كل غالٍ ونفيسٍ؛ لنيل مبتغاه بنصرته، حتى لو كابد في سبيل ذلك كل الصعاب!! فشتان ما بين السعيين؛ إذ شتان ما بين العاقبتين .
***************************************
للحياة غايةٌ عظيمةٌ، تزخر بكل معاني السعادة والشعور بالقيمة من خلال السعي إلى تفريج كربات الآخرين!! فمن نَظَرَ إليها من هذا المنظور؛ شعر بأنه عزيزٌ في دنياه، راجياً السعادة في آخرته، أما من حُرم هذا المنظور؛ فإنه ينظر إليها من منظورٍ الأنانية، وحصر متعته فيما يشارك فيه الحيوانات متعتهم، سواء من مأكل ومشرب!! أما همومٌ الآخرين، فلا ينبغي أن يشغلوا أنفسهم بها، مهما كانت بالغة الأسى والضنك!! فأخرجوا أنفسهم بذلك من السعة إلى الضيق، ومن العز إلى الذل، ومن الكرامة إلى المهانة، إذ حصروا أنفسهم في هذه الدائرة الضيقة، وفي هذه القصعة الصغيرة التي تداعى عليها كلاب الأرض قاطبةً لينهشوا ما بداخلها، وهم بين تعيسٍ على فواتِ حظِهِ، أو حاقد على غيرهِ، أو متربصٍ لأخذ ثأره، ولا حظّ لأحدٍ منهم في استشعار أي نوعٍ من أنواع السعادة!! لأنهم أوحلوا أنفسهم في أعماق ظلمة الوحشة والأنانية والكآبة والضيق والتعاسة؛ بإمعان البذل في تلبية متطلبات الجسد دون الروح؛ وذلك حينما أقبلوا على ما هو فانٍ، وأعرضوا عما هو باقٍ، فكان واقع حياتهم مكذباً لزيف أمنياتهم، وكان قصر آجالهم محطماً لطول آمالهم؛ فوقعوا بين الحسرة على ما فات، والخوف والهلع مما هو آت، ففاتت عليهم دنياهم دون أن يعرفوا معنى لحياتهم!! وأقبلت عليهم آخر تهم دون أن يقدموا لأنفسهم عملاً بين يدي ربهم!! وهكذا ذهبت منهم حياتهم، وانقطع منهم ذكرهم بمجرد مماتهم، وذلك لأنهم ما عاشوا لغيرهم، وإنما عاشوا فقط لأنفسهم، ولأنهم ما عرفوا لذة البذل لغيرهم، والسعي لنصرة دينهم، ولو عرفوها؛ لما نسي الناس ذكرهم، حتى بعد انقضاء آجالهم، لأنهم عاشوا لقضيةٍ خالدةٍ؛ فَخَلَدوا معها بذكرهم .
***************************************
فرق كبير بين التفكير في السعة حال الضيق، وبين التفكير فيها حال السعة، إذ أن من يعاني الضيق، يستشعر آلام أمثاله من ذوي ضيق العيش، فيتصور أن المال إذا جاءه، فسوف يصنع من أجلهم المعجزات، أما من يفكر في التوسيع على الناس، حال سعته، فإنه يرى الصدقة اليسيرة منه في حقهم كبيرة، وأن فضل ماله ينبغي أن يُعاد النظر في طريقة إنفاقه مرات أخرى ومرات؛ حتى يكون من العقلاء الأكياس!! ولا يهدر النعمة التي وهبه الله في هباء !! وهكذا لا يجني من ثمرة نيته الواهية إلا الخواء !!
بقلم : أبي مهند القمري
تعليق